الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 81153
تحميل: 8987


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81153 / تحميل: 8987
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قوله تعالى: ( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) في المجمع: الأجل في اللّغة الجناية، انتهى. و قال الراغب في المفردات: الأجل الجناية الّتي يخاف منها آجلاً، فكلّ أجل جناية و ليس كلّ جناية أجلاً. يقال: فعلت ذلك من أجله، انتهى. ثمّ استعمل للتعليل، يقال: فعلته من أجل كذا أي إنّ كذا سبب فعليّ، و لعلّ استعمال الكلمة في التعليل ابتدأ أوّلاً في مورد الجناية و الجريرة كقولنا: أساء فلان و من أجل ذلك أدّبته بالضرب أي إنّ ضربي ناش من جنايته و جريرته الّتي هي إساءته أو من جناية هي إساءته، ثمّ اُرسلت كلمة تعليل فقيل: أزورك من أجل حبّي لك و لأجل حبّي لك.

و ظاهر السياق أنّ الإشارة بقوله:( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ) إلى نبأ ابني آدم المذكور في الآيات السابقة أي إنّ وقوع تلك الحادثة الفجيعة كان سبباً لكتابتنا على بني إسرائيل كذا و كذا، و ربّما قيل: إنّ قوله:( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ) متعلّق بقوله في الآية السابقة:( فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) أي كان ذلك سبباً لندامته، و هذا القول و إن كان في نفسه غير بعيد كما في قوله تعالى:( كَذلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) الآية: (البقرة: ٢٢٠) إلّا أنّ لازم ذلك كون قوله:( كَتَبْنا عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ ) إلخ مفتتح الكلام و المعهود من السياقات القرآنيّة أن يؤتى في مثل ذلك بواو الاستيناف كما في آية البقرة المذكورة آنفاً و غيرها.

و أمّا وجه الإشارة في قوله:( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ) إلى قصّة ابني آدم فهو أنّ القصّة تدلّ على أنّ من طباع هذا النوع الإنسانيّ أن يحمله اتّباع الهوى و الحسد الّذي هو الحنق للناس بما ليس في اختيارهم أن يحمله أوهن شي‏ء على منازعة الربوبيّة و إبطال غرض الخلقة بقتل أحدهم أخاه من نوعه و حتّى شقيقه لأبيه و اُمّه.

فأشخاص الإنسان إنّما هم أفراد نوع واحد و أشخاص حقيقة فاردة، يحمل الواحد منهم من الإنسانيّة ما يحمله الكثيرون، و يحمل الكلّ ما يحمله البعض و إنّما أراد الله سبحانه بخلق الأفراد و تكثير النسل أن تبقى هذه الحقيقة الّتي ليس من

٣٤١

شأنها أن تعيش إلّا زماناً يسيراً، و يدوم بقاؤها فيخلف اللّاحق السابق و يعبدالله سبحانه في أرضه، فإفناء الفرد بالقتل إفساد في الخلقة و إبطال لغرض الله سبحانه في الإنسانيّة المستبقاة بتكثير الأفراد بطريق الاستخلاف كما أشار إليه ابن آدم المقتول فيما خاطب أخاه:( ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ ) فأشار إلى أنّ القتل بغير الحقّ منازعة الربوبيّة.

فلأجل أنّ من طباع الإنسان أن يحمله أيّ سبب واه على ارتكاب ظلم يؤل بحسب الحقيقة إلى إبطال حكم الربوبيّة و غرض الخلقة في الإنسانيّة العامّة، و كان من شأن بني إسرائيل ما ذكره الله سبحانه قبل هذه الآيات من الحسد و الكبر و اتّباع الهوى و إدحاض الحقّ و قد قصّ قصصهم بيّن الله لهم حقيقة هذا الظلم الفجيع و منزلته بحسب الدقّة، و أخبرهم بأنّ قتل الواحد عنده بمنزلة قتل الجميع، و بالمقابلة إحياء نفس واحدة عنده بمنزلة إحياء الجميع.

و هذه الكتابة و إن لم تشتمل على حكم تكليفيّ لكنّها مع ذلك لا تخلو عن تشديد بحسب المنزلة و الاعتبار، و له تأثير في إثارة الغضب و السخط الإلهيّ في دنيا أو آخرة.

و بعبارة مختصرة: معنى الجملة أنّه لمّا كان من طباع الإنسان أن يندفع بأيّ سبب واه إلى ارتكاب هذا الظلم العظيم، و كان من أمر بني إسرائيل ما كان، بيّنا لهم منزلة قتل النفس لعلّهم يكفّون عن الإسراف و لقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات ثمّ إنّهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون.

و أمّا قوله:( أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) استثنى سبحانه قتل النفس بالنفس و هو القود و القصاص و هو قوله تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) (البقرة: ١٧٨) و قتل النفس بالفساد في الأرض، و ذلك قوله في الآية التالية:( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الله وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) (الآية).

و أمّا المنزلة الّتي يدلّ عليها قوله:( فَكَأَنَّما ) إلخ فقد تقدّم بيانه أنّ الفرد

٣٤٢

من الإنسان من حيث حقيقته المحمولة له الّتي تحيا و تموت إنّما يحمل الإنسانيّة الّتي هي حقيقة واحدة في جميع الأفراد و البعض و الكلّ، و الفرد الواحد و الأفراد الكثيرون فيه واحد، و لازم هذا المعنى أن يكون قتل النفس الواحدة بمنزلة قتل نوع الإنسان و بالعكس إحياء النفس الواحدة بمنزلة إحياء الناس جميعاً، و هو الّذي تفيده الآية الشريفة.

و ربّما اُشكل على الآية أوّلاً: بأنّ هذا التنزيل يفضي إلى نقض الغرض فإنّ الغرض بيان أهمّيّة قتل النفس و عظمته من حيث الإثم و الأثر، و لازمه أن تزيد الأهمّيّة كلّما زاد عدد القتل، و تنزيل الواحد منزلة الجميع يوجب أن لا يقع بإزاء الزائد على الواحد شي‏ء فإنّ من قتل عشراً كان الواحدة من هذه المقاتل تعد قتل الجميع، و تبقى الباقي و ليس بإزائه شي‏ء.

و لا يندفع الإشكال بأن يقال: إنّ قتل العشرة يعدل عشرة أضعاف قتل الجميع و أنّ قتل الجميع يعدل قتل الجميع بعدد الجميع لأنّ مرجعه إلى المضاعفة في عدد العقاب، و اللّفظ لا يفي ببيان ذلك.

على أنّ الجميع مؤلّف من آحاد كلّ واحد منها يعدل الجميع المؤلّف من الآحاد كذلك، و يذهب إلى ما لا نهاية له، و لا معنى للجميع بهذا المعنى، إذ لا فرد واحد له فلا جميع من غير آحاد.

على أنّ الله تعالى يقول:( مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى‏ إِلَّا مِثْلَها ) (الأنعام: ١٦٠) و ثانياً: بأن كون قتل الواحد يعدل قتل الجميع إن اُريد به قتل الجميع الّذي يشتمل على هذا الواحد كان لازمه مساواة الواحد مجموع نفسه و غيره و هو محال بالبداهة، و إن اُريد به قتل الجميع باستثناء هذا الواحد كان معناه من قتل نفساً فكأنّما قتل غيرها من النفوس، و هو معنى ردي‏ء مفسد للغرض من الكلام و هو بيان غاية أهمّيّة هذا الظلم. على أنّ إطلاق قوله:( فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) من غير استثناء يدفع هذا الاحتمال.

و لا يندفع هذا الإشكال بمثل قولهم: إنّ المراد هو المعادلة من حيث العقوبة

٣٤٣

أو مضاعفة العذاب و نحو ذلك و هو ظاهر.

و الجواب عن الإشكالين: أنّ قوله:( مَنْ قَتَلَ نَفْساً - إلى قوله -فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) كناية عن كون الناس جميعاً ذوي حقيقة واحدة إنسانيّة متّحدة فيها، الواحد منهم و الجميع فيها سواء، فمن قصد الإنسانيّة الّتي في الواحد منهم فقد قصد الإنسانيّة الّتي في الجميع كالماء إذا وزّع بين أواني كثيرة فمن شرب من أحد الآنية فقد شرب الماء، و قد قصد الماء من حيث إنّه ماء - و ما في جميع الآنية لا يزيد على الماء من حيث إنّه ماء - فكأنّه شرب الجميع، فجملة:( مَنْ قَتَلَ ) إلخ كناية في صورة التشبيه، و الإشكالان مندفعان، فإنّ بناءهما على كون التشبيه بسيطاً يزيد فيه وجه الشبه على حسب زيادة المشبّه عدداً إذ لو سوّي حينئذ بين الواحد و الجميع فسد المعنى و عرض الإشكال كما لو قيل: الواحد من القوم كالواحد من الأسد و الواحد منهم كالجميع في البطش و البسالة.

و أمّا قوله تعالى:( وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) فالكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة، و المراد بالإحياء ما يعدّ في عرف العقلاء إحياءً كإنقاذ الغريق و إطلاق الأسير، و قد عدّ الله تعالى في كلامه الهداية إلى الحقّ إحياء قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (الأنعام: ١٢٢) فمن دلّ نفساً إلى الإيمان فقد أحياها.

و أمّا قوله تعالى:( وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ) فهو معطوف على صدر الآية أي و لقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات يحذّرونهم القتل و كلّ ما يلحق به من وجوه الفساد في الأرض.

و أمّا قوله تعالى:( ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) فهو متمّم للكلام، بانضمامه إليه يستنتج الغرض المطلوب من البيان، و هو ظهور أنّهم قوم مفسدون مصرّون على استكبارهم و عتوّهم فلقد بيّنا لهم منزلة القتل و جاءتهم رسلنا فيها و في غيرها بالبيّنات، و بيّنوا لهم و حذّروهم و هم مع ذلك لم ينتهوا عن إصرارهم على العتوّ و الاستكبار فأسرفوا في الأرض قديماً و لا يزالون يسرفون.

٣٤٤

و الإسراف الخروج عن القصد و تجاوز الحدّ في كلّ فعل يفعله الإنسان، و إن كان يغلب عليه الاستعمال في مورد الإنفاق كقوله تعالى:( وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) (الفرقان: ٦٧) على ما ذكره الراغب في المفردات.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستانيّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لمّا قرّب ابنا آدم القربان فتقبّل من أحدهما و لم يتقبّل من الآخر - قال: تقبّل من هابيل و لم يتقبّل من قابيل - دخله من ذلك حسد شديد، و بغى على هابيل، و لم يزل يرصده و يتبع خلوته حتّى ظفر به متنحيّاً من آدم فوثب عليه و قتله، فكان من قصّتهما ما قد أنبأ الله في كتابه ممّا كان بينهما من المحاورة قبل أن يقتله، الحديث.

أقول: و الرواية من أحسن الروايات الواردة في القصّة و هي رواية طويلة يذكرعليه‌السلام فيها: تولّد هبة الله (شيث) لآدم بعد ذلك و وصيّته له و جريان أمر الوصيّة بين الأنبياء، و سننقلها إن شاء الله في موضع يناسبها، و ظاهرها أنّ قابيل إنّما قتل هابيل غيلة من غير أن يمكّنه من نفسه، كما هو المناسب للاعتبار، و قد تقدّم في البيان المتقدّم.

و اعلم: أنّ الّذي ضبطته الروايات من اسم الابنين: هابيل و قابيل، و الّذي في التوراة الدائرة: هابيل و قايين. و لا حجّة في ذلك لانتهاء سند التوراة إلى واحد مجهول الحال مع ما هي عليه من التحريف الظاهر.

و في تفسير القمّيّ، قال: حدّثنا أبي عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة الثماليّ، عن ثوير بن أبي فاختة قال: سمعت عليّ بن الحسينعليه‌السلام يحدّث رجالاً من قريش قال: لمّا قرّبا ابنا آدم القربان قرّب أحدهما أسمن كبش كان في صيانته، و قرّب الآخر ضغثاً من سنبل فتقبّل من صاحب الكبش و هو هابيل، و لم يتقبّل من الآخر، فغضب قابيل، فقال لهابيل: و الله لأقتلنّك، فقال هابيل: إنّما يتقبّل الله من المتّقين لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف

٣٤٥

الله ربّ العالمين إنّي اُريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين.

فطوّعت له نفسه قتل أخيه فلم يدر كيف يقتله حتّى جاء إبليس فعلّمه فقال: ضع رأسه بين حجرين ثمّ اشدخه فلمّا قتله لم يدر ما يصنع به، فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتّى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثمّ حفر الّذي بقي في الأرض بمخالبه، و دفن فيه صاحبه، قال قابيل: يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب فاُواري سوأة أخي فأصبح من النادمين، فحفر له حفيرة و دفنه فيها فصارت سنّة يدفنون الموتى.

فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل فقال له آدم: أين تركت ابني؟ قال له قابيل: أرسلتني عليه راعياً؟ فقال آدم: انطلق معي إلى مكان القربان، و أوجس نفس آدم بالّذي فعل قابيل، فلمّا بلغ مكان القربان استبان له قتله، فلعن آدم الأرض الّتي قبلت دم هابيل، و اُمر آدم أن يلعن قابيل، و نودي قابيل من السماء لعنت كما قتلت أخاك، و لذلك لا تشرب الأرض الدم.

فانصرف آدم يبكي على هابيل أربعين يوماً و ليلة فلمّا جزع عليه شكى ذلك إلى الله فأوحى الله إليه إنّي واهب لك ذكراً يكون خلفاً عن هابيل فولدت حوّاء غلاماً زكيّاً مباركاً فلمّا كان في اليوم السابع أوحى الله إليه: يا آدم إنّ هذا الغلام هبة منّي لك فسمّه هبة الله فسمّاه آدم هبة الله.

أقول: الرواية من أوسط الروايات الواردة في القصّة و ما يلحق بها و هي مع ذلك لا تخلو عن تشويش في متنها حيث إنّ ظاهرها أنّ قابيل أوعد هابيل بالقتل ثمّ لم يدر كيف يقتل؟ و هو معنى غير معقول إلّا أن يراد أنّه تحيّر في أنّه أيّ سبب من أسباب القتل يختاره لقتله؟ فأشار إليه إبليس - لعنه الله - أن يشدخ رأسه بالحجارة، و هناك روايات اُخر مرويّة من طرق أهل السنّة و الشيعة يقرب مضمونها من مضمون هذه الرواية.

و اعلم أنّ في القصّة روايات كثيرة مختلفة المضامين عجيبتها كالقائلة: إنّ الله أخذ كبش هابيل فخزنه في الجنّة أربعين خريفاً ثمّ فدى به إسماعيل فذبحه إبراهيم،

٣٤٦

و القائلة: إنّ هابيل مكّن قابيل من نفسه و أنّه تحرّج أن يبسط يده إلى أخيه، و القائلة: إنّ قابيل لمّا قتل أخاه عقل الله إحدى رجليه إلى فخذها من يوم قتله إلى يوم القيامة و جعل وجهه إلى اليمين حيث دار دارت عليه حظيرة من ثلج في الشتاء، و عليه في الصيف حظيرة من نار و معه سبعة أملاك كلّما ذهب ملك جاء الآخر، و القائلة: إنّه معذّب في جزيرة من جزائر البحر علّقه الله منكوساً و هو كذلك إلى يوم القيامة، و القائلة: إنّ قابيل بن آدم معلّق بقرونه في عين الشمس تدور به حيث دارت في زمهريرها و حميمها إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة صيّره الله إلى النار، و القائلة: إنّ ابن آدم الّذي قتل أخاه كان قابيل الّذي ولد في الجنّة، و القائلة: إنّ آدم لمّا بان له قتل هابيل رثّاه بعدّة أبيات بالعربيّة، و القائلة: إنّه كان من شريعتهم أنّ الإنسان إذا قصده آخر تركه و ما يريد من غير أن يمتنع منه، إلى غير ذلك من الروايات.

فهذه و أمثالها روايات من طرق جلّها أو كلّها ضعيفة، و هي لا توافق الاعتبار الصحيح و لا الكتاب يوافقها فهي بين موضوعة بيّنة الوضع و بين محرّفة أو ممّا غلط فيه الرواة من جهة النقل بالمعنى.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يعجز أحدكم أتاه الرجل أن يقتله أن يقول هكذا؟ و قال: بإحدى يديه على الاُخرى فيكون كالخير من ابني آدم، و إذا هو في الجنّة و إذا قاتله في النار.

أقول: و هي من روايات الفتن، و هي كثيرة روى أكثرها السيوطيّ في الدرّ المنثور، كالّذي رواه عن البيهقيّ عن أبي موسى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: اكسروا سيفكم يعني في الفتنة و اقطعوا أوتاركم و الزموا أجواف البيوت، و كونوا فيها كالخير من ابني آدم، و ما رواه عن ابن جرير و عبدالرزّاق عن الحسن قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ابني آدم ضرباً مثلاً لهذه الاُمّة فخذوا بالخير منهما، إلى غير ذلك.

و هذه روايات لا تلائم بظاهرها الاعتبار الصحيح المؤيّد بالآثار الصحيحة الآمرة بالدفاع عن النفس و الانتصار للحقّ، و قد قال تعالى:( وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ الله ) (الحجرات: ٩).

٣٤٧

على أنّها جميعاً تفسّر قوله تعالى في القصّة حكاية عن هابيل:( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ) بأنّ المراد تمكين هابيل لأخيه في قتله و تركه الدفاع، و قد عرفت ما فيه.

و ممّا يوجب سوء الظنّ بها أنّها مرويّة عن اُناس قعدوا في فتنة الدار و في حروب عليّعليه‌السلام مع معاوية و الخوارج و طلحة و الزبير، فالواجب توجيهها بوجه إن أمكن و إلّا فالطرح.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن عساكر عن عليّ: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: بدمشق جبل يقال له:( قاسيون) فيه قتل ابن آدم أخاه.

أقول: و الرواية لا بأس بها غير أنّ ابن عساكر روى بطريق عن كعب الأحبار أنّه قال: إنّ الدم الّذي على جبل قاسيون هو دم ابن آدم، و بطريق آخر عن عمرو بن خبير الشعبانيّ قال: كنت مع كعب الأحبار على جبل دير المران فرأى لجّة سائلة في الجبل فقال: ههنا قتل ابن آدم أخاه، و هذا أثر دمه جعله الله آية للعالمين.

و الروايتان تدلّان على أنّه كان هناك أثر ثابت يدعى أنّه دم هابيل المقتول، و يشبه أن يكون ذلك من الاُمور الخرافيّة الّتي ربّما وضعوها لصرف وجوه الناس إليها بالزيارة و إيتاء النذور و إهداء الهدايا نظير آثار الأكفّ و الأقدام المعمولة على الأحجار و قبر الجدّة و غير ذلك.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تقتل نفس ظلماً إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنّه أوّل من سنّ القتل.

أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنّة و الشيعة بغير هذا الطريق.

و في الكافي، بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام ، ما معنى قول الله عزّوجلّ:( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) ؟ قال: قلت: و كيف فكأنّما قتل الناس جميعاً و إنّما قتل واحدة؟ قال: يوضع في موضع من جهنّم إليه منتهى شدّة عذاب أهلها، لو قتل

٣٤٨

الناس جميعاً كان إنّما دخل ذلك المكان، قلت: فإن قتل آخر؟ قال: يضاعف عليه.

أقول: و رواه الصدوق في معاني الأخبار، عن حمران مثله.

و قوله:( قلت: فإن قتل آخر؟) إشارة إلى ما تقدّم بيانه من إشكال لزوم تساوي القتل الواحد معه منضمّاً إلى غيره، و قد أجابعليه‌السلام عنه بقوله:( يضاعف عليه) و لا يرد عليه أنّه رفع اليد عن التسوية الّتي يشير إليه حديث المنزلة:( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ) إلخ حيث إنّ لازم المضاعفة عدم تساوي الواحد و الكثير أو الجميع، وجه عدم الورود أنّ تساوي المنزلة راجع إلى سنخ العذاب و هو كون قاتل الواحد و الاثنين و الجميع في واد واحد من أودية جهنّم، و يشير إليه قولهعليه‌السلام في الرواية:( لو قتل الناس جميعاً كان إنّما دخل ذلك المكان) .

و يشهد على ما ذكرنا ما رواه العيّاشيّ في تفسيره عن حمران عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في الآية قالعليه‌السلام منزلة في النار إليها انتهاء شدّة عذاب أهل النار جميعاً فيجعل فيها، قلت: و إن كان قتل اثنين؟ قال: أ لا ترى أنّه ليس في النار منزلة أشدّ عذاباً منها؟ قال: يكون يضاعف عليه بقدر ما عمل‏، الحديث فإنّ الجمع بين النفي و الإثبات في جوابهعليه‌السلام ليس إلّا لما وجّهنا به الرواية، و هو أنّ الاتّحاد و التساوي في سنخ العذاب، و إليه تشير المنزلة، و الاختلاف في شخصه و نفس ما يذوقه القاتل فيه.

و يشهد عليه أيضاً في الجملة ما فيه أيضاً عن حنان بن سدير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( مَنْ قَتَلَ نَفْساً فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) قال: واد في جهنّم لو قتل الناس جميعاً كان فيه، و لو قتل نفس واحدة كان فيه.

أقول: و كان الآية منقولة فيها بالمعنى.

و في الكافي، بإسناده عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام قول الله عزّوجلّ في كتابه:( وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) قال: من حرق أو غرق قلت: من أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: ذلك تأويلها الأعظم.

أقول: و رواه الشيخ في أماليه و البرقيّ في المحاسن، عن فضيل عنهعليه‌السلام ، و روي الحديث عن سماعة و حمران عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

٣٤٩

و المراد بكون الإنقاذ من الضلالة تأويلاً أعظم للآية كونه تفسيراً أدقّ لها، و التأويل كثيراً مّا كان يستعمل في صدر الإسلام مرادفاً للتفسير.

و يؤيّد ما ذكرناه ما في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله.( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) فقال: له في النار مقعد لو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك العذاب. قال:( وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) لم يقتلها أو أنجى من غرق أو حرق، و أعظم من ذلك كلّها يخرجها من ضلالة إلى هدى.

أقول: و قوله:( لم يقتلها) أي لم يقتلها بعد ثبوت القتل لها كما في مورد القصاص.

و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته:( وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) قال: من استخرجها من الكفر إلى الإيمان.

أقول: و قد ورد هذا المعنى في كثير من الروايات الواردة من طرق أهل السنّة.

و في المجمع: روي عن أبي جعفرعليه‌السلام : المسرفون الّذين يستحلّون المحارم و يسفكون الدماء.

( بحث علمي و تطبيق)

( في تطبيق قصّة ابني آدم على ما في التوراة)

في الإصحاح الرابع من سفر التكوين من التوراة ما نصّه: (١) و عرف آدم حواء امرأته فحبلت و ولدت قايين و قالت اقتنيت رجلاً من عند الربّ (٢) ثمّ عادت فولدت أخاه هابيل و كان هابيل راعياً للغنم و كان قايين عاملاً في الأرض (٣) و حدث من بعد أيّام أنّ قايين قدّم من أثمار الأرض قرباناً للربّ (٤) و قدّم هابيل أيضاً من أبكار غنمه و من سمانها فنظر الربّ إلى هابيل و قربانه (٥) و لكن إلى قايين و قربانه لم ينظر فاغتاظ قايين جدّاً و سقط وجهه (٦) فقال الربّ لقايين لما ذا اغتظت و لما ذا سقط وجهك (٧) إن أحسنت أ فلا رفع و إن لم تحسن فعند الباب خطيّة رابضة و إليك اشتياقها و أنت تسود عليها.

(٨) و كلّم قايين هابيل أخاه و حدث إذ كانا في الحقل أنّ قايين قام على هابيل

٣٥٠

أخيه و قتله (٩) فقال الربّ لقايين أين هابيل أخوك فقال لا أعلم أ حارس أنا لأخي (١٠) فقال ما ذا فعلت صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض (١١) فالآن ملعون أنت من الأرض الّتي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك (١٢) متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها تائهاً و هارباً تكون في الأرض (١٣) فقال قايين للربّ ذنبي أعظم من أن يتحمل (١٤) إنّك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض و من وجهك أختفي و أكون تائهاً و هارباً في الأرض فيكون كلّ من وجدني يقتلني (١٥) فقال له الربّ لذلك كلّ من قتله قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه و جعل الربّ لقايين علامة لكي لا يقتله كلّ من وجده (١٦) فخرج قايين من لدن الربّ و سكن في أرض نود شرقيّ عدن، انتهى‏(١) .

و الّذي في القرآن من قصّتهما قوله تعالى:( وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)فَبَعَثَ الله غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى‏ أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)) (آية: ٢٧ - ٣١ من المائدة)(٢) .

و عليك أن تتدبّر ما تشتمل عليه القصّة على ما قصّتها التوراة و على ما قصّها القرآن ثمّ تطّبق بينهما ثمّ تقضي ما أنت قاض.

فأوّل ما يبدو لك من التوراة أنّها جعلت الربّ تعالى موجوداً أرضيّاً على صورة إنسان يعاشر الناس، يحكم لهم و عليهم كما يحكم أحد الناس فيهم، و يدنى و يقترّب منه و يكلّم كما يفعل ذلك أحدهم مع غيره ثمّ يختفي منه بالابتعاد و الغيبة فلا يرى البعيد الغائب كما يرى القريب الحاضر، و بالجملة فحاله حال إنسان أرضيّ

____________________

(١) نقل من التوراة العربيّة المطبوعة في كمبروج سنة ١٩٣٥.

(٢) إنّما أعدنا ذكر الآيات ليكون التطبيق أسهل و التنازل أقرب.

٣٥١

من جميع الجهات غير أنّه نافذ الإرادة إذا أراد، ماضي الحكم إذا حكم، و على هذا الأساس يبتني جميع تعليمات التوراة و الإنجيل فيما يبثّان من التعليم، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

و لازم القصّة الّتي فيها: أنّ البشر كان يعيش يومئذ على حال المشافهة و الحضور عندالله سبحانه، ثمّ احتجب عن قايين أو عنه و عن أمثاله و بقي الباقون على حالهم مع أنّ‏ البراهين القاطعة قائمة على أنّ الإنسان نوع واحد متماثل الأفراد عائش في الدنيا عيشة دنيويّة مادّيّة و أنّ الله جلّ شأنه متنزّه عن الاتّصاف بصفات المادّة و أحوالها، متقدّس عن لحوق عوارض الإمكان و طوارق النقص و الحدثان، و هو الّذي يبيّنه القرآن.

و أمّا القرآن فإنّه يقصّ القصّة على أساس تماثل الأفراد غير أنّه يذيّل قصّة القتل بقصّة بعث الغراب فيكشف عن حقيقة كون الإنسان تدريجيّ الكمال بانياً استكماله في مدارج الكمال الحيويّ على أساس الحسّ و الفكر.

ثمّ يذكر محاورة الأخوين فيقصّ عن المقتول من غرر المعارف الفطريّة الإنسانيّة و اُصول المعارف الدينيّة من التوحيد و النبوّة و المعاد، ثمّ أمر التقوى و الظلم و هما الأصلان العاملان في جميع القوانين الإلهيّة و الأحكام الشرعيّة، ثمّ العدل الإلهيّ في مسألة القبول و الردّ و المجازاة الاُخرويّة.

ثمّ ندامة القاتل بعد صنعه و خسرانه في الدنيا و الآخرة، ثمّ يبيّن بعد ذلك كلّه أنّ القتل من شآمة أمره أنّ الّذي يقع منه على نفس واحدة كالّذي يقع منه على الناس جميعاً و أنّ من أحيا نفساً فكأنّما أحيا الناس جميعاً.

٣٥٢

( سورة المائدة الآيات ٣٣ - ٤٠)

إِنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوا أَوْ يُصَلّبُوا أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ( ٣٣) إِلّا الّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٣٤) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ( ٣٥) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنّ لَهُم مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٣٦) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ( ٣٧) وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( ٣٨) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ( ٤٠)

( بيان)

الآيات غير خالية الارتباط بما قبلها، فإنّ ما تقدّمها من قصّة قتل ابن آدم أخاه و ما كتبه الله سبحانه على بني إسرائيل من أجله، و إن كان من تتمّة الكلام على بني إسرائيل و بيان حالهم من غير أن يشتمل على حدّ أو حكم بالمطابقة لكنّها لا تخلو بحسب لازم مضمونها من مناسبة مع هذه الآيات المتعرّضة لحدّ المفسدين في الأرض و السراق.

٣٥٣

قوله تعالى: ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الله وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) .( فَساداً ) مصدر وضع موضع الحال، و محاربة الله و إن كانت بعد استحالة معناها الحقيقيّ و تعيّن إرادة المعنى المجازيّ منها ذات معنى وسيع يصدق على مخالفة كلّ حكم من الأحكام الشرعيّة و كلّ ظلم و إسراف لكنّ ضمّ الرسول إليه يهدي إلى أنّ المراد بها بعض ما للرسول فيه دخل، فيكون كالمتعيّن أن يراد بها ما يرجع إلى إبطال أثر ما للرسول عليه ولاية من جانب الله سبحانه كمحاربة الكفّار مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إخلال قطّاع الطريق بالأمن العامّ الّذي بسطه بولايته على الأرض، و تعقّب الجملة بقوله:( وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) يشخّص المعنى المراد و هو الإفساد في الأرض بالإخلال بالأمن و قطع الطريق دون مطلق المحاربة مع المسلمين، على أنّ الضرورة قاضية بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعامل المحاربين من الكفّار بعد الظهور عليهم و الظفر بهم هذه المعاملة من القتل و الصلب و المثلة و النفي.

على أنّ الاستثناء في الآية التالية قرينة على كون المراد بالمحاربة هو الإفساد المذكور فإنّه ظاهر في أنّ التوبة إنّما هي من المحاربة دون الشرك و نحوه.

فالمراد بالمحاربة و الإفساد على ما هو الظاهر هو الإخلال بالأمن العامّ، و الأمن العامّ إنّما يختلّ بإيجاد الخوف العامّ و حلوله محلّه، و لا يكون بحسب الطبع و العادة إلّا باستعمال السلاح المهدّد بالقتل طبعاً و لهذا ورد فيما ورد من السنّة تفسير الفساد في الأرض بشهر السيف و نحوه، و سيجي‏ء في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ) إلخ التقتيل و التصلّيب و التقطيع تفعيل من القتل و الصلب و القطع يفيد شدّة في معنى المجرّد أو زيادة فيه، و لفظة( أَوْ ) إنّما تدلّ على الترديد المقابل للجمع، و أمّا الترتيب أو التخيير بين أطراف الترديد فإنّما يستفاد أحدهما من قرينة خارجيّة حاليّة أو مقاليّة فالآية غير خالية عن الإجمال من هذه الجهة. و إنّما تبيّنها السنّة و سيجي‏ء أنّ المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الحدود الأربعة مترتّبة بحسب درجات الإفساد كمن شهر سيفاً فقتل النفس و

٣٥٤

أخذ المال أو قتل فقط أو أخذ المال فقط أو شهر سيفاً فقط على ما سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

و أمّا قوله:( أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ) فالمراد بكونه من خلاف أن يأخذ القطع كلّاً من اليد و الرجل من جانب مخالف لجانب الاُخرى كاليد اليمنى و الرجل اليسرى، و هذا هو القرينة على كون المراد بقطع الأيدي و الأرجل قطع بعضها دون الجميع أي إحدى اليدين و إحدى الرجلين مع مراعاة مخالفة الجانب.

و أمّا قوله:( أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) فالنفي هو الطرد و التغييب و فسّر في السنّة بطرده من بلد إلى بلد.

و في الآية أبحاث اُخر فقهيّة تطلب من كتب الفقه.

قوله تعالى: ( ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) الخزي هو الفضيحة، و المعنى ظاهر.

و قد استدلّ بالآية على أنّ جريان الحدّ على المجرم لا يستلزم ارتفاع عذاب الآخرة، و هو حقّ في الجملة.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) إلخ و أمّا بعد القبض عليهم و قيام البيّنة فإنّ الحدّ غير ساقط، و أمّا قوله تعالى:( فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فهو كناية عن رفع الحدّ عنهم، و الآية من موارد تعلّق المغفرة بغير الأمر الاُخرويّ.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) إلخ قال الراغب في المفردات: الوسيلة التوصّل إلى الشي‏ء برغبة، و هي أخصّ من الوصيلة لتضمّنها لمعنى الرغبة، قال تعالى:( وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) ، و حقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم و العبادة، و تحرّي مكارم الشريعة، و هي كالقربة، و إذ كانت نوعاً من التوصّل و ليس إلّا توصّلاً و اتّصالاً معنويّاً بما يوصل بين العبد و ربّه و يربط هذا بذاك، و لا رابط يربط العبد بربّه إلّا ذلّة العبوديّة، فالوسيلة هي التحقّق بحقيقة العبوديّة و توجيه وجه المسكنة و الفقر إلى جنابه تعالى، فهذه هي الوسيلة

٣٥٥

الرابطة، و أمّا العلم و العمل فإنّما هما من لوازمها و أدواتها كما هو ظاهر إلّا أن يطلق العلم و العمل على نفس هذه الحالة.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) مطلق الجهاد الّذي يعمّ جهاد النفس و جهاد الكفّار جميعاً إذ لا دليل على تخصيصه بجهاد الكفّار مع اتّصال الجملة بما تقدّمها من حديث ابتغاء الوسيلة، و قد عرفت ما معناه: على أنّ الآيتين التاليتين بما تشتملان عليه من التعليل إنّما تناسبان إرادة مطلق الجهاد من قوله:( وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) .

و مع ذلك فمن الممكن أن يكون المراد بالجهاد هو القتال مع الكفّار نظراً إلى أنّ تقييد الجهاد بكونه في سبيل الله إنّما وقع في الآيات الآمرة بالجهاد بمعنى القتال، و أمّا الأعمّ فخال عن التقييد كقوله تعالى:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (العنكبوت: ٦٩) و على هذا فالأمر بالجهاد في سبيل الله بعد الأمر بابتغاء الوسيلة إليه من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ اهتماماً بشأنه، و لعلّ الأمر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الأمر بالتقوى أيضاً من هذا القبيل.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) (إلى آخر الآيتين) ظاهره - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون تعليلاً لمضمون الآية السابقة، و المحصّل أنّه يجب عليكم أن تتّقوا الله و تبتغوا إليه الوسيلة و تجاهدوا في سبيله فإنّ ذلك أمر يهمّكم في صرف عذاب أليم مقيم عن أنفسكم، و لا بدل له يحلّ محلّه فإنّ الّذين كفروا فلم يتّقوا الله و لم يبتغوا إليه الوسيلة و لم يجاهدوا في سبيله لو أنّهم ملكوا ما في الأرض جميعاً - و هو أقصى ما يتمنّاه ابن آدم من الملك الدنيويّ عادة - ثمّ زيد عليه مثله ليكون لهم ضعفا ما في الأرض ثمّ أرادوا أن يفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبّل منهم و لهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار و هي العذاب و ما هم بخارجين منها لأنّه عذاب خالد مقيم عليهم لا يفارقهم أبداً.

و في الآية إشارة أوّلاً إلى أنّ العذاب هو الأصل القريب من الإنسان و إنّما يصرف عنه الإيمان و التقوى كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ

٣٥٦

عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) (مريم: ٧٢) و كذا قوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (العصر: ٣).

و ثانياً: أنّ الفطرة الأصليّة الإنسانيّة و هي الّتي تتألّم من النار غير باطلة فيهم و لا منتفية عنهم و إلّا لم يتألّموا و لم يتعذّبوا بها و لم يريدوا الخروج منها.

قوله تعالى: ( وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (الآية) الواو للاستيناف و الكلام في مقام التفصيل فهو في معنى:( و أمّا السارق و السارقة) إلخ و لذلك دخل الفاء في الخبر أعني قوله:( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) لأنّه في معنى جواب أمّا، كذا قيل.

و أمّا استعمال الجمع في قوله:( أَيْدِيَهُما ) مع أنّ المراد هو المثنّى فقد قيل: إنّه استعمال شائع، و الوجه فيه: أنّ بعض الأعضاء أو أكثرها في الإنسان مزدوجة كالقرنين و العينين و الاُذنين و اليدين و الرجلين و القدمين، و إذا اُضيفت هذه إلى المثنّى صارت أربعاً و لها لفظ الجمع كأعينهما و أيديهما و أرجلهما و نحو ذلك ثمّ اطّرد الجمع في الكلام إذا اُضيف عضو إلى المثنّى و إن لم يكن العضو من المزدوجات كقولهم: ملأت ظهورهما و بطونهما ضرباً، قال تعالى:( إِنْ تَتُوبا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) (التحريم: ٤) و اليد ما دون المنكب و المراد بها في الآية اليمين بتفسير السنّة، و يصدق قطع اليد بفصل بعض أجزائها أو جميعها عن البدن بآلة قطّاعة.

قوله:( جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ الله ) الظاهر أنّه في موضع الحال من القطع المفهوم من قوله:( فَاقْطَعُوا ) أي حال كون القطع جزاءً بما كسبا نكالاً من الله، و النكال هو العقوبة الّتي يعاقب بها المجرم لينتهي عن إجرامه، و يعتبر بها غيره من الناس.

و هذا المعنى أعني كون القطع نكالاً هو المصحّح لأن يتفرّع عليه قوله:( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ ) إلخ أي لمّا كان القطع نكالاً يراد به رجوع المنكول به عن معصيته فمن تاب من بعد ظلمه توبة ثمّ أصلح و لم يحم حول السرقة - و هذا أمر يستثبت به معنى التوبة - فإنّ الله يتوب عليه و يرجع إليه بالمغفرة و الرحمة لأنّ الله غفور رحيم، قال تعالى:( ما يَفْعَلُ الله بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ الله شاكِراً عَلِيماً ) (النساء: ١٤٧).

٣٥٧

و في الآية أبحاث اُخر كثيرة فقهية للطالب أن يراجع فيها كتب الفقه.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) (الآية) في موضع التعليل لما ذكر في الآية السابقة من قبول توبة السارق و السارقة إذا تابا و أصلحا من بعد ظلمهما فإنّ الله سبحانه لمّا كان له ملك السماوات و الأرض، و للملك أن يحكم في مملكته و رعيّته بما أحبّ و أراد من عذاب أو رحمة كان له تعالى أن يعذّب من يشاء و يغفر لمن يشاء على حسب الحكمة و المصلحة فيعذّب السارق و السارقة إن لم يتوبا و يغفر لهما إن تابا.

و قوله:( وَ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) في موضع التعليل لقوله:( لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) فإنّ الملك (بضمّ الميم) من شؤون القدرة كما أنّ الملك (بكسر الميم) من فروع الخلق و الإيجاد أعني القيمومة الإلهيّة.

بيان ذلك: أنّ الله تعالى خالق الأشياء و موجدها فما من شي‏ء إلّا و ما له من نفسه و آثار نفسه لله سبحانه، هو المعطي لما أعطى و المانع لما منع، فله أن يتصرّف في كلّ شي‏ء، و هذا هو الملك (بكسر الميم) قال تعالى:( قُلِ الله خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (الرعد: ١٦) و قال:( الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) (البقرة: ٢٥٥) و هو تعالى مع ذلك قادر على أي تصرّف شاء و أراد إذ كلّما فرض من شي‏ء فهو منه فله مضيّ الحكم و نفوذ الإرادة و هو الملك (بضمّ الميم) و السلطنة على كلّ شي‏ء فهو تعالى مالك لأنّه قيّوم على كلّ شي‏ء، و ملك لأنّه قادر غير عاجز و لا ممنوع من نفوذ مشيئته و إرادته.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن أبي صالح، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوم من بني ضبّة مرضى فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقيموا عندي فإذا برأتم بعثتكم في سريّة، فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها،

٣٥٨

و يأكلون من ألبانها فلمّا برأوا و اشتدّوا قتلوا ثلاثة ممّن كان في الإبل فبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعث إليهم عليّاًعليه‌السلام و إذا هم في واد قد تحيّروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريباً من أرض اليمن فأسرهم و جاء بهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت هذه الآية:( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الله وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ) .

أقول: و رواه في التهذيب، بإسناده عن أبي صالح عنهعليه‌السلام ، باختلاف يسير، و رواه العيّاشيّ، في تفسيره عنهعليه‌السلام : و زاد في آخره فاختار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف‏، و القصّة مرويّة في جوامع أهل السنّة و منها الصحاح الستّة بطرق على اختلاف في خصوصيّاتها، و منها ما وقع في بعضها أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن ظفر بهم قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و سمل أعينهم، و في بعضها: فقتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم و صلب و قطع و سمل الأعين، و في بعضها: أنّه إنّما سمل أعينهم لأنّهم سملوا أعين الرعاة، و في بعضها: أنّ الله نهاه عن سمل الأعين، و أنّ الآية نزلت معاتبة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر هذه المثلة، و في بعضها: أنّه أراد أن يسمل أعينهم و لم يسمل، إلى غير ذلك.

و الروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام خالية عن ذكر سمل الأعين.

و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عبيد الله المدائنيّ عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: سئل عن قول الله عزّوجلّ:( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الله وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا ) (الآية) فما الّذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟ فقال: إذا حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فساداً فقتل قتل به، و إن قتل و أخذ المال قتل و صلب، و إن أخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف، و إن شهر السيف فحارب الله و رسوله و سعى في الأرض فساداً و لم يقتل و لم يأخذ المال نفي من الأرض. قلت كيف ينفى من الأرض و ما حدّ نفيه؟ قال: ينفى من المصر الّذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره، و يكتب إلى أهل ذلك المصر أنّه منفيّ فلا تجالسوه و لا تبايعوه و لا تناكحوه و لا تؤاكلوه و لا تشاربوه فيفعل ذلك به سنة فإن خرج من ذلك المصر إلى

٣٥٩

غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتّى تتمّ السنة، قلت: فإن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها؟ قال: إن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها.

أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، و العيّاشيّ في تفسيره عن أبي إسحاق المدائنيّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الروايات في هذه المعاني مستفيضة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و كذا روي ذلك بعدّة طرق من طرق أهل السنّة، و في بعض رواياتهم أنّ الإمام بالخيار إن شاء قتل و إن شاء صلب و إن شاء قطع الأيدي و الأرجل من خلاف و إن شاء نفى، و نظيره ما وقع في بعض روايات الخاصّة من كون الإمام بالخيار كالّذي‏ رواه في الكافي، مسنداً عن جميل بن درّاج عن الصادقعليه‌السلام : في الآية قال فقلت: أيّ شي‏ء عليهم من هذه الحدود الّتي سمّى الله عزّوجلّ؟ قال: ذلك إلى الإمام إن شاء قطع، و إن شاء نفى، و إن شاء صلب، و إن شاء قتل: قلت: النفي إلى أين؟ قالعليه‌السلام ينفى من مصر إلى آخر، و قال: إنّ عليّاًعليه‌السلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة.

و تمام الكلام في الفقه غير أنّ الآية لا تخلو عن إشعار بالترتيب بين الحدود بحسب اختلاف مراتب الفساد فإنّ الترديد بين القتل و الصلب و القطع و النفي - و هي اُمور غير متعادلة و لا متوازنة بل مختلفة من حيث الشدّة و الضعف - قرينة عقليّة على ذلك.

كما أنّ ظاهر الآية أنّها حدود للمحاربة و الفساد فمن شهر سيفاً و سعى في الأرض فساداً أو قتل نفساً فإنّما يقتل لأنّه محارب مفسد و ليس ذلك قصاصاً يقتصّ منه لقتل النفس المحترمة فلا يسقط القتل لو رضي أولياء المقتول بالدية كما رواه العيّاشيّ في تفسيره، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام ، و فيه: قال أبوعبيدة: أصلحك الله أ رأيت إن عفي عنه أولياء المقتول؟ فقال أبوجعفرعليه‌السلام : إن عفوا عنه فعلى الإمام أن يقتله لأنّه قد حارب و قتل و سرق، فقال أبوعبيدة: فإن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية و يدعونه أ لهم ذلك؟ قال: لا، عليه القتل.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن أبي الدنيا في كتاب الأشراف و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الشعبيّ قال: كان حارثة بن بدر التميميّ

٣٦٠