الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 79693
تحميل: 4389


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79693 / تحميل: 4389
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 12

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و كيف يمكن إحصاء نعمه تعالى و عالم الوجود بجميع أجزائه و ما يلحق بها من الأوصاف و الأحوال مرتبطة منتظمة نافع بعضها في بعض متوقّف بعضها على بعض، فالجميع نعمه بالنسبة إلى الجميع و هذا أمر لا يحيط به إحصاء.

و لعلّ ذلك هو السرّ في إفراد النعمة في قوله:( نِعْمَتَ اللهِ ) فإنّ الحقّ أن ليس هناك إلّا النعمة فلا حاجة إلى تفخيمها بالجمع ليدلّ على الكثرة، و المراد بالنعمة جنس المنعم فيفيد ما يفيده الجمع.

و قوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) أي كثير الكفران يظلم نفسه فلا يشكر نعمة الله و يكفر بها فيؤدّيه ذلك إلى البوار و الخسران، أو كثير الظلم لنعم الله لا يشكرها و يكفر بها، و الجملة استئناف بياني يؤكّد بها ما يستفاد من البيان السابق، فإنّ الواقف على ما مرّ بيانه من حال نعمه تعالى و ما آتى الإنسان من كلّ ما سأله منها لا يرتاب في أنّ الإنسان و هو غافل عنها طبعاً ظالم لنفسه كافر بنعمة ربّه.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج الترمذيّ و النسائيّ و البزّار و أبويعلى و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حيّان و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن أنس قال: اُتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقناع من بسر فقال:( مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ - حتى بلغ -تُؤْتِي أُكُلَها كلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ) . قال: هي النخلة.( وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ - حتّى بلغ -ما لَها مِنْ قَرارٍ ) . قال: هي الحنظلة.

أقول: و كون الشجرة الطيّبة هي النخلة مرويّ في عدّة روايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و هي لا تدلّ على أزيد من انطباق المثل عليها، و ذيل الرواية ينافي الرواية التالية.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قعد ناس من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكروا هذه الآية:( اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ) فقالوا: يا رسول الله نراه الكمأة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الكمأة من المنّ و ماؤها شفاء للعين، و العجوة من الجنّة و هي شفاء من السمّ.

٦١

أقول: و الكلام يجري في الحنظلة فإنّ لها خواصّ طبّيّة هامّة.

و فيه، أخرج البيهقيّ في سننه عن عليّ قال: الحين ستّة أشهر.

أقول: و الكلام فيه كالكلام في سابقه.

و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن حريث قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ ) قال: فقال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصلها و أميرالمؤمنين فرعها و الأئمّة من ذرّيّتهما أغصانها و علم الأئمّة ثمرتها و شيعتهم المؤمنون ورقها هل في هذا فضل؟ قال: قلت: لا و الله. قال: و الله إنّ المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها، و إنّ المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها.

أقول: و الرواية مبنيّة على كون المراد بالكلمة الطيّبة هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قد اُطلقت الكلمة في كلامه على الإنسان كقوله:( بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) آل عمران: ٤٥، و مع ذلك فالرواية من باب التطبيق و من الدليل عليه اختلاف الروايات في كيفيّة التطبيق ففي بعضها أنّ الأصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الفرع عليّعليه‌السلام و الأغصان الأئمّةعليه‌السلام و الثمرة علمهم و الورق الشيعة كما في هذه الرواية، و في بعضها أنّ الشجرة رسول الله و فرعها عليّ و الغصن فاطمة و ثمرها أولادها و ورقها شيعتنا كما فيما رواه الصدوق عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام ، و في بعضها أنّ النبيّ و الأئمّة هم الأصل الثابت و الفرع الولاية لمن دخل فيها كما في الكافي، بإسناده عن محمّد الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوالجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : أنّ هذا - يعني قوله:( كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) إلخ - مثل بني اُميّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبد الرحمن بن سالم الأشلّ عن أبيه عن أبي عبداللهعليه‌السلام :( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ) الآيتين قال: هذا مثل ضربه الله لأهل بيت نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لمن عاداهم هو مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

أقول: قال الآلوسيّ في تفسير روح المعاني، ما لفظه: و روى الإماميّة و

٦٢

أنت تعرف حالهم عن أبي جعفر رضي الله عنه تفسيرها - يعني الشجرة الخبيثة - ببني اُميّة و تفسير الشجرة الطيّبة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عليّ كرّم الله وجهه و فاطمة رضي الله عنها و ما تولّد منهما، و في بعض روايات أهل السنّة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني اُميّة، فقد أخرج ابن مردويه عن عديّ بن حاتم قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تعالى قلب العباد ظهرا و بطنا فكان خير عباده العرب و قلب العرب ظهراً و بطنا فكان خير العرب قريشاً و هي الشجرة المباركة الّتي قال الله تعالى في كتابه( مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ) لأنّ بني اُميّة من قريش. انتهى موضع الحاجة.

و هو عجيب فإنّ كون اُمّة أو طائفة مباركة بحسب طبعهم لا يوجب كون جميع الشعب المنشعبة منها كذلك فالرواية على تقدير تسليمها لا تدلّ إلّا على أنّ قريشاً شجرة مباركة و أمّا أنّ جميع الشعب المنشعبة منها مباركة طيّبة كبني عبدالدار مثلاً أو كون كلّ فرد منهم كذلك كأبي جهل و أبي لهب فلا قطعاً فأيّ ملازمة بين كون شجرة بحسب أصلها مباركة طيّبة و بين كون بعض فروعها الّتي انفصلت منها و نمت نماء فاسداً، مباركاً طيّباً؟.

و قد روى ابن مردويه هذا عن عائشة: أنّها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لأبيك و جدّك: إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن.

و روى أصحاب التفاسير كالطبريّ و غيره عن سهل بن ساعد و عبدالله بن عمر و يعلى بن مرّة و الحسين بن عليّ و سعيد بن المسيّب: أنّهم الّذين نزل فيهم قوله تعالى:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الّتي أَرَيْناكَ إلّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) الآية، و لفظ سعد: رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتّى مات، و أنزل الله:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا ) الآية.

و ستأتي الرواية عن عمر و عن عليّ: في تفسير قوله:( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ) أنّهم الأفجران من قريش بنو المغيرة و بنو اُميّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن صفوان بن مهران عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: الشيطان

٦٣

ليأتي الرجل من أوليائنا فيأتيه عند موته و يأتيه عن يمينه و عن يساره ليصدّه عمّا هو عليه فيأبى الله ذلك و كذلك قال الله:( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ) .

وفيه عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام قالا: إذا وضع الرجل في قبره أتاه ملكان ملك عن يمينه و ملك عن شماله و اُقيم الشيطان بين يديه عيناه من نحاس فيقال له: ما تقول في هذا الرجل الّذي خرج من بين ظهرانيّكم يزعم أنّه رسول الله؟ فيفزع لذلك فزعة فيقول إن كان مؤمناً: محمّد رسول الله فيقال عند ذلك: نم نومة لا حلم فيها و يفسح له في قبره تسعة أذرع و يرى مقعده من الجنّة و هو قول الله:( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) و إن كان كافراً قالوا: من هذا الرجل الّذي كان بين ظهرانيّكم يقول: إنّه رسول الله؟ فيقول: ما أدري فيخلّى بينه و بين الشيطان.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطيالسيّ و البخاريّ و مسلم و أبوداود و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن البراء بن عازب أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلّا الله و أنّ محمّداً رسول الله فذلك قوله سبحانه:( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ) .

و فيه، أخرج الطبرانيّ في الأوسط و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في هذه الآية:( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ) قال: في الآخرة القبر.

أقول: و هناك روايات كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنّة وردت في تفصيل سؤال القبر و إتيان الملكين منكر و نكير و ثبات المؤمن و ضلال الكافر عند ذلك و قد وقع في كثير منها التمسّك بالآية.

و ظاهرها أنّ المراد بالآخرة هو القبر و عالم الموت، و لعلّ ذلك مبنيّ على ظاهر معنى التثبيت فإنّ الظاهر من إعطاء الثبات أن يكون في مقام يجوز فيه

٦٤

الزلل و الخبط، و هذا إنّما يتصوّر في غير يوم القيامة الّذي ليس فيه إلّا المجازاة بالأعمال و أمّا بالنظر إلى أنّ كلّ ثابت في الوجود فإنّما ثباته بالله سبحانه سواء كان ممّا يجوز عليه الزوال أم لا فلا فرق بين البرزخ و القيامة في أنّ المؤمن ثابت بتثبيت الله سبحانه و الأولى أخذ الروايات من قبيل التطبيق.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ) قال: نحن نعمة الله الّتي أنعم الله بها على العباد.

أقول: و هو من الجري و التطبيق.

و فيه، عن معصم المسرف عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام في قوله:( وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ) قال: هما الأفجران من قريش بنو اُميّة و بنو المغيرة.

أقول: و رواه أيضاً في البرهان، عن ابن شهر آشوب عن أبي الطفيل عنهعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الأوسط و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه من طرق عن عليّ بن أبي طالب في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ) قال: هما الأفجران من قريش بنو اُميّة و بنو المغيرة فأما بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر و أمّا بنو اُميّة فمتعوا إلى حين.

أقول: و هو مرويّ عن عمر كما يأتي.

و فيه، أخرج البخاريّ في تاريخه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عمر بن الخطّاب في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ) قال: هما الأفجران من قريش بنو المغيرة و بنو اُميّة، فأمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، و أمّا بنو اُميّة فمتّعوا إلى حين.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس: أنّه قال لعمر: يا أمير المؤمنين هذه الآية:( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ) قال: هم الأفجران من قريش أخوالي و أعمامك فأمّا أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر و أمّا أعمامك فأملى الله لهم إلى حين.

٦٥

و في تفسير العيّاشيّ، عن ذريح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول: جاء ابن الكوّاء إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام فسأله عن قول الله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا ) الآية قال: تلك قريش بدّلوا نعمة الله كفرا و كذّبوا نبيّه يوم بدر.

أقول: و اختلاف التطبيق في كلامهعليه‌السلام من الشاهد على أنّه من باب بيان انطباق الآية لا من قبيل سبب النزول.

و في الكافي، عن عليّ بن محمّد عن بعض أصحابه رفعه قال: كان عليّ بن الحسينعليه‌السلام إذا قرأ هذه الآية:( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) يقول: سبحان الّذي لم يجعل في أحد من معرفة نعمه إلّا المعرفة بالتقصير عن معرفتها كما لم يجعل في أحد( من) معرفة إدراكه أكثر من العلم أنّه لا يدركه فشكر جلّ و عزّ معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا كما علم علم العالمين أنّهم لا يدركونه فجعله علما. الحديث.

٦٦

( سورة إبراهيم الآيات ٣٥ - ٤١)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ ( ٣٥ ) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ  فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي  وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٦ ) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ( ٣٧ ) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ  وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ( ٣٨ ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ  إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ( ٣٩ ) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي  رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ( ٤٠ ) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ( ٤١ )

( بيان)

تتضمن الآيات تذكرة ثانية بجملة من نعمه عقيب التذكرة الاُولى الّتي يتضمّنها قوله:( وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) الآية فذكر سبحانه أوّلاً نعمته على جمع من عباده المؤمنين و هم بنو إسرائيل من ولد إبراهيم ثمّ ذكر ثانياً نعمته على جمع آخر منهم و هم بنو إسماعيل من ولد إبراهيم و هي الّتي يتضمّنها دعاء إبراهيمعليه‌السلام :( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إلى آخر دعائه و فيها نعمة توفيقه تعالى لهم أن يجتنبوا عبادة الأصنام و نعمة الأمن بمكّة و ميل الأفئدة إلى أهله و رزقهم من الثمرات و غير ذلك كلّ ذلك لأنّ الله سبحانه هو العزيز الحميد.

٦٧

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ربّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) أي و اذكر إذ قال إبراهيم و الإشارة إلى مكّة شرّفها الله تعالى.

و قد حكى الله سبحانه نظير هذا الدعاء على اختصار فيه عن إبراهيمعليه‌السلام في موضع آخر بقوله:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ربّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى‏ عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) البقرة: ١٢٦.

و من الممكن أن يستفاد من اختلاف المحكيّين في التعبير أعني قوله:( اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً ) و قوله:( اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) أنّهما دعاءان دعاعليه‌السلام بهما في زمانين مختلفين، و أنّه بعد ما أسكن إسماعيل و اُمّه أرض مكّة و رجع إلى أرض فلسطين ثمّ عاد إليهما وجد من إقبال جرهم إلى مجاورتهما مكاناً ما سرّ بذلك فدعا عند ذلك مشيراً إلى مكانهم( رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً ) فسأل ربّه أن يجعل المكان بلداً و لم يكن به و أن يرزق أهله المؤمنين من الثمرات، ثمّ لما عاد إليهم بعد ذلك بزمان وجد المكان بلدا فسأل ربّه أن يجعل البلد آمنا.

و ممّا يؤيّد كونهما دعاءين ما فيهما من الاختلاف من غير هذه الجهة ففي آية البقرة الدعاء لأهل البلد بالرزق من الثمرات و في الآيات المبحوث عنها الدعاء بذلك لذرّيّته خاصّة مع اُمور اُخرى دعا بها لهم.

و على هذا يكون هذا الدعاء المحكيّ عن إبراهيمعليه‌السلام في هذه الآيات آخر ما أورده الله تعالى في كتابه من كلام إبراهيمعليه‌السلام و دعائه، و قد دعا به بعد ما أسكن إسماعيل و اُمّه بها و جاورتهما قبيلة جرهم و بنى البيت الحرام و بنيت بلدة مكّة بأيدي القاطنين هناك كما تدلّ عليه فقرات الآيات.

و على تقدير أن يكون المحكيّان دعاء واحداً يكون قوله:( رَبِّ اجْعَلْ ) إلخ تقديره: ربّ اجعل هذا البلد بلداً آمنا و قد حذف في إحدى الآيتين المشار إليه و في الاُخرى الموصوف اختصاراً.

و المراد بالأمن الّذي سألهعليه‌السلام الأمن التشريعيّ دون التكوينيّ - كما

٦٨

تقدّم في تفسير آية البقرة - فهو يسأل ربّه أن يشرع لأرض مكّة حكم الحرمة و الأمن، و هو - على خلاف ما ربّما يتوهّم - من أعظم النعم الّتي أنعم الله بها على عباده فإنّا لو تأمّلنا هذا الحكم الإلهيّ الّذي شرعه إبراهيمعليه‌السلام بإذن ربّه أعني حكم الحرمة و الأمن و أمعنّا فيما يعتقده الناس من تقديس هذا البيت العتيق و ما أحاط به من حرم الله الآمن و قد ركز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتّى اليوم وجدنا ما لا يحصى من الخيرات و البركات الدينيّة و الدنيويّة عائدة إلى أهلها و إلى سائر أهل الحقّ ممّن يحنّ إليهم و يتعلّق قلبه بهم، و قد ضبط التاريخ من ذلك شيئاً كثيراً و ما لم يضبط أكثر فجعله تعالى مكّة بلداً آمنا من النعم العظيمة الّتي أنعم الله بها على عباده.

قوله تعالى: ( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ربّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ - إلى قوله -غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقال: جنبه و أجنبه أي أبعده، و سؤالهعليه‌السلام أن يجنبه الله و يبعده و بنيه من عبادة الأصنام لواذ و التجاء إليه تعالى من الإضلال الّذي نسبه إليهنّ في قوله:( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ ) إلخ.

و من المعلوم أنّ هذا الإبعاد و الإجناب منه تعالى كيفما كان و أيّاً مّا كان تصرّف مّا و تأثير منه تعالى في عبده بنحو، غير أنّه ليس بنحو يؤدّي إلى الإلجاء و الاضطرار و لا ينجرّ إلى القهر و الإجبار بسلب صفة الاختيار منه إذ لا مزية لمثل هذا الابتعاد حتّى يسأل ذلك مثل إبراهيم خليل الله.

فرجع بالحقّيقة إلى ما تقدّم في قوله تعالى:( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) الآية، أنّ كلّ خير من فعل أو ترك فإنّه منسوب إليه تعالى أوّلاً، ثمّ إلى العبد ثانياً بخلاف الشرّ من فعل أو ترك فإنّه منسوب إلى العبد ابتداء و لو نسب إليه تعالى فإنّما ينسب إذا كان على سبيل المجازاة، و قد أوضحنا ذلك.

فالاجتناب من عبادة الأصنام إنّما يتحقّق عن إجناب من الله رحمة منه لعبده و عناية، و ليس في الحقّيقة إلّا أمراً تلبّس و اتّصف به العبد غير أنّه إنّما يملكه بتمليك الله سبحانه فهو المالك له بذاته و العبد يملكه بأمر منه و إذن كما أنّ العبد

٦٩

إنّما يهتدي عن هداية من الله، و ليس هناك إلّا هدى واحد لكنّه مملوك لله سبحانه لذاته و العبد إنّما يملكه بتمليك منه سبحانه، و أبسط كلمة في هذا المعنى ما وقع في أخبار آل العصمة أنّ الله يوفق عبده لفعل الخير و ترك الشرّ هذا.

فتلخّص أنّ المراد بقولهعليه‌السلام ( وَ اجْنُبْنِي ) سؤال ما لله سبحانه من الصنع في ترك العبد عبادة الأصنام و بعبارة اُخرى هو يسأل ربّه أن يحفظه و بنيه من عبادة الأصنام و يهديهم إلى الحقّ إن هم عرضوا أنفسهم لذلك و أن يفيض عليهم إن استفاضوا لا أن يحفظهم منها سواء عرضوا لذلك أنفسهم أو لم يعرضوا و أن يفيض عليهم سواء استفاضوا أو امتنعوا فهذا معنى دعائهعليه‌السلام .

و منه يعلم أنّ نتيجة الدعاء لبعض المدعوّين لهم و إن كان بلفظ يستوعب الجميع، و هذا البعض هم المستعدّون لذلك دون المعاندين و المستكبرين منهم و سنزيده بيانا.

ثمّ هوعليه‌السلام يدعو بهذا الدعاء لنفسه و بنيه:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) و بنوه جميع من جاء من نسله بعده و هم بنو إسماعيل و بنو إسحاق فإنّ الابن كما يطلق على الولد من غير واسطة كذلك يطلق على غيره، و يصدّق ذلك القرآن الكريم قال تعالى:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) الحج: ٧٨ و قد تكرّر إطلاق بني إسرائيل على اليهود في نيّف و أربعين موضعاً من كلامه تعالى.

فهوعليه‌السلام يسأل البعد عن عبادة الأصنام لنفسه و لجميع من بعده من بنيه بالمعنى الّذي تقدّم، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ قرائن الحال و المقال تدلّ على اختصاص الدعاة بآل إسماعيل القاطنين بالحجاز فلا يعمّ بني إسحاق.

ثمّ عقّبعليه‌السلام دعاءه:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) بقوله:( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ) و هو في مقام التعليل لدعائه و قد أعاد النداء( رَبِّ ) إثارة للرحمة الإلهيّة، أي إنّي إنّما أسألك أن تبعدني و بنيّ عن عبادتهنّ لأنّهنّ أضللن كثيراً من الناس و نسبة الإضلال إلى الأصنام لمكان الربط الّذي بين الضلال و بينهنّ و إن لم يكن ارتباطاً شعوريّاً و ليس من اللازم في نسبة أي فعل أو أثر

٧٠

إلى شي‏ء أن يقوم به قياماً شعوريّاً و هو ظاهر.

ثمّ قولهعليه‌السلام :( فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّه مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تفريع على ما تقدّم من كلامه أي إذا كان كثير من النّاس أضلّتهم الأصنام بعبادتهنّ و استعذت بك و عرضت نفسي و بنيّ عليك أن تجنبنا من عبادتهنّ افترقنا نحن و الناس طائفتين: الضالّون عن طريق توحيدك و العارضون لأنفسهم على حفظك و إجنابك فمن تبعني إلخ.

و قد عبّرعليه‌السلام في تفريعه بقوله:( فَمَنْ تَبِعَنِي ) و الاتّباع إنّما يكون في طريق - و قد لوّح إلى الطريق أيضاً بقوله:( أَضْلَلْنَ ) لأنّ الضلال إنّما يكون عن الطريق - فمراده باتّباعه التديّن بدينه و السير بسيرته لا مجرّد الاعتقاد بوحدانيّته تعالى بل سلوك طريقته المبنيّة على توحيد الله سبحانه ليكون في ذلك عرض النفس على رحمته تعالى و إجنابه من عبادة الأصنام.

و من الدليل على كون المراد بالاتّباع هو سلوك سبيله قوله في ما يعادله من كلامه:( وَ مَنْ عَصانِي ) فإنّه نسب العصيان إلى نفسه و لم يقل: و من كفر بك أو عصاك أو فسق عن الحقّ و نحو ذلك كما لم يقل فمن آمن بك أو أطاعك أو اتّقاك و ما أشبهه.

فمراده باتّباعه سلوك طريقه و التديّن بجميع ما أتى به من الاعتقاد و العمل و بعصيانه ترك سيرته و ما أتى به من الشريعة اعتقاداً و عملاً كأنّهعليه‌السلام يقول: من تبعني و عمل بشريعتي و سار بسيرتي فإنّه ملحق بي و من أبنائي تنزيلاً أسألك أن تجنبني و إيّاه أن نعبد الأصنام، و من عصاني بترك طريقتي كلّها أو بعضها سواء كان من بنيّ أو غيرهم فلا اُلحقه بنفسي و لا أسألك إجنابه و إبعاده بل اُخلّي بينه و بين مغفرتك و رحمتك.

و من هنا يظهر أوّلاً أنّ قولهعليه‌السلام :( فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّه مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تفسير لقوله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) بالتصرّف في البنين تعميماً و تخصيصاً فهو كتعميم البنين لكلّ من تبعه من جهة و تخصيصه بالعاصين له منهم من جهة اُخرى فليسوا منه و لا ملحقين به، و بالجملة هوعليه‌السلام يلحق

٧١

الّذين اتّبعوه من بعده بنفسه و أمّا غير متّبعيه فيخلّي بينهم و بين ربّهم الغفور الرحيم كما قال تعالى:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النبيّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) آل عمران: ٦٨.

و هذه التوسعة و التضييق منهعليه‌السلام نظير مجموع ما وقع منه و من ربّه في الفقرة الاُخرى من دعائه على ما يحكيه آية البقرة:( وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى‏ عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) حيث سأل الرزق أوّلاً لأهل البلد ثمّ خصّه لمن آمن منهم فعمّمه الله سبحانه بقوله:( وَ مَنْ كَفَرَ ) ثانياً.

و ثانياً: أنّ من الممكن أن يستفاد من قولهعليه‌السلام فيمن تبعه: إنّه منّي و سكوته فيمن عصاه بعد ما كان دعاؤه في نفسه و بنيه أنّ ذلك تبنّ منه لكلّ من تبعه و إلحاق له بنفسه، و نفي لكلّ من عصاه عن نفسه و إن كان من بنيه بالولادة، أو إلحاق لتابعيه بنفسه مع السكوت عن غيرهم بناء على عدم صراحة السكوت في النفي.

و لا إشكال في ذلك بعد ظهور الدليل فإنّ الولادة الطبيعيّة لا يجب أن تكون هي الملاك في النسب إثباتاً و نفياً، و لا تجد واحدة من الاُمم يقتصرون في النسب إثباتاً و نفياً على مجرّد الولادة الطبيعيّة لا بل لا يزالون يتصرّفون بالتوسعة و التضييق و للإسلام أيضاً تصرّفات في ذلك كنفي الدعيّ و المولود من الزنا و الكافر و المرتدّ و إلحاق الرّضيع و المولود على الفراش إلى غير ذلك، و في كلامه تعالى في ابن نوح:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) هود: ٤٦.

و ثالثاً: أنّهعليه‌السلام و إن لم يسأل المغفرة و الرحمة صريحاً لمن عصاه و إنّما عرضهم للمغفرة و الرحمة بقوله:( وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) لكنّه لا يخلو عن إيماء ما إلى الطلب لمن ترك طريقته و سيرته الّتي تعدّ الإنسان للرحمة الإلهيّة بحفظه من عبادة الأصنام، و هذا المقدار من المعصية لا يمنع عن شمول الرحمة و إن لم يكن مقتضيا أيضاً لذلك، و ليس المراد به نفس الشرك بالله حتّى ينافي سؤال المغفرة

٧٢

كما قال تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: ١١٦.

هذا محصّل ما يعطيه التدبّر في الآيتين الكريمتين و هو في معزل عمّا استشكله المفسّرون في أطراف الآيتين ثمّ ذهبوا في التخلّص عنه مذاهب شتّى بعيدة عن الذوق السليم.

فقد استشكلوا أوّلاً قولهعليه‌السلام :( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) من حيث إنّ ظاهره سؤال الحفظ عن عبادة الأصنام لنفسه و لبنيه جميعاً فيكون دعاء غير مستجاب فإنّ قريشاً من بنيه و قد كانوا وثنيّين يعبدون الأصنام، و كيف يمكن أن يدعو مثل الخليلعليه‌السلام ثمّ لا يستجاب له؟ أم كيف يمكن أن يذكر تعالى دعاءه و هو لغو غير معنيّ به ثمّ لا يذكر ردّه على خلاف مسلك القرآن في جميع المواضع المشابهة؟ ثمّ كيف يمكن أن يسأل لنفسه المصونيّة و العصمة عن عبادة الأصنام و هو نبيّ و الأنبياء معصومون؟

و قد قيل في الجواب عن إشكال عدم استجابة دعائه في بنيه أنّ المراد ببنيه أبناؤه بلا واسطة كإسماعيل و إسحاق و غيرهما و قد استجيب دعاؤه فيهم، و قيل: المراد الموجودون من بنيه وقت الدعاء و هم موحّدون، و قيل: إنّ الله قد استجاب دعاءه في بعض بنيه دون بعض و لا نقص فيه.

و قيل: إنّ المشركين من بنيه لم يكونوا يعبدون الأصنام و إنّما كانوا يتّخذونها شفعاء، و قيل: إنّهم كانوا يعبدون الأوثان دون الأصنام و بينهما فرق فإنّ الأصنام هي التماثيل المصوّرة و الأوثان هي التماثيل غير المصوّرة، و قيل: إنّهم ما كانوا يعبدون الأصنام بل كان الواحد منهم ينصب حجراً و يقول: هذا حجر و البيت حجر، فكان يدور حوله و يسمّونه الدوار.

و سقوط هذه الوجوه ظاهرة: أمّا الأوّل و الثاني فلكونهما خلاف ظاهر اللفظ و أمّا الثالث فلأنّ الإشكال ليس في ورود نقص على النبيّ بعدم استجابة دعائه أو بعضه لحكمة بل من جهة منافاته لمسلك القرآن في حكاية لغو الكلام من غير ردّه،

٧٣

و أمّا باقي الوجوه فلأنّ ملاك الضلال في عبادة الأصنام هو شرك العبادة و هو موجود في جميع ما افترضوه من الوجوه.

و قيل في الجواب عن إشكال سؤال النبيّ الإبعاد و الإجناب عن الشرك و هو نبيّ معصوم: أنّ المراد الثبات و الدوام على ذلك، و قيل إنّهعليه‌السلام ذكر ذلك هضما لنفسه و إظهاراً للحاجة إلى فضله تعالى، و قيل: المراد سؤال الحفظ عن الشرك الخفيّ و إلّا فالأنبياء مصونون عن الشرك الجليّ هذا.

و هذه وجوه رديّة، أمّا الأوّل فلأنّه لا ينحسم به مادّة الإشكال إذ العصمة و المصونيّة كما أنّها لازمة للنبوّة حدوثا لازمة لها بقاء فلو لم يصحّ للنبيّ أن يسأل حدوثها لمكان اللزوم لم يصحّ له أن يسأل بقاءها لذلك بعينه، و الأصل في جوابهم هذا أنّهم يزعمون انفصال الفيض عن المفيض و استقلال المستفيض فيما استفاضه بمعنى أنّ الله سبحانه إذا أفاض بشي‏ء على شي‏ء خرج ما أفاضه من ملكه و وقع في ملك المستفيض و لا معنى للسؤال ممّن لا يملك و إذا قضى سبحانه بشي‏ء حدوثا أو بقاء قضاء حتم لا يتغيّر عمّا هو عليه فإنّه لا يتعلّق على خلافه قدرة و لا مشيّة و هو خطأ فإنّ الحاجة من جانب المستفيض باقية على حالها قبل الإفاضة لا تختلف أصلا و ملكه تعالى باق بعد الإفاضة على ما كان عليه قبلها و لا يزال سبحانه قادراً له أن يشاء ما يشاء و إن كان لا يشاء فيما قضى بخلافه قضاء حتم، و السؤال و الطلب من آثار الحاجة لا من آثار الفقدان فافهم ذلك و قد أشبعنا القول في هذا المعنى في المباحث المتقدّمة مراراً.

و أمّا الثاني فلأنّ هضم النفس إنّما يستقيم في غير الضروريّات و أمّا الاُمور الضروريّة فلا، فلا معنى لقول القائل: لست إنساناً و هو يريد نفي الماهيّة هضما لنفسه اللّهمّ إلّا أن يريد نفي الكمال و كذا القول في إظهار الحاجة و هم لا يرون في الاُمور الضروريّة المحتومة كالعصمة في الأنبياء حاجة.

و أمّا الثالث فلأنّ الشرك الخفيّ هو الركون و التوجّه إلى غير الله على مراتبه، و إبراهيمعليه‌السلام يعلّل قوله:( وَ اجْنُبْنِي ) إلخ بقوله( إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ ) إلخ

٧٤

فهو إنّما يسأل الإبعاد من عبادة هذه الأصنام و هي الشرك الجليّ دون الحفظ عن الركون و التوجّه إلى غير الله تعالى اللّهمّ إلّا أن يدّعى أنّ المراد بالصنم كلّ ما يتوجّه إليه غير الله سبحانه، و كذا المراد بالعبادة مطلق التوجّه و الالتفات و هو دعوى لا دليل عليها.

ثمّ استشكلوا في قولهعليه‌السلام ( وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) من حيث اشتماله على طلب المغفرة للمشركين، و لا تتعلّق المغفرة بالشرك بنصّ قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) الآية.

و قد قيل في الجواب عن الإشكال: إنّ الشرك كان جائز المغفرة في الشرائع السابقة و إنّما رفع ذلك في هذه الشريعة بقوله:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) الآية فإبراهيمعليه‌السلام جرى في دعائه على ما كان عليه الأمر في شريعته.

و قيل: إنّ المراد: و من عصاني فإنّك غفور رحيم له بعد توبته ففي الكلام قيّد محذوف، و قيل: المراد و من عصاني و أقام على الشرك فإنّك غفور رحيم بأن تنقله من الشرك إلى التوحيد فتغفر له و ترحمه.

و قيل: المراد بالمغفرة و الرحمة الستر على الشرك في الدنيا و الرحمة بعدم معاجلة العقاب فالمعنى و من عصاني بالإقامة على الشرك فاستر عليه ذلك و ارحمه بتأخير العقاب عنه، و قيل: إنّ الكلام على ظاهره و كان ذلك منهعليه‌السلام قبل أن يعلم أنّ الله لا يغفر الشرك، و لا نقص بجهل ذلك لأنّ مغفرة الشرك جائزة عقلاً و إنّما منع منها الدليل السمعيّ و ليس من الواجب أن يعلم بجميع الأدلّة السمعيّة في يوم واحد، و قيل: المراد بالمعصية ما دون الشرك.

و هذه أجوبة فاسدة أمّا الأوّل فلأنّ دعوى كون الشرك جائز المغفرة في الشرائع السابقة دعوى لا دليل عليها بل الدليل على خلافها فقد خاطب الله آدمعليه‌السلام بمثل قوله: - و هو أوّل الشرائع السابقة -( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩، و حكى عن المسيحعليه‌السلام و شريعته آخر الشرائع السابقة قوله:( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ

٧٥

الْجنّة وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) المائدة: ٧٢، و التدبّر في آيات القيامة و الجنّة و النار و في آيات الشفاعة و في دعوات الأنبياء المحكيّة في القرآن لا يدع شكّا في أنّ الشرك لا نجاة لصاحبه بشفاعة أو غيره إلّا بالتوبة قبل الموت.

و أمّا الثاني فلأنّ تقييد المغفرة و الرحمة بالتوبة تقييد من غير مقيّد على أنّ تقييد المعصية بالتوبة يفسد المعادلة في قوله:( فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّه مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي ) إلخ، فإنّ العاصي التائب يعود ممّن تبعه و يلحق بهعليه‌السلام فلا يبقى للمعادلة أزيد من طرف واحد.

و أمّا الثالث و الرابع فلما فيهما من ارتكاب خلاف الظاهر فإنّ ظاهر طلب المغفرة للعاصي أن يغفر الله له حينما هو عاص لا أن يغفر الله له بعد خروجه بالتوبة عن المعصية إلى الطاعة و كذا ظاهر مغفرة العصيان رفع تبعات معصيته مطلقاً أو في الآخرة، و أمّا رفع التبعة الدنيويّة فقط فأمر بعيد عن الفهم.

و أمّا الخامس فهو أبعد الوجوه، و كيف يجوز الاجتراء على مثل الخليلعليه‌السلام و هو في أواخر عمره - كما تقدّم - أن يجهل ما هو من واضحات المعارف الدينيّة ثمّ يجري على جهله فيشفع عند ربّه للمشركين و يسأل لهم المغفرة من غير أن يستأذن الله في ذلك و لو استأذنه لأنبأه أنّ ذلك ممّا لا يكون ثمّ يورد الله سبحانه في كلامه ما ارتكبه من لغو الكلام جهلاً و لا يردّه ببيان ما هو الحقّ في ذلك، و قد اعتذر سبحانه عن استغفاره لأبيه المشرك و رفع عن ساحته كلّ غميضة فيما قال:( وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إلّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أنّه عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) التوبة: ١١٤.

و أمّا السادس فتقييد المعصية بما دون الشرك تقييد من غير مقيّد، اللّهمّ إلّا أن يقرّر بما يرجع إلى ما قدّمناه.

فهذه جملة ما ذكره المفسّرون في ذيل الآيتين أوردناها ملخّصه و قد وقعوا فيما وقعوا لإهمالهم تحقيق القول في معنى حفظه تعالى عن الشرك، و معنى تفرّع قوله:( فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّه مِنِّي ) إلخ على ما تقدّمه.

٧٦

قوله تعالى: ( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) إلى آخر الآية( مِنْ ذُرِّيَّتِي ) في تأويل مفعول( أَسْكَنْتُ ) أو سادّ مسدّه و( مِنْ ) فيه للتبعيض و مرادهعليه‌السلام ببعض ذرّيّته ابنه إسماعيل و من سيولد له من الأولاد دون إسماعيل وحده بدليل قوله: بعد( رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) .

و المراد بغير ذي زرع غير المزروع و هو آكد و أبلغ لأنّه يدلّ - كما قيل - على عدم صلاحيته لأنّ يزرع لكونه أرضا حجريّة رمليّة خالية عن الموادّ الصالحة للزرع و هذا كقوله:( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) .

و نسبة البيت إلى الله سبحانه لأنّه مبنيّ لغرض لا يصلح إلّا له تعالى و هو عبادته، و كونه محرّماً هو ما جعل الله له من الحرمة تشريعاً و الظرف أعني قوله( عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) متعلّق بقوله( أَسْكَنْتُ ) .

و هذه الجملة من دعائهعليه‌السلام أعني قوله:( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ - إلى قوله -الْمُحَرَّمِ ) من الشاهد على ما قدّمناه من أنّهعليه‌السلام إنّما دعا بهذا الدعاء في أواخر عمره بعد ما بنى الكعبة و بنى الناس بلدة مكّة و عمروها كما أنّ من الشاهد عليه أيضاً قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ ) .

و بذلك يندفع ما ربّما يستشكل فيقال: كيف سمّاه بيتاً و قال أسكنت من ذرّيّتي عنده و لم يبنه بعد؟ كأنّ السائل يقدّر أنّه إنّما دعا به يوم أتى بإسماعيل و اُمّه إلى أرض مكّة و كانت أرضاً قفراء لا أنيس بها و لا نبت.

و لا حاجة إلى دفعه بأنّه كان يعلم بما علّمه الله أنّه سيبني هناك بيتاً لله أو بأنّ البيت كان قبل ذلك و إنّما خرّبه بعض الطوائف أو رفعه الله إلى السماء في الطوفان و ليت شعري إذا اندفع بهما هذا الإشكال فكيف يندفع بهما ما يتوجّه من الإشكال على هذا التقدير إلى ظاهر قوله:( ربّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) و ظاهر قوله:( وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ ) .

و قوله:( رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) بيان لغرضه من إسكانهم هناك، و هو بانضمام ما تقدّم من قوله:( بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) و ما يعقّبه من قوله:( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ

٧٧

تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ ) يفيد أنّهعليه‌السلام إنّما اختار وادياً غير ذي زرع أعزل من أمتعة الحياة من ماء عذب و نبات ذي خضرة و شجر ذي بهجة و هواء معتدل خالياً من السكنة ليتمحّضوا في عبادة الله من غير أن يشغلهم شواغل الدنيا.

و قوله:( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) إلخ من الهويّ بمعنى السقوط أي تحنّ و تميل إليهم بالمساكنة معهم أو بالحجّ إلى البيت فيأنسوا بهم، و ارزقهم من الثمرات، بالنقل إليهم تجارة لعلّهم يشكرون.

قوله تعالى: ( رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ ) إلى آخر الآية معناه ظاهر، و قوله:( وَ ما يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ ) من تمام كلام إبراهيمعليه‌السلام أو من كلامه تعالى، و على الأوّل ففي قوله:( عَلَى اللهِ ) التفات وجهه الإشارة إلى علّة الحكم كأنّه قيل: إنّك تعلم ما نخفي و ما نعلن لأنّك الله الّذي ما يخفى عليه شي‏ء في الأرض و لا في السماء، و لا يبعد أن يستفاد من هذا التعليل أنّ المراد بالسماء ما هو خفيّ علينا غائب عن حسّنا و الأرض بخلافه فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ) كالجملة المعترضة بين فقرات دعائه دعاه إلى إيراده تذكّره في ضمن ما أورده من الأدعية عظيم نعمة الله عليه إذ وهب له ولدين صالحين مثلهما بعد ما انقطع عنه الأسباب العاديّة المؤدّية إلى ظهور النسل، و أنّه إنّما وهبهما له باستجابة دعائه للولد فحمد الله على ما وهبهما و أثنى عليه على استجابة دعائه في ذلك.

قوله تعالى: ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ الكلام ) في استناد إقامته الصلاة إلى الله سبحانه نظير الكلام في استناد إجنابه أن يعبد الأصنام فإنّ لإقامة الصلاة نسبة إليه تعالى بالإذن و المشيّة كما أنّ لها نسبة إلى العبد بالتصدّي و العمل و قد مرّ الكلام فيه.

و هذه الفقرة ثاني دعاء يشترك فيه هوعليه‌السلام و ذرّيّته و يعقّب في الحقّيقة قوله أوّلاً:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) كما يلحق به دعاؤه الثالث المشترك فيه:( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

٧٨

و قد أفرد نفسه في جميع الفقرات الثلاث عن غيره إذ قال:( وَ اجْنُبْنِي ) و( اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ) ( اغْفِرْ لِي ) لأنّ مطلوبه لحوق ذرّيّته به كما قال في موضع آخر:( وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) الشعراء: ٨٤ و في موضع آخر كما حكاه الله بقوله:( وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي ) البقرة: ١٢٤.

و أمّا قوله في الفقرة الاُولى( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ ) و ههنا( اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي ) فقد تقدّم أنّ المراد ببنيه بعضهم لا جميعهم فتتطابق الفقرتان.

و من تطابق الفقرتين أنّه أكّد دعاءه في هذه الفقرة بقوله:( رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ ) فإنّ سؤال تقبّل الدعاء إلحاح و إصرار و تأكيد كما أنّ التعليل في الفقرة الاُولى، بقوله:( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ) تأكيد في الحقّيقة لما فيها من الدعاء، بقوله:( وَ اجْنُبْنِي ) إلخ.

قوله تعالى: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) ختمعليه‌السلام دعاءه - و هو آخر ما ذكر من دعائه في القرآن الكريم كما تقدّم - بطلب المغفرة للمؤمنين يوم القيامة و يشبه آخر ما دعا به نوحعليه‌السلام ممّا ذكر في القرآن:( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ) نوح: ٢٨.

و في الآية دليل على أنّهعليه‌السلام لم يكن ولد آزر المشرك لصلبه فإنّهعليه‌السلام - كما ترى - يستغفر لوالديه و هو على الكبر و في آخر عهده و قد تبرّأ من آزر في أوائل عهده بعد ما استغفر له عن موعدة وعده إيّاه قال تعالى:( قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) مريم: ٤٧، و قال:( وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) الشعراء: ٨٦، و قال:( وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إلّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أنّه عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) التوبة: ١١٤ و قد تقدّم تفصيل القول في قصصهعليه‌السلام في سورة الأنعام في الجزء السابع من الكتاب.

و من لطيف ما في دعائهعليه‌السلام اختلاف النداء المكرّر الّذي فيه بلفظ( ربّ ) و( ربّنا ) و العناية فيما اُضيف إلى نفسه بما يختصّ بنفسه من السبقة و الإمامة، و فيما اُضيف إلى نفسه و غيره إلى المشتركات.

٧٩

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج أبونعيم في الدلائل عن عقيل بن أبي طالب: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أتاه الستّة النفر من الأنصار جلس إليهم عند جمرة العقبة فدعاهم إلى الله و إلى عبادته و الموازرة على دينه فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحي إليه فقرأ من سورة إبراهيم:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ربّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) إلى آخر السورة فرق القوم و أخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا و أجابوه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي عبيدة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: من أحبّنا فهو منّا أهل البيت فقلت: جعلت فداك منكم؟ قال: منّا و الله أ ما سمعت قول الله و هو قول إبراهيمعليه‌السلام :( فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّه مِنِّي ) .

و فيه، عن محمّد الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: من اتّقى الله منكم و أصلح فهو منّا أهل البيت قال: منكم أهل البيت؟ قال: منّا أهل البيت قال فيها إبراهيم:( فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّه مِنِّي ) قال عمر بن يزيد: قلت له: من آل محمّد؟ قال إي و الله من آل محمّد إي و الله من أنفسهم أ ما تسمع قول الله تعالى:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) و قول إبراهيم:( فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّه مِنِّي ) ؟

أقول: و قد ورد في بعض الروايات أنّ بني إسماعيل لم يعبدوا صنما قطّ إثر دعاء إبراهيم:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) ، و أنّهم إنّما قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله و الظاهر أنّ الرواية موضوعة، و قد تقدّمت الإشارة إليه في البيان السابق.

و كذا ما ورد في بعض الروايات من طرق العامّة و الخاصّة أنّ أرض الطائف كانت في الاُردن من أرض فلسطين فلمّا دعا إبراهيمعليه‌السلام لبنيه بقوله:( وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ ) أمر الله بها فسارت بترابها إلى مكّة فطافت على البيت سبعة أشواط ثمّ استقرّت حيث الطائف الآن.

و هذا و إن كان ممكن الوقوع في نفسه من طريق الإعجاز لكن لا يكفي لثبوته

٨٠