الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 79665
تحميل: 4389


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79665 / تحميل: 4389
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 12

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و المعنى - و الله أعلم - و إذا قضي الأمر بعذابهم و أشرفوا على العذاب بمشاهدة النار فلا مخلص لهم عنه بتخفيف أو بإنظار و إمهال.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ ) إلى آخر الآية، مضيّ في حديث يوم البعث، و قوله:( وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) و هم في عرف القرآن عبدة الأصنام و الأوثان قرينة على أنّ المراد بقوله:( شُرَكاءَهُمْ ) الّذين أشركوهم بالله زعما منهم أنّهم شركاء لله و افتراء و يدلّ أيضاً عليه ذيل الآية و الآية التالية.

فتسميتهم شركاءهم و هم يسمّونهم شركاء الله للدلالة بها على أن ليس لهم من الشركة إلّا الشركة بجعلهم بحسب وهمهم فليس لإشراكهم شركاءهم من الحقيقة إلّا أنّها لا حقيقة لها.

و بذلك يظهر أنّ تفسير شركائهم بالأصنام أو بالمعبودات الباطلة و أنّهم إنّما عدّوا شركائهم لأنّهم جعلوا لها نصيباً من أموالهم و أنعامهم، أو الشياطين لأنّهم شاركوهم في الأموال و الأولاد أو شركاؤهم في الكفر و هم الّذين كفروا مثل كفرهم أو شاركوهم في وبال كفرهم، كلّ ذلك في غير محلّه و لا نطيل بالمناقشة في كلّ واحد منها.

و قوله:( قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ) معناه ظاهر و هو تعريف منهم إيّاهم لربّهم، و لا حاجة إلى البحث عن غرض المشركين في تعريفهم فإنّ اليوم يوم أحاط بهم الشقاء و العذاب من كلّ جانب، و الإنسان في مثل ذلك يلوي إلى كلّ ما يخطر بباله من طرق السعي في خلاص نفسه و تنفيس كربه.

و قوله:( فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ ) قال في المجمع:، تقول: ألقيت الشي‏ء إذا طرحته، و اللقى الشي‏ء الملقى، و ألقيت إليه مقالة إذا قلتها له، و تلقّاها إذا قبلها، انتهى.

و المعنى: أنّ شركائهم ردّوا إليهم و كذّبوهم، و قد عبّر سبحانه في موضع آخر عن هذا التكذيب بالكفر كقوله:( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) فاطر: ١٤

٣٤١

و قوله حكاية عن مخاطبة الشيطان لهم يوم القيامة( إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) إبراهيم: ٢٢.

قوله تعالى: ( وَ أَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) السلم الإسلام و الاستسلام، و كأنّ في التعبير بإلقاء السلم إشارة إلى انضمام شي‏ء من الخضوع و المقهوريّة بالقهر الإلهيّ إلى سلمهم.

و ضمير( أَلْقَوْا ) عائد إلى الّذين أشركوا بقرينة قوله بعد( وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) فالمراد أنّ المشركين يسلّمون يوم القيامة لله و قد كانوا يدعون إلى الإسلام في الدنيا و هم يستكبرون.

و ليس المراد بإلقاء السلم هذا يوم القيامة هو انكشاف الحقيقة و ظهور الوحدانيّة و هو مدلول قوله في صفة يوم القيامة:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحقّ الْمُبِينُ ) النور: ٢٥، لأنّ العلم بثبوت شي‏ء أمر، و التسليم و الإيمان بثبوته أمر آخر كما يظهر من قوله تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤.

و مجرّد العلم بأنّ الله هو الحقّ لا يكفي في سعادة الإنسان بل تحتاج في تمامها إلى تسليمه و الإيمان به بترتيب آثاره عليه ثمّ من التسليم و الإيمان ما كان عن طوع و اختيار و منه ما كان عن كره و اضطرار، و الّذي ينفع في السعادة هو التسليم و الإيمان عن اختيار و موطن الاختيار الدنيا الّتي هي دار العمل دون الآخرة الّتي هي دار الجزاء.

و هم لم يسلموا للحقّ ما داموا في الدنيا و إن أيقنوا به حتّى إذا وردوا الدار الآخرة و اُوقفوا موقف الحساب عاينوا أنّ الله هو الحقّ المبين، و أنّ عذاب الشقاء أحاط بهم من كلّ جانب أسلموا للحقّ و هم مضطرّون و ليس ينفعهم، و إلى هذا العلم و التسليم الاضطراريّ يشير قوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحقّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحقّ الْمُبِينُ ) النور: ٢٥، فصدر الآية يخبر عن إسلامهم لأنّه الدين الحقّ، قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) آل عمران: ١٩، و ذيل الآية عن انكشاف الحقّ لهم و ظهور الحقيقة عليهم.

٣٤٢

و الآية المبحوث عنها أعني قوله:( وَ أَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) صدرها يشير إلى إسلامهم و ذيلها إلى كون ذاك الإسلام اضطرارياً لا ينفعهم لأنّهم كانوا يرون لله اُلوهيّة و لشركائهم اُلوهيّة فاختاروا تسليم شركائهم و عبادتهم على التسليم لله ثمّ لما ظهر لهم الحقّ يوم القيامة و كذّبهم شركاؤهم بطل ما زعموه و ضلّ عنهم ما افتروه فلم يبق للتسليم إلّا الله سبحانه فسلّموا له مضطرّين و انقادوا له كارهين.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ ) استئناف متعرّض لحال أئمّة الكفر بالخصوص بعد ما أشار إلى حال عامّة الظالمين و المشركين في الآيات السابقة.

و السامع إذا سمع ما شرحه الله من حالهم يوم القيامة في هذه الآيات و أنّهم معذّبون جميعاً من غير أن يخفّف عنهم أو ينظروا فيه، و قد سمع منه أنّ منهم طائفة هم أشدّ كفراً و أشقى من غيرهم إذ يقول:( وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) خطر بباله طبعاً أنّهم هل يساوون غيرهم في العذاب الموعود و هم يزيدون عليهم في السبب و هو الكفر.

فاستونف الكلام جواباً عن ذلك فقيل:( الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) بالعناد و اللجاج فاكتملوا في الكفر و اقتدى بهم غيرهم( زِدْناهُمْ عَذاباً ) و هو الّذي للصدّ و هم يختصّون به( فَوْقَ الْعَذابِ ) و هو الّذي بإزاء مطلق الظلم و الكفر و يشاركون فيه عامّة إخوانهم، و كأنّ اللّام في العذاب للعهد الذكريّ يشار بها إلى ما ذكر في قوله:( وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ ) إلخ،( بِما كانُوا يُفْسِدُونَ ) تعليل لزيادة العذاب.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالإفساد الواقع في التعليل هو الصدّ لأنّه الوصف الّذي يزيدون به على غيرهم و هو إفساد الغير بصرفه عن سبيل الله، و بتقرير آخر: إفساد في الأرض بالمنع عن انعقاد مجتمع صالح كان من المترقّب حصوله بإقبال اُولئك المصروفين على دين الله و سلوك سبيله.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ

٣٤٣

شَهِيداً عَلى‏ هؤُلاءِ ) إلخ، صدر الآية تكرار ما تقدّم قبل بضع آيات من قوله:( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً ) غير أنّه كان هناك توطئة و تمهيداً لحديث عدم الإذن لهم في الكلام يومئذ، و هو هاهنا توطئة و تمهيد لذكر شهادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهؤلاء يومئذ و هو في الموضعين

مقصود لغيره لا لنفسه.

و كيف كان فقوله:( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) يدلّ على بعث واحد في كلّ اُمّة للشهادة على أعمال غيره و هو غير البعث بمعنى الإحياء للحساب بل بعث بعد البعث، و إنّما جعل من أنفسهم ليكون أتمّ للحجّة و أقطع للمعذرة كما يفيده السياق و ذكره المفسّرون حتّى أنّهم ذكروا شهادة لوط على قومه و لم يكن منهم نسبا و وجّهوه بأنّه كان تأهّل فيهم و سكن معهم فهو معدود منهم.

و قوله:( وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى‏ هؤُلاءِ ) يفيد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيد على هؤلاء، و استظهروا أنّ المراد بهؤلاء هم اُمّته، و أيضاً إنّهم قاطبة من بعث إليه من لدن عصره إلى يوم القيامة ممّن حضره و من غاب و من عاصره و من جاء بعده من الناس.

و آيات الشهادة من معضلات آيات القيامة على ما في جميع آيات القيامة من الإعضال و صعوبة المنال، و قد تقدّم في ذيل قوله:( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) البقرة: ١٤٣ في الجزء الأوّل من الكتاب نبذة من الكلام في معنى هذه الشهادة.

و من الواجب قبل الورود في بحث الشهادة و سائر الاُمور الّتي تصفها الآيات ليوم القيامة كالجمع و الوقوف و السؤال و الميزان و الحساب أن يعلم أنّه تعالى يعدّ في كلامه هذه الاُمور في عداد الحجج الّتي تقام يوم القيامة على الإنسان لتثبيت ما عمله من خير أو شرّ و القضاء عليه بما ثبت بالحجّة القاطعة للعذر و المنيرة للحقّ ثمّ المجازاة بما يستوجبه القضاء من سعادة أو شقاء و جنّة أو نار، و هذا من أوضح ما يستفاد من آيات القيامة الشارحة لشؤن هذا اليوم و ما يواجه الناس منها.

و هذا أصل مقتضاه أن يكون بين هذه الحجج و أجزائها و نتائجها روابط حقيقيّة بيّنة يضطرّ العقل إلى الإذعان بها، و لا يسع للإنسان بما عنده من الشعور

٣٤٤

الفطريّ ردّها و لا الشكّ و الارتياب فيها.

و على هذا فمن الواجب أن تكون الشهادة القائمة هناك بإقامة منه تعالى مشتملة من الحقيقة على ما لا سبيل للمناقشة فيها، و الله سبحانه لو أمر أشقى الناس على أن يشهد على الأوّلين و الآخرين بما عملوه باختيار من الشاهد أو يخلق الشهادة في لسانه بلا إرادة منه، أو أن يشهد بما عملوه من غير أن يكون قد تحمّلها في الدنيا و شهدها شهود عيان بل معتمداً على إعلام من الله أو ملائكته أو على حجّة ثمّ أمضى تعالى ذلك و أنفذه و جازى به محتجّاً في جميع ذلك بشهادته ثانياً عليها لم يكن ذلك ممّا لا تطيقه سعة قدرته و لا يسعه نفوذ إرادته و لا استطاع أحد أن ينازعه في ملكه أو يعقّب حكمه أو يغلبه على أمره.

لكنّها حجّة تحكّميّة غير تامّة لا تقطع بالحقيقة عذراً و لا تدفع ريباً نظير التحكّمات الّتي نجدها من جبابرة الإنسان و الطواغيت العابثين بالحقّ و الحقيقة و كيف يتصوّر لمثل هذه الحجج المختلقة عين أو أثر يوم لا عين فيه إلّا للحقّ و لا أثر فيه إلّا للحقيقة؟.

و على هذا فمن الواجب أن يكون هذا الشهيد ذا عصمة إلهيّة يمتنع عليه الكذب و الجزاف، و أن يكون عالماً بحقائق الأعمال الّتي يشهد عليها لا بظاهر صورها و هيئاتها المحسوسة بل بحقيقة ما انعقدت عليه في القلوب، و أن يستوي عنده الحاضر و الغائب من الناس كما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير آية سورة البقرة.

و من الواجب أن تكون شهادته شهادة عن معاينة كما هو ظاهر لفظ الشهيد و ظاهر تقييده بقوله:( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) في قوله:( شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) غير مستندة إلى حجّة عقليّة أو دليل سمعيّ. و يشهد به قوله تعالى حكاية عن المسيحعليه‌السلام :( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) المائدة: ١١٧.

و بهذا تتلاءم الآيتان مضموناً أعني قوله:( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى‏ هؤُلاءِ ) و قوله:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً

٣٤٥

وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) البقرة: ١٤٣.

فإنّ ظاهر آية البقرة أنّ بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين الناس الّذين هم عامّة من بعث إليهم من زمانه إلى يوم القيامة شهداء يشهدون على أعمالهم، و أنّ الرسول إنّما هو شهيد على هؤلاء الشهداء دون سائر الناس إلّا بواسطتهم، و لا ينبغي أن يتوهّم أنّ الاُمّة هم المؤمنون و غيرهم الناس و هم خارجون من الاُمّة فإنّ ظاهر الآية السابقة في السورة:( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) الآية أنّ الكفّار من الاُمّة المشهود عليهم.

و لازم ذلك أن يكون المراد بالاُمّة في الآية المبحوث عنها:( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) جماعة الناس من أهل عصر واحد يشهد أعمالهم شهيد واحد، و يكون حينئذ الاُمّة الّتي بعث إليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منقسمة إلى اُمم كثيرة.

و يكون المراد بالشهيد الإنسان المبعوث بالعصمة و المشاهدة كما تقدّم و يؤيّده قوله:( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) إذ لو لا المشاهدة لم يكن لكونه من أنفسهم وقع، و لا لتعدّد الشهداء بتعدّد الاُمم وجه فلكلّ قوم شهيد من أنفسهم سواء كان نبيّاً لهم أو غير نبيّهم فلا ملازمة كما يؤيّده قوله:( وَ جِي‏ءَ بِالنبيّينَ وَ الشُّهَداءِ ) الزمر: ٦٩.

و يكون المراد بهؤلاء في قوله:( وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى‏ هؤُلاءِ ) الشهداء دون عامّة الناس فالشهداء شهداء على الناس و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيد على الشهداء و ظاهر الشهادة على الشاهد تعديله دون الشهادة على عمله فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيد على مقامهم لا على أعمالهم و لذلك لم يكن من الواجب أن يعاصرهم و يتّحد بهم زماناً فافهم ذلك.

و الإنصاف أنّه لو لا هذا التقريب لم يرتفع ما يتراآى ما في آيات الشهادة من الاختلاف كدلالة آية البقرة، و قوله:( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) الحجّ: ٧٨، على كون الاُمّة هم المؤمنين، و دلالة غيرهما على الأعمّ، و دلالتهما على أنّ النبيّ إنّما هو شهيد على الشهداء، و أنّ بينه و بين الناس شهداء و دلالة غيرهما على خلافه و أنّ على الناس شهيداً واحداً هو نبيّهم لأنّ المفروض

٣٤٦

حينئذ أنّ شهيد كلّ اُمّة هو نبيّهم، و كون أخذ الشهيد من أنفسهم لغوا لا أثر له مع عدم لزوم الحضور و المعاصرة و أنّ الشهادة إنّما تكون من حيّ كما في الكلام المحكيّ عن المسيحعليه‌السلام و إشكالات اُخرى تتوجّه على نجاح الحجّة و مضيّها، تقدّمت الإشارة إليها و الله الهادي.

و قوله:( وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ ) ذكروا أنّه استئناف يصف القرآن بكرائم صفاته فصفته العامّة أنّه تبيان لكلّ شي‏ء و التبيان و البيان واحد - كما قيل - و إذ كان كتاب هداية لعامّة الناس و ذلك شأنه كان الظاهر أنّ المراد بكلّ شي‏ء كلّ ما يرجع إلى أمر الهداية ممّا يحتاج إليه الناس في اهتدائهم من المعارف الحقيقيّة المتعلّقة بالمبدإ و المعاد و الأخلاق الفاضلة و الشرائع الإلهيّة و القصص و المواعظ فهو تبيان لذلك كلّه.

و من صفته الخاصّة أي المتعلّقة بالمسلمين الّذين يسلّمون للحقّ أنّه هدى يهتدون به إلى مستقيم الصراط و رحمة لهم من الله سبحانه يحوزون بالعمل بما فيه خير الدنيا و الآخرة و ينالون به ثواب الله و رضوانه، و بشرى لهم يبشّرهم بمغفرة من الله و رضوان و جنّات لهم فيها نعيم مقيم.

هذا ما ذكروه و هو مبنيّ على ما هو ظاهر التبيان من البيان المعهود من الكلام و هو إظهار المقاصد من طريق الدلالة اللفظيّة فإنّا لا نهتدي من دلالة لفظ القرآن الكريم إلّا على كلّيّات ما تقدّم، لكن في الروايات ما يدلّ على أنّ القرآن فيه علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و لو صحّت الروايات لكان من اللازم أن يكون المراد بالتبيان الأعمّ ممّا يكون من طريق الدلالة اللفظيّة فلعلّ هناك إشارات من غير طريق الدلالة اللفظيّة تكشف عن أسرار و خبايا لا سبيل للفهم المتعارف إليها.

و الظاهر على ما يستفاد من سياق هذه الآيات المسوقة للاحتجاج على الاُصول الثلاثة: التوحيد و النبوّة و المعاد، و الكلام فيها ينعطف مرّة بعد اُخرى عليها أنّ قوله:( وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ) إلخ، ليس باستئناف بل حال عن ضمير الخطاب في

٣٤٧

( جِئْنا بِكَ ) بتقدير( قد ) أو بدون تقديرها - على الخلاف بين البصريّين و الكوفيّين من النحاة في الجملة الحاليّة المصدرة بالفعل الماضي -.

و المعنى: و جئنا بك شهيداً على هؤلاء و الحال أنّا نزّلنا عليك من قبل في الدنيا الكتاب و هو بيان لكلّ شي‏ء من أمر الهداية يعلم به الحقّ من الباطل فيتحمّل شهادة أعمالهم فيشهد يوم القيامة على الظالمين بما ظلموا و على المسلمين بما أسلموا لأنّ الكتاب كان هدى و رحمة و بشرى لهم و كنت أنت بذلك هادياً و رحمة و مبشّراً لهم.

و على هذا فصدر الآية كالتوطئة لذيلها كأنّه قيل: سيبعث شهداء يشهدون على الناس بأعمالهم و أنت منهم و لذلك نزّلنا عليك كتاباً يبين الحقّ و الباطل و يميّز بينهما حتّى تشهد به يوم القيامة على الظالمين بظلمهم و قد تبيّن الكتاب و على المسلمين بإسلامهم و قد كان الكتاب هدى و رحمة و بشرى لهم و كنت هادياً و رحمة و مبشراً به.

و من لطيف ما يؤيّد هذا المعنى مقارنة الكتاب بالشهادة في بعض آيات الشهادة كقوله:( وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي‏ءَ بِالنبيّينَ وَ الشُّهَداءِ :) الزمر: ٦٩، و سيجي‏ء إن شاء الله أنّ المراد به اللوح المحفوظ، و قد تكرّر في كلامه تعالى أنّ القرآن من اللوح المحفوظ كقوله:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) الواقعة: ٧٨، و قوله:( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) البروج: ٢٢.

و شهادة اللوح المحفوظ و إن كانت غير شهادة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّهما جميعاً متوقّفتان على قضاء الكتاب النازل.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد: أنّ أعرابيّاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله فقرأ عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ) قال الأعرابيّ: نعم. قال:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها ) قال الأعرابيّ:

٣٤٨

نعم ثمّ قرأ عليه كلّ ذلك يقول: نعم حتّى بلغ( كَذلِكَ يتمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) فولّى الأعرابيّ فأنزل الله:( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) .

في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الباقرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ) الآية، قال: عرّفهم ولاية عليّ و أمرهم بولايته ثمّ أنكروا بعد وفاته.

أقول: و الرواية من الجري.

و في تفسير العيّاشيّ، عن جعفر بن أحمد عن التركيّ النيشابوريّ عن عليّ بن جعفر بن محمّد عن أخيه موسى بن جعفرعليه‌السلام : أنّه سئل عن هذه الآية:( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ) الآية، قال: عرفوه ثمّ أنكروه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) قال الصادقعليه‌السلام : لكلّ زمان و اُمّة شهيد تبعث كلّ اُمّة مع إمامها.

أقول: و ذيل كلامهعليه‌السلام : مضمون قوله تعالى:( يَوْمَ نَدْعُوا كلّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد، و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن قتادة: قال الله:( وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى‏ هؤُلاءِ ) قال: ذكر لنا أنّ نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه.

أقول: و الروايات في باب الشهادة يوم القيامة كثيرة جدّاً و قد أوردنا بعضها في ذيل قوله:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) البقرة: ١٤٣ و بعضها في ذيل قوله:( وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً ) النساء: ٤١، و قوله:( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) النساء: ١٥٩.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و الخطيب في تالي التلخيص عن البراء: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن قول الله:( زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ ) قال: عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنّم.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبداللهعليه‌السلام

٣٤٩

يقول: قد ولدني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنا أعلم كتاب الله و فيه بدؤ الخلق و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و فيه خبر السماء و خبر الأرض و خبر الجنّة و خبر النار و خبر ما كان و خبر ما هو كائن أعلم ذلك كما أنظر إلى كفّي إنّ الله عزّوجلّ يقول: فيه تبيان كلّ شي‏ء.

أقول: و الآية منقولة في الرواية بالمعنى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن منصور عن حمّاد اللحّام قال قال: أبوعبداللهعليه‌السلام : نحن نعلم ما في السماوات و نعلم ما في الأرض، و ما في الجنّة و ما في النار و ما بين ذلك. قال: فبهتّ أنظر إليه فقال: يا حمّاد إنّ ذلك في كتاب الله تعالى ثمّ تلا هذه الآية:( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى‏ هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ ) إنّه من كتاب فيه تبيان كلّ شي‏ء.

و في الكافي، عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن سنان عن يونس بن يعقوب عن الحارث بن المغيرة و عدّة من أصحابنا منهم عبدالأعلى و أبوعبيدة و عبدالله بن بشير الخثعميّ سمعوا أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّي لأعلم ما في السماوات و ما في الأرض و أعلم ما في الجنّة و أعلم ما في النار و أعلم ما كان و ما يكون ثمّ مكث هنيئة فرآى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه فقال: علمت ذلك من كتاب الله عزّوجلّ إنّ الله يقول: فيه تبيان كلّ شي‏ء.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن الوليد قال قال أبوعبداللهعليه‌السلام : قال الله لموسى:( وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كلّ شَيْ‏ءٍ ) فعلمنا أنّه لم يكتب لموسى الشي‏ء كلّه، و قال الله لعيسى:( لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) و قال الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى‏ هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) .

أقول: و رواه العيّاشيّ بالإسناد عنهعليه‌السلام .

٣٥٠

( سورة النحل الآيات ٩٠ - ١٠٥)

إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ  يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٩٠ ) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا  إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( ٩١ ) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ  إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ  وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٩٢ ) وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ  وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٩٣ ) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ  وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٩٤ ) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا  إِنَّمَا عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٩٥ ) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ  وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ  وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٩٦ ) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً  وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٩٧ ) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( ٩٨ ) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ٩٩ ) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ

٣٥١

مُشْرِكُونَ( ١٠٠) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ  وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ  بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( ١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ( ١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ  لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ( ١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ١٠٤) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ( ١٠٥)

( بيان)

تذكر الآيات عدّة من الأحكام ممّا يلائم حال الإسلام قبل الهجرة ممّا يصلح به حال المجتمع العامّ كالأمر بالعدل و الإحسان و النهي عن الفحشاء و المنكر و البغي و ما يلحق بذلك كالأمر بإيتاء ذي القربى و النهي عن نقض العهد و اليمين، و تذكر اُموراً اُخرى تناسب ذلك و تثبتها.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) ابتدء سبحانه بهذه الأحكام الثلاثة الّتي هي بالترتيب أهمّ ما يقوم به صلب المجتمع الإنسانيّ لما أنّ صلاح المجتمع العامّ أهمّ ما يبتغيه الإسلام في تعاليمه المصلحة فإنّ أهمّ الأشياء عند الإنسان في نظر الطبيعة و إن كان هو نفسه الفرديّة، لكنّ سعادة الشخص مبنيّة على صلاح الظرف الاجتماعيّ الّذي يعيش هو فيه، و ما أصعب أن يفلح فرد في مجتمع فاسد أحاط به الشقاء من كلّ جانب.

و لذلك اهتمّ في إصلاح المجتمع اهتماماً لا يعادله فيه غيره و بذل الجهد البالغ

٣٥٢

في جعل الدساتير و التعاليم الدينيّة حتّى العبادات من الصلاة و الحجّ و الصوم اجتماعيّة ما أمكن فيها ذلك، كلّ ذلك ليستصلح الإنسان في نفسه و من جهة ظرف حياته.

فقوله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) أمر بالعدل و يقابله الظلم قال في المفردات، العدالّة و المعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة، و يستعمل باعتبار المضايفة، و العدل - بفتح العين - و العدل - بكسرها - يتقاربان لكن العدل - بفتح العين - يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام، و على ذلك قوله تعالى:( أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً ) و العدل - بكسر العين - و العديل فيما يدرك بالحاسّة كالموزونات و المعدودات و المكيلات، فالعدل هو التقسيط على سواء.

قال: و العدل ضربان: مطلق يقتضي العقل حسنه، و لا يكون في شي‏ء من الأزمنة منسوخاً و لا يوصف بالاعتداء بوجه نحو الإحسان إلى من أحسن إليك و كفّ الأذى عمّن كفّ أذاه عنك، و عدل يعرف كونه عدلاً بالشرع و يمكن أن يكون منسوخاً في بعض الأزمنة كالقصاص و أروش الجنايات و أصل مال المرتدّ، و لذلك قال:( فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) ، و قال:( وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) فسمّي اعتداء و سيّئة.

و هذا النحو هو المعنيّ بقوله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ) فإنّ العدل هو المساواة في المكافاة إن خيرا فخير و إن شرّاً فشرّ، و الإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه و الشرّ بأقلّ منه، انتهى موضع الحاجة.

و ما ذكره على ما فيه من التفصيل يرجع إلى قولهم إنّ العدل هو لزوم الوسط و الاجتناب عن جانبي الإفراط و التفريط في الاُمور و هو من قبيل التفسير بلازم المعنى فإنّ حقيقة العدل هي إقامة المساواة و الموازنة بين الاُمور بأن يعطى كلّ من السهم ما ينبغي أن يعطاه فيتساوى في أنّ كلّا منها واقع موضعه الّذي يستحقّه، فالعدل في الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحقّ، و العدل في فعل الإنسان في نفسه أن يفعل ما فيه سعادته و يتحرّز ممّا فيه شقاؤه باتّباع هوى النفس، و العدل في الناس

٣٥٣

و بينهم أن يوضع كلّ موضعه الّذي يستحقّه في العقل أو في الشرع أو في العرف فيثاب المحسن بإحسانه، و يعاقب المسي‏ء على إساءته، و ينتصف للمظلوم من الظالم و لا يبعّض في إقامة القانون و لا يستثني.

و من هنا يظهر أنّ العدل يساوق الحسن و يلازمه إذ لا نعني بالحسن إلّا ما من طبعه أن تميل إليه النفس و تنجذب نحوه و إقرار الشي‏ء في موضعه الّذي ينبغي أن يقرّ عليه من حيث هو كذلك ممّا يميل إليه الإنسان و يعترف بحسنه و يقدّم العذر لو خالفه إلى من يقرعه باللوم لا يختلف في ذلك اثنان، و إن اختلف الناس في مصاديقه كثيراً باختلاف مسالكهم في الحياة.

و يظهر أيضاً أنّ ما عدّ الراغب في كلامه من الاعتداء و السيّئة عدلاً لا يخلو عن مسامحة، فإنّ الاعتداء و السيّئة الّذين يجازى بهما المعتدي و المسي‏ء إنّما هما اعتداء و سيّئة بالنسبة إليهما و أمّا بالنسبة إلى من يجازيهما بهما فهما من لزوم وسط الاعتدال و خصلة الحسن لكونهما من وضع الشي‏ء موضعه الّذي ينبغي أن يوضع فيه.

و كيف كان فالعدل و إن كان منقسما إلى عدل الإنسان في نفسه و إلى عدله بالنسبة إلى غيره، و هما العدل الفرديّ و العدل الاجتماعيّ، و اللفظ مطلق لكنّ ظاهر السياق أنّ المراد به في الآية العدل الاجتماعيّ و هو أن يعامل كلّ من أفراد المجتمع بما يستحقّه و يوضع في موضعه الّذي ينبغي أن يوضع فيه، و هذا أمر بخصلة اجتماعيّة متوجّه إلى أفراد المكلّفين بمعنى أنّ الله سبحانه يأمر كلّ واحد من أفراد المجتمع أن يأتي بالعدل، و لازمه أن يتعلّق الأمر بالمجموع أيضاً فيكلّف المجتمع إقامة هذا الحكم و تتقلّده الحكومة بما أنّها تتولّى أمر المجتمع و تدبّره.

و قوله:( وَ الْإِحْسانِ ) الكلام فيه من حيث اقتضاء السياق كسابقه فالمراد به الإحسان إلى الغير دون الإحسان بمعنى إتيان الفعل حسنا، و هو إيصال خير أو نفع إلى غير لا على سبيل المجازاة و المقابلة كأن يقابل الخير بأكثر منه و يقابل الشرّ بأقلّ منه - كما تقدّم - و يوصل الخير إلى غير متبرّعاً به ابتداء.

٣٥٤

و الإحسان على ما فيه من إصلاح حال من أذلّته المسكنة و الفاقة أو اضطرّته النوازل، و ما فيه من نشر الرحمة و إيجاد المحبّة يعود محمود أثره إلى نفس المحسن بدوران الثروة في المجتمع و جلب الأمن و السلامة بالتحبيب.

و قوله:( وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي إعطاء المال لذوي القرابة و هو من أفراد الإحسان خصّ بالذكر ليدلّ على مزيد العناية بإصلاح هذا المجتمع الصغير الّذي هو السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدنيّ الكبير كما أنّ مجتمع الازدواج الّذي هو أصغر بالنسبة إلى مجتمع القرابة سبب مقدّم مكوّن له فالمجتمعات المدنيّة العظيمة إنّما ابتدأت من مجتمع بيتيّ عقده الازدواج ثمّ بسطه التوالد و التناسل و وسّعه حتّى صار قبيلة و عشيرة و لم يزل يتزايد و يتكاثر حتّى عادت اُمّة عظيمة فالمراد بذي القربى الجنس دون الفرد و هو عامّ لكلّ قرابة كما ذكروه.

و في التفسير المأثور عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد بذي القربى الإمام من قرابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و المراد بالإيتاء إعطاء الخمس الّذي فرضه الله سبحانه في قوله:( وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ ) ، الآية: الأنفال: ٤١ و قد تقدّم تفسيرها.

و لعلّ التعبير بالإفراد حيث قيل:( ذِي الْقُرْبى) و لم يقل: ذوي القربى أو اُولي القربى كما في قوله:( وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينُ ) النساء: ٨، و قوله:( وَ آتَى الْمالَ عَلى‏ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينَ ) البقرة: ١٧٧ يؤيّد ذلك.

و احتمال إرادة الجنس من ذي القربى يبعّده ما وقع في سياق آية الخمس من ذكر اليتامى و المساكين معه بصيغة الجمع مع عدم ظهور نكتة يختصّ بها ذوي القربى أو اليتامى و المساكين تقضي بالفرق.

على أنّ الآية لا قرينة واضحة فيها على كون المراد بالإيتاء هو الإحسان ثمّ بالإحسان مطلق الإحسان. و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ يَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )

٣٥٥

قال في المفردات: الفحش و الفحشاء و الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال و الأقوال. انتهى و لعلّ الأصل في معناه الخروج عن الحدّ فيما لا ينبغي يقال: غبن فاحش أي خارج عن حدّ التحمّل و الصبر و السكوت.

و المنكر ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الأعمال الّتي تكون متروكة عندهم لقبحها أو إثمها كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الإسلاميّة.

و البغي الأصل في معناه الطلب و كثر استعماله في طلب حقّ الغير بالتعدّي عليه فيفيد معنى الاستعلاء و الاستكبار على الغير ظلماً و عتوّاً، و ربّما كان بمعنى الزنا و المراد به في الآية هو التعدّي على الغير ظلماً.

و هذه الثلاثة أعني الفحشاء و المنكر و البغي و إن كانت متّحدة المصاديق غالباً فكلّ فحشاء منكر، و غالب البغي فحشاء و منكر لكنّ النهي إنّما تعلّق بها بما لها من العناوين لما أنّ وقوع الأعمال بهذه العناوين في مجتمع من المجتمعات يوجب ظهور الفصل الفاحش بين الأعمال المجتمعة فيه الصادرة من أهله فينقطع بعضها من بعض و يبطل الالتيام بينها و يفسد بذلك النظم و ينحلّ المجتمع في الحقيقة و إن كان على ساقه صورة و في ذلك هلاك سعادة الأفراد.

فالنهي عن الفحشاء و المنكر و البغي أمر بحسب المعنى باتّحاد مجتمع تتعارف أجزاؤه و تتلاءم أعماله لا يستعلي بعضهم على بعض بغيا، و لا يشاهد بعضهم من بعض إلّا الجميل الّذي يعرفونه لا فحشاء و لا منكراً و عند ذلك تستقرّ عليهم الرحمة و المحبّة و الاُلفة و ترتكز فيهم القوّة و الشدّة، و تهجرهم السخطة و العداوة و النفرة و كلّ خصلة سيّئة تؤدّي إلى التفرّق و التهلكة.

ثمّ ختم سبحانه الآية بقوله:( يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي تتذكّرون فتعلمون أنّ الّذي يدعوكم إليه فيه حياتكم و سعادتكم.

قوله تعالى: ( وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ) إلخ، قال في المفردات: العهد حفظ الشي‏ء و مراعاته حالا بعد حال، و سمّي الموثق

٣٥٦

الّذي يلزم مراعاته عهداً. قال: و عهد فلان إلى فلان يعهد أي ألقى إليه العهد و أوصاه بحفظه، انتهى.

و ظاهر إضافة العهد إلى الله تعالى في قوله:( وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ ) أنّ المراد به هو العهد الّذي يعاهد فيه الله على كذا دون مطلق العهد و يأتي نظير الكلام في نقض اليمين.

و قوله:( وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ) نقض اليمين نكثه و مخالفة مقتضاه و المراد باليمين هو اليمين بالحلف بالله سبحانه كأنّ ما عدا ذلك ليس بيمين و الدليل عليه قوله بعد:( وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ) .

و المراد بتوكيدها إحكامها بالقصد و العزم و كونها لأمر راجح بخلاف قولهم: لا و الله و بلى و الله و غيره من لغو الأيمان، فالتوكيد في هذه الآية يفيد ما يفيده التعقيد في قوله تعالى:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) المائدة: ٨٩.

و نقض اليمين بحسب الاعتبار أشنع من نقض العهد و إن كان منهيّاً عنهما جميعاً، على أنّ العناية بالحلف في الشرع الإسلاميّ أكثر كما في باب القضاء.

و توضيح شناعة نقضه: أنّ حقيقة معنى اليمين إيجاد ربط خاصّ بين النسبة الكلاميّة من خبر أو إنشاء و بين أمر ذي بال شريف بحيث يستوجب بطلان النسبة من جهة ظهور كذبه إن كان خبراً و مخالفة مقتضاه إن كان عزماً أو أمراً أو نهياً كقولنا: و الله لأفعلن كذا و بالله عليك افعل أو لا تفعل كذا أن يذهب بذلك ما يعتقده المقسم من الكرامة و العزّة للمقسم به فيؤل الأمر إلى أنّ المقسم به بما له من الكرامة و العزّة هو المسؤل عن صحّة النسبة الكلاميّة و المقسم هو المسؤل عند المقسم به بما علّق صحّة النسبة على كرامته و عزّته كمن يعقد عقداً أو يتعهّد عملاً ثمّ يعطي لمن عاقده أو تعهّد له موثقاً يثق به من مال أو ولد أو غير ذلك أو يضمن له ذلك شريف بشرافته.

و بهذا يظهر معنى قوله تعالى:( وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ) فإنّ الحالف

٣٥٧

إذا قال: و الله لأفعلنّ كذا أو لأتركنّ كذا فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه و جعله كفيلاً عنه في الوفاء بما عقد عليه اليمين فإن نكث و لم يف كان لكفيله أن يؤدّيه إلى الجزاء و العقوبة، ففي نكث اليمين إهانة و إرزاء بساحة العزّة و الكرامة مضافاً إلى ما في نقض اليمين و العهد معاً من الانقطاع و الانفصال عنه سبحانه بعد توكيد الاتّصال.

فقوله:( وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ ) إلخ، حال من ضمير الجمع في قوله:( وَ لا تَنْقُضُوا ) و قوله:( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ) في معنى تأكيد النهي بأنّ العمل مبغوض و هو به عليم.

قوله تعالى: ( وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) إلى آخر الآية، النقض و يقابله الإبرام إفساد ما اُحكم من حبل أو غزل بالفتل فنقض الشي‏ء المبرم كحلّ الشي‏ء المعقود، و النكث النقض، قال في المجمع و كلّ شي‏ء نقض بعد الفتل فهو أنكاث حبلاً كان أو غزلاً، و الدخل بفتحتين في الأصل كلّ ما دخل الشي‏ء و ليس منه، و يكنّى به عن الدغل و الخدعة و الخيانة، كما قيل: و أربى أفعل من الربا و هو الزيادة.

و قوله:( وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) في معنى التفسير لقوله في الآية السابقة:( وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ) و هو تمثيل بمرأة تغزل الغزل بقوّة ثمّ تعود فتنقض ما أتعبت نفسها فيه و غزلته من بعد قوّة و تجعله أنكاثاً لا فتل فيه و لا إبرام.

و نقل عن الكلبيّ أنّها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثمّ تأمرهنّ أن ينقضن ما غزلن و لا يزال ذلك دأبها و اسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرّة، و كانت تسمّى خرقاء مكّة.

و قوله:( تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى‏ مِنْ أُمَّةٍ ) أي تتّخذون أيمانكم وسيلة للغدر و الخدعة و الخيانة تطيّبون بها نفوس الناس ثمّ تخونون و تخدعونهم بنقضها، و إنّما يفعلون ذلك لتكون اُمّة - و هم الحالفون -

٣٥٨

أربى و أزيد سهما من زخارف الدنيا من اُمّة - و هم المحلوف لهم -.

فالمراد بالدخل وسيلته من تسمية السبب باسم المسبّب و( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ ) مفعول له بتقدير اللام، و الكلام نوع بيان لنقض اليمين أو لكونهم كالّتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً و محصّل المعنى أنّكم كمثلها إذ تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم فتؤكّدونها و تعقدونها ثمّ تخونون و تخدعون بنقضها و نكثها و الله ينهاكم عنه.

و ذكر بعضهم أنّ قوله:( تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ ) إلخ، جملة استفهاميّة محذوفة الأداة و الاستفهام للإنكار.

و قوله:( إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ ) إلخ، أي إنّ ذلك امتحان إلهيّ يمتحنكم به و اُقسم ليبيّننّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك ما حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا و سلوك سبيل الباطل لإماطة الحقّ و دحضه و يتبيّن لكم يومئذ من هو الضالّ و من هو المهتدي.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) إلخ، لما انجرّ الكلام إلى ذكر اختلافهم عقّب ذلك ببيان أنّ اختلافهم ليس بناقض للغرض الإلهيّ في خلقهم و لا أنّهم معجزون له سبحانه و لو شاء لجعلهم اُمّة واحدة لا اختلاف بينهم و لكنّ الله سبحانه جعلهم مختلفين بالهداية و الإضلال فهدى قوماً و أضلّ آخرين.

و ذلك أنّه تعالى وضع سعادة الإنسان و شقاءه على أساس الاختيار و عرّفهم الطاعة المفضية إلى غاية السعادة و المعصية المؤدّية إلى غاية الشقاء فمن سلك مسلك المعصية و اجتاز للضلال جازاه الله ذلك، و من ركب سبيل الطاعة و اختار الهدى جازاه الله ذلك و سيسألهم جميعاً عمّا عملوا و اختاروا.

و بما تقدّم يظهر أنّ المراد بجعلهم اُمّة واحدة رفع الاختلاف من بينهم و حملهم على الهدى و السعادة، و بالإضلال و الهداية ما هو على سبيل المجازاة لا الضلال و الهدى الابتدائيّان فإنّ الجميع على هدى فطريّ فالّذي يشاء الله ضلاله فيضلّه هو من اختار المعصية على الطاعة من غير رجوع و لا ندم، و الّذي شاء الله هداه

٣٥٩

فهداه هو من بقي على هداه الفطريّ و جرى على الطاعة أو تاب و رجع عن المعصية صراطاً مستقيماً و سنّة إلهيّة و لن تجد لسنّة الله تبديلاً و لن تجد لسنّة الله تحويلاً.

و أنّ قوله:( وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) لدفع ما يسبق إلى الوهم أنّ استناد الضلال و الهدى إليه سبحانه يبطل تأثير اختيارهم في ذلك و تبطل بذلك الرسالة و تلغو الدعوة فاُجيب بأنّ السؤال باق على حاله لما أنّ اختياركم لا يبطل بذلك بل الله سبحانه يمدّ لكم من الضلال و الهدى ما أنتم تختارونه بالركون إلى معصيته أو بالإقبال إلى طاعته.

قوله تعالى: ( وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها ) إلى آخر الآية، قال في المفردات: الصدود و الصدّ قد يكون انصرافاً عن الشي‏ء و امتناعاً نحو( يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ) و قد يكون صرفاً و منعاً نحو( وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) . انتهى.

و الآية نهي عن اتّخاذ الأيمان دخلاً بعد النهي عن أصل نقض الأيمان لأنّ لخصوص اتّخاذها دخلاً مفسدة مستقلّة هي ملاك النهي غير المفسدة الّتي لأصل نقض الأيمان و قد أشار إلى مفسدة أصل النقض بقوله:( وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ) إلخ، و يشير في هذه الآية إلى مفسدة اتّخاذها دخلاً بقوله:( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

و الملاكان - كما هو ظاهر - متغايران نعم أحدهما كالمقدّمة للآخر كما أنّ نقض الأيمان كالمقدّمة لاتّخاذها دخلا فإنّ الإنسان إذا نقض اليمين لسبب من الأسباب لأوّل مرّة هان عليه أمر النقض و مهّد ذلك السبيل إلى النقض ثانياً و ثالثاً و جعل الحلف ثمّ النقض وسيلة خدعة و خيانة فلا يلبث دون أن تكون حليف دغل و خدعة و خيانة و غرور و مكر و كيد و كذب و زور لا يبالي ما قال و ما فعل و يعود جرثومة فساد يفسد المجتمع الإنسانيّ أينما توجّه، و يقع في سبيل غير سبيل الله الّذي خطّته الفطرة السليمة.

و كيف كان فظاهر قوله:( وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ) نهي استقلاليّ

٣٦٠