الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 81150
تحميل: 8987


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81150 / تحميل: 8987
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

التقوى، و يختار سفساف الشره، و على هذا السبيل سائر الأسباب الشعوريّة في الإنسان و إلّا فالإنسان لا يحيد عن حكم سبب من هذه الأسباب ما دام السبب قائماً على ساق، و لا مانع يمنع من تأثيره، فجميع هذه التخلّفات تستند إلى مغالبة التقوى و الأسباب، و تغلّب بعضها على بعض.

و من هنا يظهر أنّ هذه القوّة المسمّاة بقوّة العصمة سبب شعوريّ علميّ غير مغلوب البتّة، و لو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور و الإدراك لتسرّب إليها التخلّف، و خبطت في أثرها أحياناً، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم و الإدراكات المتعارفة الّتي تقبل الاكتساب و التعلّم.

و قد أشار الله تعالى إليه في خطابه الّذي خصّ به نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( وَ أَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) و هو خطاب خاصّ لا نفقهه حقيقة الفقه إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم و الشعور غير أنّ الّذي يظهر لنا من سائر كلامه تعالى بعض الظهور كقوله:( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) (البقرة: ٩٧) و قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) (الشعراء: ١٩٥) أنّ الإنزال المذكور من سنخ العلم، و يظهر من جهة اُخرى أنّ ذلك من قبيل الوحي و التكليم كما يظهر من قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ ) الآية (الشورى: ١٣) و قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (النساء: ١٦٣) و قوله:( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ ) (الأنعام: ٥٠)، و قوله:( إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى‏ إِلَيَّ ) (الأعراف: ٢٠٣).

و يستفاد من الآيات على اختلافها أنّ المراد بالإنزال هو الوحي وحي الكتاب و الحكمة و هو نوع تعليم إلهيّ لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أنّ الّذي يشير إليه بقوله:( وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) ليس هو الّذي علمه بوحي الكتاب و الحكمة فقط فإنّ مورد الآية قضاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحوادث الواقعة و الدعاوي الّتي ترفع إليه برأيه الخاصّ، و ليس ذلك من الكتاب و الحكمة بشي‏ء و إن كان متوقّفاً عليهما بل رأيه و نظره الخاصّ به.

٨١

و من هنا يظهر أنّ المراد بالإنزال و التعليم في قوله:( وَ أَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) نوعان اثنان من العلم، أحدهما: التعليم بالوحي و نزول الروح الأمين على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و، الآخر: التعليم بنوع من الإلقاء في القلب و الإلهام الخفيّ الإلهيّ من غير إنزال الملك و هذا هو الّذي تؤيّده الروايات الواردة في علم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و على هذا فالمراد بقوله:( وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) آتاك نوعاً من العلم لو لم يؤتك إيّاه من لدنه لم يكفك في إيتائه الأسباب العاديّة الّتي تعلّم الإنسان ما يكتسبه من العلوم.

فقد بان من جميع ما قدّمناه أنّ هذه الموهبة الإلهيّة الّتي نسمّيها قوّة العصمة نوع من العلم و الشعور يغاير سائر أنواع العلوم في أنّه غير مغلوب لشي‏ء من القوى الشعوريّة البتّة بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إيّاها، و لذلك كانت تصون صاحبها من الضلال و الخطيئة مطلقاً، و قد ورد في الروايات أنّ للنبيّ و الإمام روحاً تسمّى روح القدس تسدّده و تعصمه عن المعصية و الخطيئة، و هي الّتي يشير إليها قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ) (الشورى: ٥٢) بتنزيل الآية على ظاهرها من إلقاء كلمة الروح المعلّمة الهادية إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نظيره قوله تعالى:( وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ ) (الأنبياء: ٧٣) بناء على ما سيجي‏ء من بيان معنى الآية إن شاء الله العزيز أنّ المراد به تسديد روح القدس الإمام بفعل الخيرات و عبادة الله سبحانه.

و بان ممّا مرّ أيضاً أنّ المراد بالكتاب في قوله:( وَ أَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) هو الوحي النازل لرفع اختلافات الناس على حدّ قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) الآية (البقرة: ٢١٣) و قد تقدّم بيانه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

٨٢

و المراد بالحكمة سائر المعارف الإلهيّة النازلة بالوحي، النافعة للدنيا و الآخرة، و المراد بقوله:( وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) غير المعارف الكلّيّة العامّة من الكتاب و الحكمة.

و بذلك يظهر ما في كلمات بعض المفسّرين في تفسير الآية. فقد فسّر بعضهم الكتاب بالقرآن، و الحكمة بما فيه من الأحكام، و( ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) بالأحكام و الغيب و فسّر بعضهم الكتاب و الحكمة بالقرآن و السنّة، و( ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) بالشرائع و أنباء الرسل الأوّلين و غير ذلك من العلوم إلى غير ذلك ممّا ذكروه، و قد تبيّن وجه ضعفها بما مرّ فلا نعيد.

قوله تعالى: ( وَ كانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً ) امتنان على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) قال الراغب: و ناجيته أي ساررته و أصله أن تخلو به في نجوة من الأرض (انتهى) فالنجوى المسارّة في الحديث، و ربّما اُطلق على نفس المتناجين قال تعالى:( وَ إِذْ هُمْ نَجْوى) (الإسراء: ٤٧) أي متناجون.

و في الكلام أعني قوله:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ) عود إلى ما تقدّم من قوله تعالى:( إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى‏ مِنَ الْقَوْلِ ) (الآية) بناءً على اتّصال الآيات و قد عمّم البيان لمطلق المسارّة في القول سواء كان ذلك بطريق التبييت أو بغيره لأنّ الحكم المذكور و هو انتفاء الخير فيه إنّما هو لمطلق المسارّة و إن لم تكن على نحو التبييت، و نظيره قوله:( وَ مَنْ يُشاقِقِ ) ، دون أن يقول: و من يناج للمشاقّة، لأنّ الحكم المذكور لمطلق المشاقّة أعمّ من أن يكون نجوى أو لا.

و ظاهر الاستثناء أنّه منقطع، و المعنى: لكنّ من أمر بكذا و كذا فيه ففيما أمر به شي‏ء من الخير، و قد سمّى دعوة النجوى إلى الخير أمراً و ذلك من قبيل الاستعارة، و قد عدّ تعالى هذا الخير الّذي يأمر به النجوى ثلاثة: الصدقة، و المعروف، و الإصلاح بين الناس. و لعلّ إفراد الصدقة عن المعروف مع كونها من أفراده لكونها الفرد الكامل في الاحتياج إلى النجوى بالطبع، و هو كذلك غالباً.

٨٣

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ الله ) ، تفصيل لحال النجوى ببيان آخر من حيث التبعة من المثوبة و العقوبة ليتبيّن به وجه الخير فيما هو خير من النجوى، و عدم الخير فيما ليس بخير منه.

و محصّله أنّ فاعل النجوى على قسمين: (أحدهما) من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، و لا محالة ينطبق على ما يدعو إلى معروف أو إصلاح بين الناس تقرّباً إلى الله، و سوف يثيبه الله سبحانه بعظيم الأجر، و (ثانيهما) أن يفعل ذلك لمشاقّة الرسول و اتّخاذ طريق غير طريق المؤمنين و سبيلهم، و جزاؤه الإملاء و الاستدراج الإلهيّ ثمّ إصلاء جهنم و ساءت مصيراً.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، المشاقّة من الشقّ و هو القطعة المبانة من الشي‏ء فالمشاقّة و الشقاق كونك في شقّ غير شقّ صاحبك، و هو كناية عن المخالفة، فالمراد بمشاقّة الرسول بعد تبيّن الهدى مخالفته و عدم إطاعته، و على هذا فقوله:( وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) بيان آخر لمشاقّة الرسول، و المراد بسبيل المؤمنين إطاعة الرسول فإنّ طاعته طاعة الله قال تعالى:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله ) (النساء: ٨٠).

فسبيل المؤمنين بما هم مجتمعون على الإيمان هو الاجتماع على طاعة الله و رسوله - و إن شئت فقل على طاعة رسوله - فإنّ ذلك هو الحافظ لوحدة سبيلهم كما قال تعالى:( وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ آياتُ الله وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا ) (آل عمران: ١٠٣) و قد تقدّم الكلام في الآية في الجزء الثالث من هذا الكتاب، و قال تعالى:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (الأنعام: ١٥٣) و إذا كان سبيله سبيل التقوى، و المؤمنون هم المدعوّون إليه فسبيلهم مجتمعين سبيل التعاون على التقوى كما قال تعالى:( وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى

٨٤

الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ ) (المائدة: ٢) و الآية - كما ترى - تنهى عن معصية الله و شقّ عصا الاجتماع الإسلامي، و هو ما ذكرناه من معنى سبيل المؤمنين.

فمعنى الآية أعني قوله:( وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، يعود إلى معنى قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ ) (الآية) (المجادلة: ٩).

و قوله( نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ) ، أي نجره على ما جرى عليه، و نساعده على ما تلبّس به من اتّباع غير سبيل المؤمنين كما قال تعالى:( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (الإسراء: ٢٠).

و قوله:( وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً ) عطفه بالواو يدلّ على أنّ الجميع أي توليته ما تولّى و إصلاؤه جهنم أمر واحد إلهيّ بعض أجزائه دنيويّ و هو توليته ما تولّى، و بعضها اُخرويّ و هو إصلاؤه جهنّم و ساءت مصيراً.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) إلى آخر الآية ظاهر الآية أنّها في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة:( نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ ) ، بناء على اتّصال الآيات فالآية تدلّ على أنّ مشاقّة الرسول شرك بالله العظيم، و أنّ الله لا يغفر أن يشرك به، و ربّما استفيد ذلك من قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى‏ لَنْ يَضُرُّوا الله شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ ) (محمّد: ٣٤) فإنّ ظاهر الآية الثالثة أنّها تعليل لما في الآية الثانية من الأمر بطاعة الله و طاعة رسوله فيكون الخروج عن طاعة الله و طاعة رسوله كفراً لا يغفر أبداً، و هو الشرك.

و المقام يعطي أنّ إلحاق قوله:( وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) بقوله:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) إنّما هو لتتميم البيان، و إفادة عظمة هذه المعصية المشؤومة أعني مشاقّة الرسول، و قد تقدّم بعض الكلام في الآية في آخر الجزء الرابع من هذا الكتاب.

٨٥

قوله تعالى: ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً ) الإناث جمع اُنثى يقال: أنث الحديد أنثاً أي انفعل و لان، و أنث المكان أسرع في الإنبات و جاد، ففيه معنى الانفعال و التأثّر، و بذلك سمّيت الاُنثى من الحيوان اُنثى و قد سمّيت الأصنام و كلّ معبود من دون الله إناثاً لكونها قابلات منفعلات ليس في وسعها أن تفعل شيئاً ممّا يتوقّعه عبادها منها - كما قيل - قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ ما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (الحجّ: ٧٤) و قال:( وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) (الفرقان: ٣).

فالظاهر أنّ المراد بالاُنوثة الانفعال المحض الّذي هو شأن المخلوق إذا قيس إلى الخالق عزّ اسمه، و هذا الوجه اُولى ممّا قيل: إنّ المراد هو اللّات و العزّى و منات الثالثة و نحوها، و قد كان لكلّ حيّ صنم يسمّونه اُنثى بني فلان إمّا لتأنيث أسمائها أو لأنّها كانت جمادات و الجمادات تؤنّث في اللّفظ.

و وجه الأولويّة أنّ ذلك لا يلائم الحصر الواقع في قوله:( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً ) كثير ملاءمة، و بين من يدعى من دون الله من هو ذكر غير اُنثى كعيسى المسيح و برهما و بوذا.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً ) المريد هو العاري من كلّ خير أو مطلق العاري، قال البيضاويّ: المارد و المريد الّذي لا يعلق بخير، و أصل التركيب للملامسة، و منه صرح ممرّد، و غلام أمرد، و شجرة مرداء للّتي تناثر ورقها (انتهى).

و الظاهر أنّ الجملة بيان للجملة السابقة فإنّ الدعوة كناية عن العبادة لكون العبادة إنّما نشأت بين الناس للدعوة على الحاجة، و قد سمّى الله تعالى الطاعة عبادة قال تعالى:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) (يس: ٦١) فيؤول معنى الجملة إلى أنّ عبادتهم لكلّ معبود من دون الله عبادة و دعوة منهم للشيطان المريد لكونها طاعة له.

٨٦

قوله تعالى: ( لَعَنَهُ الله ) اللّعن هو الإبعاد عن الرحمة، و هو وصف ثان للشيطان و بمنزلة التعليل للوصف الأوّل.

قوله تعالى: ( وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ) كأنّه إشارة إلى ما حكاه الله تعالى عنه من قوله:( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ( ص: ٨٣) و في قوله:( مِنْ عِبادِكَ ) تقرير أنّهم مع ذلك عباده لا ينسلخون عن هذا الشأن، و هو ربّهم يحكم فيهم بما شاء.

قوله تعالى: ( وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ ) (إلى آخر) الآية التبتيل هو الشقّ، و ينطبق على ما نقل: أنّ عرب الجاهليّة كانت تشقّ آذان البحائر و السوائب لتحريم لحومها.

و هذه الاُمور المعدودة جميعها ضلال فذكر الإضلال معها من قبيل ذكر العامّ ثمّ ذكر بعض أفراده لعناية خاصّة به، يقول: لاُضلّنّهم بالاشتغال بعبادة غير الله و اقتراف المعاصي، و لاُغرّنّهم بالاشتغال بالآمال و الأمانيّ الّتي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم و ما يهمّهم من أمرهم، و لآمرنّهم بشقّ آذان الأنعامّ و تحريم ما أحلّ الله سبحانه، و لآمرنّهم بتغيير خلق الله و ينطبق على مثل الإخصاء و أنواع المثلة و اللّواط و السحق.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة و ترك الدين الحنيف، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (الروم: ٣٠).

ثمّ عدّ تعالى دعوة الشيطان و هي طاعته فيما يأمر به اتّخاذاً له وليّاً فقال:( وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً ) و لم يقل: و من يكن الشيطان له وليّاً إشعاراً بما تشعر به الآيات السابقة أنّ الوليّ هو الله، و لا ولاية لغيره على شي‏ء و إن اتّخذ وليّاً.

قوله تعالى: ( يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً ) ظاهر السياق أنّه تعليل لقوله في الآية السابقة:( فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً ) و أيّ خسران أبين

٨٧

من خسران من يبدّل السعادة الحقيقيّة و كمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة و الأمانيّ الموهومة، قال تعالى:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ الله عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ الله سَرِيعُ الْحِسابِ ) (النور. ٣٩).

أمّا المواعيد فهي الوساوس الشيطانيّة بلا واسطة، و أمّا الأمانيّ فهي المتفرّعة على وساوسه ممّا يستلذّه الوهم من المتخيّلات، و لذلك قال:( وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً ) فعدّ الوعد غروراً دون التمنية على ما لا يخفى.

ثمّ بيّن عاقبة حالهم بقوله:( أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً ) أي معدلاً و مفرّاً من( حاص ) إذا عدل.

ثمّ ذكر ما يقابل حالهم و هو حال المؤمنين تتميماً للبيان فقال تعالى:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ ) إلى آخر الآية و في الآيات التفات من سياق التكلّم مع الغير إلى الغيبة، و الوجه العامّ فيه الإيماء إلى جلالة المقام و عظمته بوضع لفظ الجلالة موضع ضمير المتكلّم مع الغير فيما يحتاج إلى هذا الإشعار حتّى إذا استوفى الغرض رجع إلى سابق السياق الّذي كان هو الأصل، و ذلك في قوله:( سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ ) ، و في ذلك نكتة اُخرى، و هي الإيماء إلى قرب الحضور و عدم احتجابه تعالى عن عباده المؤمنين و هو وليّهم.

قوله تعالى: ( وَعْدَ الله حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا ) فيه مقابلة لما ذكر في وعد الشيطان أنّه ليس إلّا غروراً فكان وعد الله حقّاً، و قوله صدقاً.

قوله تعالى: ( لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ) عود إلى بدء الكلام و بمنزلة النتيجة المحصّلة الملخّصة من تفصيل الكلام، و ذلك أنّه يتحصّل من المحكيّ من أعمال بعض المؤمنين و أقوالهم، و إلحاحهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يراعي جانبهم، و يعاضدهم و يساعدهم على غيرهم فيما يقع بينهم من النزاع و المشاجرة أنّهم يرون أنّ لهم بإيمانهم كرامة على الله سبحانه و حقّاً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجب به على الله و رسوله مراعاة جانبهم، و تغليب جهتهم على غيرهم على الحقّ كانوا أو على الباطل، عدلاً كان الحكم أو ظلماً على حدّ ما يراه اتّباع أئمّة الضلال، و حواشي رؤساء الجور و بطائنهم

٨٨

و أذنابهم، فالواحد منهم يمتنّ على متبوعه و رئيسه في عين أنّه يخضع له و يطيعه، و يرى أنّ له عليه كرامة تلتزمه على مراعاة جانبه و تقديمه على غيره تحكّماً.

و كذا كان يراه أهل الكتاب على ما حكاه الله تعالى في كتابه عنهم قال تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى‏ نَحْنُ أَبْناءُ الله وَ أَحِبَّاؤُهُ ) (المائدة: ١٨)، و قال تعالى:( وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏ تَهْتَدُوا ) (البقرة: ١٣٥)، و قال تعالى:( قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) (آل عمران: ٧٥).

فردّ الله على هذه الطائفة من المؤمنين في مزعمتهم، و أتبعهم بأهل الكتاب و سمّى هذه المزاعم بالأمانيّ استعارة لأنّها كالأمانيّ ليست إلّا صوراً خياليّة ملذة لا أثر لها في الأعيان فقال: ليس بأمانيّكم معاشر المسلمين أو معشر طائفة من المسلمين و لا بأمانيّ أهل الكتاب بل الأمر يدور مدار العمل إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ، و قدّم ذكر السيّئة على الحسنة لأنّ عمدة خطإهم كانت فيها.

قوله تعالى: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) جي‏ء في الكلام بالفصل من غير وصل لأنّه في موضع الجواب عن سؤال مقدّر، تقديره: إذا لم يكن الدخول في حمى الإسلام و الإيمان يجرّ للإنسان كلّ خير، و يحفظ منافعه في الحياة، و كذا اليهوديّة و النصرانيّة فما هو السبيل؟ و إلى ما ذا ينجرّ حال الإنسان؟ فقيل:( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ) إلخ.

و قوله( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) مطلق يشمل الجزاء الدنيويّ الّذي تقرّره الشريعة الإسلاميّة كالقصاص للجاني، و القطع للسارق، و الجلد أو الرجم للزاني إلى غير ذلك من أحكام السياسات و غيرها و يشمل الجزاء الاُخرويّ الّذي أوعده الله تعالى في كتابه و بلسان نبيّه.

و هذا التعميم هو المناسب لمورد الآيات الكريمة و المنطبق عليه، و قد ورد في سبب النزول أنّ الآيات نزلت في سرقة ارتكبها بعض، و رمى بها يهوديّاً أو مسلماً ثمّ ألحّوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقضي على المتّهم.

٨٩

و قوله:( وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) يشمل الوليّ و النصير في صرف الجزاء السيّئ عنه في الدنيا كالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو وليّ الأمر و كالتقرّب منهما و كرامة الإسلام و الدين، فالجزاء المشرّع من عندالله لا يصرفه عن عامل السوء صارف، و يشمل الوليّ و النصير الصارف عنه سوء الجزاء في الآخرة إلّا ما تشمله الآية التالية.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) هذا هو الشقّ الثاني المتضمّن لجزاء عامل العمل الصالح و هو الجنّة، غير أنّ الله سبحانه شرط فيه شرطاً يوجب تضييقاً في فعليّة الجزاء و عمّم فيه من جهة اُخرى توجب السعة.

فشرط في المجازاة بالجنّة أن يكون الآتي بالعمل الصالح مؤمناً إذ الجزاء الحسن إنّما هو بإزاء العمل الصالح و لا عمل للكافر، قال تعالى:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (الأنعام: ٨٨)، و قال تعالى:( أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ) (الكهف: ١٠٥).

قال تعالى:( وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ) فأتى بمن التبعيضيّة، و هو توسعة في الوعد بالجنّة، و لو قيل: و من يعمل الصالحات - و المقام مقام الدقّة في الجزاء - أفاد أنّ الجنّة لمن آمن و عمل كلّ عمل صالح، لكنّ الفضل الإلهيّ عمّم الجزاء الحسن لمن آمن و أتى ببعض الصالحات فهو يتداركه فيما بقي من الصالحات أو اقترف من المعاصي بتوبة أو شفاعة كما قال تعالى:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (النساء: ١١٦) و قد تقدّم تفصيل الكلام في التوبة و في قوله تعالى:( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله ) (النساء: ١٧) في الجزء الرابع، و في الشفاعة في قوله تعالى:( وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ) (البقرة: ٤٨) في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

و قال تعالى:( مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ ) فعمّم الحكم للذكر و الاُنثى من غير فرق أصلاً خلافاً لما كانت تزعمه القدماء من أهل الملل و النحل كالهند و مصر و سائر الوثنيّين أنّ النساء لا عمل لهنّ و لا ثواب لحسناتهنّ، و ما كان يظهر من اليهوديّة و النصرانيّة أنّ الكرامة و العزّة للرجال، و أنّ النساء أذلّاء عندالله نواقص في الخلقة خاسرات

٩٠

في الأجر و المثوبة، و العرب لا تعدو فيهنّ هذه العقائد فسوّى الله تعالى بين القبيلين بقوله( مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ ) .

و لعلّ هذا هو السرّ في تعقيب قوله:( فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ) بقوله:( وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) لتدلّ الجملة الاُولى على أنّ النساء ذوات نصيب في المثوبة كالرجال، و الجملة الثانية على أن لا فرق بينهما فيها من حيث الزيادة و النقيصة كما قال تعالى:( فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) (آل عمران: ١٩٥).

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَ هُوَ مُحْسِنٌ ) إلى آخر الآية كأنّه دفع لدخل مقدّر، تقديره: أنّه إذا لم يكن لإسلام المسلم أو لإيمان أهل الكتاب تأثير في جلب الخير إليه و حفظ منافعه و بالجملة إذا كان الإيمان بالله و آياته لا يعدل شيئاً و يستوي وجوده و عدمه فما هو كرامة الإسلام و ما هي مزيّة الإيمان؟.

فاُجيب بأنّ كرامة الدين أمر لا يشوبه ريب، و لا يداخله شكّ و لا يخفى حسنه على ذي لبّ و هو قوله:( وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً ) ، حيث قرّر بالاستفهام على طريق إرسال المسلم فإنّ الإنسان لا مناص له عن الدين، و أحسن الدين إسلام الوجه لله الّذي له ما في السماوات و ما في الأرض، و الخضوع له خضوع العبوديّة، و العمل بما يقتضيه ملّة إبراهيم حنيفاً و هو الملّة الفطريّة، و قد اتّخذ الله سبحانه إبراهيم الّذي هو أوّل من أسلم وجهه لله محسناً و اتّبع الملّة الحنيفيّة خليلاً.

لكن لا ينبغي أن يتوهّم أنّ الخلّة الإلهيّة كالخلّة الدائرة بين الناس الحاكمة بينهم على كلّ حقّ و باطل الّتي يفتح لهم باب المجازفة و التحكّم فالله سبحانه مالك غير مملوك و محيط غير محاط بخلاف الموالي و الرؤساء و الملوك من الناس فإنّهم لا يملكون من عبيدهم و رعاياهم شيئاً إلّا و يملّكونهم من أنفسهم شيئاً بإزائه، و يقهرون البعض بالبعض، و يحكمون على طائفة بالأعضاد من طائفة اُخرى و لذلك لا يثبتون في مقامهم إذا خالفت إرادتهم إرادة الكلّ بل سقطوا عن مقامهم و بان ضعفهم.

و من هنا يظهر الوجه في تعقيب قوله:( وَ مَنْ أَحْسَنُ قولاً ) إلخ بقوله:( وَ لله ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ الله بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطاً ) .

٩١

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، إنّ سبب نزولها (يعني قوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ) الآيات) أنّ قوماً من الأنصار من بني اُبيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين: بشير، و بشر، و مبشّر. فنقبوا على عمّ قتادة بن النعمان - و كان قتادة بدريّاً - و أخرجوا طعاماً كان أعدّه لعياله و سيفاً و درعاً.

فشكا قتادة ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله إنّ قوماً نقبوا على عمّي، و أخذوا طعاماً كان أعدّه لعياله و سيفاً و درعاً، و هم أهل بيت سوء، و كان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له:( لبيد بن سهل) فقال بنو اُبيرق لقتادة: هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ ذلك لبيداً فأخذ سيفه و خرج عليهم فقال: يا بني اُبيرق أ ترمونني بالسرقة؟ و أنتم اُولى به منّي، و أنتم المنافقون تهجون رسول الله، و تنسبون إلى قريش، لتبيّننّ ذلك أو لأملأنّ سيفي منكم، فداروه و قالوا له: ارجع يرحمك الله فإنّك بري‏ء من ذلك.

فمشى بنو اُبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له:( اُسيد بن عروة) و كان منطقياً بليغاً فمشى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله إنّ قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منّا أهل شرف و حسب و نسب فرماهم بالسرق و اتّهمهم بما ليس فيهم فاغتمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك، و جاءه قتادة فأقبل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له: عمدت إلى أهل بيت شرف و حسب و نسب فرميتهم بالسرقة، و عاتبه عتاباً شديداً فاغتمّ قتادة من ذلك، و رجع إلى عمّه و قال له: يا ليتني متّ و لم اُكلّم رسول الله فقد كلّمني بما كرهته. فقال عمّه: الله المستعان.

فأنزل الله في ذلك على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ - إلى أن قال -إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى‏ مِنَ الْقَوْلِ‏ ) (قال القمّيّ) يعني الفعل فوقع القول مقام الفعل:( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا - إلى أن قال -وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ) (قال القمّيّ) لبيد بن سهل( فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ) .

٩٢

و في تفسير القمّيّ: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : إنّ إنساناً من رهط بشير الأدنين قالوا: انطلقوا بنا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قالوا: نكلّمه في صاحبنا أو نعذّره أن صاحبنا بري‏ء فلمّا أنزل الله:( يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ - إلى قوله -وَكِيلًا ) أقبلت رهط بشر فقالوا: يا بشر استغفر الله و تب إليه من الذنوب. فقال: و الّذي أحلف به ما سرقها إلّا لبيد فنزلت( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ) .

ثمّ إنّ بشراً كفر و لحق بمكّة، و أنزل الله في النفر الّذين أعذروا بشراً و أتوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعذّروه قوله:( وَ لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ - إلى قوله -وَ كانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً ) .

و في الدرّ المنثور: أخرج الترمذيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و الحاكم و صحّحه عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منّا يقال لهم( بنو اُبيرق) ، بشر، و بشير، و مبشّر. و كان بشر رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ ينحله بعض العرب ثمّ يقول: قال فلان كذا و كذا، قال فلان كذا و كذا، و إذا سمع أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك الشعر قالوا: و الله ما يقول هذا الشعر إلّا هذا الخبيث فقال:

أو كلّما قال الرجال قصيدة

أضموا فقالوا ابن الاُبيرق قالها

قال: و كانوا أهل بيت حاجة و فاقة في الجاهليّة و الإسلام، و كان الناس إنّما طعامهم بالمدينة التمر و الشعير، و كان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة(١) من الشام من الدرمك (٢) ابتاع الرجل منها فخصّ بها نفسه، أمّا العيال فإنّما طعامهم التمر و الشعير.

فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمّي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في‏ مشربة له،(٣) و في المشربة سلاح له: درعان، و سيفاهما، و ما يصلحهما. فعدا عديّ من تحت اللّيل فنقب المشربة، و أخذ الطعام و السلاح، فلمّا أصبح أتاني عمّي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنّه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا و سلاحنا؟

____________________

(١) الضافطة: الإبل الحمولة.

(٢) الدرمك: الدقيق الحواري أي الأبيض الناهم.

(٣) المشربة: الغرفة الّتي يشرب فيها.

٩٣

قال: فتجسّسنا في الدار و سألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني اُبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة، و لا نرى فيما نرى إلّا على بعض طعامكم، قال: و قد كان بنو اُبيرق قالوا - و نحن نسأل في الدار -: و الله ما نرى صاحبكم إلّا لبيد بن سهل - رجلاً منّا له صلاح و إسلام - فلمّا سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثمّ أتى بنو اُبيرق و قال: أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنّكم هذا السيف أو لتبيّننّ هذه السرقة. قالوا: إليك عنّا أيّها الرجل فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتّى لم نشكّ أنّهم أصحابها، فقال لي عمّي: يا ابن أخي لو أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت ذلك له!.

قال قتادة: فأتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: يا رسول الله إنّ أهل بيت منّا أهل جفاء عمدوا إلى عمّي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، و أخذوا سلاحه و طعامه فليردّوا علينا سلاحنا فأمّا الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سأنظر في ذلك. فلمّا سمع ذلك بنو اُبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له:( اُسير بن عروة) فكلّموه في ذلك و اجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا رسول الله إنّ قتادة بن النعمان و عمّه عمداً إلى أهل بيت منّا أهل إسلام و صلاح يرميانهم بالسرقة من غير بيّنة و لا ثبت.

قال قتادة: فأتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلّمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام و صلاح ترميهم بالسرقة من غير بيّنة و لا ثبت؟.

قال قتادة: فرجعت و لوددت أنّي خرجت من بعض مالي، و لم أكلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك، فأتاني عمّي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: الله المستعان.

فلم نلبث أن نزل القرآن:( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ الله وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً - بني اُبيرق -وَ اسْتَغْفِرِ الله - أي ممّا قلت لقتادة -إِنَّ الله كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ - إلى قوله -ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً - أي إنّهم لو استغفروا الله لغفر لهم -وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً - إلى قوله -فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً - قولهم للبيد -وَ لَوْ لا فَضْلُ

٩٤

الله عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ - يعني اُسير بن عروة و أصحابه - إلى قوله -فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) فلمّا نزل القرآن أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسلاح فردّه إلى رفاعة.

قال قتادة: فلمّا أتيت عمّي بالسلاح، و كان شيخاً قد عسا في الجاهليّة و كنت أرى إسلامه مدخولاً فلمّا أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو سبيل الله فعرفت أنّ إسلامه كان صحيحاً.

فلمّا نزل القرآن لحق بشر بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله:( وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى - إلى قوله -ضَلالًا بَعِيداً ) فلمّا نزل على سلافة رماها حسّان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثمّ خرجت فرمت به في الأبطح ثمّ قالت: أهديت لي شعر حسّان؟ ما كنت تأتيني بخير.

أقول: و هذا المعنى مرويّ بطرق اُخري.

و فيه: أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرحه على يهوديّ: فقال اليهوديّ: و الله ما سرقتها يا أبا القاسم، و لكن طرحت عليّ و كان الرجل الّذي سرق جيران يبرّؤنه و يطرحونه على اليهوديّ و يقولون: يا رسول الله إنّ هذا اليهوديّ خبيث يكفر بالله و بما جئت به حتّى مال عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض القول.

فعاتبه الله في ذلك فقال:( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ الله وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وَ اسْتَغْفِرِ الله - ممّا قلت لهذا اليهوديّ -إِنَّ الله كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) ثمّ أقبل على جيرانه فقال:( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ‏ - إلى قوله -وَكِيلًا ) ثمّ عرض التوبة فقال:( وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى‏ نَفْسِهِ ) فما أدخلكم أنتم أيّها الناس على خطيئة هذا تكلّمون دونه:( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً - و إن كان مشركاً -فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً - إلى قوله -وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ

٩٥

الْهُدى) قال: أبى أن يقبل التوبة الّتي عرض الله له، و خرج إلى المشركين بمكّة فنقب بيتاً يسرقه فهدمه الله عليه فقتله.

أقول: و هذا المعنى أيضاً مرويّ بطرق كثيرة مع اختلاف يسير فيها.

و في تفسير العيّاشيّ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من عبد أذنب ذنباً فقام و توضّأ و استغفر الله من ذنبه إلّا كان حقيقاً على الله أن يغفر له لأنّه يقول:( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً ) .

و قال: إنّ الله ليبتلي العبد و هو يحبّه ليسمع تضرّعه، و قال: ما كان الله ليفتح باب الدعاء و يغلق باب الإجابة لأنّه يقول:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) و ما كان ليفتح باب التوبة و يغلق باب المغفرة و هو يقول:( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً ) .

و فيه، عن عبدالله بن حمّاد الأنصاريّ عن عبدالله بن سنان قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه ممّا قد ستره الله عليه، فأمّا إذا قلت ما ليس فيه فذلك قول الله( فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ) .

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ) (الآية): قال: حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله فرض التمحّل في القرآن قلت: و ما التمحّل جعلت فداك؟ قال: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحّل له، و هو قول الله:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ )

و في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن سنان عن أبي الجارود قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام : إذا حدّثتكم بشي‏ء فاسألوني عنه من كتاب الله. ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن القيل و القال، و فساد المال و كثرة السؤال. فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) و قال:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً ) و قال:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) .

٩٦

و في تفسير العيّاشيّ، عن إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض المعتمدين عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) يعني بالمعروف القرض.

أقول: و رواه القمّيّ أيضاً في تفسيره بهذا الإسناد، و هذا المعنى مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً، و على أيّ حال فهو من قبيل الجري و ذكر بعض المصاديق.

و في الدرّ المنثور: أخرج مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و البيهقيّ عن سفيان بن عبدالله الثقفيّ قال: قلت: يا رسول الله مرني بأمر أعتصم به في الإسلام قال: قل: آمنت بالله ثمّ استقم، قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟ قال: هذا، و أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرف لسان نفسه.

أقول: و الأخبار في ذمّ كثرة الكلام و مدح الصمت و السكوت و ما يتعلّق بذلك كثيرة جدّاً مرويّة في جوامع الشيعة و أهل السنّة.

و فيه: أخرج أبونصر السجزيّ في( الإبانة ) عن أنس قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله أنزل عليّ في القرآن يا أعرابيّ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ - إلى قوله -فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) يا أعرابيّ الأجر العظيم الجنّة. قال الأعرابيّ: الحمد لله الّذي هدانا للإسلام‏.

و فيه، في قوله تعالى:( وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ) (الآية): أخرج الترمذيّ و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يجمع الله هذه الاُمّة على الضلالة أبداً و يد الله على الجماعة فمن شذّ شذّ في النار.

و فيه: أخرج الترمذيّ و البيهقيّ عن ابن عبّاس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا يجمع الله اُمّتي - أو قال هذه: الاُمّة - على الضلالة أبداً و يد الله على الجماعة.

أقول: الرواية من المشهورات و قد رواها الهاديعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

٩٧

رسالته إلى أهل الأهواز على ما في ثالث البحار، و قد تقدّم الكلام في معنى الرواية في البيان السابق.

و في تفسير العيّاشيّ، عن حريز عن بعض أصحابنا عن أحدهماعليهما‌السلام قال: لمّا كان أميرالمؤمنينعليه‌السلام في الكوفة أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماماً يؤمّنا في شهر رمضان. فقال: لا، و نهاهم أن يجتمعوا فيه. فلمّا أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في رمضان، وا رمضاناه، فأتاه الحارث الأعور في اُناس فقال: يا أميرالمؤمنين ضجّ الناس و كرهوا قولك، فقال عند ذلك: دعوهم و ما يريدون ليصلّي بهم من شاء و ائتمّ قال: فمن( يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً ) .

و في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا ) (الآية): أخرج البيهقيّ في الدلائل عن عقبة بن عامر - في حديث خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غزوة تبوك، و فيه - فأصبح بتبوك فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال.

أمّا بعد فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، و أوثق العرى كلمة التقوى، و خير الملل ملّة إبراهيم، و خير السنن سنّة محمّد، و أشرف الحديث ذكر الله، و أحسن القصص هذا القرآن، و خير الاُمور عوازمها، و شرّ الاُمور محدثاتها، و أحسن الهدى هدى الأنبياء، و أشرف الموت قتل الشهداء، و أعمى العمى الضلالة بعد الهدى، و خير العلم ما نفع، و خير الهدى ما اتّبع، و شرّ العمى عمى القلب، و اليد العليا خير من اليد السفلى، و ما قلّ و كفى خير ممّا كثر و ألهى، و شرّ المعذرة حين يحضر الموت، و شرّ الندامة يوم القيامة، و من الناس من لا يأتي الصلاة إلّا دبراً و منهم من لا يذكر الله إلّا هجراً، و أعظم الخطايا اللّسان الكذوب، و خير الغنى غنى النفس، و خير الزاد التقوى، و رأس الحكمة مخافة الله عزّوجلّ، و خير ما وقر في القلوب اليقين، و الارتياب من الكفر، و النياحة من عمل الجاهليّة، و الغلول من جثا جهنّم، و الكنز كيّ من النار، و الشعر من مزامير إبليس، و الخمر جماع الإثم، و النساء حبالة الشيطان، و الشباب شعبة من الجنون، و شرّ المكاسب كسب الربا، و شرّ المأكل مال اليتيم، و السعيد من وعظ بغيره، و الشقيّ من

٩٨

شقي في بطن اُمّه، و إنّما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع، و الأمر بآخره، و ملاك العمل خواتمه، و شرّ الروايا روايا الكذب، و كلّ ما هو آتٍ قريب، و سباب المؤمن فسوق، و قتال المؤمن كفر، و أكل لحمه من معصية الله، و حرمة ماله كحرمة دمه، و من يتألّ على الله يكذّبه، و من يغفر يغفر له، و من يعف يعف الله عنه، و من يكظم الغيظ يأجره الله، و من يصبر على الرزيّة يعوّضه الله، و من يبتغ السمعة يسمّع الله به، و من يصبر يضعف الله له و من يعص الله يعذّبه الله، اللّهمّ اغفر لي و لاُمّتي - قالها ثلاثاً - أستغفر الله لي و لكم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبداللهعليه‌السلام و عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام في قول الله:( وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله ) قال: أمر الله بما أمر به.

و فيه، عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قول الله:( وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله ) قال: دين الله.

أقول: و مآل الروايتين واحد، و هو ما تقدّم في البيان السابق أنّه دين الفطرة.

و في المجمع، في قوله( فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ ) قال: ليقطعوا الأذان من أصلها. قال: و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .‏

و في تفسير العيّاشيّ، في قوله تعالى:( لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ ) (الآية): عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لمّا نزلت هذه الآية:( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) قال بعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أشدّها من آية، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ ما تبتلون في أموالكم و أنفسكم و ذراريكم؟ قالوا: بلى، قال: ممّا يكتب الله لكم به الحسنات و يمحو به السيّئات.

أقول:>أقول: و هذا المعنى مرويّ بطرق كثيرة في جوامع أهل السنّة عن الصحابة.

و في الدرّ المنثور: أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما يصيب المؤمن من نصب و لا وصب و لا همّ و لا حزن و لا أذى

٩٩

و لا غمّ حتّى الشوكة يشاكها إلّا كفّر الله من خطاياه.

أقول: و هذا المعنى مستفيض عن النبيّ و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و في العيون، بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: سمعت أبي يحدّث عن أبيهعليه‌السلام أنّه قال: إنّما اتّخذ الله إبراهيم خليلاً لأنّه لم يرّد أحداً، و لم يسأل أحداً قطّ غير الله عزّوجلّ.

أقول: و هذا أصح الروايات في تسميتهعليه‌السلام بالخيل لموافقته لمعنى اللّفظ، و هو الحاجة فخليلك من رفع إليك حوائجه، و هناك وجوه اُخر مرويّة.

١٠٠