الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 81155
تحميل: 8987


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81155 / تحميل: 8987
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة النساء الآيات ١٢٧ - ١٣٤)

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَى‏ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى‏ النّسَاءِ اللّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى‏ بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً( ١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشّحّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً( ١٢٨) وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً( ١٢٩) وَإِن يَتَفَرّقا يُغْنِ اللّهُ كُلّاً مِن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعَاً حَكِيماً( ١٣٠) وَللّهِ‏ِ مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُوا اللّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنّ للّهِ‏ِ مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً( ١٣١) وَللّهِ‏ِ مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَكِيلاً( ١٣٢) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيّهَا النّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى‏ ذلِكَ قَدِيراً( ١٣٣) مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً( ١٣٤)

( بيان)

الكلام معطوف إلى ما في أوّل السورة من الآيات النازلة في أمر النساء من آيات الازدواج و التحريم و الإرث و غير ذلك، الّذي يفيده السياق أنّ هذه الآيات إنّما نزلت بعد تلك الآيات، و أنّ الناس كلّموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر النساء حيثما

١٠١

نزلت آيات أوّل السورة فأحيت ما أماته الناس من حقوق النساء في الأموال و المعاشرات و غير ذلك.

فأمره الله سبحانه أن يجيبهم أنّ الّذي قرّره لهنّ على الرجال من الأحكام إنّما هو فتيا إلهيّة ليس له في ذلك من الأمر شي‏ء، و لا ذاك وحده بل ما يتلى عليهم في الكتاب في يتامى النساء أيضاً حكم إلهيّ ليس لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه شي‏ء من الأمر، و لا ذاك وحده بل الله يأمرهم أن يقوموا في اليتامى بالقسط.

ثمّ ذكر شيئاً من أحكام الاختلاف بين المرأة و بعلها يعمّ به البلوى.

قوله تعالى: ( وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ) قال الراغب: الفتيا و الفتوى الجواب عمّا يشكل من الأحكام، و يقال: استفتيته فأفتاني بكذا (انتهى).

و المحصّل من موارد استعماله أنّه جواب الإنسان عن الاُمور المشكلة بما يراه باجتهاد من نظره أو هو نفس ما يراه فيما يشكل بحسب النظر البدائيّ الساذج كما يفيده نسبة الفتوى إليه تعالى.

و الآية و إن احتملت معاني شتّى مختلفة بالنظر إلى ما ذكروه من مختلف الوجوه في تركيب ما يتلوها من قوله:( وَ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ ) إلخ إلّا أنّ ضمّ الآية إلى الآيات الناظرة في أمر النساء في أوّل السورة يشهد بأنّ هذه الآية إنّما نزلت بعد تلك.

و لازم ذلك أن يكون استفتاؤهم في النساء في عامّة ما أحدثه الإسلام و أبدعه من أحكامهنّ ممّا لم يكن معهوداً معروفاً عندهم في الجاهليّة و ليس إلّا ما يتعلّق بحقوق النساء في الإرث و الازدواج دون أحكام يتاماهنّ و غير ذلك ممّا يختصّ بطائفة منهنّ دون جميعهنّ فإنّ هذا المعنى إنّما يتكفّله قوله:( وَ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ ) إلخ فالاستفتاء إنّما كان في ما يعمّ النساء بما هنّ نساء من أحكام الإرث.

و على هذا فالمراد بما أفتاه الله فيهنّ في قوله:( قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ) ما بيّنه تعالى في آيات أوّل السورة، و يفيد الكلام حينئذ إرجاع أمر الفتوى إلى الله سبحانه و صرفه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعنى: يسألونك أن تفتيهم في أمرهنّ قل: الفتوى إلى الله و قد أفتاكم

١٠٢

فيهنّ بما أفتى فيما أنزل من آيات أوّل السورة.

قوله تعالى: ( وَ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ - إلى قوله -وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ ) تقدّم أن ظاهر السياق أنّ حكم يتامى النساء و المستضعفين من الولدان إنّما تعرّض له لاتّصاله بحكم النساء كما وقع في آيات صدر السورة لا لكونه داخلاً فيما استفتوا عنه و أنّهم إنّما استفتوا في النساء فحسب.

و لازمه أن يكون قوله:( وَ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) ، معطوفاً على الضمير المجرور في قوله:( فِيهِنَّ ) على ما جوّزه الفرّاء و إن منع عنه جمهور النحاة، و على هذا يكون المراد من قوله:( ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ ) إلخ الأحكام و المعاني الّتي تتضمّنها الآيات النازلة في يتامى النساء و الولدان، المودعة في أوّل السورة. و التلاوة كما يطلق على اللّفظ يطلق على المعنى إذا كان تحت اللّفظ، و المعنى: قل الله يفتيكم في الأحكام الّتي تتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء.

و ربّما يظهر من بعضهم أنّه يعطف قوله:( وَ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) ، على موضع قوله:( فِيهِنَّ ) بعناية أن المراد بالإفتاء هو التبيين، و المعنى: قل الله يبيّن لكم ما يتلى عليكم في الكتاب.

و ربّما ذكروا للكلام تراكيب اُخر لا تخلو عن تعسّف لا يرتكب في كلامه تعالى مثله كقول بعضهم: إنّ قوله:( وَ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) معطوف على موضع اسم الجلالة في قوله:( قُلِ الله ) ، أو على ضمير المستكنّ في قوله:( يُفْتِيكُمْ ) ، و قول بعضهم: إنّه معطوف على( النِّساءِ ) في قوله:( فِي النِّساءِ ) ، و قول بعضهم: إنّ الواو في قوله:( وَ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ ) للاستيناف، و الجملة مستأنفة،( و ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) مبتدأ خبره قوله:( فِي الْكِتابِ ) و الكلام مسوق للتعظيم، و قول بعضهم إنّ الواو في قوله:( وَ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) للقسم و يكون قوله:( فِي يَتامَى النِّساءِ ) بدلاً من قوله:( فِيهِنَّ ) و المعنى: قل الله يفتيكم - اُقسم بما يتلى عليكم في الكتاب - في يتامى النساء إلخ و لا يخفى ما في جميع هذه الوجوه من التعسّف الظاهر.

و أمّا قوله:( اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) فوصف

١٠٣

ليتامى النساء، و فيه إشارة إلى نوع حرمانهنّ، الّذي هو السبب لتشريع ما شرّع الله تعالى لهنّ من الأحكام فألغى السنّة الجائرة الجارية عليهنّ، و رفع الحرج بذلك عنهنّ، و ذلك أنّهم كانوا يأخذون إليهم يتامى النساء و أموالهنّ فإن كانت ذات جمال و حسن تزوّجوا بها فاستمتعوا من جمالها و مالها، و إن كانت شوهاء دميمة لم يتزوّجوا بها و عضلوها عن التزوّج بالغير طمعاً في مالها.

و من هنا يظهر (أوّلاً): أنّ المراد بقوله:( ما كُتِبَ لَهُنَّ ) هو الكتابة التكوينيّة و هو التقدير الإلهيّ فإنّ الصنع و الإيجاد هو الّذي يخدّ للإنسان سبيل الحياة فيعيّن له أن يتزوّج إذا بلغ مبلغه، و أن يتصرّف حرّاً في ماله من المال و القنية، فمنعه من الازدواج و التصرّف في مال نفسه منع له ممّا كتب الله له في خلقه هذه الخلقة.

و (ثانياً): أنّ الجار المحذوف في قوله:( أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) هو لفظة( عن ) و المراد الراغبة عن نكاحهنّ، و الإعراض عنهنّ لا الرغبة في نكاحهنّ فإنّ التعرّض لذكر الرغبة عنهنّ هو الأنسب للإشارة إلى حرمانهنّ على ما يدلّ عليه قوله قبله:( لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ ) ، و قوله بعده:( وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ ) .

و أمّا قوله:( وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ ) فمعطوف على قوله:( يَتامَى النِّساءِ ) و قد كانوا يستضعفون الولدان من اليتامى، و يحرمونهم من الإرث معتذرين بأنّهم لا يركبون الخيل، و لا يدفعون عن الحريم.

قوله تعالى: ( وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى‏ بِالْقِسْطِ ) معطوف على محلّ قوله:( فِيهِنَّ ) و المعنى: قل الله يفتيكم أن تقوموا لليتامى بالقسط، و هذا بمنزلة الإضراب عن الحكم الخاصّ إلى ما هو أعمّ منه أعني الانتقال من حكم بعض يتامى النساء و الولدان إلى حكم مطلق اليتيم في ماله و غير ماله.

قوله تعالى: ( وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كانَ بِهِ عَلِيماً ) تذكرة لهم بأنّ ما عزم الله عليهم في النساء و في اليتامى من الأحكام فيه خيرهم، و أنّ الله عليم به لتكون ترغيباً لهم في العمل به لأنّ خيرهم فيه، و تحذيراً عن مخالفته لأنّ الله عليم بما يعملون.

قوله تعالى: ( وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ) ، حكم خارج

١٠٤

عمّا استفتوا فيه لكنّه متّصل به بالمناسبة نظير الحكم المذكور في الآية التالية( وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا ) .

و إنّما اعتبر خوف النشوز و الإعراض دون نفس تحقّقهما لأنّ الصلح يتحقّق موضوعه من حين تحقّق العلائم و الآثار المعقّبة للخوف، و السياق يدلّ على أنّ المراد بالصلح هو الصلح بغضّ المرأة عن بعض حقوقها في الزوجيّة أو جميعها لجلب الاُنس و الاُلفة و الموافقة، و التحفّظ عن وقوع المفارقة، و الصلح خير.

و قوله:( وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ) الشحّ هو البخل، معناه: أنّ الشحّ من الغرائز النفسانيّة الّتي جبلها الله عليها لتحفظ به منافعها، و تصونها عن الضيعة، فما لكلّ نفس من الشحّ هو حاضر عندها، فالمرأة تبخل بما لها من الحقوق في الزوجيّة كالكسوة و النفقة و الفراش و الوقاع، و الرجل يبخل بالموافقة و الميل إذا أحبّ المفارقة، و كره المعاشرة، و لا جناح عليهما حينئذ أن يصلحا ما بينهما بإغماض أحدهما أو كليهما عن بعض حقوقه.

ثمّ قال تعالى:( وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ الله كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) و هو موعظة للرجال أن لا يتعدّوا طريق الإحسان و التقوى و ليتذكّروا أنّ الله خبير بما يعملونه، و لا يحيفوا في المعاشرة، و لا يكرهوهنّ على إلغاء حقوقهنّ الحقّة و إن كان لهنّ ذلك.

قوله تعالى: ( وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ ) بيان الحكم العدل بين النساء الّذي شرّع لهنّ على الرجال في قوله تعالى في أوّل السورة:( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) (النساء: ٣) و كذا يومئ إليه قوله في الآية السابقة:( وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا ) إلخ فإنّه لا يخلو من شوب تهديد، و هو يوجب الحيرة في تشخيص حقيقة العدل بينهنّ، و العدل هو الوسط بين الإفراط و التفريط، و من الصعب المستصعب تشخيصه، و خاصّة من حيث تعلّق القلوب تعلّق الحبّ بهنّ فإنّ الحبّ القلبيّ ممّا لا يتطرّق إليه الاختيار دائماً.

فبيّن تعالى أنّ العدل بين النساء بحقيقة معناه، و هو اتّخاذ حاقّ الوسط حقيقة

١٠٥

ممّا لا يستطاع للإنسان و لو حرص عليه، و إنّما الّذي يجب على الرجل أن لا يميل كلّ الميل إلى أحد الطرفين و خاصّة طرف التفريط فيذر المرأة كالمعلّقة لا هي ذات زوج فتستفيد من زوجها، و لا هي أرملة فتتزوّج أو تذهب لشأنها.

فالواجب على الرجل من العدل بين النساء أن يسوّي بينهنّ عملاً بإيتائهنّ حقوقهنّ من غير تطرّف، و المندوب عليه أن يحسن إليهنّ و لا يظهر الكراهة لمعاشرتهنّ و لا يسي‏ء إليهنّ خلقاً، و كذا كانت سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و هذا الّذيل أعني قوله:( فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ) هو الدليل على أن ليس المراد بقوله:( وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ ) نفى مطلق العدل حتّى ينتج بانضمامه إلى قوله تعالى:( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) (الآية) إلغاء تعدّد الأزواج في الإسلام كما قيل.

و ذلك أنّ الذيل يدلّ على أنّ المنفيّ هو العدل الحقيقيّ الواقعيّ من غير تطرّف أصلاً بلزوم حاقّ الوسط حقيقة، و أنّ المشرّع هو العدل التقريبيّ عملاً من غير تحرّج.

على أنّ السنّة النبويّة و رواج الأمر بمرأى و مسمع من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و السيرة المتّصلة بين المسلمين يدفع هذا التوهّم.

على أنّ صرف قوله تعالى في أوّل آية تعدّد الأزواج:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) (النساء: ٣) إلى مجرّد الفرض العقليّ الخالي عن المصداق ليس إلّا تعمية يجلّ عنها كلامه سبحانه.

ثمّ قوله:( وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ الله كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) تأكيد و ترغيب للرجال في الإصلاح عند بروز أمارات الكراهة و الخلاف ببيان أنّه من التقوى، و التقوى يستتبع المغفرة و الرحمة، و هذا بعد قوله:( وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ ) ، و قوله:( وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا ) ، تأكيد على تأكيد.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ) ، أي و إن تفرّق الرجل و المرأة بطلاق يغن الله كلّاً منهما بسعته، و الإغناء بقرينة المقام إغناء في جميع ما يتعلّق بالازدواج من الايتلاف و الاستيناس و المسّ و كسوة الزوجة و نفقتها فإنّ الله لم يخلق

١٠٦

أحد هذين الزوجين للآخر حتّى لو تفرّقا لم يوجد للواحد منهما زوج مدى حياته بل هذه السنّة سنّة فطريّة فاشية بين أفراد هذا النوع يميل إليها كلّ فرد بحسب فطرته.

و قوله( وَ كانَ الله واسِعاً حَكِيماً وَ لله ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) تعليل للحكم المذكور في قوله:( يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله ) ، تأكيد في دعوتهم إلى مراعاة صفة التقوى في جميع مراحل المعاشرة الزوجيّة، و في كلّ حال، و أنّ في تركه كفراً بنعمة الله بناء على أنّ التقوى الّذي يحصل بطاعة الله ليس إلّا شكراً لأنعمه، أو أنّ ترك تقوى الله تعالى لا منشأ له إلّا الكفر إمّا كفر ظاهر كما في الكفّار و المشركين، أو كفر مستكنّ مستبطن كما في الفسّاق من المؤمنين.

و بهذا الّذي بيناه يظهر معنى قوله:( وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) ، أي إن لم تحفظوا ما وصّينا به إيّاكم و الّذين من قبلكم و أضعتم هذه الوصيّة و لم تتّقوا و هو كفر بالله، أو عن كفر بالله فإنّ ذلك لا يضرّ الله سبحانه إذ لا حاجة له إليكم و إلى تقواكم، و له ما في السماوات و الأرض، و كان الله غنيّاً حميداً.

فإن قلت: ما وجه تكرار قوله:( لله ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) ؟ فقد اُورد ثلاث مرّات.

قلت: أمّا الأوّل فإنّه تعليل لقوله:( وَ كانَ الله واسِعاً حَكِيماً ) ، و أمّا الثاني فإنّه واقع موقع جواب الشرط في قوله:( وَ إِنْ تَكْفُرُوا ) ، و التقدير: و إن تكفروا فإنّه غنيّ عنكم، و تعليل للجواب و قد ظهر في قوله:( وَ كانَ الله غَنِيًّا حَمِيداً ) .

و أمّا الثالث فإنّه استيناف و تعليل بوجه لقوله:( إِنْ يَشَأْ ) .

قوله تعالى: ( وَ لله ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى‏ بِالله وَكِيلًا ) قد مرّ بيان معنى ملكه تعالى مكرّراً، و هو تعالى وكيل يقوم باُمور عباده و شؤونهم و كفى به

١٠٧

وكيلاً لا يحتاج فيه إلى اعتضاد و إسعاد، فلو لم يرتض أعمال قوم و أسخطه جريان الأمر بأيديهم أمكنه أن يذهب بهم و يأتي بآخرين، أو يؤخّرهم و يقدّم آخرين، و بهذا المعنى الّذي يؤيّده بل يدلّ عليه السياق يرتبط بما في هذه الآية قوله في الآية التالية:( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ) .

قوله تعالى: ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ ) ، السياق و هو الدعوة إلى ملازمة التقوى الّذي أوصى الله به هذه الاُمّة و من قبلهم من أهل الكتاب يدلّ على أنّ إظهار الاستغناء و عدم الحاجة المدلول عليه بقوله:( إِنْ يَشَأْ ) ، إنّما هو في أمر التقوى.

و المعنى أنّ الله وصّاكم جميعاً بملازمة التقوى فاتّقوه، و إن كفرتم فإنّه غنيّ عنكم و هو المالك لكلّ شي‏ء المتصرّف فيه كيفما شاء و لما شاء إن يشأ أن يعبد و يتّقى و لم تقوموا بذلك حقّ القيام فهو قادر أن يؤخّركم و يقدّم آخرين يقومون لما يحبّه و يرتضيه، و كان الله على ذلك قديراً.

و على هذا فالآية ناظرة إلى تبديل الناس إن كانوا غير متّقين بآخرين من الناس يتّقون الله، و قد روي(١) أن الآية لمّا نزلت ضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده على ظهر سلمان و قال: إنّهم قوم هذا. و هو يؤيّد هذا المعنى، و عليك بالتدبّر فيه.

و أمّا ما احتمله بعض المفسّرين. أنّ المعنى: إن يشأ يفنكم و يوجد قوماً آخرين مكانكم أو خلقاً آخرين مكان الإنس، فمعنى بعيد عن السياق. نعم، لا بأس به في مثل قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ ما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ ) (إبراهيم: ٢٠).

قوله تعالى: ( مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ الله ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ كانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً ) بيان آخر يوضح خطأ من يترك تقوى الله و يضيع وصيّته بأنّه إن فعل ذلك ابتغاء ثواب الدنيا و مغنمها فقد اشتبه عليه الأمر فإنّ ثواب الدنيا و الآخرة معاً عندالله و بيده، فما له يقصر نظره بأخسّ الأمرين و لا يطلب أشرفهما أو إيّاهما جميعاً؟ كذا قيل.

____________________

(١) أوردها البيضاويّ في تفسيره.

١٠٨

و الأظهر أن يكون المراد - و الله أعلم - أنّ ثواب الدنيا و الآخرة و سعادتهما معاً إنّما هو عندالله سبحانه فليتقرّب إليه حتّى من أراد ثواب الدنيا و سعادتها فإنّ السعادة لا توجد للإنسان في غير تقوى الله الحاصل بدينه الّذي شرّعه له فليس الدين إلّا طريق السعادة الحقيقيّة، فكيف ينال نائل ثواباً من غير إيتائه تعالى و إفاضته من عنده و كان الله سميعاً بصيراً.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث إلّا الرجل الّذي قد بلغ أن يقوم في المال و يعمل فيه، لا يرث الصغير و لا المرأة شيئاً فلمّا نزلت المواريث في سورة النساء شقّ ذلك على الناس و قالوا: أ يرث الصغير الّذي لا يقوم في المال، و المرأة الّتي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلمّا رأوا أنّه لا يأتي حدث قالوا: لئن تمّ هذا إنّه لواجب ما عنه بدّ، ثمّ قالوا: سلوا فسألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنّزل الله( وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ - في أوّل السورة -فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) (الحديث).

و فيه: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن إبراهيم في الآية قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها، و حبسوها من التزويج حتّى تموت فيرثوها فأنزل الله هذا.

أقول: و هذه المعاني مرويّة بطرق كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنّة، و قد مرّ بعضها في أوائل السورة.

و في المجمع، في قوله تعالى:( لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ ) (الآية). ما كتب لهنّ من الميراث: قال: و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ) الآية:

١٠٩

نزلت في بنت محمّد بن مسلمة كانت امرأة رافع بن خديج، و كانت امرأة قد دخلت في السنّ، و تزوّج عليها امرأة شابّة و كانت أعجب إليه من بنت محمّد بن مسلمة فقالت له بنت محمّد بن مسلمة: أ لا أراك معرضاً عني مؤثّراً عليّ؟ فقال رافع: هي امرأة شابّة، و هي أعجب إليّ فإن شئت أقررت على أنّ لها يومين أو ثلاثاً منّي و لك يوم واحد فأبت بنت محمّد بن مسلمة أن ترضى فطلّقها تطليقة ثمّ طلّقها اُخرى فقالت: لا و الله لا أرضى أو تسوّي بيني و بينها يقول الله:( وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ) و ابنة محمّد لم تطلب نفسها بنصيبها، و شحّت عليه، فأعرض عليها رافع إمّا أن ترضى، و إمّا أن يطلّقها الثالثة فشحّت على زوجها و رضيت فصالحته على ما ذكرت فقال الله:( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ ) فلمّا رضيت و استقرّت لم يستطع أن يعدل بينهما فنزلت:( وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ) أن يأتي واحدة، و يذر الاُخرى لا أيّم و لا ذات بعل و هذه السنّة فيما كان كذلك إذا أقرّت المرأة و رضيت على ما صالحها عليه زوجها، فلا جناح على الزوج و لا على المرأة، و إن أبت هي طلّقها أو تساوى بينهما لا يسعه إلّا ذلك.

أقول: و رواها في الدرّ المنثور، عن مالك و عبدالرزّاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم - و صحّحه - باختصار.

و في الدرّ المنثور: أخرج الطيالسيّ و ابن أبي شيبة و ابن راهويه و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و البيهقيّ عن عليّ بن أبي طالب أنّه سئل عن هذه الآية فقال: هو الرجل عنده امرأتان فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها فتصالحه على أن يكون عندها ليلة و عند الاُخرى ليالي و لا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به فإن رجعت سوّى بينهما.

و في الكافي، بإسناده عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ) فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها: إنّي اُريد أن أطلّقك. فتقول له: لا تفعل إنّي أكره أن تشمت بي و لكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت، و ما كان سوى ذلك من شي‏ء فهو

١١٠

لك، و دعني على حالتي فهو قوله تبارك و تعالى:( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً ) و هذا هو الصلح.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر رواها في الكافي، و في تفسير العيّاشيّ.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ) قال: قال: اُحضرت الشحّ فمنها ما اختارته، و منها ما لم تختره.

و في تفسير العيّاشيّ، عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ ) قال: في المودّة.

و في الكافي، بإسناده عن نوح بن شعيب و محمّد بن الحسن قال: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم، قال له. أ ليس الله حكيماً؟ قال: بلى هو أحكم الحاكمين. قال: فأخبرني عن قوله:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) أ ليس هذا فرض؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله:( وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ) أيّ حكيم يتكلّم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب.

فرحل إلى المدينة إلى أبي عبداللهعليه‌السلام ، فقال: في غير وقت حجّ و لا عمرة، قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمّني إنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شي‏ء، قال: و ما هي؟ قال: فأخبره بالقصّة.

فقال له أبوعبداللهعليه‌السلام أمّا قوله عزّوجلّ:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) يعني في النفقة، و أمّا قوله:( وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ) يعني في المودّة.

قال. فلمّا قدم عليه هشام بهذا الجواب و أخبره قال: و الله ما هذا من عندك‏.

أقول: و روي أيضاً نظير الحديث عن القمّيّ، أنّه سأل بعض الزنادقة أبا جعفر الأحول عن المسألة بعينها فسافر إلى المدينة فسأل أباعبداللهعليه‌السلام عنها، فأجابه بمثل الجواب فرجع أبو جعفر إلى الرجل فأخبره فقال: هذا حملته من الحجاز.

١١١

و في المجمع، في قوله تعالى:( فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ) أي تذرون الّتي لا تميلون إليها كالتي هي لا ذات زوج و لا أيّم: قال: و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

و فيه، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه كان يقسم بين نسائه و يقول: اللّهمّ هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك و لا أملك.

أقول: و رواه الجمهور بعدّة طرق و المراد بقوله:( ما تملك و لا أملك) المحبّة القلبيّة لكن الرواية لا تخلو عن شي‏ء فإنّ الله أجلّ من أن يلوم أحداً في ما لا يملكه أصلاً و قد قال تعالى:( لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا ما آتاها ) (الطلاق: ٧) و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرف بمقام ربّه من أن يسأله أن يوجد ما هو موجود.

و في الكافي، مسنداً عن ابن أبي ليلى قال: حدّثني عاصم بن حميد قال: كنت عند أبي عبداللهعليه‌السلام فأتاه رجل فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج قال: فاشتدّت به الحاجة فأتى أباعبداللهعليه‌السلام فسأله عن حاله فقال: اشتدّت بي الحاجة قال: فارق. ففارق قال: ثمّ أتاه فسأله عن حاله فقال: أثريت و حسن حالي فقال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّي أمرتك بأمرين أمر الله بهما قال الله عزّوجلّ:( وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى‏ مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ‏ - إلى قوله -وَ الله واسِعٌ عَلِيمٌ ) و قال:( وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ) .

١١٢

( سورة النساء آية ١٣٥)

يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّهِ‏ِ وَلَوْ عَلَى‏ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيرَاً فَاللّهُ أَوْلَى‏ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُوا الْهَوَى‏ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُو أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً( ١٣٥)

( بيان)

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لله ) القسط هو العدل، و القيام بالقسط العمل به و التحفّظ له، فالمراد بالقوّامين بالقسط القائمون به أتمّ قيام و أكمله، من غير انعطاف و عدول عنه إلى خلافه لعامل من هوى و عاطفة أو خوف أو طمع أو غير ذلك.

و هذه الصفة أقرب العوامل و أتمّ الأسباب لاتّباع الحقّ و حفظه عن الضيعة، و من فروعها ملازمة الصدق في أداء الشهادة و القيام بها.

و من هنا يظهر أنّ الابتداء بهذه الصفة في هذه الآية المسوقة لبيان حكم الشهادة ثمّ ذكر صفة الشهادة من قبيل التدرّج من الوصف العامّ إلى بعض ما هو متفرّع عليه كأنّه قيل: كونوا شهداء لله، و لا يتيسّر لكم ذلك إلّا بعد أن تكونوا قوّامين بالقسط فكونوا قوّامين بالقسط حتّى تكونوا شهداء لله.

و قوله:( شُهَداءَ لله ) اللّام فيه للغاية أي كونوا شهداء تكون شهادتكم لله كما قال تعالى:( وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لله ) (الطلاق: ٢) و معنى كون الشهادة لله كونها اتّباعاً للحقّ و لأجل إظهاره و إحيائه كما يوضحه قوله:( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‏ أَنْ تَعْدِلُوا ) .

قوله تعالى: ( وَ لَوْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ ) أي و لو كانت على خلاف نفع أنفسكم أو والديكم أو أقربائكم فلا يحملنّكم حبّ منافع أنفسكم أو حبّ الوالدين و الأقربين أن تحرّفوها أو تتركوها، فالمراد بكون الشهادة على النفس أو على

١١٣

الوالدين و الأقربين أن يكون ما تحمّله من الشهادة لو أدّى مضرّاً بحاله أو بحال والديه و أقربيه سواءً كان المتضرّر هو المشهود عليه بلا واسطة كما إذا تخاصم أبوه و إنسان آخر فشهد له على أبيه، أو يكون التضرّر مع الواسطة كما إذا تخاصم اثنان و كان الشاهد متحمّلاً لأحدهما ما لو أدّاه لتضرّر به نفس الشاهد أيضاً - كالمتخاصم الآخر -.

قوله تعالى: ( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَالله أَوْلى‏ بِهِما ) إرجاع ضمير التثنية إلى الغنيّ و الفقير مع وجود( أو ) الترديديّة لكون المراد بالغنيّ و الفقير هو المفروض المجهول الّذي يتكرّر بحسب وقوع الوقائع و تكرّرها فيكون غنيّاً في واقعة، و فقيراً في اُخرى، فالترديد بحسب فرض البيان و ما في الخارج تعدّد، كذا ذكره بعضهم، فالمعنى أنّ الله اُولى بالغنيّ في غناه، و بالفقير في فقره: و المراد - و الله أعلم -: لا يحملنّكم غنى الغنيّ أن تميلوا عن الحقّ إليه، و لا فقر الفقير أن تراعوا حاله بالعدول عن الحقّ بل أقيموا الشهادة لله سبحانه ثمّ خلّوا بينه و بين الغنيّ و الفقير فهو اُولى بهما و أرحم بحالهما، و من رحمته أن جعل الحقّ هو المتّبع واجب الاتّباع، و القسط هو المندوب إلى إقامته، و في قيام القسط و ظهور الحقّ سعادة النوع الّتي يقوم بها صلب الغنيّ، و يصلح بها حال الفقير.

و الواحد منهما و إن انتفع بشهادة محرّفة أو متروكة في شخص واقعة أو وقائع لكنّ ذلك لا يلبث دون أن يضعّف الحقّ و يميت العدل، و في ذلك قوّة الباطل و حياة الجور و الظلم، و في ذلك الداء العضال و هلاك الإنسانيّة.

قوله تعالى: ( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‏ أَنْ تَعْدِلُوا ) ، أي مخافة أن تعدلوا عن الحقّ و القسط باتّباع الهوى و ترك الشهادة لله فقوله:( أَنْ تَعْدِلُوا ) مفعول لأجله و يمكن أن يكون مجروراً بتقدير اللّام متعلّقاً بالاتّباع أي لأن تعدلوا.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) اللّيّ بالشهادة كناية عن تحريفها من ليّ اللسان. و الإعراض ترك الشهادة من رأس.

و قرئ( وَ إِنْ تَلْوُوا ) بضمّ اللّام و إسكان الواو من ولي يلي ولاية، و المعنى:

١١٤

و إن وليتم أمر الشهادة و أتيتم بها أو أعرضتم فإنّ الله خبير بأعمالكم يجازيكم بها.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ للمؤمن على المؤمن سبع حقوق، فأوجبها أن يقول الرجل حقّاً و لو كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحقّ، ثمّ قال:( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‏ أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) يعني عن الحقّ.

أقول: و فيه تعميم معنى الشهادة لقول الحقّ مطلقاً بمعرفة عموم قوله:( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ) .

و في المجمع: قيل: معناه إن تلووا أي تبدّلوا الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها. قال: و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .‏

١١٥

( سورة النساء الآيات ١٣٦ - ١٤٧)

يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَى‏ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي أَنْزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً( ١٣٦) إِنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً( ١٣٧) بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً( ١٣٨) الّذِينَ يَتّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزّةَ فَإِنّ الْعِزّةَ للّهِ‏ِ جَمِيعاً( ١٣٩) وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى‏ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنّمَ جَمِيعاً( ١٤٠) الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً( ١٤١) إِنّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصّلاَةِ قَامُوا كُسَالى‏ يُرَاءُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلّا قَلِيلاً( ١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلَى‏ هؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى‏ هؤُلاَءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً( ١٤٣) يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للّهِ‏ِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً( ١٤٤) إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً( ١٤٥) إِلّا الّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للّهِ‏ِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً( ١٤٦) مَا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً( ١٤٧)

١١٦

( بيان)

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى‏ رَسُولِهِ ) ، أمر المؤمنين بالإيمان ثانياً بقرينة التفصيل في متعلّق الإيمان الثاني أعني قوله:( بِالله وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ ) إلخ و أيضاً بقرينة الإيعاد و التهديد على ترك الإيمان بكلّ واحد من هذا التفاصيل إنّما هو أمر ببسط المؤمنين إجمال إيمانهم على تفاصيل هذه الحقائق فإنّها معارف مرتبطة بعضها ببعض، مستلزمة بعضها ببعض، فالله سبحانه لا إله إلّا هو له الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و هي الموجبة لأن يخلق خلقاً و يهديهم إلى ما يرشدهم و يسعدهم ثمّ يبعثهم ليوم الجزاء، و لا يتمّ ذلك إلّا بإرسال رسل مبشّرين و منذرين، و إنزال كتب تحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، و تبيّن لهم معارف المبدأ و المعاد، و اُصول الشرائع و الأحكام.

فالإيمان بواحد من حقائق هذه المعارف لا يتمّ إلّا مع الإيمان بجميعها من غير استثناء، و الردّ لبعضها مع الأخذ ببعض آخر كفر لو اُظهر، و نفاق لو كتم و اُخفى، و من النفاق أن يتّخذ المؤمن مسيراً ينتهي به إلى ردّ بعض ذلك، كأن يفارق مجتمع المؤمنين و يتقرّب إلى مجتمع الكفّار و يواليهم، و يصدّقهم في بعض ما يرمون به الإيمان و أهله، أو يعترضوا أو يستهزؤن به الحقّ و خاصّته، و لذلك عقّب تعالى هذه الآية بالتعرّض لحال المنافقين و وعيدهم بالعذاب الأليم.

و ما ذكرناه من المعنى هو الّذي يقضي به ظاهر الآية و هو أوجه ممّا ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ) ، يا أيّها الّذين آمنوا في الظاهر بالإقرار بالله و رسوله آمنوا في الباطن ليوافق ظاهركم باطنكم. و كذا ما ذكره بعضهم أنّ معنى( آمَنُوا ) اثبتوا على إيمانكم، و كذا ما ذكره آخرون أنّ الخطاب لمؤمني أهل الكتاب أي يا أيّها الّذين آمنوا من أهل الكتاب آمنوا بالله و رسوله و الكتاب الّذي نزّل على رسوله و هو القرآن.

١١٧

و هذه المعاني و إن كانت في نفسها صحيحة لكنّ القرائن الكلاميّة ناهضة على خلافها، و أردأ الوجوه آخرها.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالله وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً ) لمّا كان الشطر الأوّل من الآية أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا - إلى قوله -مِنْ قَبْلُ ) دعوة إلى الجمع بين جميع ما ذكر فيه بدعوى أنّ أجزاء هذا المجموع مرتبطة غير مفارق بعضها بعضاً كان هذا التفصيل ثانياً في معنى الترديد و المعنى: و من يكفر بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أي من يكفر بشي‏ء من أجزاء الإيمان فقد ضلّ ضلالاً بعيداً.

و ليس المراد بالعطف بالواو الجمع في الحكم ليتمّ الجميع موضوعاً واحداً له حكم واحد بمعنى أنّ الكفر بالمجموع من حيث إنّه مجموع ضلال بعيد دون الكفر بالبعض دون البعض. على أنّ الآيات القرآنيّة ناطقة بكفر من كفر بكلّ واحد ممّا ذكر في الآية على وجه التفصيل.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ) الآية لو اُخذت وحدها منقطعة عمّا قبلها و ما بعدها كانت دالّة على ما يجازي به الله تعالى أهل الردّة إذا تكرّرت منهم الردّة بأن آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا ثمّ كفروا ثمّ ازدادوا كفراً فالله سبحانه يوعّدهم - و حالهم هذا الحال - بأنّه لا يغفر لهم، و لا يهديهم سبيلاً، و ليس من المرجوّ منه المتوقّع من رحمته ذلك لعدم استقرارهم على إيمان، و جعلهم أمر الله ملعبة يلعبون بها، و من كان هذا حاله لم يثبت بالطبع على إيمان جدّيّ يقبل منه، و إن كانوا لو آمنوا إيماناً جدّيّاً شملتهم المغفرة و الهداية فإنّ التوبة بالإيمان بالله حقيقة ممّا لا يردّه الله في حال على ما وعد الله تعالى عباده، و قد تقدّم الكلام فيه في قوله تعالى:( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله ) الآية (النساء: ١٧) في الجزء الرابع من هذا الكتاب.

فالآية تحكم بحرمانهم على ما يجري عليه الطبع و العادة، و لا تأبى الاستثناء لو اتّفق إيمان و استقامة عليه من هذه الطائفة نادراً كما يستفاد من نظير الآية، قال تعالى:

١١٨

( كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - إلى أن قال -إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ) (آل عمران: ٩٠).

و الآيات - كما ترى - تستثني ممّن كفر بعد إيمانه، و قوبل بنفي المغفرة و الهداية، و هي مع ذلك تنفي قبول توبة من ازداد كفراً بعد الإيمان، صدر الآيات فيمن كفر بعد الإيمان و الشهادة بحقّيّة الرسول و ظهور الآيات البيّنات، فهو ردّة عناداً و لجاجاً، و الازدياد فيه لا يكون إلّا مع استقرار العناد و العتوّ في قلوبهم، و تمكّن الطغيان و الاستكبار في نفوسهم، و لا يتحقّق الرجوع و التوبة ممّن هذا حاله عادة.

هذا ما يقتضيه سياق الآية لو اُخذت وحدها كما تقدّم، لكنّ الآيات جميعاً لا تخلو عن ظهور مّا أو دلالة على كونها ذات سياق واحد متّصلاً بعضها ببعض، و على هذا التقدير يكون قوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) ، في مقام التعليل لقوله:( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالله - إلى قوله -فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً ) و يكون الآيتان ذواتي مصداق واحد أي إنّ من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر هو الّذي آمن ثمّ كفر ثمّ آمن ثمّ كفر ثمّ ازداد كفراً، و يكون أيضاً هو من المنافقين الّذين تعرّض تعالى لهم في قوله بعد:( بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) إلى آخر الآيات.

و على هذا يختلف المعنى المراد بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) (إلى آخر الآيات) بحسب ما فسّر به قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَ رَسُولِهِ ) على ما تقدّم من تفاسيره المختلفة:

فإن فسّر بأن آمنوا بالله و رسوله في الباطن كما آمنتم به في الظاهر كان معنى الإيمان ثمّ الكفر ثمّ الإيمان ثمّ الكفر ما يبتلى به المنافقون من اختلاف الحال دائماً إذا لقوا المؤمنين و إذا لقوا الكفّار.

و إن فسّر بأن اثبتوا على الإيمان الّذي تلبّستم به كان المراد من الإيمان ثمّ الكفر و هكذا هو الردّة بعد الردّة المعروفة.

١١٩

و إن فسّر بأنّ المراد دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالله و رسوله كان المراد بالإيمان ثمّ الكفر و هكذا الإيمان بموسى ثمّ الكفر به بعبادة العجل ثمّ الإيمان بعزير أو بعيسى ثمّ الكفر به ثمّ الازدياد فيه بالكفر بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما جاء به من عند ربّه، كما قيل.

و إن فسّر بأن ابسطوا إجمال إيمانكم على تفاصيل الحقائق كما استظهرناه كان قوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) ، تعليلاً منطبقاً على حال المنافقين المذكورين فيما بعد، المفسّرين بقوله:( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) فإنّ من اتّصل بالكفّار منفصلاً عن مجتمع المؤمنين لا يخلو عن الحضور في محاضرهم و الاستيناس بهم، و الشركة في محاوراتهم، و التصديق لبعض ما يتذاكرونه من الكلام الّذي لا يرتضيه الله سبحانه، و ينسبونه إلى الدين و أوليائه من المطاعن و المساوئ و يستهزؤن و يسخرون به.

فهو كلّما لقي المؤمنين و اشترك معهم في شي‏ء من شعائر الدين آمن به، و كلّما لقي الكفّار و أمضى بعض ما يتقوّلونه كفر، فلا يزال يؤمن زماناً و يكفر زماناً حتّى إذا استحكم فيه هذه السجيّة كان ذلك منه ازدياداً في الكفر و الله أعلم.

و إذ كان مبتلى باختلاف الحال و عدم استقراره فلا توبة له لأنّه غير ثابت على حال الندامة لو ندم على ما فعله، إلّا أن يتوب و يستقرّ على توبته استقراراً لا يزلزله اختلاف الأحوال، و لا تحرّكه عواصف الأهواء، و لذا قيّد الله سبحانه التوبة المقبولة من مثل هذا المنافق بقيود لا تبقي مجالاً للتغيّر و التحوّل فقال في الاستثناء الآتي:( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِالله وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله ) (الآية).

قوله تعالى: ( بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ) إلخ تهديد للمنافقين، و قد وصفهم بموالاة الكافرين دون المؤمنين، و هذا وصف أعمّ مصداقاً من المنافقين الّذين لم يؤمن قلوبهم، و إنّما يتظاهرون بالإيمان فإنّ طائفة من المؤمنين لا يزالون مبتلين بموالاة الكفّار، و الانقطاع عن جماعة المؤمنين، و الاتّصال بهم باطناً و اتّخاذ الوليجة منهم حتّى في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و هذا يؤيّد بعض التأييد أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين طائفة من المؤمنين

١٢٠