الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 79716
تحميل: 4391


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79716 / تحميل: 4391
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 12

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الآيات الثلاث المتوالية الّتي تتعرّض لغرض تعداد النعم الإلهيّة، و هي تذكّر بالتوحيد بمثل يقيس حال من ينعّم بجميع النعم من حال من لا يملك شيئاً و لا يقدر على شي‏ء فيستنتج أنّ الربّ هو المنعم لا غير.

قوله تعالى: ( وَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ ) إلى آخر الآية. قال في المجمع:، الأبكم الّذي يولد أخرس لا يفهم و لا يفهم، و قيل: الأبكم الّذي لا يقدر أن يتكلّم و الكلّ الثقل يقال: كلّ عن الأمر يكلّ كلّا إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه. و كلّت السكّين كلولا إذا غلظت شفرتها، و كلّ لسانه إذا لم ينبعث في القول لغلظه و ذهاب حدّه فالأصل فيه الغلظ المانع من النفوذ، و التوجيه: الإرسال في وجه من الطريق، يقال: وجّهته إلى موضع كذا فتوجّه إليه. انتهى.

فقوله:( وَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ) مقايسة اُخرى بين رجلين مفروضين متقابلين في أوصافهما المذكورة.

و قوله:( أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) أي محروم من أن يفهم الكلام و يفهم غيره بالكلام لكونه أبكم لا يسمع و لا ينطق فهو فاقد لجميع الفعليّات و المزايا الّتي يكتسبها الإنسان من طريق السمع الّذي هو أوسع الحواسّ نطاقاً، به يتمكّن الإنسان من العلم بأخبار من مضى و ما غاب عن البصر من الحوادث و ما في ضمائر الناس و يعلّم العلوم و الصناعات، و به يتمكّن من إلقاء ما يدركه من المعاني الجليلة و الدقيقة إلى غيره، و لا يقوى الأبكم على درك شي‏ء منها إلّا النزر اليسير ممّا يساعد عليه البصر بإعانة من الإشارة.

فقوله:( لا يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) مخصّص عمومه بالأبكم أي لا يقدر على شي‏ء ممّا يقدر عليه غير الأبكم و هو جملة ما يحرمه الأبكم من تلقّي المعلومات و إلقائها.

و قوله:( وَ هُوَ كلّ عَلى‏ مَوْلاهُ ) أي ثقل و عيال على من يلي و يدبّر أمره فهو لا يستطيع أن يدبّر أمر نفسه، و قوله:( أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ) أي إلى أيّ جهة أرسله مولاه لحاجة من حوائج نفسه أو حوائج مولاه لم يقدر على رفعها فهو لا يستطيع أن ينفع غيره كما لا ينفع نفسه، فهذا أعني قوله:( أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ

٣٢١

عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، مثل أحد الرجلين، و لم يذكر سبحانه مثل الآخر لحصول العلم به من قوله:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) إلخ، و فيه إيجاز لطيف.

و قوله:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) فيه إشارة إلى وصف الرجل المفروض و سؤال عن استوائهما إذا قويس بينهما و عدمه.

أمّا الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن أن يتلبّس به غير الأبكم من الخير و الكمال الّذي يحلّي نفسه و يعدو إلى غيره و هو العدل الّذي هو التزام الحدّ الوسط في الأعمال و اجتناب الإفراط و التفريط فإنّ الأمر بالعدل إذا جرى على حقيقته كان لازمه أن يتمكّن الصلاح من نفس الإنسان ثمّ ينبسط على أعماله فيلتزم الاعتدال في الاُمور ثمّ يحبّ انبساطه على أعمال غيره من الناس فيأمرهم بالعدل و هو - كما عرفت - مطلق التجنّب عن الإفراط و التفريط أي العمل الصالح أعمّ من العدل في الرعيّة.

ثمّ وصفه بقوله:( وَ هُوَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) و هو السبيل الواضح الّذي يهدي سالكيه إلى غايتهم من غير عوج، و الإنسان الّذي هو في مسير حياته على صراط مستقيم يجري في أعماله على الفطرة الإنسانيّة من غير أن يناقض بعض أعماله بعضاً أو يتخلّف عن شي‏ء ممّا يراه حقّاً و بالجملة لا تخلّف و لا اختلاف في أعماله.

و توصيف هذا الرجل المفروض الّذي يأمر بالعدل بكونه على صراط مستقيم يفيد أوّلاً أنّ أمره بالعدل ليس من أمر الناس بالبرّ و نسيان نفسه بل هو مستقيم في أحواله و أعماله يأتي بالعدل كما يأمر به.

و ثانياً: أنّ أمره بالعدل ليس ببدع منه من غير أصل فيه يبتني عليه بل هو في نفسه على مستقيم الصراط و لازمه أن يحبّ لغيره ذلك فيأمرهم أن يلتزموا وسط الطريق و يجتنبوا حاشيتي الإفراط و التفريط.

و أمّا السؤال أعني ما في قوله:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) إلخ، فهو سؤال لا جواب له إلّا النفي لا شكّ فيه و به يثبت أنّ ما يعبدونه من دون الله من الأصنام و الأوثان و هو مسلوب القدرة لا يستطيع أن يهتدي من نفسه و لا أن يهدي

٣٢٢

غيره لا يساوي الله تعالى و هو على صراط مستقيم في نفسه هاد لغيره بإرسال الرسل و تشريع الشرائع.

و منه يظهر أنّ هذا المثل المضروب في الآية في معنى قوله تعالى:( أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحقّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إلّا أَنْ يُهْدى‏ فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) يونس: ٣٥ فالله سبحانه على صراط مستقيم في صفاته و أفعاله، و من استقامة صراطه أن يجعل لما خلقه من الأشياء غايات تتوجّه إليها فلا يكون الخلق باطلاً، كما قال:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ) و أن يهدي كلّا إلى غايته الّتي تخصّه كما خلقها و جعل لها غاية كما قال:( الَّذِي أَعْطى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) طه: ٥٠ فيهدي الإنسان إلى سبيل قاصد كما قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: ٩، و قال:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ) الدهر: ٣.

و هذا أصل الحجّة على النبوّة و التشريع، و قد مرّ تمامه في أبحاث النبوّة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.

فقد تحصّل أنّ الغرض من المثل المضروب في الآية إقامة حجّة على التوحيد مع إشارة إلى النبوّة و التشريع.

و قيل: إنّه مثل مضروب فيمن يؤمّل منه الخير و من لا يؤمّل منه، و أصل الخير كلّه من الله تعالى فكيف يستوي بينه و بين شي‏ء سواه في العبادة.؟

و فيه أنّ المورد أخصّ من ذلك فهو مثل مضروب فيمن هو على خير في نفسه و هو يأمر بالعدل و هو شأنه تعالى دون غيره على أنّهم لا يساوون بينه و بين غيره في العبادة بل يتركونه و يعبدون غيره.

و قيل: إنّه مثل مضروب في المؤمن و الكافر فالأبكم هو الكافر، و الّذي يأمر بالعدل هو المؤمن، و فيه أنّ صحّة انطباق الآية على المؤمن و الكافر بل على كلّ من يأمر بالعدل و من يسكت عنه و جريها فيهما أمر، و مدلولها من جهة وقوعها في سياق تعداد النعم و الاحتجاج على التوحيد و ما يلحق به من الاُصول أمر آخر، و

٣٢٣

الّذي تفيده بالنظر إلى هذه الجهة أنّ مورد المثل هو الله سبحانه و ما يعبدون من دونه لا غير.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) الغيب يقابل الشهادة في إطلاقات القرآن الكريم و قد تكرّر فيه:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) و قد تقدّم مراراً أنّهما أمران إضافيّان فالأمر الواحد غيب و غائب بالنسبة إلى شي‏ء و شهادة و مشهود بالنسبة إلى آخر.

و إذ كان من الأشياء ما هو ذو وجوه يظهر ببعض منها لغيره و يخفى ببعض أعني أنّه متضمّن غيباً و شهادة كانت إضافة الغيب و الشهادة إلى الشي‏ء تارة بمعنى اللّام فيكون مثلاً غيب السماوات و الأرض ما هو غائب عنهما خارج من حدودهما، و يلحق بهذا الباب الإضافة لنوع من الاختصاص، كما في قوله:( فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً ) الجنّ: ٢٦.

و تارة بمعنى( من ) أو ما يقرب منه فيكون المراد بغيب السماوات و الأرض الغيب الّذي يشتملان عليه نوعاً من الاشتمال قبال ما يشتملان عليه من الشهادة و بعبارة اُخرى ما يغيب عن الأفهام من أمرهما قبال ما يظهر منهما.

و الساعة هي من غيب السماوات و الأرض بهذا المعنى الثاني:

أمّا أوّلاً: فلأنّه سبحانه يعدّها في كلامه من الغيب، و ليست بخارج من أمر السماوات و الأرض فهو من الغيب بهذا المعنى.

و أمّا ثانياً: فلأنّ ما يصفها به من الأوصاف إنّما يلائم هذا المعنى الثاني ككونها يوما ينبّئهم الله بما كانوا فيه يختلفون و يوم تبلى السرائر و يوماً يخاطب فيه الإنسان بمثل قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، و يوماً يخاطبون ربّهم بقولهم:( رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا ) و بالجملة هي يوم يظهر فيه ما استتر من الحقّائق في هذه النشأة ظهور عيان، و من المعلوم أنّ هذه الحقائق غير خارجة من السماوات و الأرض بل هي معهما ثابتة.

٣٢٤

كيف؟ و هو تعالى يقول:( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) فيثبته ملكاً لنفسه و ليس ملكه من الملك الاعتباريّ يتعلّق بكلّ أمر موهوم أو جزافيّ بل ملك حقيقيّ يتعلّق بأمر ثابت فلها نوع من الثبوت و إن فرض جهلنا بحقيقة ثبوتها.

و الشواهد القرآنيّة على هذا الّذي ذكرناه كثيرة. و قد عدّ سبحانه حياة هذه النشأة متاع الغرور و لعبا و لهوا، و كرّر أنّ أكثر الناس لا يعلمون ما هو يوم القيامة، و ذكر أنّ الدار الآخرة هي الحيوان، و أنّهم سيعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين و سيبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، إلى غير ذلك ممّا يشتمل عليه الآيات على اختلاف ألسنتها.

و بالجملة الساعة من غيب السماوات و الأرض، و الآية أعني قوله:( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) تقرّر ملكه تعالى لنفس هذا الغيب لا لعلمه فلم يقل: و لله علم غيب السماوات و الأرض، و سياق الآية يعطي أنّ الجملة أعني قوله:( وَ لِلَّهِ غَيْبُ ) إلخ، توطئة و تمهيد لقوله:( ما أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) إلخ، فالجملة مسوقة للاحتجاج.

و على هذا يعود معنى الآية إلى أنّ الله سبحانه يملك غيب السماوات و الأرض ملكا له أن يتصرّف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما و كيف لا؟ و غيب الشي‏ء لا يفارق شهادته و هو موجود ثابت معه و له الخلق و الأمر، و الساعة الموعودة ليست بأمر محال حتّى لا يتعلّق بها قدرة بل هي من غيب السماوات و الأرض و حقيقتها المستورة عن الأفهام اليوم فهي ممّا استقرّ عليه ملكه تعالى، و له أن يتصرّف فيه بالإخفاء يوماً و بالإظهار آخر.

و ليست بصعبة عليه تعالى فإنّما أمرها كلمح البصر أو أقرب من ذلك لأنّ الله على كلّ شي‏ء قدير.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) مسوق لا لإثبات أصل الساعة أو إمكانها بل لنفي صعوبتها و المشقّة في إقامتها و هوان أمرها عنده سبحانه.

٣٢٥

فقوله:( وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) أي بالنسبة إليه و إلّا فقد استعظم سبحانه أمرها بما يهون عنده كلّ أمر خطير و وصفها بأوصاف لا يعادلها فيها غيرها، قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الأعراف: ١٨٧.

و تشبيه أمرها بلمح البصر إنّما هو من جهة أنّ اللّمحة و هي مدّ البصر و إرساله للرؤية أخفّ الأعمال عند الإنسان و أقصرها زماناً فهو تشبيه بحسب فهم السامع و لذلك عقّبه بقوله:( أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) فإنّ مثل هذا السياق يفهم منه الإضراب فكأنّه تعالى يقول: إنّ أمرها في خفّة المؤنة و الهوان و السهولة بالنسبة إلينا يشبه لمح أحدكم ببصره، و إنّما اُشبّهه به رعاية لحالكم و تقريباً إلى فهمكم و إلّا فالأمر أقرب من ذلك، كما قال فيها:( وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ) الأنعام: ٧٣، فأمر الساعة بالنسبة إلى قدرته و مشيّته تعالى كأمر أيسر الخلق و أهونه.

و علّل تعالى ذلك بقوله:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) فقدرته على كلّ شي‏ء توجب أن تكون الأشياء بالنسبة إليه سواء.

و إيّاك أن تتوهّم أنّ عموم القدرة لا يستوجب ارتفاع الاختلاف من بين الأشياء من حيث النسبة، فقلّة الأسباب المتوسّطة بين الفاعل و فعله و الشرائط و الموانع و كثرتها لهما تأثير في ذلك لا محالة، فالإنسان مثلاً قادر على التنفّس و حمل ما يطيقه من الأثقال و ليسا سواء بالنسبة إليه و على هذا القياس.

فإنّ في ذلك غفلة عن معنى عموم القدرة، و توضيحه أنّ القدرة الّتي فينا قدرة مقيّدة، فإنّ قدرة الإنسان مثلاً على أكل الغذاء و هي أنّ له نسبة الفاعليّة إليه و هي في تأثيرها مشروطة بتحقّق غذاء في الخارج و كونه بين يديه و ممكن التناول و عدم ما يمنع من ذلك من إنسان أو غيره، و كون أدوات الفعل كاليد و الفم و غيرهما غير مصابة بآفة إلى غير ذلك، و الّذي يملكه الإنسان هو الإرادة و الزائد على ذلك وسائط و شرائط و موانع خارجة عن قدرته بالحقيقة و قيد يقيّدها، و إذا أراد الإنسان أن يعمل قدرته فيأكل كان عليه أن يهيّئ تلك الاُمور الّتي تتقيّد بها قدرته في التأثير كتحصيل الغذاء و وضعه قريبا منه و رفع الموانع و إعمال الأدوات البدنيّة مثلاً.

٣٢٦

و من المعلوم أنّ قلّة هذه الاُمور و كثرتها و قربها و بعدها و ما أشبه ذلك من صفاتها توجب اختلاف الفعل في السهولة و عدمها و ضعف القدرة و قوّتها فتقيّد القدرة هو الموجب للاختلاف.

و أمّا قدرته تعالى فإنّها عين ذاته الّتي يجب وجودها و يمتنع عدمها، و إذا كان كذلك فلو تقيّدت بقيد من وجود سبب أو شرط أو عدم مانع لانعدمت بانعدام قيدها و هو محال فقدرته تعالى مطلقة غير محدودة بحدّ و لا مقيّدة بقيد، عامّة تتعلّق بكلّ شي‏ء على حدّ سواء من غير أن يكون شي‏ء بالنسبة إليه أصعب من شي‏ء أو أسهل، و أقرب إليه من شي‏ء أو أبعد، و إنّما الاختلاف بين الأشياء أنفسها بقياس بعضها إلى بعض.

و بتقريب آخر ما من شي‏ء إلّا و هو يفتقر إليه سبحانه في وجوده، فإذا فرضنا كلّ أمر موجود بحيث لا يشذّ عنها شاذّ في جانب و نسبناها إليه تعالى كان الجميع متعلّقاً لقدرته، و ليس هناك أمر ثالث يكون قيداً لقدرته من سبب أو شرط أو عدم مانع و إلّا لكان شريكاً في التأثير تعالى عن ذلك.

و أمّا الّذي بين الأشياء أنفسها من الأسباب المتوسّطة و الشرائط و الموانع فإنّها توجب تقيّد بعضها ببعض لا تقيّد القدرة العامّة الإلهيّة الّتي تتعلّق بها ثمّ تتعلّق القدرة بالمقيّد منها دون المطلق بمعنى أنّ متعلّق القدرة هو زيد الّذي أبوه فلان و اُمّه فلانة و هو في زمان كذا و مكان كذا و هكذا فوجود زيد بجميع روابطه وجود جميع العالم و القدرة المتعلّقة به متعلّقة بالجميع بعينه، و ليست هناك إلّا قدرة واحدة متعلّقة بالجميع يوجد بها كلّ شي‏ء في موطنه الخاصّ به، و هي مطلقة غير مقيّدة لا اختلاف للأشياء بالنسبة إليها و إنّما الاختلاف بينها أنفسها.

فقد تبيّن ممّا تقدّم أنّ عموم القدرة يوجب ارتفاع الاختلاف من بين الأشياء بالنسبة إليها بالسهولة و الصعوبة و غير ذلك و الآية الكريمة من غرر الآيات القرآنيّة يتبيّن بها:

أوّلاً: أنّ حقيقة المعاد ظهور حقيقة الأشياء بعد خفائها.

٣٢٧

و ثانياً: أنّ القدرة الإلهيّة تتعلّق بجميع الأشياء على نعت سواء من غير اختلاف بالسهولة و الصعوبة و القرب و البعد و غير ذلك.

و ثالثاً: أنّ الأشياء بحسب الحقيقة مرتبطة وجوداً بحيث إنّ إيجاد الواحد منها إيجاد الجميع و الجميع متعلّق قدرة واحدة لا مؤثّر فيها غيرها.

نعم هناك نظر آخر أبسط من ذلك و هو النظر فيها من جهة نظام الأسباب و المسبّبات، و قد صدّقه الله في كلامه كما تقدّم بيانه في البحث عن الإعجاز في الجزء الأوّل من الكتاب، و بهذه النظرة ينفصل الأشياء بعضها عن بعض و يتوقّف وجود بعضها على وجود بعض أو عدمه فتتقدّم و تتأخّر و تسهل و تصعب، و تكون الأسباب وسائط بينها و بينه تعالى و يكون تعالى فاعلاً بوساطة الأسباب، و هو نظر بسيط.

و قد ذكر كثير من المفسّرين في قوله:( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أنّه بحذف مضاف و التقدير و لله علم غيب إلخ، و فيه أنّه يستلزم ارتفاع الاتّصال بين هذه الجملة و بين ما يليها إذ لا رابطة بين علم الغيب و بين هوان أمر الساعة، فتعود الجملة مستدركة مستغنى عنها في الكلام.

و قول بعضهم في رفع الاستدراك أنّ صدر الآية و ذيلها يثبتان العلم و القدرة و بهما معا يتمّ خلق الساعة غير مفيد فإنّهم إنّما استشكلوا في الساعة من جهة القدرة لعدّهم إيّاها ممتنعة فلا حاجة إلى التشبّث لإثباتها بمسألة العلم، و يشهد لذلك ما في سائر الآيات المثبتة لإمكان المعاد بعموم القدرة.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد به علم غيبهما لا بتقدير العلم في الكلام حتّى يقال: إنّ الأصل عدمه بل لأنّ إضافة الغيب و هو ما يغيب عن الحسّ و العقل إلى السماوات و الأرض تفيد أنّ المراد الاُمور المجهولة الّتي فيهما ممّا يقع فيهما حالا أو بعد حين و ملكه تعالى له ملكه للعلم به.

و فيه أنّ المقدّمة الأخيرة ممنوعة و قد تقدّم بيانه على أنّ إشكال ارتفاع الاتّصال بين الجملتين في محلّه بعد.

و أيضاً ذكر بعضهم في توجيه التعليل المستفاد من قوله:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كلّ

٣٢٨

شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) أنّ من جملة الأشياء إقامة الساعة في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك.

و فيه أنّه لا يفي بتعليل ما يستفاد من الحصر بالنفي و الإثبات و إنّما يفي بتعليل ما لو قيل: إنّ الله سيجعل أمر الساعة كلمح البصر مع إمكان كونه لا كذلك فافهم ذلك.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ ) قال: قالعليه‌السلام : الفرث ما في الكرش‏

و في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النوفليّ عن السكونيّ قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : ليس أحد يغصّ بشرب اللبن لأنّ الله عزّوجلّ يقول:( لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ ) .

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن رجل عن حريز عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) قال: نحن النحل الّذي أوحى الله إليه أن اتّخذي من الجبال بيوتاً أمرنا أن نتّخذ من العرب شيعة( وَ مِنَ الشَّجَرِ ) يقول: من العجم( وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ ) من الموالي، و الّذي خرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، العلم الّذي يخرج منّا إليكم.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر، و هي من باب الجري و يشهد به ما في بعض هذه الروايات من تطبيق النحل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الجبال على قريش، و الشجر على العرب، و ممّا يعرشون على الموالي، و ما يخرج من بطونها على العلم.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن عليّ بن المغيرة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر.

و في المجمع، روي عن عليّعليه‌السلام : إنّ أرذل العمر خمس و سبعون سنة، و روي عن النبيّ مثل ذلك.

أقول: روى ذلك في الدرّ المنثور، عن الطبريّ عن عليّعليه‌السلام ، و روى عن

٣٢٩

ابن مردويه عن أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حديثاً مفصّلاً يدلّ على أنّ أرذل العمر مائة سنة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالرحمن الأشلّ عن الصادقعليه‌السلام : في قول الله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) قال: الحفدة بنو البنت، و نحن حفدة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، عن جميل بن دراج عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في الحفدة قال: و هم العون منهم يعني البنين.

و في المجمع في معنى الحفدة: هي أختان الرجل على بناته قال: و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

أقول: و لا تنافي بين الروايات كما تقدّم في البيان.

و في التهذيب، بإسناده عن شعيب العقرقوفي عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في طلاق العبد و نكاحه قال: ليس له طلاق و لا نكاح أ ما تسمع الله تعالى يقول:( عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) قال: لا يقدر على طلاق و لا على نكاح إلّا بإذن مولاه.

أقول: و في هذا المعنى عدّة روايات من طرق الشيعة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) قال: قالعليه‌السلام : كيف يستوي هذا؟ و من يأمر بالعدل أميرالمؤمنين و الأئمّةعليهم‌السلام ‏.

و في تفسير البرهان، عن ابن شهر آشوب عن حمزة بن عطاء عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) الآية قال: هو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام و هو على صراط مستقيم.

أقول: و الروايتان من الجري و ليستا من أسباب النزول في شي‏ء لما تقدّم في البيان السابق.

و كذا ما روي من طرق أهل السنّة: أنّ قوله:( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً ) ، الآية نزل في هشام بن عمرو و هو الّذي ينفق ماله سرّاً و جهراً في عبده أبي الجوزاء الّذي كان ينهاه، و كذا ما روي أنّ الآية نزلت في عثمان بن عفان و عبد له.

٣٣٠

و كذا ما روي: في قوله:( وَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ) الآية، أنّ الأبكم اُبيّ بن خلف و من يأمر بالعدل حمزة و عثمان بن مظعون، و كذا ما روي: أنّ الأبكم هاشم بن عمر بن الحارث القرشيّ و كان قليل الخير يعادي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ما روي: أنّ الأبكم أبوجهل و الآمر بالعدل عمّار، و ما روي: أنّ الآمر بالعدل عثمان ابن عفّان، و الأبكم مولى له كافر و هو اُسيد بن أبي العيص، إلى غير ذلك.

٣٣١

( سورة النحل الآيات ٧٨ - ٨٩)

وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ  لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٧٨ ) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٧٩ ) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ  وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ ( ٨٠ ) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ  كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ( ٨١ ) فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( ٨٢ ) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ( ٨٣ ) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( ٨٤ ) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ( ٨٥ ) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ  فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٨٦ ) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ  وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٨٧ ) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ( ٨٨ ) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ  وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَؤُلَاءِ  وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ( ٨٩ )

٣٣٢

( بيان)

الآيات تذكر عدّة اُخرى من النعم الإلهيّة ثمّ تعطف الكلام إلى ما تكشف عنه من حقّ القول في وحدانيّته تعالى في الربوبيّة و في البعث و في النبوّة و التشريع نظيره القبيل السابق الّذي أوردناه من الآيات.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئاً ) إلى آخر الآية. الاُمّهات جمع اُمّ و الهاء زائدة نظير أهراق و أصله أراق و قد تأتي اُمّات، و قيل: الاُمّهات في الإنسان و الاُمّات في غيره من الحيوان، و الأفئدة جمع قلّة للفؤاد و هو القلب و اللبّ، و لم يبن له جمع كثرة.

و قوله:( وَ اللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ) إشارة إلى التولّد و( لا تَعْلَمُونَ شيئاً ) حال من ضمير الخطاب أي أخرجكم من أرحامهنّ بالتولّد و الحال أنّ نفوسكم خالية من هذه المعلومات الّتي أحرزتموها من طريق الحسّ و الخيال و العقل بعد ذلك.

و الآية تؤيّد ما ذهب إليه علماء النفس أنّ لوح النفس خالية عن المعلومات أوّل تكوّنها ثمّ تنتقش فيها شيئاً فشيئاً - كما قيل - و هذا في غير علم النفس بذاتها فلا يطلق عليه عرفاً( يعلم شيئاً ) و الدليل عليه قوله تعالى في خلال الآيات السابقة فيمن يردّ إلى أرذل العمر (لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً) فإنّ من الضروريّ أنّه في تلك الحال عالم بنفسه.

و احتجّ بعضهم بعموم الآية على أنّ العلم الحضوريّ يعني به علم الإنسان بنفسه كسائر العلوم الحصوليّة مفقود في بادئ الحال حادث بعد ذلك ثمّ ناقش في أدلّة كون علم النفس بذاتها حضوريّاً مناقشات عجيبة.

و فيه أنّ العموم منصرف إلى العلم الحصوليّ و يشهد بذلك الآية المتقدّمة.

و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) إشارة إلى مبادئ العلم الّذي أنعم بها على الإنسان فمبدء التصوّر هو الحسّ، و العمدة

٣٣٣

فيه السمع و البصر و إن كان هناك غيرهما من اللمس و الذوق و الشمّ، و مبدأ الفكر هو الفؤاد.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إلّا اللهُ ) إلخ، قال في المجمع: الجوّ الهواء البعيد من الأرض. انتهى. يقول: أ لم ينظروا إلى الطير حال كونها مسخّرات لله سبحانه في جوّ السماء و الهواء البعيد من الأرض، ثمّ استأنف فقال مشيراً إلى ما هو نتيجة هذا النظر:( ما يُمْسِكُهُنَّ إلّا اللهُ ) .

و إثبات الإمساك لله سبحانه و نفيه عن غيره مع وجود أسباب طبيعيّة هناك مؤثّرة في ذلك و كلامه تعالى يصدّق ناموس العلّيّة و المعلوليّة إنّما هو من جهة أنّ توقّف الطير في الجوّ من دون أن تسقط كيفما كان و إلى أيّ سبب استند هو و سببه و الرابطة الّتي بينهما جميعاً مستندة إلى صنعه تعالى فهو الّذي يفيض الوجود عليه و على سببه و على الرابطة الّتي بينهما فهو السبب المفيض لوجوده حقيقة و إن كان سببه الطبيعيّ القريب معه يتوقّف هو عليه.

و معنى توقّفه في وجوده على سببه ليس أنّ سببه يفيد وجوده بعد ما استفاد وجود نفسه منه تعالى بل إنّ هذا المسبّب يتوقّف في أخذه الوجود منه تعالى إلى أخذ سببه الوجود منه تعالى قبل ذلك، و قد تقدّم بعض الكلام في توضيح ذلك من قريب.

و هذا معنى توحيد القرآن، و الدليل عليه من جهة لفظه أمثال قوله:( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ) الأعراف: ٥٤، و قوله:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥، و قوله:( اللهُ خالِقُ كلّ شَيْ‏ءٍ ) الزمر: ٦٢، و قوله:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) النحل: ٧٧.

و الدليل على ما قدّمناه في معنى النفي و الإثبات في الآية قوله تعالى:( مُسَخَّراتٍ ) فإنّ التسخير إنّما يتحقّق بقهر أحد السببين الآخر في فعله على ما يريده السبب القاهر ففي لفظه دلالة على أنّ للمقهور نوعاً من السببيّة.

و ليس طيران الطائر في جوّ السماء بالحقيقة بأعجب من سكون الإنسان في

٣٣٤

الأرض فالجميع ينتهي إلى صنعه تعالى على حدّ سواء لكن اُلفة الإنسان لبعض الاُمور و كثرة عهده به توجب خمود قريحة البحث عنه فإذا صادف ما يخالف ما ألفه و كثر عهده به كالمستثنى من الكلّيّة انتبه لذلك و انتزعت القريحة للبحث عنه و الإنسان يرى الأجسام الأرضيّة الثقيلة معتمدة على الأرض مجذوبة إليها فإذا وجد الطير مثلاً تنقض كلّيّة هذا الحكم بطيرانها تعجّب منه و انبسط للبحث عنه و الحصول على علّته، و للحقّ نصيب من هذا البحث و هذا هو أحد الأسباب في أخذ هذا النوع من الاُمور في القرآن موادّ للاحتجاج.

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أي في كونها مسخّرات في جوّ السماء فإنّ للطير و هو في الجوّ دفيفاً و صفيفاً و بسطاً لأجنحتها و قبضاً و سكوناً و انتقالاً و صعوداً و نزولاً و هي جميعاً آيات لقوم يؤمنون كما ذكره الله.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ) إلى آخر الآية، في المفردات: البيت مأوى الإنسان بالليل لأنّه يقال: بات أقام بالليل كما يقال: ظلّ بالنهار. ثمّ قد يقال: للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه، و جمعه أبيات و بيوت لكنّ البيوت بالمسكن أخصّ و الأبيات بالشعر، قال: و يقع ذلك على المتّخذ من حجر و مدر و صوف و وبر. انتهى موضع الحاجة.

و السكن ما يسكن إليه، و الظعن الارتحال و هو خلاف الإقامة، و الصوف للضأن و الوبر للإبل كالشعر للإنسان و يسمّى ما للمعز شعراً كالإنسان، و الأثاث متاع البيت الكثير و لا يقال للواحد منه أثاث، قال في المجمع: و لا واحد للأثاث كما أنّه لا واحد للمتاع. انتهى. و المتاع أعمّ من الأثاث فإنّه مطلق ما يتمتّع به و لا يختصّ بما في البيت.

و قوله:( وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ) أي جعل لكم بعض بيوتكم سكنا تسكنون إليه، و من البيوت ما لا يسكن إليه كالمتّخذ لادّخار الأموال و اختزان الأمتعة و غير ذلك و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً ) إلخ، أي من جلودها بعد الدبغ و هي الأنطاع و الأدم( بُيُوتاً ) و هي القباب و الخيام( تَسْتَخِفُّونَها )

٣٣٥

أي تعدّونها خفيفة من جهة الحمل( يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ) و ارتحالكم( وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ ) من غير سفر و ظعن.

و قوله:( وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها ) إلخ، معطوف على موضع( مِنْ جُلُودِ ) أي و جعل لكم( مِنْ أَصْوافِها ) و هي للضأن و( أَوْبارِها ) و هي للإبل( وَ أَشْعارِها ) و هي للمعز( أَثاثاً ) تستعملونه في بيوتكم( وَ مَتاعاً ) تتمتّعون به( إِلى‏ حِينٍ ) محدود، قيل: و فيه إشارة إلى أنّها فانية داثرة فلا ينبغي للعاقل أن يختارها على نعيم الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا ) إلى آخر الآية، الظرفان أعني قوله:( لَكُمْ ) و( مِمَّا خَلَقَ ) متعلّقان بجعل و تعليق الظلال بما خلق لكونها أمراً عدميّاً محقّقاً بتبع غيره و هي مع ذلك من النعم العظيمة الّتي أنعم الله بها على الإنسان و سائر الحيوان و النبات فما الانتفاع بالظلّ للإنسان و غيره بأقلّ من الانتفاع بالنور و لو لا الظلّ و هو ظلّ الليل و ظلّ الأبنية و الأشجار و الكهوف و غيرها لما عاش على وجه الأرض عائش.

و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ) الكنّ ما يستتر به الشي‏ء حتّى أنّ القميص كنّ للابسه، و أكنان الجبال هي الكهوف و الثقب الموجودة فيها.

و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) أي قميصاً يحفظكم من الحرّ، قال في المجمع:، و لم يقل: و تقيكم البرد لأنّ ما وقى الحرّ وقى البرد، و إنّما خصّ الحرّ بذلك مع أنّ وقايتها للبرد أكثر لأنّ الّذين خوطبوا بذلك أهل حرّ في بلادهم فحاجتهم إلى ما يقي الحرّ أكثر، عن عطاء.

قال: على أنّ العرب يكتفي بذكر أحد الشيئين عن الآخر للعلم به قال الشاعر:

و ما أدري إذا يممّت أرضا

اُريد الخير أيّهما يليني

فكنّى عن الشرّ و لم يذكره لأنّه مدلول عليه، ذكره الفرّاء انتهى.

و لعلّ بعض الوجه في ذكره الحرّ و الاكتفاء به أنّ البشر الاُولى كانوا يسكنون المناطق الحارّة من الأرض فكان شدّة الحرّ أمسّ بهم من شدّة البرد

٣٣٦

و تنبّههم لاتّخاذ السراويل إنّما هو للاتّقاء ممّا كان الابتلاء به أقرب إليهم و هو الحرّ و الله أعلم.

و قوله:( وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) الظاهر أنّ المراد به درع الحديد و نحوه.

و قوله:( كَذلِكَ يتمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) امتنان عليهم بإتمام النعم الّتي ذكرها، و كانت الغاية المرجوّة من ذلك إسلامهم لله عن معرفتها فإنّ المترقّب المتوقّع ممّن يعرف النعم و إتمامها عليه أن يسلم لإرادة منعمه و لا يقابله بالاستكبار لأنّ منعما هذا شأنه لا يريد به سوء.

قوله تعالى: ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) قال في المجمع: البلاغ الاسم و التبليغ المصدر مثل الكلام و التكليم، انتهى.

لمّا فرغ عن ذكر ما اُريد ذكره من النعم و الاحتجاج بها ختمها بما مدلولها العتاب و اللوم و الوعيد على الكفر و يتضمّن ذكر وحدانيّته تعالى في الربوبيّة و المعاد و النبوّة و بدأ ذلك ببيان وظيفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رسالته و هو البلاغ فقال:( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي يتفرّع على هذا البيان الّذي ليس فيه إلّا دعوتهم إلى ما فيه صلاح معاشهم و معادهم من غير أن يتبعه إجبار أو إكراه أنّهم إن تولّوا و أعرضوا عن الإصغاء إليه و الاهتداء به( فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) و التبليغ الواضح الّذي لا إبهام فيه و لا ستر عليه لأنّك رسول و ما على الرسول إلّا ذلك.

و في الآية تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بيان وظيفة له.

قوله تعالى: ( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) المعرفة و الإنكار متقابلان كالعلم و الجهل و هذا هو الدليل على أنّ المراد بالإنكار و هو عدم المعرفة لازم معناه و هو الإنكار في مقام العمل و هو عدم الإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر أو الجحود لسانا مع معرفتها قلباً، لكن قوله:( وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) يخصّ الجحود بأكثرهم كما سيجي‏ء فيبقى للإنكار المعنى الأوّل.

و قوله:( وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) دخول اللّام على( الْكافِرُونَ ) يدلّ على الكمال أي إنّهم كافرون بالنعم الإلهيّة أو بما تدلّ عليه من التوحيد و غيره جميعاً لكنّ

٣٣٧

أكثرهم كاملون في كفرهم و ذلك بالجحود عناداً و الإصرار عليه و الصدّ عن سبيل الله.

و المعنى: يعرفون نعمة الله بعنوان أنّها نعمة منه و مقتضاه أن يؤمنوا به و برسوله و اليوم الآخر و يسلموا في العمل ثمّ إذا وردوا مورد العمل عملوا بما هو من آثار الإنكار دون المعرفة، و أكثرهم لا يكتفون بمجرّد الإنكار العمليّ بل يزيدون عليه بكمال الكفر و العناد مع الحقّ و الجحود و الإصرار عليه.

و فيما قدّمناه كفاية لك عمّا أطال فيه المفسّرون في معنى قوله:( وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) مع أنّهم جميعاً كافرون بإنكارهم من قول بعضهم، إنّما قال:( أَكْثَرُهُمُ ) لأنّ منهم من لم تقم عليه الحجّة كمن لم يبلغ حدّ التكليف أو كان مؤفاً في عقله أو لم تصل إليه الدعوة فلا يقع عليه اسم الكفر.

و فيه أنّ هؤلاء خارجون عن إطلاق الآية رأساً فإنّها تذكر توبيخاً و إيعاداً أنّهم ينكرون نعمة الله بعد ما عرفوها، و هؤلاء إن كانوا ينكرونها كانوا بذلك كافرين و إن لم ينكروها لم يدخلوا في إطلاق الآية قطعاً، و كيف يصحّ أن يقال: إنّهم لم تقم عليهم الحجّة و ليست الحجّة إلّا النعمة الّتي يعدّها الله سبحانه و هم يعرفونها.؟

و قول بعضهم: إنّما قال:( وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) لأنّه كان يعلم أنّ فيهم من سيؤمن، و فيه أنّه قول لا دليل عليه.

و قول بعضهم: إنّ المراد بالأكثر الجميع و إنّما عدل عن البعض احتقاراً له أن يذكره، و نسب إلى الحسن البصريّ، و هو قول عجيب.

قيل: و في الآية دليل على فساد قول المجبرة إنّه ليس لله على الكافر نعمة و أنّ جميع ما فعله بهم إنّما هو خذلان و نقمة لأنّه سبحانه نصّ في هذه الآية على خلاف قولهم، انتهى.

و الحقّ أنّ للنعمة اعتبارين: أحدهما كونها نعمة أي ناعمة ملائمة لحال المنعم عليه من حيث كونه في صراط التكوين أي من حيث سعادته الجسميّة، و الآخر من حيث وقوع المنعم عليه في صراط التشريع أي من حيث سعادته الروحيّة الإنسانيّة بأن تكون النعمة بحيث توجب معرفتها إيمانه بالله و رسوله و اليوم الآخر

٣٣٨

و استعمالها في طريق مرضاة الله، و المؤمن منعّم بالنعمتين كلتيهما و الكافر منعّم في الدنيا بالطائفة الاُولى محروم من الثانية، و في كلامه سبحانه شواهد كثيرة تشهد على ذلك.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) قال في المجمع: قال الزجّاج: و العتب الموجدة يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه فإذا فاوضه ما عتب عليه قالوا: عاتبه، و إذا رجع إلى مسرّته قيل: أعتب، و الاسم العتبي و هو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب، و استعتبه طلب منه أن يعتب. انتهى.

و قوله:( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً ) يفيد السياق أنّ المراد بهذا اليوم يوم القيامة، و بهؤلاء الشهداء الّذين يبعث كلّ واحد منهم من اُمّة، شهداء الأعمال الّذين تحمّلوا حقائق أعمال اُمّتهم في الدنيا و هم يستشهد بهم و يشهدون عليهم يوم القيامة و قد تقدّم بعض الكلام في معنى هذه الشهادة في تفسير قوله:( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) البقرة: ١٤٣ في الجزء الأوّل من الكتاب.

و لا دلالة في لفظ الآية على أنّ المراد بشهيد الاُمّة نبيّها، و لا أنّ المراد بالاُمّة اُمّة الرسول فمن الجائز أن يكون غير النبيّ من اُمّته كالإمام شهيداً كما يدلّ عليه آية البقرة السابقة و قوله تعالى:( وَ جِي‏ءَ بِالنبيّينَ وَ الشُّهَداءِ ) الزمر: ٦٩، و على هذا فالمراد بكلّ اُمّة اُمّة الشهيد المبعوث و أهل زمانه.

و قوله:( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) ذكر بعث شهداء الاُمم دليل على أنّهم يشهدون على اُممهم بما عملوا في الدنيا، و قرينة على أنّ المراد من نفي الإذن للكافرين أنّهم لا يؤذن لهم في الكلام و هو الاعتذار لا محالة و نفي الإذن في الكلام إنّما هو تمهيد لأداء الشهود شهادتهم كما تلوّح إليه آيات اُخر كقوله:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: ٦٥، و قوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) المرسلات: ٣٦.

٣٣٩

على أنّ سياق قوله:( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ ) إلخ، يفيد أنّ المراد بهذا الّذي ذكر نفي ما يتّقى به الشرّ يومئذ من الحيل و بيان أنّه لا سبيل إلى تدارك ما فات منهم و إصلاح ما فسد من أعمالهم في الدنيا يومئذ و هو أحد أمرين: الاعتذار أو استئناف العمل، أمّا الثاني فيتكفّله قوله:( وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) و لا يبقى للأوّل و هو الاعتذار بالكلام إلّا قوله:( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

و من هنا يظهر أنّ قوله:( وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) أي لا يطلب منهم أن يعتبوا الله و يرضوه بيان لعدم إمكان تدارك ما فات منهم بتجديد العمل و الرجوع إلى السمع و الطاعة فإنّ اليوم يوم جزاء لا يوم عمل و لا سبيل إلى رجوعهم القهقرى إلى الدنيا حتّى يعملوا صالحاً فيجزوا به.

و قد بيّن سبحانه ذلك في مواضع اُخرى من كلامه بلسان آخر كقوله تعالى:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ ) القلم: ٤٣، و قوله:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ ربّهم رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) الم السجدة: ١٢.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) كانت الآية السابقة بالحقيقة مسوقة لبيان الفرق بين يوم الجزاء الّذي هو يوم القيامة و بين سائر ظروف الجزاء في الدنيا بأنّ جزاء يوم القيامة لا يرتفع و لا يتغيّر باعتذار و لا باستعتاب، و هذه الآية بيان فرق عذاب اليوم مع العذابات الدنيويّة الّتي تتعلّق بالظالمين في الدنيا فإنّها تقبل بوجه التخفيف أو الإنظار بتأخير ما و عذاب يوم القيامة لا يقبل تخفيفاً و لا إنظاراً.

فقوله:( وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ ) ذكر الظلم في الصلة دون الكفر و نحوه للدلالة على سبب الحكم و ملاكه، و المراد برؤية العذاب إشرافه عليهم و إشرافهم عليه بعد فصل القضاء كما يفيده السياق، و المراد بالعذاب عذاب يوم القيامة و هو عذاب النار.

٣٤٠