الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 81235
تحميل: 8988


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81235 / تحميل: 8988
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، و يؤيّده ظاهر قوله في الآية اللّاحقة:( وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ - إلى قوله -إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) فإنّ ذلك تقرير لتهديد المنافقين، و الخطاب فيه للمؤمنين، و يؤيّده أيضاً ما سيصف تعالى حالهم في نفاقهم بقوله:( وَ لا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا ) فأثبت لهم شيئاً من ذكر الله تعالى، و هو بعيد الانطباق على المنافقين الّذين لم يؤمنوا بقلوبهم قطّ.

قوله تعالى: ( أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعاً ) استفهام إنكاريّ ثمّ جواب بما يقرّر الإنكار فإنّ العزّة من فروع الملك، و الملك لله وحده، قال تعالى:( قُلِ اللهمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ) (آل عمران: ٢٦).

قوله تعالى: ( وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ - إلى قوله -مِثْلُهُمْ ) يريد ما نزله في سورة الأنعام:( وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (الأنعام:) ٦٨ فإنّ سورة الأنعامّ مكّيّة، و سورة النساء مدنيّة.

و يستفاد من إشارة الآية إلى آية الأنعام أن بعض الخطابات القرآنيّة وجّه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة، و المراد بها ما يعمّ الاُمّة.

و قوله:( إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) تعليل للنهي أي بما نهيناكم لأنّكم إذا قعدتم معهم - و الحال هذه - تكونون مثلهم، و قوله:( إِنَّ الله جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جميعاً ) بيان للتماثل و أنّ التماثل من حيث اختتام الأمر بالاجتماع في جهنّم.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله ) ، التربّص: الانتظار. و الاستحواذ: الغلبة و التسلّط، و هذا وصف آخر لهؤلاء المنافقين فإنّهم إنّما حفظوا رابطة الاتّصال بالفريقين جميعاً: المؤمنين و الكافرين، يستدرّون الطائفتين و يستفيدون ممّن حسن حاله منهما، فإن كان للمؤمنين فتح قالوا: إنّا كنّا معكم فليكن لنا سهم ممّا اُوتيتموه من غنيمة و نحوها، و إن كان للكافرين نصيب قالوا: أ لم نغلبكم و نمنعكم من المؤمنين؟ أي من الإيمان بما آمنوا به و الاتّصال بهم فلنا سهم ممّا

١٢١

اُوتيتموه من النصيب أو منّة عليكم حيث جررنا إليكم النصيب.

قيل: عبّر عمّا للمؤمنين بالفتح لأنّه هو الموعود لهم، و للكافرين بالنصيب تحقيراً له فإنّه لا يعبأ به بعد ما وعد الله المؤمنين أنّ لهم الفتح و أنّ الله وليّهم، و لعلّه لذلك نسب الفتح إلى الله دون النصيب.

قوله تعالى: ( فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) الخطاب للمؤمنين و إن كان سارياً إلى المنافقين و الكافرين جميعاً، و أمّا قوله:( وَ لَنْ يَجْعَلَ الله ) ، فمعناه أنّ الحكم يومئذ للمؤمنين على الكافرين، و لن ينعكس الأمر أبداً، و فيه إيئاس للمنافقين، أي لييئس هؤلاء المنافقون فالغلبة للمؤمنين على الكافرين بالآخرة.

و يمكن أن يكون نفي السبيل أعمّ من النشأتين: الدنيا و الآخرة، فإنّ المؤمنين غالبون بإذن الله دائماً ما داموا ملتزمين بلوازم إيمانهم، قال تعالى:( وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (آل عمران: ١٣٩).

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ الله وَ هُوَ خادِعُهُمْ ) المخادعة هي الإكثار أو التشديد في الخدعة بناء على أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني.

و قوله( وَ هُوَ خادِعُهُمْ ) في موضع الحال أي يخادعون الله في حال هو يخدعهم و يؤول المعنى إلى أنّ هؤلاء يريدون بأعمالهم الصادرة عن النفاق من إظهار الإيمان، و الاقتراب من المؤمنين، و الحضور في محاضرهم و مشاهدهم أن يخادعوا الله أي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين فيستدرّوا منهم بظاهر إيمانهم و أعمالهم من غير حقيقة، و لا يدرون أنّ هذا الّذي خلّى بينهم و بين هذه الأعمال و لم يمنعهم منها هو الله سبحانه، و هو خدعة منه لهم و مجازاة لهم بسوء نيّاتهم و خباثة أعمالهم فخدعتهم له بعينها خدعته لهم.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‏ يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا ) هذا وصف آخر من أوصافهم و هو القيام إلى الصلاة - إذا قاموا إليها - كسالى يراؤون الناس، و الصلاة أفضل عبادة يذكر فيها الله، و لو كانت قلوبهم متعلّقه بربّهم مؤمنة به لم يأخذهم الكسل و التواني في التوجّه إليه و ذكره، و لم يعملوا عملهم

١٢٢

لمراءاة الناس، و لذكروا الله تعالى كثيراً على ما هو شأن تعلّق القلب و اشتغال البال.

قوله تعالى: ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ ) ، قال في المجمع: يقال: ذبذبته فذبذب أي حرّكته فتحرّك فهو كتحريك شي‏ء معلّق (انتهى). فكون الشي‏ء مذبذباً أن يتردّد بين جانبين من غير تعلّق بشي‏ء منهما، و هذا نعت المنافقين، يتذبذبون بين ذلك - أي الّذي ذكر من الإيمان و الكفر - لا إلى هؤلاء أي لا إلى المؤمنين فقط كالمؤمنين بالحقيقة، و لا إلى الكفّار فقط كالكافرين محضاً.

و قوله:( وَ مَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ) في مقام التعليل لما سبقه من حديث الذبذبة، فسبب تردّدهم بين الجانبين من غير تعلّق بأحدهما أنّ الله أضلّهم عن السبيل فلا سبيل لهم يردونه.

و لهذه العلّة بعينها قيل:( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ ) و لم يقل: متذبذبين أي إنّ القهر الإلهيّ هو الّذي يجرّ لهم هذا النوع من التحريك الّذي لا ينتهي إلى غاية ثابتة مطمئنّة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ) (إلى آخر الآيتين) السلطان هو الحجّة. و الدرك بفتحتين - و قد يسكن الراء - قال الراغب: الدرك كالدرج لكنّ الدرج يقال اعتباراً بالصعود، و الدرك اعتباراً بالحدور، و لهذا قيل: درجات الجنّة و دركات النار، و لتصوّر الحدور في النار سمّيت هاوية (انتهى).

و الآية - كما ترى - تنهى المؤمنين عن الاتّصال بولاية الكفّار و ترك ولاية المؤمنين، ثمّ الآية الثانية تعلّل ذلك بالوعيد الشديد المتوجّه إلى المنافقين، و ليس إلّا أنّ الله سبحانه يعدّ هذا الصنيع نفاقاً يحذّر المؤمنين من الوقوع فيه.

و السياق يدلّ على أنّ قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا ) ، كالنتيجة المستنتجة ممّا تقدّم أو الفرع المتفرّع عليه، و هذا كالصريح في أنّ الآيات السابقة إنّما تتعرّض لحال مرضى القلوب و ضعفاء الإيمان من المؤمنين و يسمّيهم المنافقين، و لا أقلّ من شمولها لهم ثمّ يعظ المؤمنين أن لا يقربوا هذا الحمى و لا يتعرّضوا لسخط الله، و لا يجعلوا الله تعالى على أنفسهم حجّة واضحة فيضلّهم و يخدعهم و يذبذبهم في

١٢٣

الحياة الدنيا، ثمّ يجمع بينهم و بين الكافرين في جهنم جميعاً، ثمّ يسكنهم في أسفل درك من النار، و يقطع بينهم و بين كلّ نصير ينصرهم، و شفيع يشفع لهم.

و يظهر من الآيتين أوّلاً: أنّ الإضلال و الخدعة و كلّ سخط إلهيّ من هذا القبيل إنّما عن حجّة واضحة تعطيها أعمال العباد، فهي إخزاء على طريق المقابلة و المجازاة، و حاشا الجناب الإلهيّ أن يبدأهم بالشرّ و الشقوة من غير تقدّم ما يوجب ذلك من قبلهم، فقوله:( أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً ) ؟ يجري مجرى قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) (البقرة: ٢٦).

و ثانياً: أنّ في النار لأهلها مراتب تختلف في السفالة، و لا محالة يشتدّ بحسبها عذابهم يسمّيها الله تعالى بالدركات.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِالله وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله ) استثناء من الوعيد الّذي ذكر في المنافقين بقوله:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) (الآية) و لازم ذلك خروجهم من جماعة المنافقين، و لحوقهم بصفّ المؤمنين، و لذلك ذيّل الاستثناء بذكر كونهم مع المؤمنين، و ذكر ثواب المؤمنين جميعاً فقال تعالى:( فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ) .

و قد وصف الله هؤلاء الّذين استثناهم من المنافقين بأوصاف عديدة ثقيلة، و ليست تنبتّ اُصول النفاق و أعراقه إلّا بها، فذكر التوبة و هي الرجوع إلى الله تعالى، و لا ينفع الرجوع و التوب وحده حتّى يصلحوا كلّ ما فسد منهم من نفس و عمل، و لا ينفع الإصلاح إلّا أن يعتصموا بالله أيّ يتّبعوا كتابه و سنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لا سبيل إلى الله إلّا ما عيّنه و ما سوى ذلك فهو سبيل الشيطان.

و لا ينفع الاعتصام المذكور إلّا إذا أخلصوا دينهم - و هو الّذي فيه الاعتصام - لله، فإنّ الشرك ظلم لا يعفى عنه و لا يغفر، فإذا تابوا إلى الله و أصلحوا كلّ فاسد منهم و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله كانوا عند ذلك مؤمنين لا يشوب إيمانهم شرك، فآمنوا النفاق و اهتدوا قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) (الأنعام: ٨٢).

١٢٤

و يظهر من سياق الآية أنّ المراد بالمؤمنين هم المؤمنون محضاً المخلصون للإيمان، و قد عرّفهم الله تعالى بأنّهم الّذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله، و هذه الصفات تتضمّن تفاصيل جميع ما عدّه الله تعالى في كتابه من صفاتهم و نعوتهم كقوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) (إلى آخر الآيات): (المؤمنون: ٣)، و قوله تعالى:( وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً ) الآيات (الفرقان: ٦٤)، و قوله:( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (النساء: ٦٥).

فهذا هو مراد القرآن بالمؤمنين إذا أطلق اللفظ إطلاقاً من غير قرينة تدلّ على خلافه.

و قد قال تعالى:( فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ) و لم يقل: فاُولئك من المؤمنين لأنّهم بتحقّق هذه الأوصاف فيهم أوّل تحقّقها يلحقون بهم، و لن يكونوا منهم حتّى تستمرّ فيهم الأوصاف على استقرارها، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( ما يَفْعَلُ الله بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ ) ، ظاهره أنّه خطاب للمؤمنين، لأنّ الكلام جارٍ على خطابهم و إنّما يخاطبون بهذا الخطاب مع الغضّ عن إيمانهم و فرضهم كالعاري عنه على ما هو شأن مثل هذا الخطاب.

و هو كناية عن عدم حاجته تعالى إلى عذابهم، و أنّهم لو لم يستوجبوا العذاب بتركهم الشكر و الإيمان لم يكن من قبله تعالى ما يوجب عذابهم، لأنّه لا ينتفع بعذابهم حتّى يؤثره، و لا يستضرّ بوجودهم حتّى يدفعه عن نفسه بعذابهم، فالمعنى: لا موجب لعذابكم إن شكرتم نعمة الله بأداء واجب حقّه و آمنتم به و كان الله شاكراً لمن شكره و آمن به، عليماً لا يجهل مورده.

و في الآية دلالة على أنّ العذاب الشامل لأهله إنّما هو من قبلهم لا من قبله، و كذا كلّ ما يستوجب العذاب من ضلال أو شرك أو معصية، و لو كان شي‏ء من ذلك من قبله تعالى لكان العذاب الّذي يستتبعه أيضاً من قبله لأنّ المسبّب يستند إلى من استند إليه السبب.

١٢٥

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم: عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً ) قال: نزلت في عبدالله بن أبي سرح الّذي بعثه عثمان إلى مصر ثمّ ازداد كفراً حين لم يبق فيه من الإيمان شي‏ء.

و فيه، عن أبي بصير قال: سمعته يقول:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) (الآية) من زعم أنّ الخمر حرام ثمّ شربها، و من زعم أنّ الزنا حرام ثمّ زنى، و من زعم أنّ الزكاة حقّ و لم يؤدّها.

أقول: فيه تعميم للآية على الكفر بجميع مراتبه، و من مراتبه ترك الواجبات و فعل المحرّمات، و تأييد مّا لما تقدّم في البيان.

و فيه، عن محمّد بن الفضيل: عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام في قول الله:( وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ الله - إلى قوله -إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) قال: إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ و يكذّب به و يقع في أهله فقم من عنده و لا تقاعده.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر.

و في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهرويّ عن الرضاعليه‌السلام في قول الله جلّ جلاله:( وَ لَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) قال: فإنّه يقول: و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجّة، و لقد أخبر الله تعالى عن كفّار قتلوا نبيّهم بغير الحقّ و مع قتلهم إيّاهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن عليّ:( وَ لَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) قال: في الآخرة.

أقول: و قد تقدّم أنّ ظاهر السياق هو الآخرة و لو عمّم لغيرها بأخذ الجملة وحدها شملت الحجّة في الدنيا.

و في العيون، بإسناده عن الحسن بن فضّال قال: سألت عليّ بن موسى الرضا

١٢٦

عليهما‌السلام عن قوله:( يُخادِعُونَ الله وَ هُوَ خادِعُهُمْ ) فقال: الله تبارك و تعالى: لا يخادع، و لكنّه يجازيهم جزاء الخديعة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل: فيما النجاة غداً؟ فقال: النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنّه من يخادع الله يخدعه، و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر.

فقيل: فكيف يخادع الله؟ قال: يعمل بما أمر الله ثمّ يريد به غيره فاتّقوا الرئاء فإنّه شرك بالله، إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، و بطل أجرك، و لا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له.

و في الكافي، بإسناده عن أبي المعزا الخطّاف رفعه قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : من ذكر الله عزّوجلّ في السرّ فقد ذكر الله كثيراً، إنّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية، و لا يذكرونه في السرّ فقال الله عزّوجلّ:( يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا ) .

أقول: و هذا معنى آخر لقلّة الذكر لطيف.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن المنذر عن عليّ قال: لا يقلّ عمل مع تقوى، و كيف يقلّ ما يتقبّل؟.

أقول: و هذا أيضاً معنى لطيف، و مرجعه بالحقيقة إلى ما مرّ في الخبر السابق.

و فيه: أخرج مسلم و أبو داود و البيهقيّ في سننه عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتّى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلّا قليلاً.

أقول: و هذا معنى آخر لقلّة الذكر فإنّ لمثل هذا المصلّي من الذكر مجرّد التوجّه إلى الله بقيامه إلى الصلاة، و كان يمكنه أن يستغرق في ذكره بالحضور و الطمأنينة في صلاته.

و المراد بكون الشمس بين قرني الشيطان دنوّها من اُفق الغروب كأنّه يجعل

١٢٧

النهار و اللّيل قرنين للشيطان ينطح بهما ابن آدم أو يظهر لابن آدم.

و فيه: أخرج عبد بن حميد و البخاريّ في تاريخه و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرّة و إلى هذه مرّة لا تدري أيّهما تتبع‏.

و فيه: أخرج عبدالرزّاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كلّ سلطان في القرآن فهو حجّة.

و فيه: و أخرج ابن أبي شيبة و المروزيّ في زوائد الزهد و أبوالشيخ بن حبّان عن مكحول قال: بلغني أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ما أخلص عبد لله أربعين صباحاً إلّا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.

أقول: و الرواية من المشهورات، و قد رويت بلفظها أو بمعناها بطرق اُخرى.

و فيه: أخرج الحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول عن زيد بن أرقم قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال لا إله إلّا الله مخلصاً دخل الجنّة، قيل: يا رسول الله و ما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن المحارم.

أقول: و الرواية مستفيضة معنىّ و قد رويت بطرق مختلفة في جوامع أهل السنّة و الشيعة عن النبيّ و أئمّة أهل البيت (صلّي الله عليهم وسلّم)، و سنورد عمدة ألفاظها المنقولة في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى.

و في ذيل هذه الآيات روايات في أسباب النزول مختلفة متشتّتة، تركنا إيرادها لظهورها في الجري و تطبيق المصداق. و الله أعلم.

١٢٨

( سورة النساء الآيات ١٤٨ - ١٤٩)

لاَ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً( ١٤٨) إِن تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً( ١٤٩)

( بيان)

قوله تعالى: ( لا يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) ، قال الراغب في مادة( جهر ) يقال لظهور الشي‏ء بإفراط لحاسّة البصر أو حاسّة السمع، أمّا البصر فنحو رأيته جهاراً، قال الله تعالى:( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً ) ( أَرِنَا الله جَهْرَةً ) - إلى أن قال - و أمّا السمع فمنه قوله تعالى:( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ ) .

و السوء من القول كلّ كلام يسوء من قيل فيه كالدعاء عليه، و شتمه بما فيه من المساوئ و العيوب و بما ليس فيه، فكلّ ذلك لا يحبّ الله الجهر به و إظهاره، و من المعلوم أنّه تعالى منزّه من الحبّ و البغض على حدّ ما يوجد فينا معشر الإنسان و ما يجانسنا من الحيوان، إلّا أنّه لمّا كان الأمر و النهي عندنا بحسب الطبع صادرين عن حبّ و بغض كنّي بهما عن الإرادة و الكراهة و عن الأمر و النهي.

فقوله:( لا يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ) كناية عن الكراهة التشريعيّة أعمّ من التحريم و الإعانة.

و قوله:( إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) استثناء منقطع أي لكن من ظلم لا بأس بأن يجهر بالسوء من القول فيمن ظلمه من حيث ظلم، و هذه هي القرينة على أنّه إنّما يجوز له الجهر بالسوء من القول يبيّن فيه ما ظلمه، و يظهر مساوئه الّتي فيه ممّا ظلمه به، و أمّا التعدّي إلى غيره ممّا ليس فيه، أو ما لا يرتبط بظلمه فلا دليل على جواز الجهر به من الآية.

و المفسّرون و إن اختلفوا في تفسير السوء من القول فمن قائل إنّه الدعاء عليه،

١٢٩

و من قائل أنّه ذكر ظلمه و ما تعدّى به عليه و غير ذلك إلّا أنّ الجميع مشمول لإطلاق الآية فلا موجب لتخصيص الكلام ببعضها.

و قوله:( وَ كانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً ) في مقام التأكيد للنهي المستفاد من قوله:( لا يُحِبُّ الله الْجَهْرَ ) ، أي لا ينبغي الجهر بالسوء من القول من غير المظلوم فإنّ الله سميع يسمع القول عليم يعلم به.

قوله تعالى: ( إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ الله كانَ عَفُوًّا قَدِيراً ) الآية لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنّها تشمل إظهار الخير من القول شكراً لنعمة أنعمها منعم على الإنسان، و تشمل العفو عن السوء و الظلم فلا يجهر على الظالم بالسوء من القول.

فإبداء الخير إظهاره سواء كان فعلاً كإظهار الإنفاق على مستحقّه و كذا كلّ معروف لما فيه من إعلاء كلمة الدين و تشويق الناس إلى المعروف، أو كان قولاً كإظهار الشكر على المنعم و ذكره بجميل القول لما فيه من حسن التقدير و تشويق أهل النعمة.

و إخفاء الخير منصرفه إخفاء فعل المعروف ليكون أبعد من الرئاء و أقرب إلى الخلوص كما قال:( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ ) (البقرة: ٢٧١).

و العفو عن السوء هو الستر عليه قولاً بأن لا يذكر ظالمة بظلمه، و لا يذهب بماء وجهه عند الناس، و لا يجهر عليه بالسوء من القول، و فعلاً بأن لا يواجهه بما يقابل ما أساء به، و لا ينتقم عنه فيما يجوز له ذلك كما قال تعالى:( فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا الله ) (البقرة: ١٩٤).

و قوله:( فَإِنَّ الله كانَ عَفُوًّا قَدِيراً ) سبب اُقيم مقام المسبّب و التقدير: إن تعفوا عن سوء فقد اتّصفتم بصفة من صفات الله الكماليّة - و هو العفو على قدرة - فإنّ الله ذو عفو على قدرته، فالجزاء جزاء بالنسبة إلى بعض الشروط، و أمّا إبداء الخير و إخفاؤه أي إيتاؤه على أيّ حال فهو أيضاً من صفاته تعالى بما أنّه الله تعالى، و يمكن أن يلوّح إليه الكلام.

١٣٠

( بحث روائي)

في المجمع، قال: لا يحبّ الله الشتم في الانتصار إلّا من ظلم فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلم ممّا يجوز الانتصار في الدين: قال: و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .‏

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي الجارود عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: الجهر بالسوء من القول أن يذكر الرجل بما فيه.

و في تفسير القمّيّ: و في حديث آخر في تفسير هذا قال: إن جاءك رجل و قال فيك ما ليس فيك من الخير و الثناء و العمل الصالح فلا تقبله منه و كذّبه فقد ظلمك.

و في تفسير العيّاشيّ، بإسناده عن الفضل بن أبي قرّة: عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( لا يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) قال: من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم فهو ممّن ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه:

أقول: و رواه في المجمع، عنهعليه‌السلام مرسلاً، و روي من طرق أهل السنّة عن مجاهد.

و الروايات على أيّ حال دالّة على التعميم كما استفدناه من الآية.

١٣١

( سورة النساء الآيات ١٥٠ - ١٥٢)

إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً( ١٥٠) أُوْلئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً( ١٥١) والّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً( ١٥٢)

( بيان)

انعطاف إلى حال أهل الكتاب، و بيان لحقيقة كفرهم، و شرح لعدّة من مظالمهم، و معاصيهم و مفاسد أقوالهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالله وَ رُسُلِهِ ) ، هؤلاء أهل الكتاب من اليهود و النصارى فاليهود تؤمن بموسى و تكفر بعيسى و محمّد، و النصارى تؤمن بموسى و عيسى و تكفر بمحمّد صلى الله عليهم أجمعين، و هؤلاء على زعمهم لا يكفرون بالله و ببعض رسله، و إنّما يكفرون ببعض الرسل، و قد أطلق الله عليهم أنّهم كافرون بالله و رسله جميعاً و لذلك احتيج إلى بيان المراد من إطلاق قوله( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالله وَ رُسُلِهِ ) .

و لذلك عطف على قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ ) ، قوله:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الله وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) بعطف التفسير و نفس المعطوف أيضاً بعضه يفسّر بعضه، فهم كافرون بالله و رسله لأنّهم بقولهم:( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) يريدون أن يفرّقوا بين الله و رسله فيؤمنون بالله و بعض رسله و يكفروا ببعض رسله مع كونه رسولاً من الله، و الردّ عليه ردّ على الله تعالى.

ثمّ بيّن ذلك ببيان آخر بالعطف عليه عطف التفسير فقال:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ

١٣٢

يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا ) أي سبيلاً متوسّطاً بين الإيمان بالله و رسله جميعاً، و الكفر بالله و رسله جميعاً، و هو الإيمان ببعض و الكفر ببعض، و لا سبيل إلى الله إلّا الإيمان به و برسله جميعاً فإنّ الرسول بما أنّه رسول ليس له من نفسه شي‏ء و لا له من الأمر شي‏ء، فالإيمان به إيمان بالله و الكفر به كفر بالله محضاً.

فالكفر بالبعض و الإيمان بالبعض و بالله ليس إلّا تفرقة بين الله و بين رسله، و إعطاء الاستقلال للرسول فيكون الإيمان به غير مرتبط بالإيمان بالله، و الكفر به غير مرتبط بالكفر به فيكون طرفاً لا وسطاً، و كيف يصحّ فرض الرسالة ممّن لا يرتبط الإيمان به و الكفر به بالإيمان بالله و الكفر به.

فمن البيّن الّذي لا مرية فيه أنّ الإيمان بمن هذا شأنه و الخضوع له شرك بالله العظيم، و لذلك ترى أنّه تعالى بعد وصفهم بأنّهم يريدون بالإيمان ببعض الرسل و الكفر بالبعض أن يفرّقوا بين الله و رسله و يريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلاً ذكر أنّهم كافرون بذلك حقّاً فقال:( أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ) ثمّ أوعدهم فقال:( وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) .

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) ، لمّا كفّر اُولئك المفرّقين بين الله و رسله، و ذكر أنّهم كافرون بالله و رسله ذكر من يقابلهم بالإيمان بالله و رسله على سبيل عدم التفرقة تتميماً للأقسام.

و في الآيات التفات من الغيبة إلى التكلّم مع الغير في قوله:( وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) ثمّ إلى الخطاب في قوله:( أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ) ، و لعلّ الوجه فيه أنّ إسناد الجزاء إلى المتكلّم أقرب من الوقوع بحسب لحن الكلام من إسناده إلى الغائب.

و يفيد هذه الفائدة أيضاً الالتفات الواقع في الآية الثانية فإنّ توجيه الخطاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الوعد الجميل و هو يعلم بإنجازه تعالى يفيد القرب من الوقوع‏.

١٣٣

( سورة النساء الآيات ١٥٣ - ١٦٩)

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى‏ أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمّ اتّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى‏ سُلْطَاناً مُبِيناً( ١٥٣) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطّورَ بِمِيِثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً( ١٥٤) فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غَلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلّا قَلِيلاً( ١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى‏ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً( ١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلكِن شُبّهَ لَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلّا اتّبَاعَ الظّنّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً( ١٥٧) بَل رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً( ١٥٨) وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلّا لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً( ١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً( ١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً( ١٦١) لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُؤلئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً( ١٦٢) إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا

١٣٤

أَوْحَيْنَا إِلَى‏ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسى‏ وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً( ١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً( ١٦٤) رُسُلاً مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى‏ اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً( ١٦٥) لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى‏ بِاللّهِ شَهِيداً( ١٦٦) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلّوا ضَلاَلاً بَعِيداً( ١٦٧) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً( ١٦٨) إِلّا طَرِيقَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيراً( ١٦٩)

( بيان)

الآيات تذكر سؤال أهل الكتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب من السماء عليهم حيث لم يقنعوا بنزول القرآن بوحي الروح الأمين نجوماً، و نجيب عن مسألتهم.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ) ، أهل الكتاب هم اليهود و النصارى على ما هو المعهود في عرف القرآن في أمثال هذه الموارد و عليه فالسائل هو الطائفتان جميعاً دون اليهود فحسب.

و لا ينافيه كون المظالم و الجرائم المعدودة في ضمن الآيات مختصّة باليهود كسؤال الرؤية، و اتّخاذ العجل، و نقض الميثاق عند رفع الطور و الأمر بالسجدة و النهي عن العدو في السبت و غير ذلك.

فإنّ الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد و هو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى و عيسىعليهما‌السلام و إن انتشرت دعوة عيسى بعد رفعه في غير بني إسرائيل كالروم و العرب و

١٣٥

الحبشة و مصر و غيرهم، و ما قوم عيسى بأقلّ ظلماً لعيسى من اليهود لموسىعليهما‌السلام .

و لعد الطائفتين جميعاً ذا أصل واحد يخصّ اليهود بالذكر فيما يخصّهم من الجزاء حيث قال:( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) و لذلك أيضاً عدّ عيسى بين الرسل المذكورين بعد كما عدّ موسىعليه‌السلام بينهم و لو كان وجه الكلام إلى اليهود فقط لم يصحّ ذلك، و لذلك أيضاً قيل بعد هذه الآيات:( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) إلخ.

و بالجملة السائل هم أهل الكتاب جميعاً و وجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة القوميّة و هو التحكّم و القول بغير الحقّ و المجازفة و عدم التقيّد بالعهود و المواثيق، و الكلام جار معهم فيما اشتركوا فإذا اختصّ منهم طائفة بشي‏ء خصّ الكلام به.

و الّذي سألوه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء، و لم يسألوه ما سألوه قبل نزول القرآن و تلاوته عليهم كيف و القصّة إنّما وقعت في المدينة و قد بلغهم من القرآن ما نزل بمكّة و شطر ممّا نزل بالمدينة؟ بل هم ما كانوا يقنعون به دليلاً للنبوّة، و لا يعدّونه كتاباً سماويّاً مع أنّ القرآن نزل فيما نزل مشفّعاً بالتحدّي و دعوى الإعجاز كما في سور: إسراء، و يونس، و هود، و البقرة النازلة جميعاً قبل سورة النساء.

فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن لم يكن إلّا سؤالاً جزافيّاً لا يصدر إلّا ممّن لا يخضع للحقّ و لا ينقاد للحقيقة و إنّما يلغو و يهذو بما قدّمته له أيدي الأهواء من غير أن يتقيّد بقيد أو يثبت على أساس، نظير ما كانت تتحكّم به قريش مع نزول القرآن، و ظهور دعوته فتقول على ما حكاه الله سبحانه عنهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) (يونس: ٢٠)( أَوْ تَرْقى‏ فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) (إسراء: ٩٣).

و لهذا الّذي ذكرناه أجاب الله سبحانه عن مسألتهم (أوّلاً): بأنّهم قوم متمادون في الجهالة و الضلالة لا يأبون عن أنواع الظلم و إن عظمت، و الكفر و الجحود و إن جاءت البيّنة، و عن نقض المواثيق و إن غلظت و غير ذلك من الكذب و البهتان و أيّ ظلم، و من

١٣٦

هذا شأنه لا يصلح لإجابة ما سأله و الإقبال على ما اقترحه.

و (ثانياً): أنّ الكتاب الّذي أنزله الله و هو القرآن مقارن لشهادة الله سبحانه و ملائكته و هو الّذي يفصح عن التحدّي بعد التحدّي بآياته الكريمة.

فقال تعالى في جوابهم أوّلاً:( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ) أي ممّا سألوك من تنزيل كتاب من السماء إليهم( فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً ) أي إراءة عيان نعاينه بأبصارنا، و هذه غاية ما يبلغه البشر من الجهالة و الهذر و الطغيان( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) و القصّة مذكورة في سورة البقرة (آية: ٥٥ - ٥٦) و سورة الأعراف (آية: ١٥٥).

ثمّ قال تعالى:( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ) و هذه عبادة الصنم بعد ظهور بطلانه أو بيان أنّ الله سبحانه منزّه عن شائبة الجسميّة و الحدوث، و هو من أفظع الجهالات البشريّة( فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى‏ سُلْطاناً مُبِيناً ) و قد أمرهم موسى في ذلك أن يتوبوا إلى بارئهم فيقتلوا أنفسهم فأخذوا فيه فعفا الله عنهم و لمّا يتمّ التقتيل و لمّا يقتل الجميع، و هو المراد بالعفو، و آتى موسىعليه‌السلام سلطاناً مبيناً حيث سلّطه عليهم و على السامريّ و عجله، و القصّة مذكورة في سورة البقرة (آية: ٥٤).

ثمّ قال تعالى:( وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ ) و هو الميثاق الّذي أخذه الله منهم ثمّ رفع فوقهم الطور، و القصّة مذكورة مرّتين في سورة البقرة (آية ٦٣، ٩٣).

ثمّ قال تعالى:( وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) و القصّتان مذكورتان في سورة البقرة (آية: ٥٨ - ٦٥) و سورة الأعراف (١٦١ - ١٦٣) و ليس من البعيد أن يكون الميثاق المذكور راجعاً إلى القصّتين و إلى غيرهما فإنّ القرآن يذكر أخذ الميثاق منهم متكرّراً كقوله تعالى:( وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ) الآية: (البقرة: ٨٣)، و قوله تعالى:( وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ) (البقرة: ٨٤).

قوله تعالى: ( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ) ، الفاء للتفريع و المجرور متعلّق بما سيأتي بعد عدّة آيات - يذكر فيها جرائمهم - من قوله:( حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ ) و الآيات مسوقة لبيان

١٣٧

ما جازاهم الله به من وخيم الجزاء الدنيويّ و الاُخرويّ، و فيها ذكر بعض ما لم يذكر من سننهم السيّئة أوّلاً.

و قوله:( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ) تلخيص لما ذكر منهم من نقض المواثيق و لما لم يذكر من المواثيق المأخوذة منهم.

و قوله:( وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ الله ) تلخص لأنواع من الكفر كفروا بها في زمن موسىعليه‌السلام و بعده قصّ القرآن كثيراً منها، و من جملتها الموردان المذكوران في صدر الآيات أعني قوله:( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً ) ، و قوله:( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ) و إنّما قدّما في الصدر، و اُخّرا في هذه الآية لأنّ المقامين مختلفان فيختلف مقتضاهما فإنّ صدر الآيات متعرّض لسؤالهم تنزيل كتاب من السماء و، ذكر سؤالهم أكبر من ذلك و عبادتهم العجل أنسب به و ألصق، و هذه الآية و ما بعدها متعرّضة لمجازاتهم في قبال أعمالهم بعد ما كانوا أجابوا دعوة الحقّ و ذكر أسباب ذلك و الابتداء بذكر نقض الميثاق أنسب في هذا المقام و أقرب.

و قوله:( وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) يعني بهم زكريّا و يحيى و غيرهما ممّن ذكر القرآن قتلهم إجمالاً من غير تسمية.

و قوله:( وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ ) جمع أغلف أي في أغشية تمنعها عن استماع الدعوة النبويّة، و قبول الحقّ لو دعيت إليه، و هذه كلمة ذكروها يريدون بها ردّ الدعوة، و إسناد عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنّهم كانوا يدّعون أنّهم خلقوا غلف القلوب، أو أنّهم جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى اختيارهم و صنعهم.

و لذلك ردّ الله سبحانه عليهم بقوله:( بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) فبيّن أنّ إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقّة مستند إلى صنع الله لكن لا كما يدعون أنّهم لا صنع لهم في ذلك بل إنّما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم و جحودهم للحق، و كان أثر ذلك أنّ هذا القوم لا يؤمنون إلّا قليل منهم.

و قد تقدّم الكلام في هذا الاستثناء، و أنّ هذه النقمة الإلهيّة إنّما نزلت بهم

١٣٨

بقوميّتهم و مجتمعهم، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة، و مطبوع على قلوبهم محال لهم أن يؤمنوا بأجمعهم، و لا ينافي ذلك إيمان البعض القليل منهم.

قوله تعالى: ( بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) و هو قذفهاعليه‌السلام في ولادة عيسى بالزنا، و هو كفر و بهتان معا و قد كلّمهم عيسى في أوّل ولادته و قال:( إِنِّي عَبْدُ الله آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ) (مريم. ٣٠).

قوله تعالى: ( وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) قد تقدّم في قصص عيسىعليه‌السلام في سورة آل عمران أنّهم اختلفوا في كيفيّة قتله صلباً و غير صلب فلعلّ حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أوّلاً ثمّ ذكر القتل و الصلب معاً في مقام الردّ و النفي لبيان النفي التامّ بحيث لا يشوبه ريب فإنّ الصلب لكونه نوعاً خاصّاً في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائماً، و لا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل، و قد اختلف في كيفيّة قتله فمجرّد نفي القتل ربّما أمكن أن يتأوّل فيه بأنّهم ما قتلوه قتلاً عاديّاً، و لا ينافي ذلك أن يكونوا قتلوه صلباً فلذلك ذكر تعالى بعد قوله:( وَ ما قَتَلُوهُ ) قوله:( وَ ما صَلَبُوهُ ) ليؤدّي الكلام حقّه من الصراحة، و ينصّ على أنّهعليه‌السلام لم يتوفّ بأيديهم لا صلباً و لا غير مصلوب، بل شبّه لهم أمره فأخذوا غير المسيحعليه‌السلام مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه، و ليس من البعيد عادة، فإنّ القتل في أمثال تلك الاجتماعات الهمجيّة و الهجمة و الغوغاء ربّما أخطأ المجرم الحقيقيّ إلى غيره و قد قتله الجنديّون من الروميّين، و ليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره، و مع ذلك فقد وردت روايات أنّ الله تعالى ألقى شبهه على غيره فاُخذ و قتل مكانه.

و ربّما ذكر بعض محقّقي التاريخ أنّ القصص التاريخيّة المضبوطة فيهعليه‌السلام و الحوادث المربوطة بدعوته و قصص معاصريه من الحكّام و الدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسمّيين بالمسيح - و بينهما ما يزيد على خمسمائة سنة -: المتقدّم منهما محقّ غير مقتول، و المتأخّر منهما مبطل مصلوب،(١) و على هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب. و الله أعلم.

____________________

(١) و عند هذا المحقّق يكون التاريخ المشتهر فعلا بالميلادي مشكوكاً في صحتّه.

١٣٩

و قوله:( وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) أي اختلفوا في عيسى أو في قتله( لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ) أي في جهل بالنسبة إلى أمره( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ) و هو التخمين أو رجحان مّا بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض.

و قوله:( وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه اُخبرك خبر يقين، و ربّما قيل: إنّ الضمير في قوله:( وَ ما قَتَلُوهُ ) راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم يقيناً. و قتل العلم لغةً تمحيضه و تخليصه من الشكّ و الريب، و ربّما قيل: إنّ الضمير يعود إلى الظنّ أي ما محّضوا ظنّهم و ما تثبّتوا فيه، و هذا المعنى على تقدير ثبوته معنى غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن.

قوله تعالى: ( بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) و قد قصّ الله سبحانه هذه القصّة في سورة آل عمران فقال:( إِذْ قالَ الله يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ ) (آل عمران: ٥٥) فذكر التوفّي ثمّ الرفع.

و هذه الآية بحسب السياق تنفي وقوع ما ادّعوه من القتل و الصلب عليه فقد سلم من قتلهم و صلبهم، و ظاهر الآية أيضاً أنّ الّذي ادّعي إصابة القتل و الصلب إيّاه، و هو عيسىعليه‌السلام بشخصه البدنيّ هو الّذي رفعه الله إليه، و حفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه و روحه لا أنّه توفّي ثمّ رفع روحه إليه تعالى فهذا ممّا لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق فإنّ الإضراب الواقع في قوله:( بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ ) لا يتمّ بمجرّد رفع الروح بعد الموت الّذي يصحّ أن يجامع القتل و الموت حتف الأنف.

فهذا الرفع نوع التخليص الّذي خلّصه الله به و أنجاه من أيديهم سواء كان توفّي عند ذلك بالموت حتف الأنف أو لم يتوفّ حتف الأنف و لا قتلاً و صلباً بل بنحو آخر لا نعرفه أو كان حيّاً باقياً بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكلّ ذلك محتمل.

و ليس من المستحيل أن يتوفّى الله المسيح و يرفعه إليه و يحفظه، أو يحفظ الله حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصّه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته و حياته بين قومه، و ما يحكيه من معجزات إبراهيم و موسى و صالح و غيرهم، فكلّ ذلك يجري

١٤٠