الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 79703
تحميل: 4389


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79703 / تحميل: 4389
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 12

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) الفتنة في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثمّ استعمل في مطلق البلاء و التعذيب، و قد كانت قريش و مشركو مكّة يفتنون المؤمنين ليردّوهم عن دينهم و يعذّبونهم بأنواع العذاب حتّى ربّما كانوا يموتون تحت العذاب كما فتنوا عمّاراً و أباه و اُمّه فقتل أبواه و ارتدّ عمّار ظاهراً فتفصّى منهم بالتقيّة و في ذلك نزلت الآيات السابقة كما سيأتي إن شاء الله في البحث الروائيّ.

و من هنا يظهر أنّ للآية اتّصالاً بما قبلها من قوله:( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) و هي في معنى قولنا: و بعد ذلك كلّه إنّ الله غفور رحيم للّذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثمّ جاهدوا و صبروا.

فقوله:( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ) وعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا بالمغفرة و الرحمة يوم القيامة قبال ما اُوعد غيرهم بالخسران التامّ يومئذ و قد قيّد ذلك بالجهاد و الصبر بعد المهاجرة.

و قوله:( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) بمنزلة تلخيص صدر الكلام - لطوله - ليلحق به ذيله، و يفيد فائدة التأكيد كقولنا: زيد في الدار زيد في الدار كذا و كذا، و يفيد أنّ لما ذكر من قيود الكلام دخلاً في الحكم فالله سبحانه لا يرضى عنهم إلّا أن يهاجروا و لا عن هجرتهم إلّا أن يجاهدوا بعدها و يصبروا.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَأْتِي كلّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَ تُوَفَّى كلّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) إتيان النفس يوم القيامة كناية عن حضورها عند الملك الديّان، كما قال:( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) الصافّات: ١٢٧ و الضمير في قوله:( عَنْ نَفْسِها ) للنفس و لا ضير في إضافة النفس إلى ضمير النفس فإنّ النفس ربّما يراد بها الشخص الإنسانيّ كقوله:( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ) المائدة: ٢٢، و ربّما يراد بها التأكيد و يتّحد معناها بما تقدّمها من المؤكّد سواء كان إنساناً أو غيره، كما يقال: الإنسان نفسه و الفرس نفسه و الحجر نفسه و السواد نفسه، و يقال: نفس الإنسان و نفس الفرس و نفس الحجر و نفس السواد، و قوله:( عَنْ نَفْسِها ) المراد فيه بالمضاف

٣٨١

المعنى الثاني و بالمضاف إليه المعنى الأوّل، و قد دفع التعبير بالضمير بشاعة تكرار اللفظ بالإضافة، و في هذا المقدار كفاية عن الأبحاث الطويلة الّتي أوردها المفسّرون.

و قوله:( يَوْمَ تَأْتِي كلّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ) الظرف متعلّق بقوله في الآية السابقة:( لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) و مجادلة النفس عن نفسها دفاعها عن نفسها و قد نسيت كلّ شي‏ء وراء نفسها على خلاف ما كانت عليه في الدنيا من التعلّق بكلّ شي‏ء دون نفسها بنسيانها و ليس ذلك إلّا لظهور حقيقة الأمر عليها و هي أنّ الإنسان لا سبيل له إلى ما وراء نفسه، و ليس له في الحقيقة إلّا أن يشتغل بنفسه.

فاليوم تأتي النفس و تحضر للحساب و هي تجادل و تصرّ على الدفاع عن نفسها بما تقدر عليه من الأعذار.

و قوله:( وَ تُوَفَّى كلّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) التوفية إعطاء الحقّ تامّاً من غير تنقيص، و قد علّق التوفية على نفس العمل إذ قيل:( ما عَمِلَتْ ) فاُفيد أنّ الّذي اُعطيته نفس العمل من غير أن يتصرّف فيه بتغيير أو تعويض، و فيه كمال العدل حيث لم يضف إلى ما استحقّته شي‏ء و لا نقص منه و لذلك عقّبه بقوله:( وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

ففي الآية إشارة:

أوّلاً: إلى أنّ نفساً لا تدافع يوم القيامة و لا تجادل عن غيرها بل إنّما تشتغل بنفسها لا فراغ لها لغيرها كما قال:( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شيئاً ) الدخان: ٤١، و قال:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ ) الشعراء: ٨٨، و قال:( يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ ) البقرة: ٢٥٤.

و ثانياً: إلى أنّ الجدال لا ينفعها في صرف ما استحقّتها من الجزاء شيئاً فإنّ الّذي تجزاه هو عين ما عملت و لا سبيل إلى تغيير هذه النسبة و ليس من الظلم في شي‏ء.

٣٨٢

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: لما أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: تفرّقوا عنّي فمن كانت به قوّة فليتأخّر إلى آخر الليل و من لم تكن به قوّة فليذهب في أوّل الليل فإذا سمعتم بي قد استقرّت بي الأرض فالحقوا بي.

فأصبح بلال المؤذّن و خبّاب و عمّار و جارية من قريش كانت أسلمت فأصبحوا بمكّة فأخذهم المشركون و أبو جهل فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس ثمّ يلبسونها إيّاه فإذا ألبسوها إيّاه قال: أحد أحد، و أمّا خبّاب فجعلوا يجرّونه في الشوك.

و أمّا عمّار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيّة، و أمّا الجارية فوتد لها أبوجهل أربعة أوتاد ثمّ مدّها فأدخل الحربة في قلبها حتّى قتلها ثمّ خلّوا عن بلال و خبّاب و عمّار فلحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بالّذي [كان‏] من أمرهم و اشتدّ على عمّار الّذي كان تكلّم به فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف كان قلبك حين قلت الّذي قلت؟ أ كان منشرحا بالّذي قلت أم لا؟ قال: لا قال و أنزل الله:( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) .

أقول: و الجارية المذكورة في الرواية هي سميّة اُمّ عمّار، و كان معهم ياسر أبو عمّار، و قيل: و كان أبوعمّار أوّل شهيدين في الإسلام، و قد استفاضت الروايات على قتلهما بالفتنة و إظهار عمّار الكفر تقيّة و نزول الآية فيه.

و فيه، أخرج عبدالرزّاق و ابن سعد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في الدلائل من طريق أبي عبيدة بن محمّد بن عمّار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمّار بن ياسر فلم يتركوه حتّى سبّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ذكر آلهتهم بخير ثمّ تركوه.

فلمّا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ما وراءك شي‏ء؟ قال: شرّ. ما تركت حتّى

٣٨٣

نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنّ بالإيمان. قال: إن عادوا فعد، فنزلت:( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) .

و في المجمع، عن ابن عبّاس و قتادة: إنّ الآية نزلت في جماعة اُكرهوا و هم عمّار و ياسر أبوه و اُمّه سميّة و صهيب و بلال و خبّاب عذّبوا و قتل أبو عمّار و اُمّه و أعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه ثمّ أخبر سبحانه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال قوم: كفر عمّار فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّا إنّ عمّارا ملي‏ء إيماناً من قرنه إلى قدمه و اختلط الإيمان بلحمه و دمه.

و جاء عمّار إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و هو يبكي فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما وراءك؟ فقال: شرّ يا رسول الله ما تركت حتّى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه و يقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت فنزلت الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم قال: كان عمّار بن ياسر يعذّب حتّى لا يدري ما يقول، و كان صهيب يعذّب حتّى لا يدري ما يقول، و كان أبوفكيهة يعذّب حتّى لا يدري ما يقول، و بلال و عامر و ابن فهيرة و قوم من المسلمين و فيهم نزلت هذه الآية:( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ) .

أقول: و سمّي منهم في بعض الروايات عبّاس بن أبي ربيعة و في بعضها الآخر هو و الوليد بن أبي ربيعة و الوليد بن الوليد بن المغيرة و أبوجندل بن سهيل بن عمرو و أجمع رواية في ذلك ما عن ابن عبّاس: أنّ هذه الآية نزلت فيمن كان يفتن من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ) .

و في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث قال: فأمّا ما فرض على القلب من الإيمان الإقرار و المعرفة و العقد و الرضا و التسليم بأن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً لم يتّخذ صاحبة و لا ولداً و أنّ محمّداً عبده و رسوله، و الإقرار بما جاء به من عند الله من نبيّ أو كتاب: فذلك ما فرض الله على القلب من الإقرار و المعرفة و هو عمله و هو قول الله عزّوجلّ:( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ) .

٣٨٤

و فيه، بإسناده عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبداللهعليه‌السلام : إنّ الناس يروون أنّ عليّاعليه‌السلام قال على منبر الكوفة: يا أيّها الناس إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ثمّ تدعون إلى البراءة منّي فلا تبرؤوا منّي. قال: ما أكثر ما يكذبون الناس على عليّعليه‌السلام ثمّ قال: إنّما قال: إنكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ثمّ تدعون إلى البراءة و إنّي لعلى دين محمّد و لم يقل: و لا تبرؤوا منّي.

فقال له السائل: أ رأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ قال: و الله ما ذاك عليه و ما له إلّا ما مضى عليه عمّار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكّة و قلبه مطمئنّ بالإيمان فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندها: يا عمّار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عذرك( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) و أمرك أن تعود إن عادوا.

أقول: و روى هذا المعنى العيّاشيّ في تفسيره، عن معمر بن يحيى بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام ، و قولهعليه‌السلام :( و أمرك أن تعود إن عادوا) يستفاد ذلك من الآية حيث لم يرد الاستثناء فيها من الشخص بل وردت على العنوان و هو إكراه من اطمأنّ قلبه بالإيمان، و أمّا كونه أمراً منه تعالى كما أمر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلعلّ الوجه أنّ صريح الاستثناء هو الجواز و مع جواز ذلك لا مساغ للإباء الّذي هو عرض النفس للقتل و إلقاؤها في التهلكة فيجامع هذا الجواز الوجوب دون الإباحة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عمرو بن مروان قال: سمعت أبا عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن اُمّتي أربعة خصال: ما أخطؤا و ما نسوا و ما اُكرهوا عليه و ما لم يطيقوا، و ذلك في كتاب الله:( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) .

٣٨٥

( سورة النحل الآيات ١١٢ - ١٢٨)

وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( ١١٢ ) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ( ١١٣ ) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( ١١٤ ) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ  فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١١٥ ) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ  إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ( ١١٦ ) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ١١٧ ) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ  وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ١١٨ ) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١١٩ ) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١٢٠ ) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ  اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ١٢١ ) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً  وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ١٢٢ ) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا  وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١٢٣ ) إِنَّمَا جُعِلَ

٣٨٦

السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ  وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ( ١٢٤) ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ  وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ  إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ  وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ( ١٢٥) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ  وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ( ١٢٦) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ  وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ( ١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ( ١٢٨)

( بيان)

تتمّة آيات الأحكام السابقة تذكر فيها محرّمات الأكل و محلّلاته و نهي عن التحليل و التحريم ابتداعاً بغير إذن الله و ذكر بعض ما شرّع لليهود من الأحكام الّتي نسخت بعد، و في ذلك عطف على ما تقدّم من حديث النسخ في قوله:( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ) و إشارة إلى أنّ ما اُنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو دين إبراهيمعليه‌السلام المبنيّ على الاعتدال و التوحيد مرفوعاً عنه ما في دين اليهود من التشديد عليهم قبال ظلمهم.

و في آخرها أمر بالعدل في المعاقبة و ندب إلى الصبر و الاحتساب، و وعد جميل بالنصرة و الكفاية إن اتّقوا و أحسنوا.

قوله تعالى: ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً ) إلى آخر الآية، الرغد من العيش هو الواسع الطيّب.

هذا مثل ضربه الله تعالى فوصف فيه قرية آتاها ما تحتاج إليه من نعم

٣٨٧

الحياة، و أتمّ ذلك كلّه بنبيّ بعثه إليهم يدعوهم إلى ما فيه صلاح دنياهم و اُخراهم فكفروا بأنعمه و كذّبوا رسوله فبدّل الله نعمته نقمة و عذّبهم بما ظلموا بتكذيب رسوله، و في المثل تحذير عن كفران نعمة الله بعد إذ بذلت و الكفر بآياته بعد إذ اُنزلت.

و فيه توطئة و تمهيد لما سيذكره من محلّلات الأكل و محرّماته و ينهى عن تشريع الحلال و الحرام بغير إذن الله كلّ ذلك بالاستفادة من سياق الآيات فإنّ كلّ سابقة منها تسوق النظر إلى اللاحقة.

و قيل: إنّ هذه القرية هي مكّة عذّبهم الله بالجوع سبع سنين لما كفروا بأنعم الله و قد وسّعها عليهم و كذّبوا رسوله و قد أرسله إليهم فابتلوا بالقحط و كان يغار عليهم قوافلهم بسخط من الله سبحانه لما دعا عليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ذكره في المجمع، و نسبه إلى ابن عبّاس و مجاهد و قتادة.

و فيه أن لا إشكال في أنّه في نفسه يقبل الانطباق على ما ذكر لكن سياق الآيات إنّما يلائم كونه مثلاً عامّاً مذكوراً توطئة و تمهيداً لما بيّناه.

فقوله:( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً ) وصف القرية بثلاثة أوصاف متعاقبة غير أنّ الأوسط منها و هي الاطمئنان كالرابط بين الطرفين فإنّ القرية إذا أمنت المخاطرات كمهاجمة الأشرار و شنّ الغارات و قتل النفوس و سبي الذراري و نهب الأموال و كذا أمنت الحوادث الطبيعيّة كالزلازل و غيرها اطمأنّت و سكنت فلم يضطرّ أهلها إلى الجلاء و التفرّق.

و من كمال اطمئنانها أن يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان و لا يلجأ أهلها إلى الاغتراب و قطع الفيافي و ركوب البحار و تحمّل المشاقّ البالغة في طلب الرزق و جلبه إليها.

فاتّصاف القرية بصفاتها الثلاث المذكورة: الأمن و الاطمئنان و إتيان رزقها إليها من كلّ مكان يتمّ و يكمل لها جميع النعم المادّيّة الصوريّة، و سيضيف سبحانه إليها النعم المعنويّة في الآية التالية:( وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ) فهي قرية أتمّ الله نعمه عليها و أكملها.

٣٨٨

و قوله:( فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ ) التعبير بأنعم الله و هو جمع قلّة للإشارة بها إلى الأصناف المذكورة و هي ثلاثة: الأمن و الاطمئنان و إتيان الرزق، و الإذاقة استعارة للإيصال اليسير فإذاقة الجوع و الخوف مشعر بأنّ الّذي يوصلهما قادر على تضعيف ذلك و تكثيره بما لا يقدّر بقدر كيف لا؟ و هو الله الّذي له القدرة كلّها.

ثمّ إضافة اللباس إلى الجوع و الخوف و فيها دلالة على الشمول و الإحاطة كما يشمل اللباس البدن، و يحيط به، تشعر بأنّ هذا المقدار اليسير من الجوع و الخوف الّذي أذاقهم شملهم كما يشمل اللباس بدن الإنسان و هو سبحانه قادر على أن يزيد على ذلك فهو المتناهي في قهره و غلبته و هم المتناهون في ذلّتهم و هوانهم.

ثم ختم الآية بقوله:( بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) للدلالة على أنّ سنّة المجازاة في الشكر و الكفر قائمة على ساق.

و المعنى: ضرب الله مثلاً مثل قرية كان أهلها آمنين من كلّ شرّ و سوء يهدّدهم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم ساكنين غير مضطرّين يأتيهم رزقهم طيّباً واسعاً من كلّ مكان من غير أن يضطرّوا إلى السفر و الاغتراب فكفر أهلها بهذه النعم الإلهيّة و لم يشكروه سبحانه فأنالهم الله شيئاً يسيراً من نقمته - بسلب هذه النعم - و هو الجوع و الخوف اللّذان عمّاهم و شملاهم قبال ما استمرّوا عليه بكفران الأنعام جزاء لكفرانهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ ) و هذا هو النعمة المعنويّة الّتي أضافها إلى نعمة المادّيّة المذكورة، و كان فيها صلاح معاشهم و معادهم و تحذير لهم من الكفران بأنعم الله و شرح ما فيه من الشؤم و الشقاء لكنّهم كذّبوا رسولهم الّذي هو منهم يعرفونه و يدرون أنّه إنّما يدعوهم لأمر إلهيّ و يهديهم إلى سبيل الرشاد و سعادة الجدّ فظلموا ذلك فأخذهم العذاب بظلمهم.

و بهذا التقرير يظهر ما في القيود المأخوذة في الآية من النكات.

٣٨٩

قوله تعالى: ( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالًا طَيِّباً ) إلى آخر الآية تفريع على ما تحصّل من المثل نتيجة، و التقدير إذا كان الحال هذا الحال و كان في كفران هذا الرزق الرغد عذاب و في تكذيب الدعوة عذاب فكلوا ممّا رزقكم الله حال كونه حلالاً طيّباً أي لستم بممنوعين منه و أنتم تستطيبونه فكلوا منه و اشكروا نعمة الله إن كنتم إيّاه تعبدون.

و قد ظهر بذلك:

أوّلاً: أنّ الآية مسوقة لتحليل طيّبات الرزق مطلقا فلا سبيل إلى ما ذكره بعضهم أنّ المراد فكلوا ممّا رزقكم الله من الغنائم رزقاً حلالاً طيّباً بناء على أنّ الآية نزلت بعد وقعة بدر و المثل السابق مثل مضروب لأهل مكّة، و المراد بالرسول الّذي كذّبوه هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و بالعذاب الّذي أخذهم هو القتل الذريع لصناديدهم يوم بدر.

و هذا كلّه ممّا لا دليل عليه من طريق لفظ الآيات. على أنّه قد تأيّد سابقا أنّها مكّيّة.

و ثانياً: أنّ المراد بالحلّ و الطيب كون الرزق بحيث لم يحرم منه الإنسان طبعاً و طبعه يستطيبه أي الحلّ و الطيب بحسب الطبع و ذلك ملاك الحلّيّة الشرعيّة الّتي تتبع الحلّيّة بحسب الفطرة فإنّ الدين فطريّ لإنّ الله سبحانه فطر الإنسان مجهّزاً بجهاز التغذية و جعل أشياء أرضيّة من الحيوان و النبات ملائمة لقوامه يميل إليها طبعه من غير نفرة فله أن يأكل منها و هو الحلّ.

و ثالثاً: أنّ قوله:( فَكُلُوا ) أمر مقدّميّ بالنسبة إلى قوله:( وَ اشْكُرُوا ) نعمة الله و ذكر النعمة تلويح إلى سبب الحكم فإنّ كون الشي‏ء نعمة هو السبب في وجوب الشكر عليه.

و رابعاً: أنّ قوله:( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) خطاب للمؤمنين فإنّهم هم الّذين يعبدون الله و لا يعبدون غيره، و القصر في الجملة الّذي يدلّ عليه تقديم المفعول

٣٩٠

على الفعل قصر القلب، و غيرهم و هم المشركون إنّما يعبدون الأصنام و الآلهة من دون الله.

و جعل الخطاب للمشركين و دعوى أنّ المراد بالعبادة في قوله:( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) الإطاعة أو أنّ المعنى إن صحّ زعمكم أنّكم تقصدون بعبادتكم لآلهتكم عبادته تعالى، لا يرجع إلى طائل فإنّ جعل العبادة بمعنى الإطاعة يحتاج إلى قرينة و لا قرينة و المشركون لا يعبدون الله سبحانه و لو بإشراكه في العبادة و لا يقصدون بعبادة آلهتهم عبادته تعالى بل ينزّهونه تعالى عن عبادتهم لكونه أجلّ من أن يناله إدراك أو ينتهي إليه توجّه.

و كون الخطاب في الآية للمؤمنين يوجب كون المثل مضروباً لأجلهم و رجوع سائر الخطابات التشريعيّة فيما قبل الآية و ما بعدها متوجّهة إليهم، و ربّما قيل: إنّ الخطاب لعامّة الناس أعمّ من المؤمن و الكافر و تطبيقه على الآيات لا يخلو من تكلّف و إن كان دون تخصيص الخطاب بالمشركين إشكالاً.

قوله تعالى: ( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فإنّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تقدّم الكلام في معنى الآية في تفسير سورة البقرة الآية ١٧٣ و سورة المائدة الآية ٣ و سورة الأنعام الآية ١٤٥.

و الآية بمعناها على اختلاف ما في لفظها واقعة في أربعة مواضع من القرآن: في سورتي الأنعام و النحل و هما مكّيّتان من أوائل ما نزلت بمكّة و أواخرها، و في سورتي البقرة و المائدة و هما من أوائل ما نزلت بالمدينة و أواخرها، و هي تدلّ على حصر محرّمات الأكل في الأربع المذكورة: الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما اُهلّ لغير الله به كما نبّه عليه بعضهم.

لكن بالرجوع إلى السنّة يظهر أنّ هذه هي المحرّمات الأصليّة الّتي عني بها في الكتاب و ما سوى هذه الأربع من المحرّمات ممّا حرّمه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من ربّه و قد قال تعالى:( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) الحشر: ٧، و قد تقدّم بعض الروايات الدالّة على هذا المعنى.

٣٩١

قوله تعالى: ( وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ) إلخ،( لِما ) في قوله:( لِما تَصِفُ ) مصدريّة و الكذب مفعول( تَصِفُ ) أي لا تقولوا هذا حلال و هذا حرام بسبب وصف ألسنتكم لغاية افتراء الكذب على الله.

و كون الخطاب في الآيات للمؤمنين على ما يؤيّده سياقها كما مرّ أو لعامّة الناس يؤيّد أن يكون المراد بقوله:( وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ ) النهي عن الابتداع بإدخال حلال أو حرام في الأحكام الجارية في المجتمع المعمولة بينهم من دون أن ينزل به الوحي فإنّ ذلك من إدخال ما ليس من الدين في الدين و افتراء على الله و إن لم ينسبه واضعه إليه تعالى.

و ذلك أنّ الدين في عرف القرآن هو سنّة الحياة و قد تكرّر منه سبحانه قوله:( يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً ) أو ما يقرب منه، فالدين لله و من زاد فيه شيئاً فقد نسبه إليه تعالى افتراء عليه و إن سكت عن الإسناد أو نفى ذلك بلسانه.

و ذكر الجمهور أنّ المراد بالآية النهي عمّا كان المشركون يحلّونه كالميتة و الدم و ما اُهلّ لغير الله به أو يحرّمونه كالبحيرة و السائبة و غيرهما و السياق - كما مرّ - لا يؤيّده.

ثمّ قال سبحانه في مقام تعليل النهي:( إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) ثمّ بيّن حرمانهم من الفلاح بقوله:( مَتاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ) إلخ، المراد بقوله:( ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ) - كما قيل - ما قصّه تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة الأنعام - و قد نزلت قبل سورة النحل بلا إشكال - بقوله:( وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كلّ ذِي ظُفُرٍ ) إلى آخر الآية الأنعام: ١٤٦.

و الآية في مقام دفع الدخل و فيها عطف على مسألة النسخ المذكورة سابقاً كأنّ قائلاً يقول: فإذا كانت محرّمات الأكل منحصرة في الأربع المذكورة: الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما اُهلّ لغير الله به، و كان ما وراءها حلالاً فما هذه

٣٩٢

الأشياء المحرّمة على بني إسرائيل من قبل؟ هل هذا إلّا ظلم بهم.

فأجاب عنه بأنّا حرّمنا عليهم ذلك و ما ظلمناهم في تحريمه و لكنّهم كانوا يظلمون أنفسهم فنحرّم عليهم بعض الأشياء أي إنّه كان محللّا لهم مأذونا فيه لكنّهم ظلموا أنفسهم و عصوا ربّهم فجزيناهم بتحريمه عقوبة كما قال سبحانه في موضع آخر:( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) الآية، و لو أنّهم بعد ذلك كلّه رجعوا إلى ربّهم و تابوا عن معاصيهم تاب الله عليهم و رفع الحظر عنهم و أذن لهم فيما منعهم عنه إنّه لغفور رحيم.

فقد ظهر أنّ الآية متّصلة بما قبلها من حديث التحليل و التحريم، و أنّها كالجواب عن سؤال مقدّر، و أنّ ما بعدها من قوله:( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ ) الآية، متّصل بها متمّم لمضمونها.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) الجهالة و الجهل واحد و هو في الأصل ما يقابل العلم لكنّ الجهالة كثيراً ما تستعمل بمعنى عدم الانكشاف التامّ للواقع و إن لم يخل المحلّ عن علم ما مصحّح للتكليف كحال من يقترف المحرّمات و هو يعلم بحرمتها لكنّ الأهواء النفسانيّة تغلبه و تحمله على المعصية و لا تدعه يتفكّر في حقيقة هذه المخالفة و المعصية فله علم بما ارتكب و لذلك يؤاخذ و يعاقب على ما فعل و هو مع ذلك جاهل بحقيقة الأمر و لو تبصّر تمام التبصّر لم يرتكب.

و المراد بالجهالة في الآية هذا المعنى إذ لو كان المراد هو الأوّل و كان ما ذكر من عمل السوء مجهولاً من حيث حكمه أو من حيث موضوعه لم يكن العمل معصية حتّى يحتاج إلى التوبة فالمغفرة و الرحمة.

و الآية - كما تقدّمت الإشارة إليه - متّصلة بما قبلها متمّمة لمضمونها، و معنى الآيتين أنّا لم نظلم بني إسرائيل في تحريم الطيّبات الّتي حرّمناها، لهم بل هم الّذين ظلموا أنفسهم حيث ارتكبوا المعاصي و أصرّوا عليها فأدى ذلك إلى تحريم الطيّبات عليهم، و بعد ذلك كلّه باب المغفرة و الرحمة مفتوح و إنّ ربّك للّذين عملوا السوء

٣٩٣

أي عملوا عملا سوء و هو السيّئة بجهالة ثمّ تابوا من بعد ذلك و أصلحوا حتّى يتبيّن التوبة و تستقرّ إنّ ربّك من بعدها أي من بعد التوبة لغفور رحيم.

و في تقييد التوبة أوّلاً بالإصلاح ثمّ إرجاع الضمير أخيراً إليها وحدها في قوله:( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ ) دلالة على أنّ شمول المغفرة و الرحمة من تبعات التوبة، و أمّا الإصلاح فإنّما هو لتبيين التوبة و ظهور كونها توبة حقيقيّة و رجوعاً جدّيّاً لا مجرّد صورة خالية عن المعنى.

و قوله في ذيل الآية:( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها ) تلخيص لتفصيل قوله في صدرها:( إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ ) إلخ، و فائدته حفظ فهم السامع عن التشوّش و الضلال و إبراز العناية ببعديّة المغفرة و الرحمة بالنسبة إلى التوبة نظير ما مرّ من قوله:( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الآية، و ما يتلوها على اتّصالها بما تقدّم من حصر محرّمات الأكل في الأربع و تحليل ما وراءها، و هذه الآية إلى تمام أربع آيات بمنزلة التفصيل لما تقدّمها كأنّه قيل: هذا حال ملّة موسى الّتي حرّمنا فيها على بني إسرائيل بعض ما اُحلّ لهم من الطيّبات، و أمّا هذه الملّة الّتي أنزلناها إليك فإنّما هي الملّة الّتي تحقّق بها إبراهيم فاجتباه الله و هداه إلى صراط مستقيم و أصلح بها دنياه و آخرته، و هي ملّة معتدلة جارية على الفطرة تحلّل الطيّبات و تحرّم الخبائث يجلب العمل بها من الخير ما جلبه لإبراهيمعليه‌السلام منه.

فقوله:( إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ) قال في المفردات، و قوله:( إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ ) أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة، انتهى. و هو قريب ممّا نقل عن ابن عبّاس، و قيل: معناه الإمام المقتدى به، و قيل: إنّه كان اُمّة منحصرة في واحد مدّة من الزمان لم يكن على الأرض موحّد يوحّد الله غيره.

٣٩٤

و قوله:( قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) القنوت: الإطاعة و العبادة أو دوامها، و الحنف: الميل من الطرفين إلى حاقّ الوسط و هو الاعتدال.

قوله تعالى: ( شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الاجتباء من الجباية و هو الجمع و اجتباء الله الإنسان هو إخلاصه لنفسه و جمعه من التفرّق في المذاهب المختلفة. و في تعقيب قوله:( شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ) بقوله:( اجْتَباهُ ) إلخ، مفصولاً إشعار بالعلّيّة و ذلك يؤيّد ما تقدّم في سورة الأعراف في تفسير قوله:( وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) الأعراف: ١٧، أنّ حقيقة الشكر هو الإخلاص في العبوديّة.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) الحسنة هي المعيشة الحسنة فقد كانعليه‌السلام ذا مال كثير و مروّة عظيمة.

و قد بسطنا الكلام في معنى الاجتباء في تفسير سورة يوسف عند الآية ٦، و في معنى الهداية و الصراط المستقيم في تفسير الفاتحة عند قوله:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) الآية ٦، و في معنى قوله:( وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) البقرة: ١٣٠، فراجع.

و في توصيفه تعالى إبراهيمعليه‌السلام بما وصفه من الصفات إشارة إلى أنّها من مواهب هذا الدين الحنيف، فإن انتحل به الإنسان ساقه إلى ما ساق إليه إبراهيمعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) تكرار اتّصافه بالحنف و نفي الشرك لمزيد العناية به.

قوله تعالى: ( إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) إلى آخر الآية، قال في المفردات: أصل السبت القطع و منه سبت السير قطعه و سبت شعره حلقه، و أنفه اصطلمه، و قيل: سمّي يوم السبت لأنّ الله تعالى ابتدء بخلق السماوات و الأرض يوم الأحد فخلقها في ستّة أيّام كما ذكره فقطع عمله يوم السبت فسمّي بذلك.

و سبت فلان صار في السبت، و قوله:( يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ) قيل: يوم قطعهم للعمل( وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ ) قيل: معناه لا يقطعون العمل و قيل: يوم لا يكونون في

٣٩٥

السبت و كلاهما إشارة إلى حالة واحدة، و قوله:( إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ ) أي ترك العمل فيه:( وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) أي قطعاً للعمل و ذلك إشارة إلى ما قال في صفة الليل:( لِتَسْكُنُوا فِيهِ ) انتهى.

فالمراد بالسبت على ما ذكره نفس اليوم لكن معنى جعله جعل ترك العمل فيه و تشريعه، و يمكن أن يكون المراد به المعنى المصدريّ دون اليوم المجعول فيه ذلك كما هو ظاهر قوله:( تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) الأعراف: ١٦٣.

و كيف كان فقد كان من طبع الكلام أن يقال: إنّما جعل السبت للّذين حتّى، يفيد نوعاً من الاختصاص و الملك و أنّ الله شرّع لهم في كلّ اُسبوع أن يقطعوا العمل يوماً يفرغون فيه لعبادة ربّهم و هو يوم السبت كما جعل للمسلمين في كلّ اُسبوع يوماً يجتمعون فيه للعبادة و الصلاة و هو يوم الجمعة.

فقوله:( إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) بتعدية جعل بعلى دون اللام من قبيل قولهم: لي عليك دين و هذا عليك لا لك فتفيد معنى التكليف و التشديد و الابتلاء أي إنّما جعل للتشديد عليهم و ابتلائهم و امتحانهم فقد كان هذا الجعل عليهم لا لهم كما انجرّ أمرهم فيه إلى لعن طائفة منهم و مسخ آخرين و قد اُشير إلى ذلك في سورة البقرة الآية ٦٥ و سورة النساء الآية ٤٧.

و الأنسب على هذا أن يكون المراد بقوله:( اخْتَلَفُوا فِيهِ ) أي في السبت اختلافهم فيه بعد التشريع فإنّهم تفرّقوا فيه فرقاً ممّن قبله و ممّن ردّه و ممّن احتال للعمل فيه على ما اُشير إلى قصصهم في سور البقرة و النساء و الأعراف لا اختلافهم فيه قبل التشريع بأن يعرض عليهم أن يسبتوا في كلّ اُسبوع يوماً للعبادة ثمّ يجعل ذلك اليوم هو الجمعة فيختلفوا فيه فيجعل عليهم يوم السبت كما وقع في بعض الروايات.

و المعنى إنّما جعل يوم السبت أو قطع العمل للعبادة يوماً في كلّ اُسبوع تشديداً و ابتلاء و فتنة و كلفة على اليهود الّذين اختلفوا فيه بعد تشريعه بين من قبله

٣٩٦

و من ردّه و من احتال فيه للعمل مع التظاهر بقبوله و إنّ ربّك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

و بالبناء على هذا يكون وزان الآية وزان قوله السابق:( وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ) إلخ، في أنّها في معنى الجواب عن سؤال مقدّر عطفاً على ما مرّ من حديث النسخ، و التقدير و أمّا جعل السبت لليهود فإنّما جعل لا لهم بل عليهم ليبتليهم الله و يفتنهم به و يشدّد عليهم كما قد تكرّر نظائره فيهم لكونهم عاتين معتدين مستكبرين و بالجملة الآية ناظرة إلى الاعتراض بتشريع بعض الأحكام غير الفطريّة على اليهود و نسخه في هذه الشريعة.

و إنّما لم يضمّ إلى قوله سابقاً:( وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ) إلخ، لكون مسألة السبت مغايرة لسنخ مسألة تحليل الطيّبات و استثناء محرّمات الأكل، و قد عرفت أنّ الكلام على اتّصاله من قوله:( وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا ) إلى قوله:( وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) سبع آيات تامّة ثمّ اتّصلت بها هذه الآية و هي ثامنتها الملحقة بها.

و من هنا يظهر الجواب عمّا اعترض به أنّ توسيط جعل السبت بين حكاية أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتّباع ملّة إبراهيمعليه‌السلام و بين أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة إليها و بعبارة اُخرى وقوع قوله:( إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ ) إلخ، بين قوله:( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) إلخ، و قوله:( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ ) إلخ، كالفصل بين الشجر و لحائه.

و محصّل الجواب أنّ قوله:( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ) الآية من تمام السياق السابق، و قوله:( إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ ) الآية، متّصل بما تقدّمه كما عرفت، و أمّا قوله:( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ ) الآية، فهو استئناف و أمر بالدعوة إلى سبيل الله بفنون الخطاب لا إلى ملّة إبراهيم حتّى يتّصل بالآية السابقة نوع اتّصال و إن كان سبيل الله هو ملّة إبراهيم بعينها لكن للّفظ حكم و للمعنى بحسب المآل حكم آخر، فافهم.

و للقوم في تفسير الاختلاف اختلاف عميق فمنهم من قال: إنّ المراد إنّما جعل

٣٩٧

السبت على الّذين اختلفوا على نبيّهم فيه حيث أمرهم بتعظيم الجمعة فعدلوا عنه و أخذوا السبت فجعله الله عليهم تشديداً فالاختلاف اختلاف سابق على الجعل لا لاحق به و ربّما جعل( في ) للتعليل فإنّ الاختلاف على هذا لم يقع في السبت بل من أجل السبت.

و ربّما قيل: الاختلاف بمعنى المخالفة فإنّهم خالفوا نبيّهم في السبت و لم يختلفوا فيه.

و ربّما قيل: إنّهم اُمروا باتّخاذ الجمعة من غير تعيين و وكل ذلك إلى اجتهادهم فاختلفت أحبارهم في تعيينه و لم يهدهم الله إليه و وقعوا في السبت.

و ربّما قيل: إنّ المراد أنّهم اختلفوا فيما بينهم في شأن السبت فطائفة منهم فضّلته على الجمعة و طائفة منهم عكست الأمر و فضّلت الجمعة عليه. إلى غير ذلك ممّا قيل، و الأصل في ذلك ما ورد في بعض الروايات من القصّة.

و أنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) إلى آخر الآية لا شكّ في أنّه يستفاد من الآية أنّ هذه الثلاثة: الحكمة و الموعظة و المجادلة من طرق التكليم و المفاوضة فقد اُمر بالدعوة بأحد هذه الاُمور فهي من أنحاء الدعوة و طرقها و إن كان الجدال لا يعدّ دعوة بمعناها الأخصّ.

و قد فسّرت الحكمة - كما في المفردات - بإصابة الحقّ بالعلم و العقل، و الموعظة كما عن الخليل - بأنّه التذكير بالخير فيما يرقّ له القلب، و الجدال - كما في المفردات - بالمفاوضة على سبيل المنازعة و المغالبة.

و التأمّل في هذه المعاني يعطي أنّ المراد بالحكمة - و الله أعلم - الحجّة الّتي تنتج الحقّ الّذي لا مرية فيه و لا وهن و لا إبهام و الموعظة هو البيان الّذي تلين به النفس و يرقّ له القلب، لما فيه من صلاح حال السامع من الغبر و العبر و جميل الثناء و محمود الأثر و نحو ذلك.

٣٩٨

و الجدال هو الحجّة الّتي تستعمل لفتل الخصم عمّا يصرّ عليه و ينازع فيه من غير أن يريد به ظهور الحقّ بالمؤاخذة عليه من طريق ما يتسلّمه هو و الناس أو يتسلّمه هو وحده في قوله أو حجّته.

فينطبق ما ذكره تعالى من الحكمة و الموعظة و الجدال بالترتيب على ما اصطلحوا عليه في فنّ الميزان بالبرهان و الخطابة و الجدل.

غير أنّه سبحانه قيّد الموعظة بالحسنة و الجدال بالتي هي أحسن، ففيه دلالة على أنّ من الموعظة ما ليست بحسنة و من الجدال ما هو أحسن و ما ليس بأحسن و لا حسن و الله تعالى يأمر من الموعظة بالموعظة الحسنة و من الجدال بأحسنه.

و لعلّ ما في ذيل الآية من التعليل بقوله:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) يوضح وجه التقييد، فمعناه أنّه سبحانه أعلم بحال أهل الضلال في دينه الحقّ، و هو أعلم بحال المهتدين فيه فهو يعلم أنّ الّذي ينفع في هذا السبيل هو الحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال الأحسن لا غير.

و الاعتبار الصحيح يؤيّد ذلك فإنّ سبيله تعالى هو الاعتقاد الحقّ و العمل الحقّ و من المعلوم أنّ الدعوة إليه بالموعظة مثلاً ممّن لا يتّعظ بما يعظ به دعوة عملا إلى خلاف ما يدعو إليه القول، و الدعوة إليه بالمجادلة مثلاً بالمسلّمات الكاذبة الّتي يتسلّمها الخصم لإظهار الحقّ إحياء لحقّ بإحياء باطل و إن شئت فقل إحياء حقّ بإماتة حقّ إلّا أن يكون الجدال على سبيل المناقضة.

و من هنا يظهر أنّ حسن الموعظة إنّما هو من حيث حسن أثره في الحقّ الّذي يراد به بأن يكون الواعظ نفسه متّعظا بما يعظ و يستعمل فيها من الخلق الحسن ما يزيد في وقوعها من قلب السامع موقع القبول فيرقّ له القلب و يقشعرّ به الجلد و يعيه السمع و يخشع له البصر.

و يتحرّز المجادل ممّا يزيد في تهييج الخصم على الردّ و العناد و سوقه إلى المكابرة و اللجاج، و استعمال المقدّمات الكاذبة و إن تسلّمها الخصم إلّا في المناقضة و يحترّز سوء التعبير و الإزراء بالخصم و بما يقدّسه من الاعتقاد و السبّ و الشتم و أيّ

٣٩٩

جهالة اُخرى فإنّ في ذلك إحياء للحقّ بإحياء الباطل أي إماتة الحقّ كما عرفت.

و الجدال أحوج إلى كمال الحسن من الموعظة و لذلك أجاز سبحانه من الموعظة حسنتها و لم يجز من المجادلة إلّا الّتي هي أحسن.

ثمّ إنّ في قوله:( بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أخذاً بالترتيب من حيث الأفراد فالحكمة مأذون فيها بجميع أفرادها، و الموعظة منقسمة إلى حسنة و غير حسنة و المأذون فيها منهما هي الموعظة الحسنة، و المجادلة منقسمة إلى حسنة و غير حسنة ثمّ الحسنة إلى الّتي هي أحسن و غيرها و المأذون فيها منها الّتي هي أحسن، و الآية ساكتة عن توزيع هذه الطرق بحسب المدعوّين بالدعوة فالملاك في استعمالها من حيث المورد حسن الأثر و حصول المطلوب و هو ظهور الحقّ.

فمن الجائز أن يستعمل في مورد جميع الطرق الثلاث و في آخر طريقان أو طريق واحد حسب ما تستدعيه الحال و يناسب المقام.

و منه يظهر أنّ قول بعضهم إنّ ظاهر الآية أن يجمعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته بين الطرق الثلاث ليس في محلّه إذ لا دليل على لزوم الجمع بينها بالنسبة إلى كلّ مدعوّ و أمّا بالنسبة إلى جميع المدعوّين فهو حاصل.

و كذا ما ذكره بعضهم أنّ الطرق الثلاث المذكورة في الآية مترتّبة حسب ترتّب أفهام الناس في استعدادها لقبول الحقّ فمن الناس الخواصّ و هم أصحاب النفوس المشرقة القويّة الاستعداد لإدراك الحقّائق العقليّة و شديدة الانجذاب إلى المبادئ العالية و كثيرة الاُلفة بالعلم و اليقين فهؤلاء يدعون بالحكمة و هي البرهان.

و منهم عوامّ و هم أصحاب نفوس كدرة و استعداد ضعيف مع شدّة اُلفتهم بالمحسوسات و قوّة تعلّقهم بالرسوم و العادات قاصرة عن تلقّي البراهين من غير أن يكونوا معاندين للحقّ و هؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة.

و منهم أصحاب العناد و اللجاج الّذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحقّ

٤٠٠