الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 79695
تحميل: 4389


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79695 / تحميل: 4389
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 12

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و قال الزمخشريّ: إنّ المشركين فعلوا ما فعلوا من القبيح ثمّ نسبوه إلى ربّهم و قالوا لو شاء الله إلى آخره و هذا مذهب المجبّرة بعينه كذلك فعل أسلافهم فهل على الرسل إلّا أن يبلّغوا الحقّ و أنّ الله لا يشاء الشرك و المعاصي بالبيان و البرهان، و يطلعوا على بطلان الشرك و قبحه، و براءة الله من أفعال العباد، و أنّهم فاعلوها بقصدهم و إرادتهم و اختيارهم، و أنّ الله باعثهم على جميلها و موفّقهم له و زاجرهم عن قبيحها و موعدهم عليه، انتهى موضع الحاجة و قد أطالوا البحث عن ذلك من الجانبين.

و قد عرفت أنّ الآيات تروم غرضا وراء ذلك، و أنّ مرادهم بقولهم:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، إبطال الرسالة بأنّ ما أتى به الرسل من النهي عن عبادة غير الله و تحريم ما لم يحرّمه الله لو كان حقّاً لكان الله مريداً لتركهم عبادة غيره و تحريم ما لم يحرّمه و لو كان مريداً ذلك لم يتحقّق منهم و ليس كذلك، و أمّا أنّ الإرادة الإلهيّة تعلّقت بفعلهم فوجب أو أنّها لم تتعلّق و من المحال أن تتعلّق و ليست أفعالهم إلّا مخلوقة لأنفسهم من غير أن يكون لله سبحانه فيها صنع فإنّما ذلك أمر خارج عن مدلول كلامهم أجنبيّ عن الحجّة الّتي أقاموها على ما يستفاد من السياق كما تقدّم.

و في قوله:( وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) دلالة على أنّ لغيرهم ناصرين كثيرين و ذلك أنّ السياق يدلّ على أنّه ليس لهم ناصر أصلاً لا واحد و لا كثير فنفي الناصرين بصيغة الجمع يكشف عن عناية زائدة بذلك أي أنّ هناك ناصرين لكنّهم ليسوا لهم بل لغيرهم و ليس إلّا من يهتدي بهدى الله، و نظير الآية ما حكاه الله سبحانه عن المجرمين يوم القيامة:( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ) الشعراء: ١٠٠.

و هؤلاء الناصرون هم الملائكة الكرام و سائر أسباب التوفيق و الهداية و الله سبحانه من ورائهم محيط، قال تعالى:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) المؤمن: ٥١.

قوله تعالى: ( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى‏ ) إلى

٢٦١

آخر الآية، قال في المفردات: الجهد الجهد - بفتح الجيم و ضمّها - الطاقة، و المشقّة أبلغ من الجهد بالفتح، قال: و قال تعالى:( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ) أي حلفوا و اجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. انتهى.

و قال في المجمع في معنى قوله:( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ) أي بلغوا في القسم كلّ مبلغ. انتهى.

و قولهم:( لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ ) إنكار للحشر، و الجملة كناية عن أنّ الموت فناء فلا يتعلّق به بعده خلق جديد، و هذا لا ينافي قول كلّهم أو جلّهم بالتناسخ فإنّه قول بتعلّق النفس بعد مفارقتها البدن ببدن آخر إنسانيّ أو غير إنسانيّ و عيشها في الدنيا، و هو قولهم بالتولّد بعد التولّد.

و قوله:( بَلى‏ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا ) أي ليس الأمر كما يقولون بل يبعث الله من يموت وعده وعدا ثابتا عليه حقّاً أي إنّ الله سبحانه أوجبه على نفسه بالوعد الّذي وعد عباده، و أثبته إثباتا فلا يتخلّف و لا يتغيّر.

و قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) أي لا يعلمون أنّه من الوعد الّذي لا يخلف و القضاء الّذي لا يتغيّر لإعراضهم عن الآيات الدالّة عليه الكاشفة عن وعده و هي خلق السماوات و الأرض و اختلاف الناس بالظلم و الطغيان و العدل و الإحسان و التكليف النازل في الشرائع الإلهيّة.

قوله تعالى: ( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ ) اللام للغاية و الغرض أي يبعث الله من يموت ليبيّن لهم إلخ، و الغايتان في الحقيقة غاية واحدة فإنّ الثانية من متفرّعات الاُولى و لوازمها فإنّ الكافرين إنّما يعلمون أنّهم كانوا كاذبين في نفي المعاد من جهة تبيّن الاختلاف الّذي ظهر بينهم و بين الرسل بسبب إثبات المعاد و نفيه و ظهور المعاد لهم عيانا.

و تبيّن ما اختلف فيه الناس من شؤون يوم القيامة، و قد تكرّر في كلامه هذا التعبير و ما في معناه تكرّراً صحّ معه جعل تبيين الاختلاف معرّفا لهذا اليوم الّذي ثقل في السماوات و الأرض و على ذلك يتفرّع ما قصّه الله سبحانه في كلامه

٢٦٢

من تفاصيل ما يجري فيه من المرور على الصراط و تطاير الكتب و وزن الأعمال و السؤال و الحساب و فصل القضاء.

و من المعلوم - و خاصّة من سياق آيات القيامة - أنّ المراد بالاختلاف ليس ما يوجد بينهم بحسب الخلقة بنحو ذكورة و اُنوثة و طول و قصر و بياض و سواد بل ما يوجد في دين الحقّ من الاختلاف في اعتقاد أو عمل. و قد بيّن الله ذلك لهم في هذه النشأة الدنيويّة في كتبه المنزلة و بلسان أنبيائه بكلّ طريق ممكن كما يقول بعد عدّة آيات:( وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) الآية: ٦٤ من السورة.

و من هنا يظهر للمتدبّر أنّ البيان الّذي يخبر تعالى عنه و يخصّه بيوم القيامة نوع آخر من الظهور و الوضوح غير ما يتمشّى من الكتاب و النبوّة في هذه الدنيا من البيان بالحكمة و الموعظة و الجدال بالّتي هي أحسن، و ليس إلّا العيان الّذي لا يتطرّق إليه شكّ و ارتياب و لا يهجس معه خطور نفسانيّ بالخلاف كما يشير إليه قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ و قوله:( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحقّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحقّ الْمُبِينُ ) النور: ٢٥.

فيومئذ يشاهدون حقائق ما اختلفوا فيه من المعارف الدينيّة الحقّة و الأعمال الصالحة و ما أخلدوا إليه من الباطل و يفصل بينهم بظهور الحقّ و انجلائه.

قوله تعالى: ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) هو نظير قوله في موضع آخر:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: ٨٢ و منه يعلم أنّه تعالى يسمّي أمره قولاً كما يسمّي أمره و قوله من حيث قوّته و إحكامه و خروجه عن الإبهام و كونه مراداً حكماً و قضاء، قال تعالى:( وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إلّا لِلَّهِ ) يوسف: ٦٧ و قال:( وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) الحجر: ٦٦ و قال:( وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) البقرة: ١١٧ و كما يسمّي قوله الخاصّ كلمة،

٢٦٣

قال تعالى:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) الصافّات: ١٧٢ و قال:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٥٩ ثمّ قال في عيسىعليه‌السلام :( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: ١٧١.

فتحصّل من ذلك كلّه أنّ إيجاده تعالى أعني ما يفيضه على الأشياء من الوجود من عنده - و هو بوجه نفس وجود الشي‏ء الكائن - هو أمره و قوله حسب ما يسمّيه القرآن و كلمته لكنّ الظاهر أنّ الكلمة هي القول باعتبار خصوصيّته و تعيّنه.

و يتبيّن بذلك أنّ إرادته و قضاءه واحد، و أنّه بحسب الاعتبار متقدّم على القول و الأمر فهو سبحانه يريد شيئاً و يقضيه ثمّ يأمره و يقول له كن فيكون، و قد علّل عدم تخلف الأشياء عن أمره بألطف التعليل إذ قال:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالحقّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحقّ ) الأنعام: ٧٣ فأفاد أنّ قوله هو الحقّ الثابت بحقيقة معنى الثبوت أي نفس العين الخارجيّة الّتي هي فعله فلا معنى لفرض التخلّف فيه و عروض الكذب أو البطلان عليه فمن الضروريّ أنّ الواقع لا يتغيّر عمّا هو عليه فلا يخطئ و لا يغلط في فعله، و لا يردّ أمره، و لا يكذب قوله و لا يخلف في وعده.

و قد تبيّن أيضاً من هذه الآية و من قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، أنّ لله سبحانه إرادتين: إرادة تكوين لا يتخلّف عنها المراد، و إرادة تشريع يمكن أن تعصى و تطاع، و سنستوفي هذا البحث بعض الاستيفاء إن شاء الله.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) قال: بيت مكرهم أي ماتوا و أبقاهم الله في النار و هو مثل لأعداء آل محمّد.

٢٦٤

أقول: و ظاهره أنّ قوله:( فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ ) إلخ كناية عن بطلان مكرهم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال:( فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ) قال: كان بيت غدر يجتمعون فيه إذا أرادوا الشرّ.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) الآية قال: قالعليه‌السلام : الّذين اُوتوا العلم الأئمّة يقولون لأعدائهم: أين شركاؤكم و من أطعتموهم في الدنيا؟ ثمّ قال: قال: فهم أيضاً الّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ) سلّموا لما أصابهم من البلاء ثمّ يقولون:( ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) فردّ الله عليهم فقال:( بَلى) ، إلخ.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أبي إسحاق الهمدانيّ عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : فيما كتبه إلى أهل مصر قال: يا عباد الله إنّ أقرب ما يكون العبد من المغفرة و الرحمة حين يعمل بطاعته و ينصح في توبته. عليكم بتقوى الله فإنّها يجمع الخير و لا خير غيرها و يدرك بها من خير الدنيا و خير الآخرة، قال عزّوجلّ:( وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن ابن مسكان عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ) قال الدنيا.

و في تفسير القمّيّ، في قوله:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) قال: قالعليه‌السلام هم المؤمنون الّذين طابت مواليدهم في الدنيا.

أقول: و هو بالنظر إلى ما يقابله من قوله:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) الآية لا يخلو عن خفاء و الرواية ضعيفة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: اجتمعت قريش فقالوا: إنّ محمّداً رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا اُناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كلّ طريق من طرق مكّة على رأس كلّ ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردّوه عنه.

٢٦٥

فخرج ناس منهم في كلّ طريق فكان إذا أقبل الرجل وافداً لقومه ينظر ما يقول محمّد؟ فينزل بهم قالوا له: أنا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه و يقول: أنا اُخبرك بمحمّد فلا يريد أن يعني إليه هو رجل كذّاب لم يتّبعه على أمره إلّا السفهاء و العبيد و من لا خير فيه و أمّا شيوخ قومه و خيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

فإذا كان الوافد ممّن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك في محمّد قال: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتّى بلغت إلّا مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل و أنظر ما يقول و آتي قومي ببيان أمره فيدخل مكّة فيلقى المؤمنين فيسألهم: ما ذا يقول محمّد؟ فيقولون: خيراً للّذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة يقول مال و لدار الآخرة خير و هي الجنّة.

أقول: و الاعتبار يساعد على القصّة و ما في آخرها من تفسير الحسنة بالمال غير مرضيّ.

و في الكافي، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسنعليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله و من الخلق. قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنّه لا يروّي و لا يهمّ و لا يتفكّر، و هذه الصفات منفيّة عنه و هي صفات الخلق فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة و لا تفكّر و لا كيف لذلك كما أنّه لا كيف له.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الترمذيّ و حسنه و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان و اللفظ له عن أبي ذرّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يقول الله: يا بن آدم كلّكم مذنب إلّا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم و كلّكم فقراء إلّا من أغنيت فسلوني اُعطكم، و كلّكم ضالّ إلّا من هديت فسلوني الهدى أهدكم و من استغفرني و هو يعلم أنّي ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له و لا اُبالي.

و لو أنّ أوّلكم و آخركم و حيّكم و ميّتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا

٢٦٦

على قلب أشقى واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة، و لو أنّ أوّلكم و آخركم و حيّكم و ميّتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا على قلب أتقى واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة، و لو أنّ أوّلكم و آخركم و حيّكم و ميّتكم و رطبكم و يابسكم سألوني حتّى تنتهي مسألة كلّ واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك ممّا عندي كغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر.

و ذلك أنّي جواد ماجد واحد عطائي كلام و عذابي كلام إنّما أمري لشي‏ء إذا أردته أن أقول له كن فيكون.

٢٦٧

( سورة النحل الآيات ٤١ - ٦٤)

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً  وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ  لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( ٤١ ) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ٤٢ ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ  فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٤٣ ) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ  وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( ٤٤ ) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ( ٤٥ ) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ( ٤٦ ) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ٤٧ ) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ( ٤٨ ) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ( ٤٩ ) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ  ( ٥٠ ) وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ  إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ  فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( ٥١ ) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا  أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ( ٥٢ ) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ  ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ( ٥٣ ) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ( ٥٤ ) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ  فَتَمَتَّعُوا  فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ٥٥ )

٢٦٨

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ  تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ( ٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ  وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ( ٥٧) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ( ٥٨) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ  أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ  أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ( ٥٩) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ  وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( ٦٠) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً  وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ( ٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَىٰ  لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ( ٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٦٣) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ  وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ٦٤)

( بيان)

الآيتان الأوليان تذكران الهجرة و تعدان المهاجرين في الله وعداً حسناً في الدنيا و الآخرة، و باقي الآيات تعقّب حديث شركهم بالله و تشريعهم بغير إذن الله، و هي بحسب المعنى تفصيل القول في الجواب عن عدّ المشركين الدعوة النبويّة إلى ترك عبادة الآلهة و تحريم ما لم يحرّمه الله أمراً محالاً كما اُشير إليه في قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا

٢٦٩

حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) وعد جميل للمهاجرين و قد كانت من المؤمنين هجرتان عن مكّة: إحداهما إلى حبشة هاجرتها عدّة من المؤمنين بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإذن من الله و رسوله إليها و لبثوا فيها حيناً في أمن و راحة من أذى مشركي مكّة و عذابهم و فتنتهم.

و الثانية هجرتهم من مكّة إلى المدينة بعد مهاجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الظاهر أنّ المراد بالهجرة في الآية هي الهجرة الثانية فسياق الآيتين أكثر ملاءمة لها من الاُولى و هو ظاهر.

و قوله:( فِي اللهِ ) متعلّق بهاجروا، و المراد بكون المهاجرة في الله أن يكون طلب مرضاته محيطاً بهم في مهاجرتهم لا يخرجون منه إلى غرض آخر كما يقال: سافر في طلب العلم و خرج في طلب المعيشة أي لا غاية له إلّا طلب العلم و لا بغية له إلّا طلب المعيشة، و السياق يعطي أنّ قوله:( مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) أيضاً مقيّد بذلك معنى، و التقدير: و الّذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فيه، و إنّما حذف اختصاراً و إنّما اكتفى به قيداً للمهاجرة لأنّها محلّ الابتلاء فتخصيصه بإيضاح الحال أولى.

و قوله:( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) قيل: أي بلدة حسنة بدلا ممّا تركوه من وطنهم كمكّة و حواليها بدليل قوله:( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ) فإنّه من بوّأت له مكاناً أي سوّيت و أقررته فيه.

و قيل: أي حالة حسنة من الفتح و الظفر و نحو ذلك فيكون قوله:( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ) إلخ، من الاستعارة بالكناية.

و الوجهان متّحدان مآلا فإنّهم إنّما كانوا يهاجرون ليعقدوا مجتمعاً إسلاميّاً طيّباً لا يعبد فيه إلّا الله، و لا يحكم فيه إلّا العدل و الإحسان أو ليدخلوا في مجتمع هذا شأنه فلو رجعوا في مهاجرهم غاية حسنة أو وعدوا بغاية حسنة كان ذلك هذا المجتمع الصالح، و لو حمدوا البلدة الّتي يهاجرون إليها لكان حمدهم للمجتمع الإسلاميّ المستقرّ فيها لا لمائها أو هوائها فالغاية الحسنة الّتي يعدهم الله في الدنيا هي هذا المجتمع سواء اُريد بالحسنة البلدة أو الغاية.

٢٧٠

و قوله:( وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) تتميم للوعد و إشارة إلى أنّ أجر الآخرة أفضل من هذا الأجر الدنيويّ لو كانوا يعلمون ما أعدّ الله لهم فيها من النعم فإنّ فيها سعادة من غير شقاء و خلوداً من غير فناء و لذّة غير مشوبة بألم و جوار ربّ العالمين.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏ ربّهم يَتَوَكَّلُونَ ) لا يبعد أن يستفاد من سياق الآيتين أنّ جملة العناية فيهما إلى وعد المهاجرين في الله وعداً حسناً في الدنيا و الآخرة من غير نظر إلى الإخبار بتحقّق المهاجرة قبل حال الخطاب فيكون الكلام في معنى الاشتراط: من يهاجر في الله فله كذا و كذا، و تكون العناية في قوله:( الَّذِينَ صَبَرُوا ) إلخ بتوصيف المهاجرين بالصبر و التوكّل من غير نظر إلى ما تحقّق منهم من ذلك أيّام توقّفهم في أوطانهم بين المشركين قبال أذاهم و فتنتهم.

و العناية بالتوصيف إنّما هي لكون كلتا الصفتين دخيلتين في الغاية الحسنة الّتي وعدوا بها إذ لو لم يصبروا على مرّ الجهاد و أظهروا الجزع عند هجوم العظائم و لم يتأيّدوا بالتوكّل على الله و اعتمدوا على أنفسهم الضعيفة اُحيط بهم و لم يتهيّأ لهم المستقرّ و فرّقهم العدوّ المصرّ على عداوته بددا و تلاشى المجتمع الصالح الّذي أقاموه في مهاجرهم هذا في الدنيا، و أمّا أمر الآخرة ففساده بفساد المجتمع أو تلاشيه أوضح.

و لو كان المراد وعد المهاجرين الّذين تحقّق منهم الهجرة قبل نزول الآية تطييبا لنفوسهم و تسلية لهم عمّا اُخرجوا من ديارهم و أموالهم و قاسوا الفتن و المحن كان قوله:( الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏ ربّهم يَتَوَكَّلُونَ ) مدحاً لهم بما ظهر منهم أيّام إقامتهم بمكّة و غيرها من الصبر في الله على أذى المشركين و التوكّل على الله فيما عزموا عليه من الإسلام لله.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) رجوع ثان إلى بيان كيفيّة إرسال الرسل و إنزال الكتب حتّى يتّضح للمشركين أنّه لم تكن الدعوة الدينيّة إلّا دعوة عاديّة من رجال يوحى

٢٧١

إليهم من البشر يندبون إلى ما فيه صلاح الناس في دنياهم و عقباهم.

و أنّه لم يدّع أحد من الرسل و لا ادّعي في كتاب من كتب الشرائع أنّ الدعوة الدينيّة ظهور للقدرة الغيبيّة القاهرة لكلّ شي‏ء و الإرادة التكوينيّة لهدم النظام الجاري و نقض سنّة الاختيار و إبطالها حتّى يقول القائل منهم:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ.

و على هذا فقوله سبحانه:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ) مسوق لحصر الرسالة على البشر العاديّ من رجال يوحى إليهم قبال ما ادّعاه المشركون أنّها لو كانت لكانت نقضا لنظام الطبيعة و إبطالاً للاختيار و الاستطاعة.

و به يظهر عدم استقامة ما ذكره غير واحد منهم أنّ الآية مسوقة لردّ المشركين من قريش حيث كانوا يزعمون أنّ البشر لا يصلح للرسالة و أنّها لو كانت فهي من شأن الملائكة فالآية تخبر أنّ السنّة الإلهيّة جرت حسب ما اقتضته الحكمة على أن لا يبعث للدعوة الدينيّة إلّا رجالاً من البشر يوحي إليهم المعارف و الأوامر و النواهي.

و ذلك أنّ سياق الآيات لا يساعد على ذلك، و لم يتقدّم في الكلام ذكر لقولهم ذلك أو لاقتراحهم بعثة الملائكة للرسالة حتّى يوجّه الكلام إلى ذلك.

و إنّما الّذي تقدّم هو قول المشركين:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ و كان مسوقاً لإثبات استحالة النبوّة لا لكونها من شأن الملائكة.

و استدلّ بعضهم بالآية على أنّ الله سبحانه لم يرسل صبيّا و لا امرأة، و استشكل بنبوّة عيسىعليه‌السلام في المهد و اُجيب بأنّ النبوّة أعمّ من الرسالة و الّذي أثبته عيسى لنفسه بقوله:( إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ) مريم: ٣٠ هي النبوّة دون الرسالة.

و فيه أنّ الاستدلال المذكور بالآية إنّما هو بقوله:( وَ ما أَرْسَلْنا ) و هذا الفعل كما يتعلّق في القرآن بالرسول كذلك يتعلّق بالنبيّ غير الرسول قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ ) الآية فلو تمّ الاستدلال المذكور لدلّ

٢٧٢

على حرمان الأطفال و النساء عن الرسالة و النبوّة جميعاً، و قد حكى الله عن عيسىعليه‌السلام قوله:( إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ) مريم: ٣٠ و قال في يحيىعليه‌السلام :( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) مريم: ١٢.

و الحقّ أنّ الآية:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلّا رِجالًا ) إنّما هي في مقام بيان أنّ الرسل كانوا رجالاً من البشر العاديّ من غير عناية بكونهم أوّل ما بعثوا للرسالة أفراداً بالغين مبلغ الرجال فالغرض أنّ نوحاً و إبراهيم و موسى و عيسى و يحيىعليهم‌السلام - و هم رسل - كانوا رجالاً يوحى إليهم و لم يكونوا أشخاصاً مجهّزين بقدرة قاهرة غيبيّة و إرادة إلهيّة تكوينيّة.

و يقرب من الآية قوله تعالى: في موضع آخر:( وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ ) الأنبياء: ٨.

و قوله:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) الظاهر أنّه خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لقومه، و قد كان الخطاب في سابق الكلام للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة و المعنى موجّه إلى الجميع فهو تعميم الخطاب للجميع ليتّخذ كلّ من المخاطبين سبيله فمن كان لا يعلم ذلك كبعض المشركين راجع أهل الذكر و سألهم و من كان يعلم ذلك كالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين به كان في غنى عن الرجوع و السؤال.

و قيل: إنّ الخطاب في الآية للمشركين فإنّهم هم المنكرون فليرجعوا و ليسألوا و فيه أنّ لازم ذلك كون الجملة التفاتا من خطاب الفرد إلى خطاب الجميع و لا نكتة ظاهرة تصحّح ذلك و الله أعلم.

و الذكر حفظ معنى الشي‏ء أو استحضاره، و يقال لما به يحفظ أو يستحضر قال الراغب في المفردات: الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلّا أنّ الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه و الذكر يقال اعتبارا باستحضاره، و تارة يقال لحضور الشي‏ء في القلب أو القول و لذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، و ذكر باللسان، و كلّ واحد منهما

٢٧٣

ضربان: ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، انتهى موضع الحاجة.

و الظاهر أنّ الأصل فيه ما هو للقلب و إنّما يسمّى اللفظ ذكراً اعتباراً بإفادته المعنى و إلقائه إيّاه في الذهن، و على هذا المعنى جرى استعماله في القرآن غير أنّ مورده فيه ذكر الله تعالى فالذكر إذا اُطلق فيه و لم يتقيّد بشي‏ء هو ذكره.

و بهذه العناية أيضاً سمّي القرآن وحي النبوّة و الكتب المنزّلة على الأنبياء ذكراً، و الآيات في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها في هذا الموضع. و قد سمّى الله سبحانه في الآية التالية القرآن ذكراً.

فالقرآن الكريم ذكر كما أنّ كتاب نوح و صحف إبراهيم و توراة موسى و زبور داود و إنجيل عيسىعليه‌السلام - و هي الكتب السماويّة المذكورة في القرآن - كلّها ذكر، و أهلها المتعاطون لها المؤمنين بها أهل الذكر.

و لما كان أهل الشي‏ء و خاصّته أعرف بحاله و أبصر بأخباره كان على من يريد التبصّر في أمره أن يرجع إلى أهله، و أهل الكتب السماويّة القائمون على دراستها و تعلّمها و العمل بشرائعها هم أهل الخبرة بها و العالمون بأخبار الأنبياء الجائين بها فعلى من أراد الاطّلاع على شي‏ء من أمرهم أن يراجعهم و يسألهم.

لكنّ المشركين المخاطبين بمثل قوله:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) لما كانوا لا يسلّمون للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبوّة و لا يصدّقونه في دعواه و يستهزؤن بالقرآن ذي الذكر كما يذكره تعالى في قوله:( وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) الحجر: ٦ لم ينطبق قوله:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) بحسب المورد إلّا على أهل التوراة، و خاصّة من حيث كونهم أعداء للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رادّين لنبوّته و كانت نفوس المشركين طيّبة بهم لذلك، و قد قالوا في المشركين:( هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ) النساء: ٥١.

و قال بعضهم: المراد بأهل الذكر أهل العلم بأخبار من مضى من الاُمم سواء أ كانوا مؤمنين أم كفّاراً؟ و سمّي العلم ذكرا لأنّ العلم بالمدلول يحصل غالباً من

٢٧٤

تذكّر الدليل فهو من قبيل تسمية المسبّب باسم السبب.

و فيه أنّه من المجاز من غير قرينة موجبة للحمل عليه على أنّ المعهود من الموارد الّتي ورد فيها الذكر في القرآن الكريم غير هذا المعنى.

و قال بعضهم: المراد بأهل الذكر أهل القرآن لأنّ الله سمّاه ذكراً و أهله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه و خاصّة المؤمنين. و فيه أنّ كون القرآن ذكراً و أهله أهله لا ريب فيه لكن إرادة ذلك من الآية خاصّة لا تلائم تمام الحجّة فإنّ اُولئك لم يكونوا مسلّمين لنبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف يقبلون من أتباعه من المؤمنين؟.

و كيف كان فالآية إرشاد إلى أصل عامّ عقلائيّ و هو وجوب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة، و ليس ما تتضمّنه من الحكم حكماً تعبّديّاّ، و لا أمر الجاهل بالسؤال عن العالم و لا بالسؤال عن خصوص أهل الذكر أمرا مولويّاً تشريعيّاً و هو ظاهر.

قوله تعالى: ( بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ ) متعلّق بمقدّر يدلّ عليه ما في الآية السابقة من قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا ) أي أرسلناهم بالبيّنات و الزبر و هي الآيات الواضحة الدالّة على رسالتهم و الكتب المنزّلة عليهم.

و ذلك أنّ العناية في الآية السابقة إنّما هي ببيان كون الرسل بشراً على العادة فحسب فكأنّه لما ذكر ذلك اختلج في ذهن السامع أنّهم بما ذا اُرسلوا؟ فاُجيب عنه فقيل: بالبيّنات و الزبر أمّا البيّنات فلإثبات رسالتهم و أمّا الزبر فلحفظ تعليماتهم.

و قيل: هو متعلّق بقوله:( وَ ما أَرْسَلْنا ) أي و ما أرسلنا بالبيّنات و الزبر إلّا رجالاً نوحي إليهم. و فيه أنّه لا بأس به في نفسه لكنّه مفوّت لما تقدّم من النكتة.

قوله تعالى: ( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) لا شكّ أنّ تنزيل الكتاب على الناس و إنزال الذكر على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحد بمعنى أنّ تنزيله على الناس هو إنزاله إليه ليأخذوا به و يوردوه مورد العمل كما قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً

٢٧٥

مُبِيناً ) النساء: ١٧٤ و قال:( لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) الأنبياء: ١٠.

فيكون محصّل المعنى أنّ القصد بنزول هذا الذكر إلى عامّة البشر و أنّك و الناس في ذلك سواء، و إنّما اخترناك لتوجيه الخطاب و إلقاء القول لا لنحمّلك قدرة غيبيّة و إرادة تكوينيّة إلهيّة فنجعلك مسيطرا عليهم و على كلّ شي‏ء بل لأمرين:

أحدهما: أن تبيّن للناس ما نزّل تدريجاً إليهم لأنّ المعارف الإلهيّة لا ينالها الناس بلا واسطة فلا بدّ من بعث واحد منهم للتبيين و التعليم، و هذا هو غرض الرسالة ينزل إليه الوحي فيحمله ثمّ يؤمر بتبليغه و تعليمه تبيينه.

و الثاني: رجاء أن يتفكّروا فيك فيتبصّروا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله فإنّ الأوضاع المحيطة بك و الحوادث و الأحوال الواردة عليك في مدى حياتك من اليتم و خمود الذكر و الحرمان من التعلّم و الكتابة و فقدان مربّ صالح و الفقر و الاحتباس بين قوم جهلة أخسّاء صفر الأيدي من مزايا المدنيّة و فضائل الإنسانيّة كانت جميعاً أسباباً قاطعة أن لا تذوق من عين الكمال قطرة، و لا تقبض من عرى السعادة على مسكة، لكنّ الله سبحانه أنزل إليك ذكراً تتحدّى به على الجنّ و الإنس مهيمنا على سائر الكتب السماويّة تبيانا لكلّ شي‏ء و هدى و رحمة و برهاناً و نوراً مبيناً.

فالتفكّر فيك نعم الدليل الهادي إلى أن ليس لك فيما جئت به صنع و لا لك من الأمر شي‏ء و أنّ الله أنزله بعلمه و أيّدك لذلك بقدرته من غير أن يداخله من الأسباب العاديّة شي‏ء.

هذا ما تفيده الآية الكريمة نظراً إلى سياقها و سياق ما قبلها و محصّله أنّ قوله:( لِتُبَيِّنَ ) إلخ، غاية للإنزال لا لنفسه بل من حيث تعلّقه بشخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أنّ متعلّق( يَتَفَكَّرُونَ ) المحذوف هو نحو قولنا: فيك لا قولنا: في الذكر.

لكنّ القوم ذكروا أنّ قوله:( لِتُبَيِّنَ ) غاية للإنزال و أنّ المراد بالتفكّر

٢٧٦

التفكّر في الذكر ليعلم بذلك أنّه حقّ و معنى الآية على هذا:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) أي القرآن لتبيّن للناس كافّة ما نزل إليهم في ذلك الذكر من اُصول المعارف و الأحكام و الشرائع و أحوال الاُمم الماضية و ما جرى فيهم من سنّة الله تعالى، و لرجاء أن يتفكّروا في الذكر فيهتدوا إلى أنّه حقّ من عند الله أو يتفكّروا فيما تبيّنه لهم.

و أنت خبير بأنّ لازم ذلك أوّلاً شبه تحصيل الحاصل في إنزاله إليه ليبيّن لهم ما نزّل إليهم، و الإنزال واحد، و لا مدفع له إلّا أن يغيّر النظم إلى مثل قولنا: و أنزلنا إليك الذكر لتبيّنه لهم.

و ثانياً: كون قوله:( إِلَيْكَ ) مستدركا مستغنى عنه و خاصّة بالنظر إلى قوله:( وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) و ذلك أنّ الإنزال غايته التبيين و لا أثر في ذلك لكونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنزل إليه دون غيره، و كذلك التفكّر في الذكر غاية مرجوّة للعلم بأنّه حقّ من عند الله من غير نظر إلى من اُنزل إليه، و لازم ذلك كون قوله:( إِلَيْكَ ) زائداً في الكلام لا حاجة إليه.

و ثالثاً: انقطاع الآية بسياقها عن سياق الآية السابقة عليها:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ) و الآيات المتقدّمة عليها.

و هاهنا وجه آخر يمكن أن يندفع به بعض الإشكالات السابقة و هو كون المراد بالذكر المنزّل لفظ القرآن الكريم و بما نزّل إليهم معاني الأحكام و الشرائع و غيرها، و يكون قوله:( لِتُبَيِّنَ ) غاية للإنزال، و قوله:( وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) معطوفا على مقدّر و غاية للتبيين لا للإنزال، و هو خلاف ظاهر الآية، و عليك بإجادة التدبّر فيها.

و من لطيف التعبير في الآية قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ) و( ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) بتفريق الفعلين بالإفعال الدالّ على اعتبار الجملة و الدفعة و التفعيل الدالّ على اعتبار التدريج، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ العناية في قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ) بتعلّق الإنزال بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط من غير نظر إلى خصوصيّة نفس الإنزال، و لذلك اُخذ الذكر جملة واحدة فعبّر عن نزوله من عنده تعالى بالإنزال.

٢٧٧

و أمّا الناس فإنّ الّذي لهم من ذلك هو الأخذ و التعلّم و العمل، و قد كان تدريجيّاً و لذلك عنّي به و عبّر عن نزوله إليهم بالتنزيل.

و في الآية دلالة على حجّيّة قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان الآيات القرآنيّة، و أمّا ما ذكره بعضهم أنّ ذلك في غير النصّ و الظاهر من المتشابهات أو فيما يرجع إلى أسرار كلام الله و ما فيه من التأويل فممّا لا ينبغي أن يصغي إليه.

هذا في نفس بيانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يلحق به بيان أهل بيته لحديث الثقلين المتواتر و غيره و أمّا سائر الاُمّة من الصحابة أو التابعين أو العلماء فلا حجّيّة لبيانهم لعدم شمول الآية و عدم نصّ معتمد عليه يعطي حجّيّة بيانهم على الإطلاق.

و أمّا قوله تعالى:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فقد تقدّم أنّه إرشاد إلى حكم العقلاء بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم من غير اختصاص الحكم بطائفة دون طائفة.

هذا كلّه في نفس بيانهم المتلقّى بالمشافهة، و أمّا الخبر الحاكي له فما كان منه بيانا متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعيّة و ما يلحق به فهو حجّة لكونه بيانهم، و أمّا ما كان مخالفاً للكتاب أو غير مخالف لكنّه ليس بمتواتر و لا محفوفاً بالقرينة فلا حجّيّة فيه لعدم كونه بياناً في الأوّل و عدم إحراز البيانيّة في الثاني و للتفصيل محلّ آخر.

قوله تعالى: ( أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) هذه الآية و الآيتان بعدها إنذار و تهديد للمشركين و هم الّذين يعبدون غير الله سبحانه و يشرّعون لأنفسهم سننا يستنّون بها في الحياة فما يعملون من الأعمال مستقلّين فيها بأنفسهم معرضين عن شرائع الله النازلة من طريق النبوّة استناداً إلى حجج داحضة اختلقوها لأنفسهم كلّها سيّئات و ما يتقلّبون فيها مدى حياتهم من حركة أو سكون و أخذ أو ردّ و فعل أو ترك و هم على ما هم عليه من استكبار و غرور، كلّها ذنوب يقترفونها مكراً بالله ربّهم و برسله الداعين إلى الأخذ بدين الله و لزوم سبيله.

٢٧٨

فقوله:( السَّيِّئاتِ ) مفعول( مَكَرُوا ) بتضمينه بمعنى عملوا أي عملوا السيّئات ماكرين، و ما احتمله بعضهم من كون السيّئات وصفاً سادّاً مسدّ المفعول المطلق و التقدير: يمكرون المكرات السيّئات بعيد من السياق.

و بالجملة الكلام لتهديد المشركين و إنذارهم بالعذاب الإلهيّ و يدخل فيهم مشركو مكّة، و الكلام متفرّع على ما تقدّم كما يدلّ عليه قوله:( أَ فَأَمِنَ ) بفاء التفريع.

و المعنى - و الله أعلم - فإذا دلّت الآيات البيّنات على أنّ الله هو ربّهم لا شريك له في ربوبيّته و أنّ الرسالة ليست بأمر محال بل هي دعوة إلى ما فيه صلاح معاشهم و معادهم و خير دنياهم و اُخراهم من رجال هم أمثالهم يبعثهم الله و يوحي إليهم بما تشتمل عليه الدعوة، فهؤلاء الّذين يعرضون عن ذلك و يمكرون بالله و رسله بالتشبّث بهذه الحجج الواهية لتسوية الطريق إلى ترك دين الله و تشريع ما يوافق أهواءهم و يعملون السيّئات هل أمنوا أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب و هم لا يشعرون، أي يفاجئهم من غير أن يتنبّهوا بتوجّهه إليهم قبل نزوله.

قوله تعالى: ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) الفاعل هو الله سبحانه و قد كثرت في القرآن نسبة الأخذ إليه، و قيل: الضمير للعذاب، و التقلّب هو التحوّل من حال إلى حال و المراد به تحوّل المشركين في مقاصدهم و أعمالهم السيّئة و انتقالهم من نعمة إلى نعمة اُخرى من نعم الحياة الدنيا، قال تعالى:( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) آل عمران: ١٩٧.

فالمراد بأخذهم في تقلّبهم أن يأخذهم في عين ما يتقلّبون فيه من السيّئات مكراً بالله و رسله بالعذاب أو المعنى يعذّبهم بنفس ما يتقلّبون فيه فيعود النعمة نقمة، و هذا أنسب بالنظر إلى قوله:( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

و قوله:( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) في مقام التعليل لأخذهم في تقلّبهم و مكرهم السيّئات

٢٧٩

أي لأنّهم ليسوا بمعجزين لله فيما أراد بالتغلّب عليه أو بالفرار من حكمه، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى‏ تَخَوُّفٍ فإنّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) التخوّف تمكّن الخوف من النفس و استقراره فيها فالأخذ على تخوّف هو العذاب مبنيّاً على المخافة بأن يشعروا بالعذاب فيتّقوه و يحذروه بما استطاعوا من توبة و ندامة و نحوهما فيكون الأخذ على تخوّف مقابلاً لإتيان العذاب من حيث لا يشعرون.

و ربّما قيل: إنّ الأخذ على تخوّف هو العذاب بما يخاف منه من غير هلاك كالزلزلة و الطوفان و غيرهما.

و ربّما قيل: إنّ معنى التخوّف التنقّص بأن يأخذهم الله بنقص النعم واحدة بعد واحدة تدريجيّاً كأخذ الأمن ثمّ الأمطار ثمّ الرخص ثمّ الصحّة و هكذا.

و قوله:( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) في مقام التعليل أي يأخذهم على تخوّف و يتنزّل في عذابهم إلى هذا النوع من العذاب الّذي هو أهون الأنواع المعدودة لأنّه رؤف رحيم، و في التعبير بقوله:( رَبَّكُمْ ) إشارة إلى ذلك، و كونه في مقام التعليل بالنسبة إلى الوجهين الأوّلين ظاهر، و أمّا بالنسبة إلى الثالث فلأنّ الأخذ بالنقص لا يخلو من مهلة و فرصة يتنبّه فيها من تنبّه فيأخذ بالحذر بتوبة أو غيرها.

و الكلام في تعداد أنواع العذاب المذكورة ليس مسوقاً للحصر كما نبّه به بعضهم بل إحصاء لأنواع منه.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ ) المراد بالرؤية الرؤية البصريّة و النظر الحسّيّ إلى الأشياء الجسمانيّة لأنّ المطلوب إلفات النظر إلى الأجسام ذوات الأظلال.

و التفيّؤ من الفي‏ء و هو الظلّ راجعاً، و لذا قيل: إنّ الظلّ هو ما في أوّل النهار إلى زوال الشمس و الفي‏ء هو ما يكون بعد زوال الشمس إلى آخر النهار، و

٢٨٠