الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 101104
تحميل: 4363


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101104 / تحميل: 4363
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثقلاً أن يسمعوه فهم لا يسمعون القرآن سمع قبول و لا يفقهونه فقه إيمان و تصديق كلّ ذلك مجازاة لهم بما كفروا و فسقوا.

و قوله:( وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ) أي على نعت التوحيد و نفي الشريك ولّوا على أدبارهم نافرين و أعرضوا عنه مستدبرين.

قوله تعالى: ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ) إلى آخر الآية، النجوى مصدر و لذا يوصف به الواحد و المثنّى و المجموع و المذكّر و المؤنّث و هو لا يتغيّر في لفظه.

و الآية بمنزلة الحجّة على ما ذكر في الآية السابقة أنّه جعل على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا فقوله:( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ ) إلخ ناظر إلى جعل الوقر و قوله:( وَ إِذْ هُمْ نَجْوى) إلخ ناظر إلى جعل الأكنّة.

يقول تعالى: نحن أعلم بآذانهم الّتي يستمعون بها إليك و بقلوبهم الّتي ينظرون بها في أمرك - و كيف لا؟ و هو تعالى خالقها و مدبّر أمرها فإخباره أنّه جعل على قلوبهم أكنّة و في آذانهم وقرا أصدق و أحقّ بالقبول - فنحن أعلم بما يستمعون به و هو آذانهم في وقت يستمعون إليك، و نحن أعلم أي بقلوبهم إذ هم نجوى إذ يناجي بعضهم بعضاً متحرّزين عن الإجهار و رفع الصوت و هم يرون الرأي إذ يقول الظالمون أي يقول القائلون منهم و هم ظالمون في قولهم - إن تتبّعون إلّا رجلاً مسحوراً و هذا تصديق أنّهم لم يفقهوا الحقّ.

و في الآية إشعار بل دلالة على أنّهم كانوا لا يأتونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماع القرآن علناً حذراً من اللائمة و إنّما يأتونه متستّرين مستخفين حتّى إذا رأى بعضهم بعضاً على هذا الحال تلاوموا بالنجوى خوفاً أن يحسّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنون بموقفهم فقال بعضهم لبعض: إن تتّبعون إلّا رجلاً مسحوراً، و بهذا يتأيّد ما ورد في أسباب النزول بهذا المعنى، و سنورده إن شاء الله في البحث الروائيّ الآتي.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) المثل بمعنى الوصف، و ضرب الأمثال التوصيف بالصفات و معنى الآية ظاهر، و هي

١٢١

تفيد أنّهم لا مطمع في إيمانهم كما قال تعالى:( وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) يس: ١٠.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) قال في المجمع، الرفات ما تكسّر و بلي من كلّ شي‏ء، و يكثر بناء فعال في كلّ ما يحطم و يرضض يقال: حطام و دقاق و تراب و قال المبرّد: كلّ شي‏ء مدقوق مبالغ في دقّه حتّى انسحق فهو رفات. انتهى.

في الآية مضيّ في بيان عدم فقههم بمعارف القرآن حيث استبعدوا البعث و هو من أهمّ ما يثبته القرآن و أوضح ما قامت عليه الحجج من طريق الوحي و العقل حتّى وصفه الله في مواضع من كلامه بأنّه( لا رَيْبَ فِيهِ ) و ليس لهم حجّة على نفيه غير أنّهم استبعدوه استبعاداً.

و من أعظم ما يزين في قلوبهم هذا الاستبعاد زعمهم أنّ الموت فناء للإنسان و من المستبعد أن يتكوّن الشي‏ء عن عدم بحت كما قالوا: أ إذا كنّا عظاماً و رفاتاً بفساد أبداننا عن الموت حتّى إذا لم يبق منها إلّا العظام ثمّ رمت العظام و صارت رفاتاً أ إنّا لفي خلق جديد نعود أناسي كما كنّا؟ ذلك رجع بعيد و لذلك ردّه سبحانه إليهم بتذكيرهم القدرة المطلقة و الخلق الأوّل كما سيأتي.

قوله تعالى: ( قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) جواب عن استبعادهم، و قد عبّروا في كلامهم بقولهم:( أَ إِذا كُنَّا ) فأمر سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمرهم أمر تسخير أن يكونوا حجارة أو حديداً إلخ ممّا تبديله إلى الإنسان أبعد و أصعب عندهم من تبديل العظام الرفات إليه.

فيكون إشارة إلى أنّ القدرة المطلقة الإلهيّة لا يشقّها شي‏ء تريد تجديد خلقه سواء أ كان عظاماً و رفاتاً أو حجارة أو حديداً أو غير ذلك.

و المعنى: قل لهم ليكونوا شيئاً أشدّ من العظام و الرفات حجارة أو حديداً أو مخلوقاً آخر من الأشياء الّتي تكبر في صدورهم و يبالغون في استبعاد أن يخلق منه الإنسان - فليكونوا ما شاءوا فإنّ الله سيعيد إليهم خلقهم الأوّل و يبعثهم.

١٢٢

قوله تعالى: ( فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) أي فإذا أجبت عن استبعادهم بأنّهم مبعوثون أيّاماً كانوا و إلى أيّ حال و صفة تحوّلوا سيسألونك و يقولون من يعيدنا إلى ما كنّا عليه من الخلقة الإنسانيّة؟ فاذكر لهم الله سبحانه و ذكّرهم من وصفه بما لا يبقى معه لاستبعادهم محلّ و هو فطره إيّاهم أوّل مرّة و لم يكونوا شيئاً و قل: يعيدكم الّذي خلقكم أوّل مرّة.

ففي تبديل لفظ الجلالة من قوله:( الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إثبات الإمكان و رفع الاستبعاد بإراءة المثل.

قوله تعالى: ( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هُوَ قُلْ عَسى‏ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً ) قال الراغب: الإنغاض تحريك الرأس نحو الغير كالمتعجّب منه. انتهى.

و المعنى: فإذا قرعتهم بالحجّة و ذكّرتهم بقدرة الله على كلّ شي‏ء و فطرة إيّاهم أوّل مرّة وجدتهم يحرّكون إليك رؤسهم تحريك المستهزئ المستخفّ بك المستهين له و يقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً فإنّه لا سبيل إلى العلم به و هو من الغيب الّذي لا يعلمه إلّا الله لكن وصف اليوم معلوم بإعلامه تعالى و لذا وصفه لهم واضعاً الصفة مكان الوقت فقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، الآية.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ) ( يَوْمَ ) منصوب بفعل مضمر أي تبعثون يوم كذا و كذا و الدعوة هي أمره تعالى لهم أن يقوموا ليوم الجزاء و استجابتهم هي قبولهم الدعوة الإلهيّة، و قوله:( بِحَمْدِهِ ) حال من فاعل تستجيبون و التقدير تستجيبون متلبّسين بحمده أي حامدين له تعدّون البعث و الإعادة منه فعلاً جميلاً يحمد فاعله و يثنى عليه لأنّ الحقائق تنكشف لكم اليوم فيتبيّن لكم أنّ من الواجب في الحكمة الإلهيّة أن يبعث الناس للجزاء و أن تكون بعد الاُولى اُخرى.

و قوله:( وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ) أي تزعمون يوم البعث أنّكم لم تلبثوا في القبور بعد الموت إلّا زماناً قليلاً و ترون أنّ اليوم كان قريباً منكم جدّاً.

و قد صدّقهم الله في هذه المزعمة و إن خطّأهم فيما ضربوا له من المدّة قال

١٢٣

تعالى:( قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) المؤمنون، ١١٤، و قال:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ) الروم: ٥٦ إلى غير ذلك من الآيات.

و في التعرّض لقوله:( وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ) تعريض لهم في استبطائهم اليوم و استهزائهم به، و تأييد لما مرّ من رجاء قربه في قوله:( قُلْ عَسى‏ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً ) أي و إنّكم ستعدّونه قريباً، و كذا في قوله:( فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) تعريض لهم في استهزائهم به و تعجّبهم منه أي و إنّكم ستحمدونه يوم البعث و أنتم اليوم تستبعدونه و تستهزؤن بأمره.

قوله تعالى: ( قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ) إلخ يلوح من السياق أنّ المراد بعبادي هم المؤمنون فالإضافة للتشريف، و قوله:( قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا ) إلخ أي مُرهم أن يقولوا فهو أمر و جواب أمر مجزوم، و قوله:( الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي الكلمة الّتي هي أحسن، و هو اشتمالها على الأدب الجميل و تعرّيها عن الخشونة و الشتم و سوء الأمر.

الآية و ما بعدها من الآيتين ذات سياق واحد، و خلاصة مضمونها الأمر بإحسان القول و لزوم الأدب الجميل في الكلام تحرّزاً عن نزغ الشيطان، و ليعلموا أنّ الأمر إلى مشيّة الله لا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يرفع القلم عن كلّ من آمن به و انتسب إليه و يتأهّل للسعادة، فله ما يقول، و له أن يحرم غيره كلّ خير و يسي‏ء القول فيه فما للإنسان إلّا حسن سريرته و كمال أدبه، و قد فضّل الله بذلك بعض الأنبياء على بعض و خصّ داود بإيتاء الزبور الّذي فيه أحسن القول و جميل الثناء على الله سبحانه.

و من هنا يظهر أنّ المؤمنين قبل الهجرة ربّما كانوا يحاورون المشركين فيغلظون لهم في القول و يخاشنونهم بالكلام و ربّما جبّهوهم بأنّهم أهل النار، و أنّهم معشر المؤمنين أهل الجنّة ببركة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان ذلك يهيّج المشركين

١٢٤

عليهم و يزيد في عداوتهم و يبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم و تعذيبهم و إيذاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و العناد مع الحقّ.

فأمر الله سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمرهم بقول الّتي هي أحسن و المقام مناسب لذلك فقد تقدّم آنفاً حكاية إساءة الأدب من المشركين إلى النبيّ و تسميتهم إيّاه رجلاً مسحوراً و استهزائهم بالقرآن و بما فيه من معارف المبدء و المعاد، و هذا هو وجه اتّصال الآيات الثلاث بما قبلها و اتّصال بعض الثلاث ببعض فافهم ذلك.

فقوله:( وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أمر بالأمر و المأمور به قول الكلمة الّتي هي أحسن فهو نظير قوله:( وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) النحل: ١٢٥ و قوله:( إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ) تعليل للأمر، و قوله:( إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ) تعليل لنزغ الشيطان بينهم.

و ربّما قيل: إنّ المراد بقول الّتي هي أحسن الكفّ عن قتال المشركين و معاملتهم بالسلم و الخطاب للمؤمنين بمكّة قبل الهجرة فالآية نظيرة قوله:( وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) البقرة: ٨٣ على ما ورد في أسباب النزول، و أنت خبير بأنّ سياق التعليل في الآية لا يلائمه.

قوله تعالى: ( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) قد تقدّم أنّ الآية و ما بعدها تتمّة السياق السابق، و على ذلك فصدر الآية من تمام كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي اُمر بإلقائه على المؤمنين بقوله:( قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا ) إلخ و ذيل الآية خطاب للنبيّ خاصّة فلا التفات في الكلام.

و يمكن أن يكون الخطاب في صدر الآية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين جميعاً بتغليب جانب خطابه على غيبتهم، و هذا أنسب بسياق الآية السابقة و تلاحق الكلام، و الكلام لله جميعاً.

و كيف كان فقوله:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ) في مقام تعليل الأمر السابق ثانياً، و يفيد أنّه يجب على المؤمنين أن يتحرّزوا من إغلاظ القول على غيرهم و القضاء بما الله أعلم به من سعادة أو شقاء كأن يقولوا:

١٢٥

فلان سعيد بمتابعة النبيّ و فلان شقيّ و فلان من أهل الجنّة و فلان من أهل النار و عليهم أن يرجعوا الأمر و يفوّضوه إلى ربّهم فربّكم - و الخطاب للنبيّ و غيره - أعلم بكم و هو يقضي فيكم على ما علم من استحقاق الرحمة أو العذاب إن يشأ يرحمكم و لا يشاء ذلك إلّا مع الإيمان و العمل الصالح على ما بيّنه في كلامه أو إن يشأ يعذّبكم و لا يشاء ذلك إلّا مع الكفر و الفسوق، و ما جعلناك أيّها النبيّ عليهم وكيلاً مفوّضاً إليه أمرهم حتّى تختار لمن تشاء ما تشاء فتعطي هذا و تحرم ذاك.

و من ذلك يظهر أنّ الترديد في قوله:( إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ) باعتبار المشيّة المختلفة باختلاف الموارد بالإيمان و الكفر و العمل الصالح و الطالح و أنّ قوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) لردع المؤمنين عن أن يعتمدوا في نجاتهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الانتساب إلى قبول دينه نظير قوله:( لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) النساء: ١٢٣ و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى‏ وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) البقرة: ٦٢ و آيات اُخرى في هذا المعنى.

و في الآية أقوال اُخر تركنا التعرّض لها لعدم الجدوى.

قوله تعالى: ( وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) صدر الآية توسعة في معنى التعليل السابق كأنّه قيل: و كيف لا يكون أعلم بكم و هو أعلم بكم و هو أعلم بمن في السماوات و الأرض و أنتم منهم.

و قوله:( وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ ) كأنّه تمهيد لقوله:( وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) و الجملة تذكر فضل داودعليه‌السلام بكتابه الّذي هو زبور و فيه أحسن الكلمات في تسبيحه و حمده تعالى، و فيه تحريض للمؤمنين أن يرغبوا في أحسن القول و يتأدّبوا بالأدب الجميل في المحاورة و الكلام.

و لهم في تفسير الآية أقوال اُخرى تركنا التعرّض لها و من أرادها فليراجع المطوّلات.

١٢٦

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى‏ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ) قال: قال: لو كانت الأصنام آلهة كما تزعمون لصعدوا إلى العرش‏

أقول: أي لاستولوا على ملكه تعالى و أخذوا بأزمّة الاُمور و أمّا العرش بمعنى الفلك المحدّد للجهات أو جسم نورانيّ عظيم فوق العالم الجسمانيّ كما ذكره بعضهم فلا دليل عليه من الكتاب، و على تقدير ثبوته لا ملازمة بين الربوبيّة و الصعود على هذا الجسم.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن مردويه عن ابن عمر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ نوحاً لمّا حضرته الوفاة قال لابنيه: آمركما بسبحان الله و بحمده فإنّها صلاة كلّ شي‏ء، و بها يرزق كلّ شي‏ء.

أقول: قد ظهر ممّا قدّمناه في معنى تسبيح الأشياء الارتباط المشار إليه في الرواية بين تسبيح كلّ شي‏ء و بين رزقه فإنّ الرزق يقدّر بالحاجة و السؤال و كلّ شي‏ء إنّما يسبّح الله تعالى بالإشارة بإظهار حاجته و نقصه إلى تنزّهه تعالى من ذلك.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي الصباح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له: قول الله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) قال: كلّ شي‏ء يسبّح بحمده، و إنّا لنرى أنّ تنقّض الجدر هو تسبيحها.

أقول: و رواه أيضاً عن الحسين بن سعيد عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن النوفليّ عن السكونيّ عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام قال: نهى رسول اللهعليه‌السلام أن يوسم البهائم و أن يضرب وجهها فإنّها تسبّح بحمد ربّها.

أقول: و روى النهي عن ضربها على وجوهها الكلينيّ في الكافي، بإسناده

١٢٧

عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: و في حديث آخر: لا تسمها في وجوهها.

و فيه، عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما من طير يصاد في برّ أو بحر و لا شي‏ء يصاد من الوحش إلّا بتضييعه التسبيح.

أقول: و هذا المعنى رواه أهل السنّة بطرق كثيرة عن ابن مسعود و أبي الدرداء و أبي هريرة و غيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام : أنّه دخل عليه رجل فقال: فداك أبي و اُمّي إنّي أجد الله يقول في كتابه:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) فقال له: هو كما قال الله تبارك و تعالى.

قال: أ تسبّح الشجرة اليابسة؟ فقال: نعم أ ما سمعت خشب البيت كيف ينقصف؟ و ذلك تسبيحه فسبحان الله على كلّ حال.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ النمل يسبّحن.

و فيه، أخرج النسائيّ و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله عن قتل الضفدع و قال: نعيقها تسبيح.

و فيه، أخرج الخطيب عن أبي حمزة قال: كنّا مع عليّ بن الحسين فمرّ بنا عصافير يصحن فقال: أ تدرون ما تقول هذه العصافير؟ فقلنا: لا فقال: أمّا إنّي ما أقول: إنّا نعلم الغيب و لكنيّ سمعت أبي يقول: سمعت عليّ بن أبي طالب أميرالمؤمنين يقول: إنّ الطير إذا أصبحت سبّحت ربّها و سألته قوت يومها و إنّ هذه تسبّح ربّها و تسأل قوت يومها.

أقول: و روي أيضاً مثله عن أبي الشيخ و أبي نعيم في الحلية عن أبي حمزة الثماليّ عن محمّد بن عليّ بن الحسينعليه‌السلام و لفظه قال محمّد بن عليّ بن الحسين و سمع عصافير يصحن قال: تدري ما يقلن؟ قلت: لا قال: يسبّحن ربّهنّ عزّوجلّ و يسألن قوت يومهنّ.

١٢٨

و فيه، أخرج الخطيب في تاريخه عن عائشة قالت: دخل علىّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لي: يا عائشة اغسلي هذين البردين فقلت: يا رسول الله بالأمس غسلتهما فقال لي: أ ما علمت أنّ الثوب يسبّح فإذا اتّسخ انقطع تسبيحه.

و فيه، أخرج العقيليّ في الضعفاء و أبوالشيخ و الديلميّ عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آجال البهائم كلّها و خشاش الأرض و النمل و البراغيث و الجراد و الخيل و البغال و الدوابّ كلّها و غير ذلك آجالها في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها، و ليس إلى ملك الموت منها شي‏ء.

أقول: و لعلّ المراد من قوله: و ليس إلى ملك الموت منها شي‏ء، أنّه لا يتصدّى بنفسه قبض أرواحها و إنّما يباشرها بعض الملائكة و الأعوان، و الملائكة أسباب متوسّطة على أيّ حال.

و فيه، أخرج أحمد عن معاذ بن أنس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه مرّ على قوم و هم وقوف على دوابّ لهم و رواحل فقال لهم: اركبوها سالمة و دعوها سالمة، و لا تتّخذوها كراسيّ لأحاديثكم في الطرق و الأسواق فربّ مركوبة خير من راكبها و أكثر ذكراً لله منه.

و في الكافي، بإسناده عن السكونيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: للدابّة على صاحبها ستّة حقوق: لا يحمّلها فوق طاقتها، و لا يتّخذ ظهرها مجلساً يتحدّث عليها، و يبدء بعلفها إذا نزل، و لا يسمها في وجهها، و لا يضربها فإنّها تسبّح، و يعرض عليها الماء إذا مرّ بها.

و في مناقب ابن شهرآشوب،: علقمة و ابن مسعود: كنّا نجلس مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نسمع الطعام يسبّح و رسول الله يأكل، و أتاه مكرز العامري و سأله آية فدعا بتسع حصيات فسبّحن في يده‏، و في حديث أبي ذرّ: فوضعهنّ على الأرض فلم يسبّحن و سكتن ثمّ عاد و أخذهنّ فسبّحن. ابن عبّاس قال: قدم ملوك حضرموت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا كيف نعلم أنّك رسول الله؟ فأخذ كفّا من حصى فقال: هذا يشهد أنّي رسول الله فسبّح الحصا في يده و شهد أنّه رسول الله.

١٢٩

و فيه، أبو هريرة و جابر الأنصاريّ و ابن عبّاس و اُبيّ بن كعب و زين العابدين: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخطب بالمدينة إلى بعض الأجذاع فلمّا كثر الناس و اتّخذوا له منبراً و تحوّل إليه حنّ كما يحنّ الناقة، فلمّا جاء إليه و أكرمه كان يئنّ أنين الصبيّ الّذي يسكت.

أقول: و الروايات في تسبيح الأشياء على اختلاف أنواعها كثيرة جدّاً، و ربّما اشتبه أمرها على بعضهم فزعم أنّ هذا التسبيح العامّ من قبيل الأصوات، و أنّ لعامّة الأشياء لغة أو لغات ذات كلمات موضوعة لمعان نظير ما للإنسان مستعملة للكشف عمّا في الضمير غير أنّ حواسّنا مصروفة عنها و هو كما ترى.

و الّذي تحصّل من البحث المتقدّم في ذيل الآية الكريمة أنّ لها تسبيحاً هو كلام بحقيقة معنى الكلام و هو إظهارها تنزّه ربّها بإظهارها نقص ذاتها و صفاتها و أفعالها عن علم منها بذلك، و هو الكلام فما روي من سماعهم تسبيح الحصى في كفّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو سماع تسبيح الجبال و الطير إذا سبّح داودعليه‌السلام أو ما يشبه ذلك إنّما كان بإدراكهم تسبيحها الواقعيّ بحقيقة معناه من طريق الباطن ثمّ محاكاة الحسّ ذلك بما يناظره و يناسبه من الألفاظ و الكلمات الموضوعة لما يفيد ما أدركوه من المعنى.

نظير ذلك ما تقدّم من ظهور المعاني المجرّدة عن الصورة في الرؤيا فيما يناسبه من الصور المألوفة كظهور حقيقة يعقوب و أهله و بنيه ليوسفعليهما‌السلام في رؤياه في صورة الشمس و القمر و الكواكب و نظير سائر الرؤى الّتي حكاها الله سبحانه في سورة يوسف و قد تقدّم البحث عنها.

فالذي يناله من ينكشف له تسبيح الأشياء أو حمدها أو شهادتها أو ما يشابه ذلك حقيقة المعنى أوّلاً ثمّ يحاكيه الحسّ الباطن في صورة ألفاظ مسموعة تؤدّي ما ناله من المعنى. و الله أعلم.

و في الدرّ المنثور،: أخرج أبو يعلى و ابن أبي حاتم و صحّحه و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقيّ معا في الدلائل، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لمّا نزلت( تبّت

١٣٠

يَدا أَبِي لَهَبٍ ) أقبلت العوراء اُمّ جميل و لها ولولة و في يدها فهر و هي تقول:

مذممّا أبينا

و دينه قلينا

و أمره عصينا

و رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس و أبوبكر إلى جنبه فقال أبوبكر: لقد أقبلت هذه و أنا أخاف أن تراك فقال: إنّها لن تراني و قرء قرآناً اعتصم به كما قال تعالى:( وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ) فجاءت حتّى قامت على أبي بكر فلم تر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: يا أبابكر بلغني أنّ صاحبك هجاني فقال أبوبكر: لا و ربّ هذا البيت ما هجاك فانصرفت و هي تقول: قد علمت قريش أنّي بنت سيّدها.

أقول: و روي أيضاً بطريق آخر عن أسماء و عن أبي بكر و ابن عبّاس مختصراً و رواه أيضاً في البحار، عن قرب الإسناد عن الحسن بن ظريف عن معمر عن الرضا عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام في حديث يذكر فيه جوامع معجزات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة عن أحدهماعليهما‌السلام قال: في( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) قال: هو أحقّ ما جهر به، و هي الآية الّتي قال الله:( وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ - بسم الله الرحمن الرحيم -وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) كان المشركون يستمعون إلى قراءة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا قرأ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نفروا و ذهبوا فإذا فرغ منه عادوا و تسمّعوا.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام و رواه القمّيّ في تفسيره، مضمراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ في تاريخه، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ أنّه قال: لم كتمتم( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فنعم الاسم و الله كتموا فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا دخل منزله اجتمعت عليه قريش فيجهر ببسم الله الرحمن الرحيم و يرفع صوته بها فتولّى قريش فراراً فأنزل الله:( وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) .

و فيه، أخرج ابن إسحاق و البيهقيّ في الدلائل، عن الزهريّ قال: حدّثت

١٣١

أنّ أباجهل و أباسفيان و الأخنس بن شريق خرجوا ليلة يستمعون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يصلّي بالليل في بيته فأخذ كلّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه و كلّ لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا فقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً.

ثمّ انصرفوا حتّى إذا كانت الليلة الثانية عاد كلّ رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتّى طلع الفجر تفرّقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرّة ثمّ انصرفوا حتّى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتّى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثمّ تفرّقوا.

فلمّا أصبح الأخنس أتى أباسفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمّد قال: و الله سمعت أشياء أعرفها و أعرف ما يراد بها و سمعت أشياء ما عرفت معناها و لا ما يراد بها. قال الأخنس: و أنا و الّذي حلفت به.

ثمّ خرج من عنده حتّى أتى أباجهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟ قال: ما ذا سمعت؟ تنازعنا نحن و بنو عبد مناف في الشرف أطعموا فأطعمنا و حملوا فحملنا و أعطوا فأعطينا حتّى إذا تجانبنا على الركب و كنّا كفرسي الرهان قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه؟ لا و الله لا نؤمن به أبداً و لا نصدّقه فقام عنه الأخنس و تركه.

و في المجمع، كان المشركون يؤذون أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة فيقولون: يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فيقول لهم: إنّي لم أؤمر فيهم بشي‏ء فأنزل الله سبحانه:( قُلْ لِعِبادِي ) الآية: عن الكلبيّ.

أقول: قد أشرنا في تفسير الآية أنّه لا يلائم سياقها. و الله أعلم.

١٣٢

( سورة الإسراء الآيات ٥٦ - ٦٥)

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ( ٥٦ ) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ  إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ( ٥٧ ) وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا  كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ( ٥٨ ) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ  وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا  وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ( ٥٩ ) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ  وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ  وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ( ٦٠ ) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ( ٦١ ) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ( ٦٢ ) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا ( ٦٣ ) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ  وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ( ٦٤ ) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ  وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا ( ٦٥ )

١٣٣

( بيان‏)

احتجاج من وجه آخر على التوحيد و نفي ربوبيّة الآلهة الّذين يدعون من دون الله و أنّهم لا يستطيعون كشف الضرّ و لا تحويله عن عبّادهم بل هم أمثالهم في الحاجة إلى الله سبحانه يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته و يخافون عذابه.

و أنّ الضرّ و الهلاك و العذاب بيد الله، و قد كتب في الكتاب على كلّ قرية أن يهلكها قبل يوم القيامة أو يعذّبها عذاباً شديداً و قد كانت الأوّلون يرسل إليهم الآيات الإلهيّة لكن لمّا كفروا و كذّبوا بها و تعقّب ذلك عذاب الاستئصال لم يرسلها الله إلى الآخرين فإنّه شاء أن لا يعاجلهم بالهلاك غير أنّ أصل الفساد سينمو بينهم و الشيطان سيضلّهم فيحقّ عليهم القول فيأخذهم الله و كان أمراً مفعولاً.

قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا ) الزعم بتثليث الزاي مطلق الاعتقاد ثمّ غلب استعماله في الاعتقاد الباطل، و لذا نقل عن ابن عبّاس أنّ ما كان في القرآن من الزعم فهو كذب.

و الدعاء و النداء واحد غير أنّ النداء إنّما هو فيما إذا كان معه صوت و الدعاء ربّما يطلق على ما كان بإشارة أو غيرها، و ذكر بعضهم في الفرق بينهما أنّ النداء قد يقال إذا قيل: يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضمّ إليه الاسم، و الدعاء لا يكاد يقال إلّا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان. انتهى.

و الآية تحتجّ على نفي اُلوهيّة آلهتهم من دون الله بأنّ الربّ المستحقّ للعباد يجب أن يكون قادراً على إيصال النفع و دفع الضرّ إذ هو لازم ربوبيّة الربّ على أنّ المشركين مسلّمون لذلك و إنّما اتّخذوا الآلهة و عبدوهم طمعاً في نفعهم و خوفاً من ضررهم لكنّ الّذين يدعونهم من دون الله لا يستطيعون ذلك فليسوا بآلهة، و الشّاهد على ذلك أن يدعوهم هؤلاء الّذين يعبدونهم لكشف ضرّ مسّهم أو تحويله عنهم إلى غيرهم فإنّهم لا يملكون كشفاً و لا تحويلاً.

و كيف يملكون من عند أنفسهم كشف ضرّ أو تحويله و يستقلّون بقضاء حاجة

١٣٤

و رفع فاقة و هم في أنفسهم مخلوقون لله يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته و يخافون عذابه باعتراف من المشركين.

فقد بان أوّلاً أنّ المراد بقوله:( الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) هم الّذين كانوا يعبدونهم من الملائكة و الجنّ و الإنس فإنّهم إنّما يقصدون بعبادة الأصنام التقرّب إليهم و كذا بعبادة الشمس و القمر و الكواكب التقرّب إلى روحانيّتهم من الملائكة.

على أنّ الأصنام بما هي أصنام ليست بأشياء حقيقيّة كما قال تعالى:( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) .

و أمّا ما صنعت منه من خشب أو فلزّ فليس إلّا جماداً حاله حال الجماد في التقرّب إليه و السجود له و تسبيحه، و ليست من تلك الجهة بأصنام.

و ثانياً: أنّ المراد بنفي قدرتهم نفي استقلالهم بالقدرة من دون استعانة بالله و استمداد من إذنه و الدليل عليه قوله سبحانه في الآية التالية:( أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى‏ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) إلخ.

و قال بعض المفسّرين: و كأنّ المراد من نفي ملكهم ذلك نفي قدرتهم التامّة الكاملة عليه، و كون قدرة الآلهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلّم عند الكفرة لأنّهم لا ينكرون أنّها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها و أنّ الله سبحانه أقوى و أكمل صفة منها.

و بهذا يتمّ الدليل و يحصل الإفحام و إلّا فنفي قدرة نحو الجنّ و الملائكة الّذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقاً على كشف الضرّ ممّا لا يظهر دليله فإنّه إن قيل هو أنّ الكفرة يتضرّعون إليهم و لا يحصل لهم الإجابة عورض بأنّا نرى أيضاً المسلمين يتضرّعون إلى الله تعالى و لا يحصل لهم الإجابة.

و قد يقال: المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلاً و يحتجّ له بدليل الأشعريّ على استناد جميع الممكنات إليه عزّوجلّ ابتداء انتهى.

قلت: هو سبحانه يثبت في كلامه أنواعاً من القدرة للملائكة و الجنّ و الإنس في آيات كثيرة لا تقبل التأويل البتة غير أنّه يخصّ حقيقة القدرة بنفسه في مثل

١٣٥

قوله:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥ و يظهر به أنّ غيره إنّما يقدر على ما يقدر بإقداره و يملك ما يملك بتمليكه تعالى إيّاه فلا أحد مستقلّاً بالقدرة و الملك إلّا هو، و ما عند غيره تعالى من القدرة و الملك مستعار منوط في تأثيره بالإذن و المشيّة.

و على هذا فلا سبيل إلى تنزيل الحجّة في الآية على نفي قدرة آلهتهم من الملائكة و الجنّ و الإنس من أصلها بل الحجّة مبتنية على أنّ اُولئك المدعوّين غير مستقلّين بالملك و القدرة، و أنّهم فيما عندهم من ذلك كالداعين محتاجون إلى الله مبتغون إليه الوسيلة و الدعاء إنّما يتعلّق بالقدرة المستقلّة بالتأثير و الدعاء و المسألة ممّن هو قادر بقدرة غيره مالك بتمليكه مع قيام القدرة و الملك بصاحبهما الأصليّ فهو في الحقيقة دعاء و مسألة ممّن قام بهما حقيقة و استقلالاً دون من هو مملك بتمليكه.

و أمّا ما ذكره أنّ نفي قدرتهم مطلقاً غير ظاهر الدليل فإنّه إن قيل: إنّ الكفرة يتضرّعون إليهم و لا يحصل لهم الإجابة، عورض بأنّا نرى أيضاً المسلمين يتضرّعون إلى الله تعالى و لا يحصل لهم الإجابة، فقد أجاب الله سبحانه في كلامه عن مثل هذه المعارضة.

توضيح ذلك: أنّه تعالى قال و قوله الحقّ:( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) البقرة: ١٨٦ و قال:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن: ٦٠ فأطلق الكلام و أفاد أنّ العبد إذا جدّ بالدعاء و لم يلعب به و لم يتعلّق قلبه في دعائه الجدّيّ إلّا به تعالى بأن انقطع عن غيره و التجأ إليه فإنّه يستجاب له البتّة ثمّ ذكر هذا الانقطاع في الدعاء و السؤال في ذيل هذه الآيات الّذي كالمتمّم لما في هذه الحجّة بقوله:( وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ) الآية ٦٧ من السورة فأفاد أنّكم عند مسّ الضرّ في البحر تنقطعون عن كلّ شي‏ء إليه فتدعونه بهداية من فطرتكم فيستجيب لكم و ينجيكم إلى البرّ.

و يتحصّل من الجميع أنّ الله سبحانه إذا انقطع العبد عن كلّ شي‏ء و دعاه

١٣٦

عن قلب فارغ سليم فإنّه يستجيب له و أنّ غيره إذا انقطع داعيه عن الله و سأله مخلصاً فإنّه لا يملك الاستجابة.

و على هذا فلا محلّ للمعارضة من قبل المشركين فإنّهم لا يستجاب لهم إذا دعوا آلهتهم و هم أنفسهم يرون أنّهم إذا مسّهم الضرّ في البحر و انقطعوا إلى الله و سألوه النجاة نجّاهم إلى البرّ و هم معترفون بذلك، و لئن دعاه المسلمون على هذا النمط عن جدّ في الدعاء و انقطاع إليه كان حالهم في البرّ حال غيرهم و هم في البحر و لم يخيبوا و لا ردّوا.

و لم يقابل سبحانه في كلامه بين دعائهم آلهتهم و دعاء المسلمين لإلههم حتّى يعارض باشتراك الدعاءين في الردّ و عدم الاستجابة و إنّما قابل بين دعاء المشركين لآلهتهم و بين دعائهم أنفسهم له سبحانه في البحر عند انقطاع الأسباب و ضلال كلّ مدعوّ من دون الله.

و من لطيف النكتة في الكلام إلقاؤه سبحانه الحجّة إليهم بواسطة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال:( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) و لو ناقشه المشركون بمثل هذه المعارضة لدعا ربّه عن انقطاع و إخلاص فاستجيب له.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى‏ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) إلى آخر الآية( أُولئِكَ ) مبتدأ و( الَّذِينَ ) صفة له و( يَدْعُونَ ) صلته و ضميره عائد إلى المشركين، و( يَبْتَغُونَ ) خبر( أُولئِكَ ) و ضميره و سائر ضمائر الجمع إلى آخر الآية راجعة إلى( أُولئِكَ ) و قوله:( أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) بيان لابتغاء الوسيلة لكون الابتغاء فحصا و سؤالاً في المعنى هذا ما يعطيه السياق.

و الوسيلة على ما فسّروه هي التوصّل و التقرّب، و ربّما استعملت بمعنى ما به التوصّل و التقرّب و لعلّه هو الأنسب بالسياق بالنظر إلى تعقيبه بقوله:( أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) .

و المعنى - و الله أعلم - اُولئك الّذين يدعوهم المشركون من الملائكة و الجنّ و الإنس يطلبون ما يتقرّبون به إلى ربّهم يستعلمون أيّهم أقرب؟ حتّى يسلكوا

١٣٧

سبيله و يقتدوا بأعماله ليتقرّبوا إليه تعالى كتقرّبه و يرجون رحمته من كلّ ما يستمدّون به في وجودهم و يخافون عذابه فيطيعونه و لا يعصونه إنّ عذاب ربّك كان محذوراً يجب التحرّز منه.

و التوسّل إلى الله ببعض المقرّبين إليه - على ما في الآية الكريمة قريب منه قوله( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) المائدة: ٣٥ - غير ما يرومه المشركون من الوثنيّين فإنّهم يتوسّلون إلى الله و يتقرّبون بالملائكة الكرام و الجنّ و الأولياء من الإنس فيتركون عبادته تعالى و لا يرجونه و لا يخافونه و إنّما يعبدون الوسيلة و يرجون رحمته و يخافون سخطه ثمّ يتوسّلون إلى هؤلاء الأرباب و الآلهة بالأصنام و التماثيل فيتركونهم و يعبدون الأصنام و يتقرّبون إليهم بالقرابين و الذبائح.

و بالجملة يدّعون التقرّب إلى الله ببعض عباده أو أصنام خلقه ثمّ لا يعبدون إلّا الوسيلة مستقلّة بذلك و يرجونها و يخافونها مستقلّة بذلك من دون الله فيشركون بإعطاء الاستقلال لها في الربوبيّة و العبادة.

و المراد باُولئك الّذين يدعون إن كان هو الملائكة الكرام و الصلحاء المقرّبون من الجنّ و الأنبياء و الأولياء من الإنس كان المراد من ابتغائهم الوسيلة و رجاء الرحمة و خوف العذاب ظاهره المتبادر، و إن كان المراد بهم أعمّ من ذلك حتّى يشمل من كانوا يعبدونه من مردة الشياطين و فسقة الإنسان كفرعون و نمرود و غيرهما كان المراد بابتغائهم الوسيلة إليه تعالى ما ذكر من خضوعهم و سجودهم و تسبيحهم التكوينيّ و كذا المراد من رجائهم و خوفهم ما لذواتهم.

و ذكر بعضهم: أنّ ضمائر الجمع في الآية جميعا راجعة إلى اُولئك و المعنى اُولئك الأنبياء الّذين يعبدونهم من دون الله يدعون الناس إلى الحقّ أو يدعون الله و يتضرّعون إليه يبتغون إلى ربّهم التقرّب، و هو كما ترى.

و قال في الكشّاف، في معنى الآية: يعني أنّ آلهتهم اُولئك يبتغون الوسيلة و هي القربة إلى الله تعالى، و( أَيُّهُمْ ) بدل من واو( يَبْتَغُونَ ) و أيّ موصولة أي يبتغي من

١٣٨

هو أقرب منهم و أزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب؟

أو ضمّن( يَبْتَغُونَ إِلى‏ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) معنى يحرصون فكأنّه قيل: يحرصون أيّهم يكون أقرب إلى الله و ذلك بالطاعة و ازدياد الخير و الصلاح و يرجون و يخافون كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنّهم آلهة. انتهى.

و المعنيان لا بأس بهما لو لا أنّ السياق لا يلائمهما كلّ الملاءمة و ثانيهما أقرب إليه من أوّلهما.

و قيل: إنّ معنى الآية اُولئك الّذين يدعونهم و يعبدونهم و يعتقدون أنّهم آلهة يبتغون الوسيلة و القربة إلى الله تعالى بعبادتهم و يجتهد كلّ منهم ليكون أقرب من رحمته. انتهى. و هو معنى لا ينطبق على لفظ الآية البتّة.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ) ذكروا أنّ المراد بالعذاب الشديد عذاب الاستئصال فيبقى للإهلاك المقابل له الإماتة بحتف الأنف فالمعنى ما من قرية إلّا نحن نميت أهلها قبل يوم القيامة أو نعذّبهم عذاب الاستئصال قبل يوم القيامة إذ لا قرية بعد طيّ بساط الدنيا بقيام الساعة و قد قال تعالى:( وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً :) الكهف: ٨ و لذا قال بعضهم: إنّ الإهلاك للقرى الصالحة و التعذيب للقرى الطالحة.

و قد ذكروا في وجه اتّصال الآية أنّها موعظة، و قال بعضهم: كأنّه تعالى بعد ما ذكر من شأن البعث و التوحيد ما ذكر، ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث ممّا يدلّ على عظمته سبحانه و فيه تأييد لما ذكر قبله.

و الظاهر أنّ في الآية عطفا على ما تقدّم من قوله قبل آيات:( وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ) فإنّ آيات السورة لا تزال ينعطف بعضها على بعض، و الغرض العامّ بيان سنّة الله تعالى الجارية بدعوتهم إلى الحقّ ثمّ إسعاد من سعد منهم بالسمع و الطاعة و عقوبة من خالف منهم و طغى بالاستكبار.

١٣٩

و على هذا فالمراد بالإهلاك التدمير بعذاب الاستئصال كما نقل عن أبي مسلم المفسّر و المراد بالعذاب الشديد ما دون ذلك من العذاب كقحط أو غلاء ينجرّ إلى جلاء أهلها و خراب عمارتها أو غير ذلك من البلايا و المحن.

فتكون في الآية إشارة إلى أنّ هذه القرى سيخرب كلّ منها بفساد أهلها و فسق مترفيها، و أنّ ذلك بقضاء من الله سبحانه كما يشير إليه ذيل الآية، و بذلك يتّضح اتّصال الآية التالية( وَ ما مَنَعَنا ) إلخ بهذه الآية فإنّ المعنى أنّهم مستعدّون للفساد مهيّؤن لتكذيب الآيات الإلهيّة و هي تتعقّب بالهلاك و الفناء على من يردّها و يكذّب بها و قد أرسلناها إلى الأوّلين فكذّبوا بها و استؤصلوا فلو أنّا أرسلنا إلى هؤلاء شيئاً من جنس تلك الآيات المخوّفة لحق بهم الإهلاك و التدمير و انطوى بساط الدنيا فأمهلناهم حتّى حين و سيلحق بهم و لا يتخطّاهم - كما اُشير إليه في قوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ) الآيات: يونس: ٤٧.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بالقرى في الآية القرى الكافرة و أنّ تعميم القرى لا يساعد عليه السياق انتهى. و هو دعوى لا دليل عليها.

و قوله:( كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ) أي إهلاك القرى أو تعذيبها عذاباً شديداً كان في الكتاب مسطوراً و قضاء محتوماً، و بذلك يظهر أنّ المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الّذي يذكر القرآن أنّ الله كتب فيه كلّ شي‏ء كقوله:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ :) يس: ١٢، و قوله:( وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) يونس: ٦١.

و من غريب الكلام ما ذكره بعضهم: و ذكر غير واحد أنّه ما من شي‏ء إلّا بيّن فيه أي في اللوح المحفوظ و الكتاب المسطور بكيفيّاته و أسبابه الموجبة له و وقته المضروب له، و استشكل العموم بأنّه يقتضي عدم تناهي الأبعاد، و قد قامت البراهين النقليّة و العقليّة على خلاف ذلك فلا بدّ أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشي‏ء على ما يتعلّق بهذه النشأة أو نحو ذلك.

١٤٠