الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 101134
تحميل: 4366


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101134 / تحميل: 4366
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة الإسراء الآيات ٦٦ - ٧٢)

رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ  إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( ٦٦ ) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ  فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا ( ٦٧ ) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ( ٦٨ ) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ  ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ( ٦٩ ) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ( ٧٠ ) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ  فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ( ٧١ ) وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ( ٧٢ )

( بيان‏)

الآيات كالمكمّلة للآيات السابقة تثبت لله سبحانه من استجابة الدعوة و كشف الضرّ ما نفاه القبيل السابق عن أصنامهم و أوثانهم فإنّ الآيات السابقة تبتدأ بقوله تعالى:( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا ) و هذه الآيات تفتتح بقوله:( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ) إلخ.

و إنّما قلنا: هي كالمكمّلة لبيان الآيات السابقة مع أنّ ما تحتويه كلّ من

١٦١

القبلين حجّة تامّة في مدلولها تبطل إحداهما اُلوهيّة آلهتهم و تثبت الاُخرى اُلوهيّة الله سبحانه لافتتاح القبيل الأوّل بقوله:( قُلِ ) دون الثاني و ظاهره كون مجموع القبيلين واحداً من الاحتجاج أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإلقائه إلى المشركين لإلزامهم بالتوحيد.

و يؤيّده السياق السابق المبدوّ بقوله:( قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى‏ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ) و قد لحقه قوله ثانياً:( وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً - إلى أن قال -قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ) .

و قد ختم الآيات بقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) إلخ فأشار به إلى أنّ هذا الّذي يذكر من الهدى و الضلالة في الدنيا يلازم الإنسان في الآخرة فالنشأة الاُخرى على طبق النشأة الاُولى فمن أبصر في الدنيا أبصر في الآخرة، و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضلّ سبيلاً.

قوله تعالى: ( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) الإزجاء على ما في مجمع البيان، سوق الشي‏ء حالا بعد حال فالمراد به إجراء السفن في البحر بإرسال الرياح و نحوه و جعل الماء رطبا مائعا يقبل الجري و الخرق، و الفلك جمع الفلكة و هي السفينة.

و ابتغاء الفضل طلب الرزق فإنّ الجواد إنّما يجود غالباً بما زاد على مقدار حاجة نفسه و فضل الشي‏ء ما زاد و بقي منه و من ابتدائيّة، و ربّما قيل: إنّها للتبعيض، و ذيل الآية تعليل للحكم بالرحمة، و المعنى ظاهر. و الآية تمهيد لتاليها.

قوله تعالى: ( وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ) إلى آخر الآية الضرّ الشدّة، و مسّ الضرّ في البحر هو خوف الغرق بالإشراف عليه بعصف الرياح و تقاذف الأمواج و نحو ذلك.

و قوله:( ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ) المراد بالضلال - على ما ذكروا - الذهاب عن الخواطر دون الخروج عن الطريق و قيل: هو بمعنى الضياع من قولهم: ضلّ عن فلان كذا أي ضاع عنه و يعود على أيّ حال إلى معنى النسيان.

١٦٢

و المراد بالدعاء دعاء المسألة دون دعاء العبادة فيعمّ قوله:( مَنْ تَدْعُونَ ) الإله الحقّ و الآلهة الباطلة الّتي يدعوها المشركون، و الاستثناء متّصل، و المعنى و إذا اشتدّ عليكم الأمر في البحر بالإشراف على الغرق نسيتم كلّ إله تدعونه و تسألونه حوائجكم إلّا الله.

و قيل: المراد دعاء العبادة دون المسألة فيختصّ بمن يعبدونه من دون الله و الاستثناء منقطع، و المعنى إذا مسّكم الضرّ في البحر ذهب عن خواطركم الآلهة الّذين تعبدونهم لكنّ الله سبحانه لا يغيب عنكم و لا ينسى.

و الظاهر أنّ المراد بالضلال معناه المعروف و هو خلاف الهدى و الكلام مبنيّ على تمثيل لطيف كأنّ الإنسان إذا مسّه الضرّ في البحر و وقع في قلبه أن يدعو لكشف ضرّه قصده آلهته الّذين كان يدعوهم و يستمرّ في دعائهم قبل ذلك و أخذوا يسعون نحوه و يتسابقون في قطع الطريق إلى ذكره ليذكرهم و يدعوهم و يستغيث بهم لكنّهم جميعاً يضلّون الطريق و لا ينتهون إلى ذكره فينساهم و الله سبحانه مشهود لقلبه حاضر في ذكره يذكره الإنسان عند ذلك فيدعوه و قد كان معرضاً عنه فيجيبه و ينجيه إلى البرّ.

و بذلك يظهر أنّ المراد بالضلال معناه المعروف، و بمن تدعون آلهتهم من دون الله فحسب و أنّ الاستثناء منقطع و الوجه في جعل الاستثناء منقطعاً أنّ الذي يبتني عليه الكلام من معنى التشبيه لا يناسب ساحة قدسه تعالى لتنزّهه من السعي و الوقوع في الطريق و قطعه و نحو ذلك.

مضافاً إلى أنّ قوله:( فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ) ظاهر في أنّ المراد بالدعوة دعاء المسألة و أنّهم في البرّ أي في حالهم العاديّ غير حال الضرّ معرضون عنه تعالى لا يدعونه فقوله:( مَنْ تَدْعُونَ ) الظاهر في استمرار الدعوة المراد به آلهتهم الّذين كانوا يدعونهم فاستثناؤه تعالى استثناء منقطع.

و قوله:( فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ) أي فلمّا نجّاكم من الغرق و كشف عنكم الضرّ رادّاً لكم إلى البرّ أعرضتم عنه أو عن دعائه و فيه دلالة على أنّه تعالى

١٦٣

غير مغفول عنه للإنسان في حال و أنّ فطرته تهديه إلى دعائه في الضرّاء و السرّاء و الشدّة و الرخاء جميعاً فإنّ الإعراض إنّما يتحقّق عن أمر ثابت موجود فقوله: إنّ الإنسان يدعوه في الضرّ و يعرض عنه بعد كشفه في معنى أنّه مهديّ إليه بالفطرة دائماً.

و قوله:( وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ) أي إنّ الكفران من دأب الإنسان من حيث إنّ له الطبيعة الإنسانيّة فإنّه يتعلّق بالأسباب الظاهريّة فينسى مسبّب الأسباب فلا يشكره تعالى و هو يتقلّب في نعمة الظاهرة و الباطنة.

و في تذييل الكلام بهذه الجملة تنبيه على أنّ إعراض الإنسان عن ربّه في غير حال الضرّ ليس بحال غريزيّ فطريّ له حتّى يستدلّ بنسيانه ربّه على نفي الربوبيّة بل هو دأب سيّي‏ء من الإنسان يوقعه فيه كفران النعمة.

و في الآية حجّة على توحّده تعالى في ربوبيّته، و محصّله أنّ الإنسان إذا انقطع عن جميع الأسباب الظاهريّة و أيس منها لم ينقطع عن التعلّق بالسبب من أصله و لم يبطل منه رجاء النجاة من رأس بل رجى النجاة و تعلّق قلبه بسبب ما يقدر على ما لا يقدر عليه سائر الأسباب، و لا معنى لهذا التعلّق الفطريّ لو لا أنّ هناك سبباً فوق الأسباب إليه يرجع الأمر كلّه، و هو الله سبحانه، و ليس يصرف الإنسان عنه إلّا الاشتغال بزخارف الحياة الدنيا و التعلّق بالأسباب الظاهريّة و الغفلة عمّا وراءها.

قوله تعالى: ( أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ) خسوف القمر استتار قرصه بالظلمة و الظلّ و خسف الله به الأرض أي ستره فيها، و الحاصب - كما في المجمع - الريح الّتي ترمي بالحصباء و الحصى الصغار و قيل: الحاصب الريح المهلكة في البرّ و القاصف الريح المهلكة في البحر.

و الاستفهام للتوبيخ يوبّخهم الله تعالى على إعراضهم عن دعائه في البرّ فإنّهم لا مؤمن لهم من مهلكات الحوادث في البرّ كما لا مؤمن لهم حال مسّ الضرّ في

١٦٤

البحر إذ لا علم لهم بما سيحدث لهم و عليهم فمن الجائز أن يخسف الله بهم جانب البرّ أو يرسل عليهم ريحاً حاصباً فيهلكهم بذلك ثمّ لا يجدوا لأنفسهم وكيلاً يدفع عنهم الشدّة و البلاء و يعيد إليهم الأمن و السلام.

قوله تعالى: ( أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) إلى آخر الآية القصف الكسر بشدّة و قاصف الريح هي الّتي تكسر السفن و الأبنية، و قيل: القاصف الريح المهلكة في البحر و التبيع هو التابع يتبع الشي‏ء، و ضمير( فِيهِ ) للبحر و ضمير( بِهِ ) للغرق أو للإرسال أو لهما معاً باعتبار ما وقع و لكلّ قائل، و الآية من تمام التوبيخ.

و المعنى اُمّ هل أمنتم بنجاتكم إلى البرّ أن يعيدكم الله في البحر تارة اُخرى فيرسل عليكم ريحاً كاسرة للسفن أو مهلكة فيغرقكم بسبب كفركم ثمّ لا تجدوا بسبب الإغراق أحدا يتبع الله لكم عليه فيسأله لم فعل هذا بكم؟ و يؤاخذه على ما فعل.

و في قوله:( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً ) التفات من الغيبة إلى التكلّم بالغير و كأنّ النكتة فيه الظهور على الخصم بالعظمة و الكبرياء. و هو المناسب في المقام، و ليكون مع ذلك توطئة لما في الآيات التالية من سياق التكلّم بالغير.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا ) الآية مسوقة للامتنان مشوبا بالعتاب كأنّه تعالى لمّا ذكر وفور نعمه و تواتر فضله و رحمته على الإنسان و حمله في البحر ابتغاء فضله و رزقه، و رفاه حاله في البرّ ثمّ نسيانه لربّه و إعراضه عن دعائه إذا نجّاه و كشف ضرّه كفرانا مع أنّه متقلّب دائماً بين نعمه الّتي لا تحصى نبّه على جملة تكريمه و تفضيله ليعلم بذلك مزيد عنايته بالإنسان و كفران الإنسان لنعمه على كثرتها و بلوغها.

و بذلك يظهر أنّ المراد بالآية بيان حال لعامّة البشر مع الغضّ عمّا يختصّ بعضهم من الكرامة الخاصّة الإلهيّة و القرب و الفضيلة الروحية المحضة فالكلام

١٦٥

يعمّ المشركين و الكفّار و الفساق و إلّا لم يتمّ معنى الامتنان و العتاب.

فقوله:( وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ) المراد بالتكريم تخصيص الشي‏ء بالعناية و تشريفه بما يختصّ به و لا يوجد في غيره، و بذلك يفترق عن التفضيل فإنّ التكريم معنى نفسي و هو جعله شريفاً ذا كرامة في نفسه، و التفضيل معنى إضافيّ و هو تخصيصه بزيادة العطاء بالنسبة إلى غيره مع اشتراكهما في أصل العطيّة، و الإنسان يختصّ من بين الموجودات الكونيّة بالعقل و يزيد على غيره في جميع الصفات و الأحوال الّتي توجد بينها و الأعمال الّتي يأتي بها.

و ينجلي ذلك بقياس ما يتفنّن الإنسان به في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه و منكحه و يأتي به من النظم و التدبير في مجتمعة، و يتوسّل إليه من مقاصده باستخدام سائر الموجودات الكونيّة، و قياس ذلك ممّا لسائر الحيوان و النبات و غيرهما من ذلك فليس عندها من ذلك إلّا وجوه من التصرّف ساذجة بسيطة أو قريب من البساطة و هي واقفة في موقفها المحفوظ لها يوم خلقت من غير تغيّر أو تحوّل محسوس و قد سار الإنسان في جميع وجوه حياته الكماليّة إلى غايات بعيدة و لا يزال يسعى و يرقى.

و بالجملة بنو آدم مكرمون بما خصّهم الله به من بين سائر الموجودات الكونيّة و هو الّذي يمتازون به من غيرهم و هو العقل الّذي يعرفون به الحقّ من الباطل و الخير من الشرّ و النافع من الضارّ.

و أمّا ما ذكره المفسّرون أو وردت به الرواية أنّ الّذي كرّمهم الله به النطق أو تعديل القامة و امتدادها أو الأصابع يفعلون بها ما يشاؤن أو الأكل باليد أو الخطّ أو حسن الصورة أو التسلّط على سائر الخلق و تسخيرهم له أو أنّ الله خلق أباهم آدم بيده أو أنّه جعل محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم أو جميع ذلك و ما ذكر منها فإنّما ذكر على سبيل التمثيل.

فبعضها ممّا يتفرّع على العقل كالخطّ و النطق و التسلّط على غيره من الخلق و بعضها من مصاديق التفضيل دون التكريم و قد تقدّم الفرق بينهما، و بعضها خارج

١٦٦

عن مدلول الآية كالتكريم بخلق أبيهم آدمعليه‌السلام بيده و جعل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم فإنّ ذلك من التكريم الاُخرويّ و التشريف المعنويّ الخارج عن مدلول الآية كما تقدّم.

و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إنّ التكريم بجميع ذلك و قد أخطأ صاحب روح المعاني حيث قال بعد ذكر الأقوال. و الكلّ في الحقيقة على سبيل التمثيل و من ادّعى الحصر في واحد كابن عطيّة حيث قال: إنّما التكريم بالعقل لا غيره فقد ادّعى غلطا و رام شططا و خالف صريح العقل و صحيح النقل. انتهى. و وجه خطإه ظاهر ممّا تقدّم.

و قوله:( وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ ) أي حملناهم على السفن و الدوابّ و غير ذلك يركبونها إلى مقاصدهم و ابتغاء فضل ربّهم و رزقه و هذا أحد مظاهر تكريمهم.

و قوله:( وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) أي من الأشياء الّتي يستطيبونها من أقسام النعم من الفواكه و الثمار و سائر ما يتنعّمون به و يستلذّونه ممّا يصدق عليه الرزق، و هذا أيضاً أحد مظاهر التكريم فمثل الإنسان في هذا التكريم الإلهيّ مثل من يدعى إلى الضيافة و هي تكريم ثمّ يرسل إليه مركوب يركبه للحضور لها و هو تكريم ثمّ يقدّم عليه أنواع الأغذية و الأطعمة الطيّبة اللذيذة و هو تكريم.

و بذلك يظهر أنّ عطف قوله:( وَ حَمَلْناهُمْ ) إلخ و قوله:( وَ رَزَقْناهُمْ ) إلخ على التكريم من قبيل عطف المصاديق المترتّبة على العنوان الكلّيّ المنتزع منها.

و قوله:( وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا ) لا يبعد أن يكون المراد بمن خلقناهم أنواع الحيوان ذوات الشعور و الجنّ الّذي يثبته القرآن فإنّ الله سبحانه يعدّ أنواع الحيوان اُمما أرضيّة كالاُمّة الإنسانيّة و يجريها مجرى اُولي العقل كما قال:( وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) .

و هذا هو الأنسب بمعنى الآية و قد عرفت أنّ الغرض منها بيان ما كرّم الله

١٦٧

به بني آدم و فضّلهم على سائر الموجودات الكونيّة و هي - فيما نعلم - الحيوان و الجنّ و أمّا الملائكة فليسوا من الموجودات الكونيّة الواقعة تحت تأثير النظام المادّيّ الحاكم في عالم المادّة.

فالمعنى: و فضّلنا بني آدم على كثير ممّا خلقنا و هم الحيوان و الجنّ و أمّا غير الكثير و هم الملائكة فهم خارجون عن محلّ الكلام لأنّهم موجودات نوريّة غير كونيّة و لا داخلة في مجرى النظام الكونيّ، و الآية إنّما تتكلّم في الإنسان من جهة أنّه أحد الموجودات الكونيّة و قد أنعم عليه بنعم نفسيّة و إضافيّة.

و قد تبيّن ممّا تقدم:

أوّلاً: أنّ كلّا من التكريم و التفضيل في الآية ناظر إلى نوع من الموهبة الإلهيّة الّتي اُوتيها الإنسان، أمّا تكريمه فيما يختصّ بنوعه من الموهبة لا يتعدّاه إلى غيره و هو العقل الّذي يميز به الخير من الشرّ و النافع من الضارّ و الحسن من القبيح و يتفرّع عليه مواهب اُخرى كالتسلّط على غيره و استخدامه في سبيل مقاصده و النطق و الخطّ و غيره.

و أمّا تفضيله فبما يزيد به على غيره في الاُمور المشتركة بينه و بين غيره كما أنّ الحيوان يتغذّى بما وجده من لحم أو فاكهة أو حبّ أو عشب و نحو ذلك على وجه ساذج و الإنسان يتغذّى بذلك و يزيد عليه بما يبدعه من ألوان الغذاء المطبوخ و غير المطبوخ على أنحاء مختلفة و فنون مبتكرة و طعوم مستطابة لذيذة لا تكاد تحصى و لا تزال تزداد نوعاً و صنفاً، و قس على ذلك الحال في مشربه و ملبسه و مسكنه و نكاحه و اجتماعه المنزليّ و المدنيّ و غير ذلك.

و قال في مجمع البيان: و متى قيل: إذا كان معنى التكريم و التفضيل واحداً فما معنى التكرار؟ فجوابه أنّ قوله:( كَرَّمْنا ) ينبئ عن الإنعام و لا ينبئ عن التفضّل فجاء بلفظ التفضيل ليدلّ عليه، و قيل: إنّ التكريم يتناول نعم الدنيا و التفضيل يتناول نعم الآخرة، و قيل: إنّ التكريم بالنعم الّتي يصحّ بها التكليف، و التفضل بالتكليف الّذي عرضهم به للمنازل العالية. انتهى.

١٦٨

أمّا ما ذكره أنّ التفضيل يدلّ على نكتة زائدة على مدلول التكريم و هو كونه تفضّلاً و إعطاء لا عن استحقاق ففيه أنّه ممنوع و التفضيل كما يصحّ لا عن استحقاق من المفضّل كذلك يصحّ عن استحقاق منه لذلك، و أمّا ما نقله عن غيره فدعوى من غير دليل.

و قال الرازيّ في تفسيره، في الفرق بينهما: أنّ الأقرب في ذلك أن يقال: إنّه تعالى فضّل الإنسان على سائر الحيوانات باُمور خلقيّة طبيعيّة ذاتيّة مثل العقل و النطق و الخطّ و الصورة الحسنة و القامة المديدة ثمّ إنّه عزّوجلّ عرّضه بواسطة العقل و الفهم لاكتساب العقائد الحقّة و الأخلاق الفاضلة فالأوّل هو التكريم و الثاني هو التفضيل فكأنّه قيل: فضّلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة و الزلفى بواسطة ما كرّمناهم به من مبادئ ذلك فعليهم أن يشكروا و يصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحّدوا الله تعالى و لا يشركوا به شيئاً و يرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره انتهى.

و محصّله الفرق بين التكريم و التفضيل بأنّ الأوّل إنّما هو في الاُمور الذاتيّة أو ما يلحق بها من الغريزيّات و الثاني في الاُمور الاكتسابيّة و أنت خبير بأنّ الإنسان و إن وجد فيه من المواهب الإلهيّة و الكمالات الوجوديّة اُمور ذاتيّة و اُمور اكتسابيّة على ما ذكره لكن اختصاص التكريم بالنوع الأوّل و التفضيل بالنوع الثاني لا يساعد عليه لغة و لا عرف. فالوجه ما قدّمناه.

و ثانياً: أنّ الآية ناظرة إلى الكمال الإنسانيّ من حيث وجوده الكونيّ و تكريمه و تفضيله بالقياس إلى سائر الموجودات الكونيّة الواقعة تحت النظام الكونيّ فالملائكة الخارجون عن النظام الكونيّ خارجون عن محلّ الكلام و المراد بتفضيل الإنسان على كثير ممّن خلق تفضيله على غير الملائكة من الموجودات الكونيّة، و أمّا الملائكة فوجودهم غير هذا الوجود فلا تعرّض لهم في ذلك بوجه.

و بذلك يظهر فساد ما استدلّ بعضهم بالآية على كون الملائكة أفضل من الإنسان حتّى الأنبياءعليه‌السلام قال: لأنّ قوله تعالى:( وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثِيرٍ مِمَّنْ

١٦٩

خَلَقْنا ) يدلّ على أنّ ههنا من لم يفضّلهم عليه، و ليس إلّا الملائكة لأنّ بني آدم أفضل من كلّ حيوان سوى الملائكة بالاتّفاق.

وجه الفساد: أنّ الّذي تعرّضت له الآية إنّما هو التفضيل من حيث الوجود الكونيّ الدنيويّ و الملائكة غير موجودين بهذا النحو من الوجود، و إلى هذا يرجع ما أجاب به بعضهم أنّ التفضيل في الآية لم يرد به الثواب لأنّ الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء، و إنّما المراد بذلك ما فضّلهم الله به من فنون النعم الّتي اُوتيها في الدنيا.

و أمّا ما أجابوا عنه بأنّ المراد بالكثير في الآية الجميع و من بيانيّة، و المعنى و فضّلناهم على من خلقنا و هم كثير.

ففيه أنّه وجه سخيف لا يساعد عليه كلامهم و لا سياق الآية، و ما قيل: إنّه من قبيل قولهم: بذلت له العريض من جاهي و أبحته المنيع من حريمي و لا يراد به أنّي بذلت له عريض جاهي و منعته ما ليس بعريض و أبحته منيع حريمي و لم اُبحه ما ليس بمنيع بل المراد بذلت له جاهي الّذي من صفته أنّه عريض و أبحته حريمي الّذي هو منيع، يردّه أنّه إن اُريد بما فسّر به المثالان أنّ العناية في الكلام مصروفة إلى أخذ كلّ الجاه عريضاً و كلّ الحريم منيعاً لم ينقسم الجاه و الحريم حينئذ إلى عريض و غير عريض و منيع و غير منيع و لم ينطبق على مورد الآية المدّعى أنّه اُطلق فيها البعض و اُريد به الكلّ، و إن اُريد به أنّ المعنى بذلت له عريض جاهي فكيف بغير العريض و أبحته المنيع من حريمي فكيف بغير المنيع كان شمول حكم البعض للكلّ بالأولويّة و لم يجز في مورد الآية قطعاً.

و ربّما اُجيب عن ذلك بأنّا إن سلّمنا أنّ المراد بالكثير غير الملائكة و لفظة من للتبعيض فغاية ما في الباب أن تكون الآية ساكتة عن تفضيل بني آدم على الملائكة و هو أعمّ من تفضيل الملك على الإنسان لجواز التساوي، و لو سلّم أنّها تدلّ على التفضيل فغايته أن تدلّ على تفضيل جنس الملائكة على جنس بني آدم و هذا لا ينافي أن يكون بعض بني آدم أفضل من الملائكة كالأنبياءعليهم‌السلام .

١٧٠

و الحقّ كما عرفت أنّ الآية غير متعرّضة للتفضيل من جهة الثواب و الفضل الاُخرويّ و بعبارة اُخرى هي متعرّضة للتفضيل من جهة الوجود الكونيّ، و المراد بكثير ممّن خلقنا غير الملائكة و من تبعيضيّة و المراد بمن خلقنا الملائكة و غيرهم من الإنسان و الحيوان و الجنّ. و الإنسان مفضّل بحسب وجوده الكونيّ على الحيوان و الجنّ هذا و سيوافيك كلام في معنى تفضيل الإنسان على الملك إن شاء الله.

( كلام في الفضل بين الإنسان و الملك‏)

اختلف المسلمون في أنّ الإنسان و الملك أيّهما أفضل؟ فالمعروف المنسوب إلى الأشاعرة أنّ الإنسان أفضل و المراد به أفضليّة المؤمنين منهم إذ لا يختلف اثنان في أنّ من الإنسان من هو أضلّ من الأنعام و هو أهل الجحود منهم فكيف يمكن أن يفضّل على الملائكة المقرّبين؟ و قد استدلّ عليه بالآية الكريمة:( وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا ) على أن يكون الكثير بمعنى الجميع كما أومأنا إليه في تفسير الآية و بما ورد من طريق الرواية أنّ المؤمن أكرم على الله من الملائكة.

و هو المعروف أيضاً من مذهب الشيعة، و ربّما استدلّوا عليه بأنّ الملك مطبوع على الطاعة من غير أن يتأتّى منه المعصية لكنّ الإنسان من جهة اختياره تتساوى نسبته إلى الطاعة و المعصية و قد ركّب من قوى رحمانيّة و شيطانيّة و تألّف من عقل و شهوة و غضب فالإنسان المؤمن المطيع يطيعه و هو غير ممنوع من المعصية بخلاف الملك فهو أفضل من الملك.

و مع ذلك فالقول بأفضليّة الإنسان بالمعنى الّذي تقدّم ليس باتّفاقي بينهم فمن الأشاعرة من قال بأفضليّة الملك مطلقاً كالزجّاج و نسب إلى ابن عبّاس.

و منهم من قال بأفضليّة الرسل من البشر، مطلقاً ثمّ الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر و الملائكة ثمّ عامّة الملائكة على عامّة البشر.

و منهم من قال بأفضليّة الكرّوبيّين من الملائكة مطلقاً ثمّ الرسل من البشر

١٧١

ثمّ الكمّل منهم ثمّ عموم الملائكة من عموم البشر، كما يقول به الإمام الرازيّ و نسب إلى الغزالي.

و ذهبت المعتزلة إلى أفضليّة الملائكة من البشر و استدلّوا على ذلك بظاهر قوله تعالى:( وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ - إلى قوله -وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا ) و قد مرّ تقرير حجّتهم في تفسير الآية.

و قد بالغ الزمخشريّ في التشنيع على القائلين بأفضليّة الإنسان من الملك ممّن فسّر الكثير في الآية بالجميع فقال في الكشّاف، في ذيل قوله تعالى:( وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا ) هو ما سوى الملائكة و حسب بني آدم تفضيلاً أن ترفع عليهم الملائكة و هم هم و منزلتهم عند الله منزلتهم.

و العجب من المجبّرة كيف عكسوا في كلّ شي‏ء و كابروا حتّى جسرتهم عادة المكابرة على العظيمة الّتي هي تفضيل الإنسان الملك، و ذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم و تكثيره مع التعظيم ذكرهم و علموا أين أسكنهم؟ و أنّى قرّبهم؟ و كيف نزّلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من اُممهم؟.

ثمّ جرّهم فرط التعصّب عليهم إلى أن لفّفوا أقوالاً و أخباراً منها: قالت الملائكة ربّنا إنّك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها و يتمتّعون و لم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة فقال: و عزّتي و جلالي لا أجعل ذرّيّة من خلقت بيديّ كمن قلت له: كن فكان، و رووا عن أبي هريرة أنّه قال: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الّذين عنده.

و من ارتكابهم أنّهم فسّروا كثيراً بمعنى جميع في هذه الآية و خذلوا حتّى سلبوا الذوق فلم يحسّوا ببشاعة قولهم: و فضّلناهم على جميع ممّن خلقنا على أنّ معنى قولهم: على جميع ممّن خلقنا أشجى لحلوقهم و أقذى لعيونهم و لكنّهم لا يشعرون فانظر في تمحّلهم و تشبّثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى كأنّ جبريلعليه‌السلام غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط فتلك السخيمة لا تنحلّ عن قلوبهم انتهى.

١٧٢

و ما أشار إليه من رواية سؤال الملائكة أن يجعل لهم الآخرة كما جعل لبني آدم الدنيا رويت عن ابن عمر و أنس بن مالك و زيد بن أسلم و جابر بن عبدالله الأنصاريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لفظ الأخير قال: لمّا خلق الله آدم و ذرّيّته قالت الملائكة: يا ربّ خلقتهم يأكلون و يشربون و ينكحون و يركبون الخيل فاجعل لهم الدنيا و لنا الآخرة فقال الله تعالى: لا أجعل من خلقته بيديّ كمن قلت له: كن فكان.

و متن الرواية لا يخلو عن شي‏ء فإنّ الأكل و الشرب و النكاح و نحوها في الإنسان استكمالات مادّيّة إنّما يلتذّ الإنسان بها لما أنّه يعالج البقاء لشخصه أو لنوعه بما جهّز الله به بنيته المادّيّة و الملائكة واجدون في أصل وجودهم كمال ما يتوسّل إلى بعضه الإنسان بقواه المادّيّة و أعماله المتبعة المملّة منزّهون عن مطاوعة النظام المادّيّ الجاري في الكون فمن المحال أن يسألوا ذلك فليسوا بمحرومين حتّى يحرصوا على ذلك فيرجوه أو يتمنّوه.

و نظير هذا وارد على ما تقدّم من استدلالهم على أفضليّة الإنسان من الملك بأنّ وجود الإنسان مركّب من القوى الداعية إلى الطاعة و القوى الداعية إلى المعصية فإذا اختار الطاعة على المعصية و انتزع إلى الإسلام و العبودية كانت طاعته أفضل من طاعة الملائكة المفطورين على الطاعة المجبولين على ترك المعصية فهو أكثر قربا و زلفى و أعظم ثواباً و أجراً.

و هذا مبنيّ على أصل عقلائيّ معتبر في المجتمع الإنسانيّ و هو أنّ الطاعة الّتي هي امتثال الخطاب المولويّ من أمر و نهي و لها الفضل و الشرف على المعصية و بها يستحقّ الأجر و الثواب لو استحقّ إنّما يترتّب عليها أثرها إذا كان الإنسان المتوجّه إليه الخطاب في موقف يجوز له فيه الفعل و الترك متساوي النسبة إلى الجانبين، و كلّما كان أقرب إلى المعصية منه إلى الطاعة قوي الأثر و العكس بالعكس فليس يستوي في امتثال النهي عن الزنا مثلاً العنّين و الشيخ الهرم و من يصعب عليه تحصيل مقدّماته و الشاب القوي البنية الّذي ارتفع عنه غالب موانعه من لا مانع

١٧٣

له عنه أصلاً إلّا تقوى الله فبعض هذه التروك لا يعدّ طاعة و بعضها طاعة و بعضها أفضل الطاعة على هذا القياس.

و لمّا كانت الملائكة لا سبيل لهم إلى المعصية لفقدهم غرائز الشهوة و الغضب و نزاهتهم عن هوى النفس كان امتثالهم للخطابات المولويّة الإلهيّة أشبه بامتثال العنّين و الشيخ الهرم لنهي الزنا و كان الفضل للإنسان في طاعته عليهم.

و فيه أنّه لو تمّ ذلك لم يكن لطاعة الملائكة فضل أصلاً إذ لا سبيل لهم إلى المعصية و لا لهم مقام استواء النسبة و لم يكن لهم شرف ذاتيّ و قيمة جوهريّة إذ لا شرف على هذا إلّا بالطاعة الّتي تقابلها معصية، و تسمية المطاوعة الذاتيّة الّتي لا تتخلّف عن الذات طاعة مجاز، و لو كان كذلك لم يكن لقربهم من ربّهم موجب و لا لأعمالهم منزلة.

لكنّ الله سبحانه أقامهم مقام القرب و الزلفى و أسكنهم في حظائر القدس و منازل الاُنس، و جعلهم خزّان سرّه و حملة أمره و وسائط بينه و بين خلقه، و هل هذا كلّه لإرادة منه جزافيّة من غير صلاحية منهم و استحقاق من ذواتهم؟.

و قد أثنى الله عليهم أجزل الثناء إذ قال فيهم:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧ و قال:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦ فوصف ذواتهم بالإكرام من غير تقييده بقيد و مدح طاعتهم و استنكافهم عن المعصية.

و قال مادحاً لعبادتهم و تذلّلهم لربّهم:( وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) الأنبياء: ٢٨ و قال:( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ ) حم السجدة: ٣٨ و قال:( وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ - إلى أن قال -وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ ) الأعراف: ٢٠٦ فأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكره كذكرهم و يعبده كعبادتهم.

و حق الأمر أنّ كون العمل جائز الفعل و الترك و وقوف الإنسان في موقف استواء النسبة ليس في نفسه ملاك أفضليّة طاعته بل بما يكشف ذلك عن صفاء

١٧٤

طينته و حسن سريرته و الدليل على ذلك أن لا قيمة للطاعة مع العلم بخباثة نفس المطيع و قبح سريرته و إن بلغ في تصفية العمل و بذل المجهود فيه ما بلغ كطاعة المنافق و مريض القلب الحابط عمله عند الله الممحوّة حسنته عن ديوان الأعمال فصفاء نفس المطيع و جمال ذاته و خلوصه في عبوديّته الّذي يكشف عنه انتزاعه من العصية إلى الطاعة و تحمّله المشاقّ في ذلك هو الموجب لنفاسة عمله و فضل طاعته.

و على هذا فذوات الملائكة و لا قوام لها إلّا الطهارة و الكرامة و لا يحكم في أعمالهم إلّا ذلّ العبوديّة و خلوص النيّة أفضل من ذات الإنسان المتكدّرة بالهوى المشوبة بالغضب و الشهوة و أعماله الّتي قلّما تخلو عن خفايا الشرك و شامة النفس و دخل الطبع.

فالقوام الملكيّ أفضل من القوام الإنسانيّ و الأعمال الملكيّة الخالصة لوجه الله أفضل من أعمال الإنسان و فيها لون قوامه و شوب من ذاته، و الكمال الّذي يتوخّاه الإنسان لذاته في طاعته و هو الثواب اُوتيه الملك في أوّل وجوده كما تقدّمت الإشارة إليه.

نعم لمّا كان الإنسان إنّما ينال الكمال الذاتيّ تدريجاً بما يحصل لذاته من الاستعداد سريعاً أو بطيئاً كان من المحتمل أن ينال عن استعداده مقاماً من القرب و موطناً من الكمال فوق ما قد ناله الملك ببهاء ذاته في أوّل وجوده، و ظاهر كلامه تعالى يحقّق هذا الاحتمال.

كيف و هو سبحانه يذكر في قصّة جعل الإنسان خليفة في الأرض فضل الإنسان و احتماله لما لا يحتمله الملائكة من العلم بالأسماء كلّها، و أنّه مقام من الكمال لا يتداركه تسبيحهم بحمده و تقديسهم له، و يطهّره ممّا سيظهر منه من الفساد في الأرض و سفك الدماء كما قال:( وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) إلى آخر الآيات: البقرة: ٣٠ - ٣٣ و قد فصّلنا القول في ذلك في ذيل الآيات في الجزء الأوّل من الكتاب.

١٧٥

ثمّ ذكر سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم ثمّ سجودهم له جميعاً فقال:( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) الحجر: ٣٠ و قد أوضحنا في تفسير الآيات في القصّة في سورة الأعراف أنّ السجدة إنّما كان خضوعاً منهم لمقام الكمال الإنسانيّ و لم يكن آدمعليه‌السلام إلّا قبلة لهم ممثلاً للإنسانيّة قبال الملائكة. فهذا ما يفيده ظاهر كلامه تعالى، و في الأخبار ما يؤيّده، و للبحث جهة عقليّة يرجع فيها إلى مظانّه.

قوله تعالى: ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) اليوم يوم القيامة و الظرف متعلّق بمقدّر أي اذكر يوم كذا، و الإمام المقتدى و قد سمّى الله سبحانه بهذا الاسم أفراداً من البشر يهدون الناس بأمر الله كما في قوله:( قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) البقرة: ١٢٤ و قوله:( وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) الأنبياء: ٧٣ و أفراداً آخرين يقتدى بهم في الضلال كما في قوله:( فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) التوبة: ١٢.

و سمّى به أيضاً التوراة كما في قوله:( وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى‏ إِماماً وَ رَحْمَةً ) هود: ١٧، و ربّما استفيد منه أنّ الكتب السماويّة المشتملة على الشريعة ككتاب نوح و إبراهيم و عيسى و محمّدعليهم‌السلام جميعاً أئمّة.

و سمّى به أيضاً اللوح المحفوظ كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) يس: ١٢.

و لمّا كان ظاهر الآية أنّ لكلّ طائفة من الناس إماماً غير ما لغيرها فإنّه المستفاد من إضافة الإمام إلى الضمير الراجع إلى كلّ اُناس لم يصلح أن يكون المراد بالإمام في الآية اللوح لكونه واحداً لا اختصاص له باُناس دون اُناس.

و أيضاً ظاهر الآية أنّ هذه الدعوة تعمّ الناس جميعاً من الأوّلين و الآخرين و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ ) البقرة: ٢١٣ أنّ أوّل الكتب السماويّة المشتملة على الشريعة هو كتاب نوحعليه‌السلام و لا كتاب قبله في هذا الشأن و بذلك يظهر عدم

١٧٦

صلاحية كون الإمام في الآية مراداً به الكتاب و إلّا خرج من قبل نوح من شمول الدعوة في الآية.

فالمتعيّن أن يكون المراد بإمام كلّ اُناس من يأتمّون به في سبيلي الحقّ و الباطل كما تقدّم أنّ القرآن يسمّيهما إمامين أو إمام الحقّ خاصّة و هو الّذي يجتبيه الله سبحانه في كلّ زمان لهداية أهله بأمره نبيّاً كان كإبراهيم و محمّدعليهما‌السلام أو غير نبيّ، و قد تقدّم تفصيل الكلام فيه في تفسير قوله:( وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) البقرة: ١٢٤.

لكنّ المستفاد من مثل قوله في فرعون و هو من أئمّة الضلال:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) هود: ٩٨، و قوله:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الأنفال: ٣٧ و غيرهما من الآيات و هي، كثيرة أنّ أهل الضلال لا يفارقون أولياءهم المتبوعين يوم القيامة، و لازم ذلك أن يصاحبوهم في الدعوة و الإحضار.

على أنّ قوله:( بِإِمامِهِمْ ) مطلق لم يقيّد بالإمام الحقّ الّذي جعله الله إماماً هادياً بأمره، و قد سمّى مقتدى الضلال إماماً كما سمّى مقتدى الهدى إماماً و سياق ذيل الآية و الآية الثانية أيضاً مشعر بأنّ الإمام المدعوّ به هو الّذي اتّخذه الناس إماماً و اقتدوا به في الدنيا لا من اجتباه الله للإمامة و نصبه للهداية بأمره سواء اتّبعه الناس أو رفضوه.

فالظاهر أنّ المراد بإمام كلّ اُناس في الآية من ائتمّوا به سواء كان إمام حقّ أو إمام باطل، و ليس كما يظنّ أنّهم ينادون بأسماء أئمّتهم فيقال: يا اُمّة إبراهيم و يا اُمّة محمّد و يا آل فرعون و يا آل فلان فإنّه لا يلائمه ما في الآية من التفريع أعني قوله:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) ( وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) إلخ إذ لا تفرّع بين الدعوة بالإمام بهذا المعنى و بين إعطاء الكتاب باليمين أو العمى.

بل المراد بالدعوة - على ما يعطيه سياق الذيل - هو الإحضار فهم محضرون

١٧٧

بإمامهم ثمّ يأخذ من اقتدى بإمام حقّ كتابه بيمينه و يظهر عمى من عمي عن معرفة الإمام الحقّ في الدنيا و اتّباعه، هذا ما يعطيه التدبّر في الآية.

و للمفسّرين في تفسير الإمام في الآية مذاهب شتّى مختلفة:

منها: أنّ المراد بالإمام الكتاب الّذي يؤتمّ به كالتوراة و الإنجيل و القرآن فينادي يوم القيامة يا أهل التوراة و يا أهل الإنجيل و يا أهل القرآن، و قد تقدّم بيانه و بيان ما يرد عليه.

و منها: أنّ المراد بالإمام النبيّ لمن كان على الحقّ و الشيطان و إمام الضلال لمبتغي الباطل فيقال: هاتوا متّبعي إبراهيم هاتوا متّبعي موسى هاتوا متّبعي محمّد فيقوم أهل الحقّ الّذين اتّبعوهم فيعطون كتب أعمالهم بأيمانهم ثمّ يقال: هاتوا متّبعي الشيطان هاتوا متّبعي رؤساء الضلال.

و فيه أنّه مبنيّ على أخذ الإمام في الآية بمعناه العرفيّ و هو من يؤتمّ به من العقلاء، و لا سبيل إليه مع وجود معنى خاصّ له في عرف القرآن و هو الّذي يهدي بأمر الله و المؤتمّ به في الضلال.

و منها: أنّ المراد كتاب أعمالهم فيقال: يا أصحاب كتاب الخير و يا أصحاب كتاب الشرّ و وجّه كونه إماماً بأنّهم متبعون لما يحكم به من جنّة أو نار.

و فيه أنّه لا معنى لتسمية كتاب الأعمال إماماً و هو يتبع عمل الإنسان من خير أو شرّ فإنّ يسمّى تابعاً اُولى به من أن يسمّى متبوعاً، و أمّا ما وجه به أخيراً ففيه أنّ المتّبع من الحكم ما يقضي به الله سبحانه بعد نشر الصحف و السؤال و الوزن و الشهادة و أمّا الكتاب فإنّما يشتمل على متون أعمال الخير و الشرّ من غير فصل القضاء.

و منه يظهر أن ليس المراد بالإمام اللوح المحفوظ و لا صحيفة عمل الاُمّة و هي الّتي يشير إليها قوله:( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) الجاثية: ٢٨ لعدم ملائمته قوله ذيلاً:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) الظاهر في الفرد دون الجماعة.

و منها: أنّ المراد به الاُمّهات - بجعل إمام جمعاً لاُمّ - فيقال: يا ابن فلانة و لا

١٧٨

يقال: يا ابن فلان، و قد رووا فيه رواية.

و فيه أنّه لا يلائم لفظ الآية فقد قيل:( نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) و لم يقل ندعو الناس بإمامهم أو ندعو كلّ إنسان باُمّه و لو كان كما قيل لتعيّن أحد التعبيرين الأخيرين و ما اُشير إليه من الرواية على تقدير صحّتها و قبولها رواية مستقلّة غير واردة في تفسير الآية.

على أنّ جمع الاُمّ بالإمام لغة نادرة لا يحمل على مثلها كلامه تعالى و قد عدّ في الكشاف هذا القول من بدع التفاسير.

و منها: أنّ المراد به المقتدى به و المتّبع عاقلاً كان أو غيره حقّاً كان أو باطلاً كالنبيّ و الوليّ و الشيطان و رؤساء الضلال و الأديان الحقّة و الباطلة و الكتب السماويّة و كتب الضلال و السنن الحسنة و السيّئة، و لعلّ دعوة كلّ اُناس بإمامهم على هذا الوجه كناية عن ملازمة كلّ تابع يوم القيامة لمتبوعه، و الباء للمصاحبة.

و فيه ما أوردناه على القول بأنّ المراد به الأنبياء و رؤساء الضلال فالحمل على المعنى اللغويّ إنّما يحسن فيما لم يكن للقرآن فيه عرف، و قد عرفت أنّ الإمام في عرف القرآن هو الّذي يهدي بأمر الله أو المقتدى في الضلال و من الممكن أن يكون الباء في( بِإِمامِهِمْ ) للآلة فافهم ذلك.

على أنّ هداية الكتاب و السنّة و الدين و غير ذلك بالحقيقة ترجع إلى هداية الإمام و كذا النبيّ إنّما يهدي بما أنّه إمام يهدي بأمر الله، و أمّا من حيث إنبائه عن معارف الغيب أو تبليغه ما اُرسل به فإنّما هو نبيّ أو رسول و ليس بإمام، و كذا إضلال المذاهب الباطلة و كتب الضلال و السنن المبتدعة بالحقيقة إضلال مؤسّسيها و المبتدعين بها.

قوله تعالى: ( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) الفتيل هو المفتول الّذي في شقّ النواة، و قيل: الفتيل هو الّذي في بطن النواة و النقير في ظهرها و القطمير شقّ النواة.

١٧٩

و تفريع التفصيل على دعوتهم بإمامهم دليل على أنّ ائتمامهم هو الموجب لانقسامهم إلى قسمين و تفرّقهم فريقين: من اُوتي كتابه بيمينه و من كان أعمى و أضلّ سبيلاً فالإمام إمامان: إمام هدى و إمام ضلال، و هذا هو الّذي قدّمناه أنّ تفريع التفصيل يشهد بكون المراد بالإمام أعمّ من إمام الهدى.

و يشهد به أيضاً تبديل إيتاء الكتاب بالشمال أو من وراء الظهر كما وقع في غير هذا الموضع من قوله:( وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى‏ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى‏ ) إلخ.

و المعنى - بإعانة من السياق - فيتفرّقون حينئذ فريقين فالّذين اُعطوا صحيفة أعمالهم بأيمانهم فاُولئك يقرؤن كتابهم فرحين مستبشرين مسرورين بالسعادة و لا يظلمون مقدار فتيل بل يوفّون اُجورهم تامّة كاملة.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى‏ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى‏ وَ أَضَلُّ سَبِيلًا ) المقابلة بين قوليه:( فِي هذِهِ ) و( فِي الْآخِرَةِ ) دليل على أنّ الإشارة بهذه إلى الدنيا كما أنّ كون الآية مسوقة لبيان التطابق بين الحياة الدنيا و الآخرة دليل على أنّ المراد بعمى الآخرة عمى البصيرة كما أنّ المراد بعمى الدنيا ذلك قال تعالى:( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) و يؤيّد ذلك أيضاً تعقيب عمى الآخرة بقوله:( وَ أَضَلُّ سَبِيلًا ) .

و المعنى: و من كان في هذه الحياة الدنيا لا يعرف الإمام الحقّ و لا يسلك سبيل الحقّ فهو في الحياة الآخرة لا يجد السعادة و الفلاح و لا يهتدي إلى المغفرة و الرحمة.

و بما تقدّم يتبيّن ما في قول بعضهم: إنّ الإشارة بقوله:( فِي هذِهِ ) إلى النعم المذكورة و المعنى و من كان في هذه النعم الّتي رزقها أعمى لا يعرفها و لا يشكر الله على ما أنعمها فهو في الآخرة أعمى.

و كذا ما ذكره بعضهم أنّ المراد بعمى الدنيا عمى البصيرة و بعمى الآخرة عمى البصر، و قد تقدّم وجه الفساد على أنّ عمى البصر في الآخرة ربّما رجع إلى عمى البصيرة لقوله تعالى:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

١٨٠