الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 101123
تحميل: 4364


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101123 / تحميل: 4364
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

شهادة الزور عن محمّد بن الحنفيّة.

و الأصل أنّه عامّ في كلّ قول أو فعل أو عزم يكون على غير علم فكأنّه سبحانه قال: لا تقل إلّا ما تعلم أنّه يجوز أن يقال، و لا تفعل إلّا ما تعلم أنّه يجوز أن يفعل و لا تعتقد إلّا ما تعلم أنّه ممّا يجوز أن يعتقد انتهى.

و فيه أنّ الّذي ذكره أعمّ ممّا تفيده الآية فإنّها تنهى عن اقتفاء ما لا علم به لا عن الاقتفاء إلّا مع العلم و الثاني أعمّ من الأوّل فإنّه يشمل النّهي عن الاقتفاء مع العلم بعدم الجواز لكن الأوّل إنّما يشمل النهي عن الاقتفاء مع الجهل بوجه الاعتقاد أو العمل: و أمّا ما نقله من الوجوه في أوّل كلامه فالأحرى بها أن يذكر في تفسير التعليل بعنوان الإشارة إلى بعض المصاديق دون المعلّل.

قوله تعالى: ( وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا ) المرح شدّة الفرح بالباطل - كما قيل - و لعلّ التقييد بالباطل للدلالة على خروجه عن حدّ الاعتدال فإنّ الفرح الحقّ هو ما يكون ابتهاجاً بنعمة من نعم الله شكراً له و هو لا يتعدّى حدّ الاعتدال، و أمّا إذا فرح و اشتدّ منه ذلك حتّى خفّ عقله و ظهر آثاره في أفعاله و أقواله و قيامه و قعوده و خاصّة في مشيه فهو من الباطل.

و قوله:( وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ) نهي عن استعظام الإنسان نفسه بأكثر ممّا هو عليه لمثل البطر و الأشر و الكبر و الخيلاء، و إنّما ذكر المشي في الأرض مرحا لظهور ذلك فيه.

و قوله:( إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا ) كناية عن أنّ فعالك هذا و أنت تريد به إظهار القدرة و القوّة و العظمة إنّما هو وهم تتوهّمه فإنّ هناك ما هو أقوى منك لا يخترق بقدميك و هي الأرض و ما هو أطول منك و هي الجبال فاعترف بذلك أنّك وضيع مهين فلا شي‏ء ممّا يبتغيه الإنسان و يتنافس فيه في هذه النشأة من ملك و عزّة و سلطنة و قدرة و سؤدد و مال و غيرها إلّا اُمور وهميّة لا حقيقة لها وراء الإدراك الإنسانيّ سخّر الله النفوس للتصديق بها و الاعتماد في العمل عليها لتعمير

١٠١

النشأة و تمام الكلمة، و لو لا هذه الأوهام لم يعش الإنسان في الدنيا و لا تمّت كلمته تعالى:( وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) البقرة: ٣٦.

قوله تعالى: ( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من الواجبات و المحرّمات - كما قيل - و الضمير في( سَيِّئُهُ ) يرجع إلى ذلك، و المعنى كلّ ما تقدّم كان سيّئه - و هو ما نهي عنه و كان معصية من بين المذكورات - عند ربّك مكروها لا يريده الله تعالى.

و في غير القراءة المعروفة( سيّئة ) بفتح الهمزة و التاء في آخرها و هي على هذه القراءة خبر كان و المعنى واضح.

قوله تعالى: ( ذلِكَ مِمَّا أَوْحى‏ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ) ذلك إشارة إلى ما تقدّم من تفصيل التكاليف و في الآية إطلاق الحكمة على الأحكام الفرعيّة و يمكن أن يكون لما تشتمل عليه من المصالح المستفادة إجمالاً من سابق الكلام.

قوله تعالى: ( وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى‏ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً ) كرّر سبحانه النهي عن الشرك و قد نهى عنه سابقاً اعتناء بشأن التوحيد و تفخيماً لأمره، و هو كالوصلة يتّصل به لاحق الكلام بسابقه، و معنى الآية ظاهر.

( بحث روائي)

في الإحتجاج، عن بريد بن عمير بن معاوية الشاميّ عن الرضاعليه‌السلام : في حديث يذكر فيه الجبر و التفويض و الأمر بين أمرين قال: قلت له: و هلّ لله مشيّة و إرادة في ذلك يعني فعل العبد فقال: أمّا الطاعات فإرادة الله و مشيّته فيها الأمر بها و الرضا لها و المعاونة لها و مشيّته في المعاصي النهي عنها و السخط بها و الخذلان عليها الحديث.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي ولّاد الحنّاط قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما و لا تكلّفهما أن يسألاك شيئاً ممّا يحتاجان إليه و إن كانا مستغنيين أ ليس الله يقول:( لَنْ تَنالُوا

١٠٢

الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) ؟

ثمّ قال أبوعبداللهعليه‌السلام أمّا قوله:( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ) قال: إن أضجراك فلا تقل لهما اُفّ و لا تنهرهما إن ضرباك، و قال( وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ) قال: تقول لهما: غفر الله لكما فذلك منك قول كريم، و قال:( وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برحمة و رقّة و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما و لا يديك فوق أيديهما، و لا تتقدّم قدّامهما.

أقول: و رواه الكلينيّ في الكافي، بإسناده عن أبي ولّاد الحنّاط عنهعليه‌السلام .

و في الكافي، بإسناده عن حديد بن حكيم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: أدنى العقوق اُفّ، و لو علم الله عزّوجلّ شيئاً أهون منه لنهى عنه.

أقول: و رواه عنه أيضاً بسند آخر و روى هذا المعنى أيضاً بإسناده عن أبي البلاد عنهعليه‌السلام و رواه العيّاشيّ في تفسيره، عن حريز عنهعليه‌السلام ، و الطبرسيّ في مجمع البيان، عن الرضا عن أبيه عنهعليهم‌السلام . و الروايات في وجوب برّ الوالدين و حرمة عقوقهما في حياتهما و بعد مماتهما من طرق العامّة و الخاصّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل بيتهعليهم‌السلام أكثر من أن تحصى.

و في المجمع، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : الأوّاب التوّاب المتعبّد الراجع عن ذنبه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: يا با محمّد عليكم بالورع و الاجتهاد و أداء الأمانة و صدق الحديث و حسن الصحبة لمن صحبكم و طول السجود، و كان ذلك من سنن التوّابين الأوّابين. قال أبوبصير: الأوّابون التوّابون.

أقول: و روي أيضاً عن أبي بصير عنهعليه‌السلام : في معنى الآية هم التوّابون المتعبّدون.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و هنّاد عن عليّ بن أبي طالب قال: إذا مالت الأفياء و راحت الأرواح فاطلبوا الحوائج إلى الله فإنّها ساعة الأوّابين

١٠٣

و قرأ( فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ) .

و فيه، أخرج ابن حريز عن عليّ بن الحسين رضي الله عنه: أنّه قال لرجل من أهل الشام: أ قرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أ فما قرأت في بني إسرائيل:( وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ ) قال. و إنّكم للقرابة الّذي أمر الله أن يؤتى حقّه؟ قال: نعم.

أقول: و رواه في البرهان، عن الصدوق بإسناده عنهعليه‌السلام و عن الثعلبيّ في تفسيره، عن السدّيّ عن ابن الديلميّ عنهعليه‌السلام .

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالرّحمن بن الحجّاج قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قوله:( وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ) قال: من أنفق شيئاً في غير طاعة الله فهو مبذّر، و من أنفق في سبيل الخير فهو مقتصد.

و فيه، عن أبي بصير عنهعليه‌السلام : في الآية قال: بذل الرجل ماله و يقعد ليس له مال قلت: فيكون تبذير في حلال؟ قال: نعم.

و في تفسير القمّيّ، قال: قال الصادقعليه‌السلام : المحسور العريان.

و في الكافي، بإسناده عن عجلان قال: كنت عند أبي عبداللهعليه‌السلام فجاء سائل فقام إلى مكتل فيه تمر فملأ يده فناوله ثمّ جاء آخر فسأله فقام فأخذه بيده فناوله ثمّ آخر فقال: الله رازقنا و إيّاك.

ثمّ قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئاً إلّا أعطاه فأرسلت إليه امرأة ابنا لها فقالت: فاسأله فإن قال: ليس عندنا شي‏ء فقل: أعطني قميصك قال: فأخذ قميصه فرماه إليه - و في نسخة اُخرى: و أعطاه - فأدّبه الله تبارك و تعالى على القصد فقال:( وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‏ عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) قال: الإحسار الفاقة.

أقول: و رواه العيّاشيّ في تفسيره، عن عجلان عنهعليه‌السلام ، و روى قصّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القمّيّ في تفسيره، و رواها في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو و عن ابن جرير الطبريّ عن ابن مسعود.

و في الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال:

١٠٤

علّم الله عزّ اسمه نبيّه كيف ينفق؟ و ذلك أنّه كانت عنده أوقية من الذهب فكره أن يبيت عنده فتصدّق بها فأصبح و ليس عنده شي‏ء و جاء من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل و اغتمّ هو حيثما لم يكن عنده شي‏ء و كان رحيماً رقيقاً فأدّب الله عزّوجلّ نبيه بأمره فقال:( وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‏ عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) يقول: إنّ الناس قد يسألونك و لا يعذرونك فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال قد كنت حسرت من المال.

و في تفسير العيّاشيّ، عن ابن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‏ عُنُقِكَ ) قال: فضمّ يده و قال: هكذا فقال:( وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) فبسط راحته و قال: هكذا.

و في تفسير القمّيّ، عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث قال: قلت: و ما الإملاق؟ قال: الإفلاس.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: في قوله:( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً ) قال قتادة عن الحسن أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: لا يزني العبد حين يزني و هو مؤمن، و لا يبهت حين يبهت و هو مؤمن، و لا يسرق حين يسرق و هو مؤمن، و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن، و لا يغلّ حين يغلّ و هو مؤمن قيل: يا رسول الله و الله إن كنّا لنرى أنّه يأتي ذلك و هو مؤمن فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا فعل شيئاً من ذلك نزع الإيمان من قلبه فإن تاب تاب الله عليه.

أقول: و الحديث مرويّ بطرق اُخرى عن عائشة و أبي هريرة و قد ورد من طرق أهل البيتعليهم‌السلام أنّ روح الإيمان يفارقه إذ ذاك.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي الحسنعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ يقول في كتابه:( وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) فما هذا الإسراف الّذي نهى الله عنه؟ قال: نهى أن يقتل غير قاتله أو يمثّل بالقاتل. قلت: فما معنى( إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) قال: و أيّ

١٠٥

نصرة أعظم من أن يدفع القاتل إلى أولياء المقتول فيقتله و لا تبعة يلزمه في قتله في دين و لا دنيا.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي العبّاس قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن رجلين قتلاً رجلاً فقال: يخيّر وليّه أن يقتل أيّهما شاء و يغرم الباقي نصف الدية أعني دية المقتول فيردّ على ذرّيّته، و كذلك إن قتل رجل امرأة إن قبلوا دية المرأة فذاك و إن أبى أولياؤها إلّا قتل قاتلها غرموا نصف دية الرجل و قتلوه و هو قول الله:( فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) .

أقول: و في معنى هاتين الروايتين غيرهما، و قد روي في الدرّ المنثور، عن البيهقيّ في سننه عن زيد بن أسلم: أنّ الناس في الجاهليّة كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلاً لم يرضوا حتّى يقتلوا به رجلاً شريفاً إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم و قتلوا غيره فوعظوا في ذلك بقول الله:( وَ لا تَقْتُلُوا - إلى قوله -فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) .

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ) و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: القسطاس المستقيم هو الميزان الّذي له لسان.

أقول: و ذكر اللسان للدلالة على الاستقامة فإنّ الميزان ذا الكفّتين كذلك.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم و قسّمه عليها فليس من جوارحه جارحة إلّا و قد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به اُختها فمنها عيناه اللّتان ينظر بهما و رجلاه اللّتان يمشي بهما.

ففرض على العين أن لا تنظر إلى ما حرّم الله عليه و أن تغضّ عمّا نهاه الله عنه ممّا لا يحلّ و هو عمله و هو من الإيمان، قال الله تبارك و تعالى:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) فهذا ما فرض من غضّ البصر عمّا حرّم الله و هو عمله و هو من الإيمان.

١٠٦

و فرض الله على الرّجلين أن لا يمشي بهما إلى شي‏ء من معاصي الله و الله فرض عليهما المشي فيما فرض الله فقال:( وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا ) قال:( وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ )

أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عنهعليه‌السلام في حديث مفصّل.

و فيه، عن أبي جعفر قال: كنت عند أبي عبداللهعليه‌السلام فقال له رجل: بأبي أنت و اُمّي إنّي أدخل كنيفا لي و لي جيران و عندهم جوار يغنّين و يضربن بالعود فربّما اُطيل الجلوس استماعاً منّي لهن فقال: لا تفعل فقال الرجل و الله ما أتيتهنّ إنّما هو سماع أسمعه باُذني.

فقال له: أ ما سمعت الله يقول:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) ؟ قال: بلى و الله فكأنّي لم أسمع هذه الآية قطّ من كتاب الله من عجميّ و لا عربيّ لا جرم إنّي لا أعود إن شاء الله و إنّي أستغفر الله.

فقال: قم و اغتسل و صلّ ما بدا لك فإنّك كنت مقيماً على أمر عظيم ما كان أسوء حالك لو متّ على ذلك أحمد الله و اسأله التوبة من كلّ ما يكره فإنّه لا يكره إلّا كلّ قبيح، و القبيح دعه لأهله فإنّ لكلّ أهلاً.

أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، عنهعليه‌السلام و الكلينيّ في الكافي، عن مسعدة بن زياد عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن الحسين بن هارون عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) قال: يسأل السمع عمّا يسمع و البصر عمّا يطرف و الفؤاد عمّا يعقد عليه.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) الآية قال: قال: لا تؤمّ أحداً ممّا ليس لك به علم. قال: قال رسول اللهعليه‌السلام :من بهت مؤمناً

١٠٧

أو مؤمنة اُقيم في طينة خبال أو يخرج ممّا قال.

أقول: و فسّرت طينة خبال في رواية ابن أبي يعفور عن الصادقعليه‌السلام - على ما في الكافي -، بأنّها صديد يخرج من فروج المومسات و روي من طرق أهل السنّة ما يقرب منها عن أبي ذرّ و أنس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و الروايات - كما ترى - بعضها مبنيّ على خصوص مورد الآية و بعضها على عموم التعليل كما أشير إليه في البيان المتقدّم.

١٠٨

( سورة الإسراء الآيات ٤٠ - ٥٥)

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا  إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ( ٤٠ ) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ( ٤١ ) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ( ٤٢ ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ( ٤٣ ) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ  وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ  إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( ٤٤ ) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ( ٤٥ ) وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا  وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ( ٤٦ ) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ( ٤٧ ) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ( ٤٨ ) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ( ٤٩ ) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ( ٥٠ ) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ  فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا  قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ  فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ  قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا ( ٥١ ) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ( ٥٢ ) وَقُل لِّعِبَادِي

١٠٩

يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ  إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ  إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا( ٥٣) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ  إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا( ٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ  وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا( ٥٥)

( بيان)

في الآيات تعقيب مسألة التوحيد و توبيخ المشركين على اتّخاذهم الآلهة و نسبة الملائكة الكرام إلى الاُنوثيّة، و أنّهم لا يتذكّرون بما يلقي إليهم القرآن من حجج الوحدانيّة، و لا يفقهون الآيات بل يستهزؤن بالرسول و بما يلقى إليهم من أمر البعث و يسيؤن القول في أمر الله و غير ذلك.

قوله تعالى: ( أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً ) الإصفاء الإخلاص قال في المجمع، تقول: أصفيت فلانا بالشي‏ء إذا آثرته به. انتهى.

خطاب لمن يقول منهم: إنّ الملائكة بنات الله أو بعضهم بنات الله و الاستفهام للإنكار، و لعلّه بدّل البنات من الإناث لكونهم يعدّون الاُنوثة من صفات الخسّة.

و المعنى إذا كان سبحانه ربّكم لا ربّ غيره و هو الّذي يتولّى أمر كلّ شي‏ء فهل تقولون إنّه آثركم بكرامة لم يتكرّم به هو نفسه و هو أنّه خصّكم بالبنين و لم يتّخذ لنفسه من الولد إلّا الإناث و هم الملائكة الكرام الّذين تزعمون أنّهم إناث إنّكم لتقولون قولاً عظيماً من حيث استتباعه التبعة السيّئة.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) قال في المفردات: الصرف ردّ الشي‏ء من حالة إلى حالة أو إبداله بغيره. قال: و التصريف كالصرف إلّا في التكثير، و أكثر ما يقال في صرف الشي‏ء من حالة

١١٠

إلى حالة و من أمر إلى أمر، و تصريف الرياح هو صرفها من حال إلى حال قال تعالى:( وَ صَرَّفْنَا ) الآيات( وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ ) و منه تصريف الكلام و تصريف الدراهم. انتهى.

و قال: النفر الانزعاج من الشي‏ء و إلى الشي‏ء كالفزع إلى الشي‏ء و عن الشي‏ء يقال: نفر عن الشي‏ء نفوراً قال تعالى:( ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) ( وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) انتهى.

فقوله:( وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ) معناه بشهادة السياق: و اُقسم لقد رددنا الكلام معهم في أمر التوحيد و نفي الشريك من وجه إلى وجه و حوّلناه من لحن إلى لحن في هذا القرآن فأوردناه بمختلف العبارات و بيّناه بأقسام البيانات ليتذكّروا و يتبيّن لهم الحقّ.

و قوله:( وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) أي ما يزيدهم التصريف إلّا انزعاجاً كلّما استونف جي‏ء ببيان جديد أورثهم نفرة جديدة.

و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة تنبيها على أنّهم غير صالحين للخطاب و التكليم بعد ما كان حالهم هذا الحال.

قال في المجمع،: فإنّ قيل: إذا كان المعلوم أنّهم يزدادون النفور عند إنزال القرآن فما المعنى في إنزاله؟ و ما وجه الحكمة فيه؟

قيل: الحكمة فيه إلزام الحجّة و قطع المعذرة في إظهار الدلائل الّتي تحسن التكليف، و أنّه يصلح عند إنزاله جماعة ما كانوا يصلحون عند عدم إنزاله، و لو لم ينزل لكان هؤلاء الّذين ينفرون عن الإيمان يفسدون بفساد أعظم من هذا النفور فالحكمة اقتضت إنزاله لهذه المعاني، و إنّما ازدادوا نفوراً عند مشاهدة الآيات و الدلائل لاعتقادهم أنّها شبه و حيل و قلّة تفكّرهم فيها. انتهى.

و قوله: إنّه لو لم ينزل لكانوا يفسدون بفساد أعظم من النفور لا يخلو من شي‏ء فإنّ ازدياد النفور يبلغ بهم إلى الجحود و معاندة الحقّ و الصدّ عنه و لا فساد أعظم منه في باب الدعوة.

١١١

لكن ينبغي أن يعلم أنّ الكفر و الجحود و النفور عن الحقّ و العناد معه كما كانت تضرّ أصحابها و يوردهم مورد الهلاك فهي تنفع أرباب الإيمان و الرضا بالحقّ و التسليم له إذ لو لم يتحقّق لهذه الخصال الحسنة و الصفات الجميلة مقابلات لم تتحقّق لها كينونة فافهم ذلك.

فمن الواجب في الحكمة أن تتمّ الحجّة ثمّ تزيد في تمامها حتّى يظهر من الشقيّ كلّ ما في وسعه من الشقاء، و يتّخذ السعداء بمختلف مساعيهم من الدرجات ما يحاذي دركات الأشقياء و قد قال تعالى:( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) الآية: ٢٠ من السورة.

قوله تعالى: ( قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى‏ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ) أعرض عن مخاطبتهم فصرف الخطاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمره أن يكلّمهم في أمر التوحيد و نفي الشريك. و الّذي يقولون به أنّ هناك آلهة دون الله يتولّون جهات التدبير في العالم على اختلاف مراتبهم و الواحد منهم ربّ لما يدبّره كإله السماء و إله الأرض و إله الحرب و إله قريش.

و إذ كانوا شركاء من جهة التدبير لكلّ واحد منهم الملك على حسب ربوبيّته و الملك من توابع الخلق الّذي يختصّ به سبحانه حتّى على معتقدهم(١) كان الملك ممّا يقبل في نفسه أن يقوم به غيره تعالى و حبّ الملك و السلطنة ضروريّ لكلّ موجود كانوا بالضرورة طالبين أن ينازعوه في ملكه و ينتزعوه من يده حتّى ينفرد الواحد منهم بالملك و السلطنة، و يتعيّن بالعزّة و الهيمنة تعالى الله عن ذلك.

فملخّص الحجّة أنّه لو كان معه آلهة كما يقولون و كان يمكن أن ينال غيره تعالى شيئاً من ملكه الّذي هو من لوازم ذاته الفيّاضة لكلّ شي‏ء و حبّ الملك و السلطنة مغروز في كلّ موجود بالضرورة لطلب اُولئك الآلهة أن ينالوا ملكه

____________________

(١) كما نقل أنّهم كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك إلّا شريكاً هو لك تملّكه و ما ملك و الكتب المقدّسة البرهمنية و البوذية مملوءة أنّ الملك كلّه لله سبحانه.

١١٢

فيعزلوه عن عرشه و يزدادوا ملكاً على ملك لحبّهم ذلك ضرورة لكن لا سبيل لأحد إليه تعالى عن ذلك.

فقوله:( إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى‏ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ) أي طلبوا سبيلاً إليه ليغلبوه على ما له من الملك، و التعبير عنه تعالى بذي العرش و هو من الصفات الخاصة بالملك للدلالة على أنّ ابتغاءهم السبيل إليه إنّما هو لكونه ذا العرش و هو ابتغاء سبيل إلى عرشه ليستقرّوا عليه.

و من هنا يظهر أنّ قول بعضهم إنّ الحجّة في الآية هي في معنى الحجّة الّتي في قوله تعالى:( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ) الآية: الأنبياء: ٢٢ في غير محلّه.

و ذلك أنّ الحجّتين مختلفتان في مقدّماتهما فالحجّة الّتي في الآية الّتي نحن فيها تسلك إلى نفي الشريك من جهة ابتغاء الآلهة السبيل إلى ذي العرش و طلبهم الغلبة عليه بانتزاع الملك منه، و الّتي في آية الأنبياء تسلك من جهة أنّ اختلاف الآلهة في ذواتهم يؤدّي إلى اختلافهم في التدبير و ذلك يؤدّي إلى فساد النظام فالحقّ أنّ الحجّة الّتي فيما نحن فيه غير الحجّة الّتي في آية الأنبياء، و الّتي تقرب من حجّة آية الأنبياء ما في قوله:( إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) المؤمنون: ٩١.

و كذا ما نقل عن بعض قدماء المفسّرين: أنّ المراد من ابتغائهم سبيلاً إلى ذي العرش طلبهم التقرّب و الزلفى منه لعلوّه عليهم، و تقريب الحجّة أنّه لو كان معه آلهة كما يقولون لطلبوا التقرّب منه تعالى و الزلفى لديه لعلمهم بعلوّه و عظمته، و الّذي كان حاله هذا الحال لا يكون إلها فليسوا بآلهة.

في غير محلّه لشهادة السياق على خلافه كوصفه تعالى بذي العرش و قوله بعد:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يَقُولُونَ ) إلخ فإنّه ظاهر في أنّ لما قدّروه من ثبوت الآلهة المستلزم لابتغائهم سبيلاً إلى الله محذوراً عظيماً لا تحتمله ساحة العظمة و الكبرياء مثل كون ملكه في معرض ابتغاء سبيل إليه و تهاجم غيره عليه و كونه لا يأبى بحسب طبعه أن يبتزّ و ينتقل إلى من دونه.

١١٣

قوله تعالى: ( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ) التعالي هو العلوّ البالغ و لهذا وصف المفعول المطلق أعني( عُلُوًّا ) بقوله:( كَبِيراً ) فالكلام في معنى تعالى تعاليا، و الآية تنزيه له تعالى عمّا يقولونه من ثبوت الآلهة و كون ملكه و ربوبيّته ممّا يمكن أن يناله غيره.

قوله تعالى: ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) إلخ الآية و ما قبلها و إن كانت واقعة موقع التعظيم كقوله:( وَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ ) لكنّها تفيد بوجه في الحجّة المتقدّمة فإنّها بمنزلة المقدّمة المتمّمة لقوله:( لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ) إلخ فإنّ الحجّة بالحقيقة قياس استثنائيّ و الّذي بمنزلة الاستثناء هو ما في الآية من تسبيح الأشياء له سبحانه كأنّه قيل: لو كان معه آلهة لكان ملكه في معرض المنازعة و المهاجمة لكنّ الملك من السماوات و الأرض و من فيهنّ ينزّهه عن ذلك و يشهد أن لا شريك له في الملك فإنّها لم تبتدئ إلّا منه و لا تنتهي إلّا إليه و لا تقوم إلّا به و لا تخضع سجّداً إلّا له فلا يتلبّس بالملك و لا يصلح له إلّا هو فلا ربّ غيره.

و من الممكن أن تكون الآيتان أعني قوله:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً. تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ ) إلخ جميعاً في معنى الاستثناء و التقدير لو كان معه آلهة لطلبوا مغالبته و عزله من ملكه لكنّه سبحانه ينزّه ذاته عن ذلك بذاته الفيّاضة الّتي يقوم به كلّ شي‏ء و تلزمه الربوبيّة من غير أن يفارقه أو ينتقل إلى غيره، و كذلك ملكه و هو عالم السماوات و الأرض و من فيهنّ ينزّهنه سبحانه بذواتها المسبّحة له حيث إنّها قائمة الذات به لو انقطعت أو حجبت عنه طرفة عين فنت و انعدمت فليس معه آلهة و لا أنّ ملكه و ربوبيّته ممّا يمكن أن يبتغيه غيره فتأمّل فيه.

و كيف كان فقوله:( تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ ) يثبت لأجزاء العالم المشهود التسبيح و أنّها تسبّح الله و تنزّهه عمّا يقولون من الشريك و ينسبون إليه.

١١٤

و التسبيح تنزيه قوليّ كلاميّ و حقيقة الكلام الكشف عمّا في الضمير بنوع من الإشارة إليه و الدلالة عليه غير أنّ الإنسان لمّا لم يجد إلى إرادة كلّ ما يريد الإشارة إليه من طريق التكوين طريقاً التجأ إلى استعمال الألفاظ و هي الأصوات الموضوعة للمعاني، و دلّ بها على ما في ضميره، و جرت على ذلك سنّة التفهيم و التفهّم، و ربّما استعان على بعض مقاصده بالإشارة بيده أو رأسه أو غيرهما، و ربّما استعان على ذلك بكتابة أو نصب علامة.

و بالجملة فالذي يكشف به عن معنى مقصود قول و كلام و قيام الشي‏ء بهذا الكشف قول منه و تكليم و إن لم يكن بصوت مقروع و لفظ موضوع، و من الدليل عليه ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الكلام و القول و الأمر و الوحي و نحو ذلك ممّا فيه معنى الكشف عن المقاصد و ليس من قبيل القول و الكلام المعهود عندنا معشر المتلسّنين باللغات و قد سمّاه الله سبحانه قولاً و كلاماً.

و عند هذه الموجودات المشهودة من السماء و الأرض و من فيهما ما يكشف كشفاً صريحاً عن وحدانيّة ربّها في ربوبيّته و ينزّهه تعالى عن كلّ نقص و شين فهي تسبّح الله سبحانه.

و ذلك أنّها ليست لها في أنفسها إلّا محض الحاجة و صرف الفاقة إليه في ذاتها و صفاتها و أحوالها. و الحاجة أقوى كاشف عمّا إليه الحاجة لا يستقلّ المحتاج دونه و لا ينفكّ عنه فكلّ من هذه الموجودات يكشف بحاجته في وجوده و نقصه في ذاته عن موجده الغنيّ في وجوده التامّ الكامل في ذاته و بارتباطه بسائر الموجودات الّتي يستعين بها على تكميل وجوده و رفع نقائصه في ذاته أنّ موجده هو ربّه المتصرّف في كلّ شي‏ء المدبّر لأمره.

ثمّ النظام العامّ الجاري في الأشياء الجامع لشتاتها الرابط بينها يكشف عن وحدة موجدها، و أنّه الّذي إليه بوحدته يرجع الأشياء و به بوحدته ترتفع الحوائج و النقائص فلا يخلو من دونه من الحاجة، و لا يتعرّى ما سواه من النقيصة و هو الربّ لا ربّ غيره و الغنيّ الّذي لا فقر عنده و الكمال الّذي لا نقص فيه.

١١٥

فكلّ واحد من هذه الموجودات يكشف بحاجته و نقصه عن تنزّه ربّه عن الحاجة و براءته من النقص حتّى أنّ الجاهل المثبت لربّه شركاء من دونه أو الناسب إليه شيئاً من النقص و الشين تعالى و تقدّس يثبت بذلك تنزّهه من الشريك و ينسب بذلك إليه البراءة من النقص فإنّ المعنى الّذي تصوّر في ضمير هذا الإنسان و اللفظ الّذي يلفظه لسانه و جميع ما استخدمه في تأدية هذا المقصود كلّ ذلك اُمور موجودة تكشف بحاجتها الوجوديّة عن ربّ واحد لا شريك له و لا نقص فيه.

فمثل هذا الإنسان الجاحد في كون جحوده اعترافاً مثل ما لو ادّعى إنسان أن لا إنسان متكلّماً في الدنيا و شهد على ذلك قولاً فإنّ شهادته أقوى حجّة على خلاف ما ادّعاه و شهد عليه و كلّما تكرّرت الشهادة على هذا النمط و كثر الشهود تأكّدت الحجّة من طريق الشهادة على خلافها.

فإن قلت: مجرّد الكشف عن التنزّه لا يسمّى تسبيحاً حتّى يقارن القصد و القصد ممّا يتوقّف على الحياة و أغلب هذه الموجودات عادمة للحياة كالأرض و السماء و أنواع الجمادات فلا مخلص من حمل التسبيح على المجاز فتسبيحها دلالتها بحسب وجودها على تنزّه ربّها.

قلت: كلامه تعالى مشعر بأنّ العلم سار في الموجودات مع سريان الخلقة فلكلّ منها حظّ من العلم على مقدار حظّه من الوجود، و ليس لازم ذلك أن يتساوى الجميع من حيث العلم أو يتّحد من حيث جنسه و نوعه أو يكون عند كلّ ما عند الإنسان من ذلك أو أن يفقه الإنسان بما عندها من العلم قال تعالى حكاية عن أعضاء الإنسان:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) حم السجدة: ٢١ و قال:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) حم السجدة: ١١ و الآيات في هذا المعنى كثيرة، و سيوافيك كلام مستقلّ في ذلك إن شاء الله تعالى.

و إذا كان كذلك فما من موجود مخلوق إلّا و هو يشعر بنفسه بعض الشعور و هو يريد بوجوده إظهار نفسه المحتاجة الناقصة الّتي يحيط بها غنى ربّه و كماله لا ربّ غيره فهو يسبّح ربّه و ينزّهه عن الشريك و عن كلّ نقص ينسب إليه.

١١٦

و بذلك يظهر أن لا وجه لحمل التسبيح في الآية على مطلق الدلالة مجازاً فالمجاز لا يصار إليه إلّا مع امتناع الحمل على الحقيقة، و نظيره قول بعضهم: إنّ تسبيح بعض هذه الموجودات قاليّ حقيقي كتسبيح الملائكة و المؤمنين من الإنسان و تسبيح بعضها حاليّ مجازي كدلالة الجمادات بوجودها عليه تعالى و لفظ التسبيح مستعمل في الآية على سبيل عموم المجاز، و قد عرفت ضعفه آنفاً.

و الحقّ أنّ التسبيح في الجميع حقيقيّ قاليّ غير أنّ كونه قاليّاً لا يستلزم أن يكون بألفاظ موضوعة و أصوات مقروعة كما تقدّمت الإشارة إليه و قد تقدّم في آخر الجزء الثاني من الكتاب كلام في الكلام نافع في المقام.

فقوله تعالى:( تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ ) يثبت لها تسبيحاً حقيقيّاً و هو تكلّمها بوجودها و ما له من الارتباط بسائر الموجودات الكائنة و بيانها تنزّه ربّها عمّا ينسب إليه المشركون من الشركاء و جهات النقص.

و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) تعميم التسبيح لكلّ شي‏ء و قد كانت الجملة السابقة عدّت السماوات السبع و الأرض و من فيهنّ، و تزيد عليها بذكر الحمد مع التسبيح فتفيد أنّ كلّ شي‏ء كما يسبّحه تعالى كذلك يحمده بالثناء عليه بجميل صفاته و أفعاله.

و ذلك أنّه كما أنّ عند كلّ من هذه الأشياء شيئاً من الحاجة و النقص عائداً إلى نفسه كذلك عنده من جميل صنعه و نعمته تعالى شي‏ء راجع إليه تعالى موهوب من لدنه، و كما أنّ إظهار هذه الأشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها و نقصها و كشف عن تنزّه ربّها عن الحاجة و النقص، و هو تسبيحها كذلك إبرازها لنفسها إبراز لما عندها من جميل فعل ربّها الّذي وراءه جميل صفاته تعالى فهو حمدها فليس الحمد إلّا الثناء على الجميل الاختياريّ فهي تحمد ربّها كما تسبّحه و هو قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) .

و بلفظ آخر إذا لوحظ الأشياء من جهة كشفها عمّا عند ربّها بإبرازها ما عندها من الحاجة و النقص مع ما لها من الشعور بذلك كان ذلك تسبيحاً منها، و

١١٧

إذا لوحظت من جهة كشفها ما لربّها بإظهارها ما عندها من نعمة الوجود و سائر جهات الكمال فهو حمد منها لربّها و إذا لوحظ كشفها ما عند الله سبحانه من صفة جمال أو جلال مع قطع النظر عن علمها و شعورها بما تكشف عنه كان ذلك دلالة منها عليه تعالى و هي آياته.

و هذا نعم الشاهد على أنّ المراد بالتسبيح في الآية ليس مجرّد دلالتها عليه تعالى بنفي الشريك و جهات النقص فإنّ الخطاب في قوله:( وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) إمّا للمشركين و إمّا للناس أعمّ من المؤمن و المشرك و هم على أيّ حال يفقهون دلالة الأشياء على صانعها مع أنّ الآية تنفي عنهم الفقه.

و لا يصغي إلى قول من قال: إنّ الخطاب للمشركين و هم لعدم تدبّرهم فيها و قلّة انتفاعهم بها كان فهمهم بمنزلة العدم، و لا إلى دعوى من يدّعي أنّهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممّن لا يفقه الجميع تغليباً.

و ذلك لأنّ تنزيل الفهم منزلة العدم أو جعل البعض كالجميع لا يلائم مقام الاحتجاج و هو سبحانه يخاطبهم في سابق الآية بالحجّة على التنزيه على أنّ هذا النوع من المسامحة بالتغليب و نحوه لا يحتمله كلامه تعالى.

و أمّا ما وقع في قوله بعد هذه الآية:( وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ) إلى آخر الآيات من نفي الفقه عن المشركين فليس يؤيّد ما ذكروه فإنّ الآيات تنفي عنهم فقه القرآن و هو غير نفي فقه دلالة الأشياء على تنزّهه تعالى إذ بها تتمّ الحجّة عليهم.

فالحقّ أنّ التسبيح الّذي تثبته الآية لكلّ شي‏ء هو التسبيح بمعناه الحقيقيّ و قد تكرّر في كلامه تعالى إثباته للسماوات و الأرض و من فيهنّ و ما فيهنّ و فيها موارد لا تحتمل إلّا الحقيقة كقوله تعالى:( وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ ) الأنبياء: ٧٩، و قوله:( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ ) ص: ١٨، و يقرب منه قوله:( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ ) سبأ: ١٠ فلا معنى لحملها على التسبيح بلسان الحال.

و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنّة أنّ للأشياء تسبيحاً

١١٨

و منها روايات تسبيح الحصى في كفّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سيوافيك بعضها في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

و قوله:( إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ) أي يمهل فلا يعاجل بالعقوبة و يغفر من تاب و رجع إليه، و في الوصفين دلالة على تنزّهه تعالى عن كلّ نقص فإنّ لازم الحلم أن لا يخاف الفوت، و لازم المغفرة أن لا يتضرّر بالمغفرة و لا بإفاضة الرحمة فملكه و ربوبيّته لا يقبل نقصاً و لا زوالاً.

و قد قيل في وجه هذا التذييل أنّه إشارة إلى أنّ الإنسان في قصوره عن فهم هذا التسبيح الّذي لا يزال كلّ شي‏ء مشتغلاً به حتّى نفسه بجميع أركان وجوده بأبلغ بيان، مخطئ من حقّه أن يؤاخذ به لكنّ الله سبحانه بحلمه و مغفرته لا يعاجله و يعفو عن ذلك إن شاء.

و هو وجه حسن و لازمه أن يكون الإنسان في وسعه أن يفقه هذا التسبيح من نفسه و من غيره، و لعلّنا نوفّق لبيانه إن شاء الله في موضع يليق به.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ) ظاهر توصيف الحجاب بالمستور أنّه حجاب مستور عن الحواسّ على خلاف الحجابات المتداولة بين الناس المعمولة لستر شي‏ء عن شي‏ء فهو حجاب معنويّ مضروب بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه قار للقرآن حامل له و بين المشركين الّذين لا يؤمنون بالآخرة يحجبه عنهم فلا يستطيعون أن يفقهوا حقيقة ما عنده من معارف القرآن و يؤمنوا به و لا أن يذعنوا بأنّه رسول من الله جاءهم بالحقّ، و لذلك تولّوا عنه إذا ذكر الله وحده و بالغوا في إنكار المعاد و رموه بأنّه رجل مسحور، و الآيات التالية تؤيّد هذا المعنى.

و إنّما وصف المشركين بقوله:( الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) لأنّ إنكار الآخرة يلغو معه الإيمان بالله وحده و بالرسالة فالكفر بالمعاد يستلزم الكفر بجميع اُصول الدين، و ليكون تمهيداً لما سيذكر من إنكارهم البعث.

و المعنى: إذا قرأت القرآن و تلوته عليهم جعلنا بينك و بين المشركين الّذين

١١٩

لا يؤمنون بالآخرة - و في توصيفهم بذلك ذمّ لهم - حجاباً معنويّاً محجوباً عن فهمهم فلا يسعهم أن يسمعوا ذكره تعالى وحده، و لا أن يعرفوك بالرسالة الحقّة، و لا أن يؤمنوا بالمعاد و يفقهوا حقيقته.

و للقوم في قوله:( حِجاباً مَسْتُوراً ) أقوال اُخر فعن بعضهم أنّ( مفعول) فيه للنسب أي حجاباً ذا ستر نظير قولهم: رجل مرطوب و مكان مهول و جارية مغنوجة أي ذو رطوبة و ذو هول و ذات غنج، و منه قوله تعالى:( وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) أي ذا إتيان و الأكثر في ذلك أن يجي‏ء على فاعل كلابن و تامر.

و عن الأخفش أنّ( مفعول) ربّما ورد بمعنى فاعل كميمون و مشؤم بمعنى يامن و شائم كما أنّ( فاعل) ربّما ورد بمعنى مفعول كماء دافق أي مدفوق فمستور بمعنى ساتر.

و عن بعضهم أنّ ذلك من الإسناد المجازيّ و المستور بحسب الحقيقة هو ما وراء الحجاب لا نفسه.

عن بعضهم أنّه من قبيل الحذف و الإيصال و أصله حجاباً مستوراً به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم.

و قيل: المعنى حجاباً مستوراً بحجاب آخر أي بحجب متعدّدة و قيل المعنى حجاباً مستوراً كونه حجاباً بمعنى أنّهم لا يدرون أنّهم لا يدرون و الثلاثة الأخيرة أسخف الوجوه.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) الأكنّة جمع كنّ بالكسر و هو على ما ذكره الراغب ما يحفظ فيه الشي‏ء و يستر به عن غيره، و الوقر الثقل في السمع، و في المجمع، النفور جمع نافر، و هذا الجمع قياس في كلّ فاعل اشتقّ من فعل مصدره على فعول مثل ركوع و سجود و شهود. انتهى.

و قوله:( وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ) إلخ كالبيان للحجاب المذكور سابقاً أي أغشينا قلوبهم بأغشية و حجب حذار أن يفقهوا القرآن و جعلنا في آذانهم وقرا و

١٢٠