الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 101120
تحميل: 4364


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101120 / تحميل: 4364
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا( ١٩) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا( ٢٠) وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ  فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا  رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ  قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا( ٢١) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ  وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ  قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ  فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا( ٢٢) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا( ٢٣) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ  وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا( ٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا( ٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا  لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ  مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا( ٢٦)

٢٦١

( بيان‏)

الآيات تذكر قصّة أصحاب الكهف و هي أحد الاُمور الثلاثة الّتي أشارت اليهود على قريش أن تسأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها و تختبر بها صدقه في دعوى النبوّة: قصّة أصحاب الكهف و قصّة موسى و فتاه و قصّة ذي القرنين على ما وردت به الرواية غير أنّ هذه القصّة لم تصدّر بما يدلّ على تعلّق السؤال بها كما صدّرت به قصّة ذي القرنين:( يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) الآية و إن كان في آخرها بعض ما يشعر بذلك كقوله:( وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ) على ما سيجي‏ء.

و سياق الآيات الثلاث الّتي افتتحت بها القصّة مشعر بأنّ قصّة الكهف كانت معلومة إجمالاً قبل نزول الوحي بذكر القصّة و خاصّة سياق قوله:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ) و أنّ الّذي كشف عنه الوحي تفصيل قصّتهم الآخذ من قوله:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآيات.

و وجه اتّصال آيات القصّة بما تقدّم أنّه يشير بذكر قصّتهم و نفي كونهم عجباً من آيات الله أنّ أمر جعله تعالى ما على الأرض زينة لها يتعلّق بها الإنسان و يطمئنّ إليها مكبّاً عليها منصرفاً غافلاً عن غيرها لغرض البلاء و الامتحان ثمّ جعل ما عليها بعد أيّام قلائل صعيداً جرزاً لا يظهر للإنسان إلّا سدى و سراباً ليس ذلك كلّه إلّا آية إلهيّة هي نظيرة ما جرى على أصحاب الكهف حين سلّط الله عليهم النوم في فجوة من الكهف ثلاث مائة سنين شمسيّة ثمّ لمّا بعثهم لم يحسبوا مكثهم ذلك إلّا مكث يوم أو بعض يوم.

فمكث كلّ إنسان في الدنيا و اشتغاله بزخارفها و زيناتها و تولّهه إليها ذاهلا عمّا سواها آية تضاهي في معناها آية أصحاب الكهف و سيبعث الله الناس من هذه الرقدة فيسألهم( كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) المؤمنون: ١١٣( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) الأحقاف: ٣٥ فما آية أصحاب الكهف ببدع عجيب من بين الآيات بل هي متكرّرة

٢٦٢

جارية ما جرت الأيّام و الليالي على الإنسان.

فكأنّه تعالى لمّا قال:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) إلى تمام ثلاث آيات قال مخاطباً لنبيّه: فكأنّك ما تنبّهت أنّ اشتغالهم بالدنيا و عدم إيمانهم بهذا الحديث عن تعلّقهم بزينة الأرض آية إلهيّة تشابه آية مكث أصحاب الكهف في كهفهم ثمّ انبعاثهم و لذلك حزنت و كدت تقتل نفسك أسفا بل حسبت أنّ أصحاب الكهف كانوا من آياتنا بدعاً عجباً من النوادر في هذا الباب.

و إنّما لم يصرّح بهذا المعنى صونا لمقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن نسبة الغفلة و الذهول إليه و لأنّ الكناية أبلغ من التصريح.

هذا ما يعطيه التدبّر في وجه اتّصال القصّة و على هذا النمط يجري السياق في اتّصال ما يتلو هذه القصّة من مثل رجلين لأحدهما جنّتان و قصّة موسى و فتاه و سيجي‏ء بيانه و قد ذكر في اتّصال القصّة وجوه اُخر غير وجيهة لا جدوى في نقلها.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ) الحسبان هو الظنّ، و الكهف هو المغارة في الجبل إلّا أنّه أوسع منها فإذا صغر سمّي غارا و الرقيم من الرقم و هو الكتابة و الخطّ فهو في الأصل فعيل بمعنى المفعول كالجريح و القتيل بمعنى المجروح و المقتول، و العجب مصدر بمعنى التعجّب اُريد به معنى الوصف مبالغة.

و ظاهر سياق القصّة أنّ أصحاب الكهف و الرقيم جماعة بأعيانهم و القصّة قصّتهم جميعاً فهم المسمّون أصحاب الكهف و أصحاب الرقيم أمّا تسميتهم أصحاب الكهف فلدخولهم الكهف و وقوع ما جرى عليهم فيه.

و أمّا تسميتهم أصحاب الرقيم فقد قيل: إنّ قصّتهم كانت منقوشة في لوح منصوب هناك أو محفوظ في خزانة الملوك فبذلك سمّوا أصحاب الرقيم: و قيل: إنّ الرقيم اسم الجبل الّذي فيه الكهف، أو الوادي الّذي فيه الجبل أو البلد الّذي خرجوا منه إلى الكهف أو الكلب الّذي كان معهم أقوال خمسة، و سيأتي في الكلام

٢٦٣

على قصّتهم ما يؤيّد القول الأوّل.

و قيل: إنّ أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف و قصّتهم غير قصّتهم ذكرهم الله مع أصحاب الكهف و لم يذكر قصّتهم و قد رووا لهم قصّة سنشير إليها في البحث الروائيّ الآتي.

و هو بعيد جدّاً فما كان الله ليشير في بليغ كلامه إلى قصّة طائفتين ثمّ يفصّل القول في إحدى القصّتين و لا يتعرّض للاُخرى لا إجمالاً و لا تفصيلاً على أنّ ما أوردوه من قصّة أصحاب الرقيم لا يلائم السياق السابق المستدعي لذكر قصّة أصحاب الكهف.

و قد تبيّن ممّا تقدّم في وجه اتّصال القصّة أنّ معنى الآية: بل ظننت أنّ أصحاب الكهف و الرقيم - و قد أنامهم الله مئات من السنين ثمّ أيقظهم فحسبوا أنّهم لبثوا يوماً أو بعض يوم - كانوا من آياتنا آية عجيبة كلّ العجب؟ لا و ليسوا بعجب و ما يجري على عامّة الإنسان من افتتانه بزينة الأرض و غفلته عن أمر المعاد ثمّ بعثه و هو يستقلّ اللبث في الدنيا آية جارية تضاهي آية الكهف.

و ظاهر السياق - كما تقدّمت الإشارة إليه - أنّ القصّة كانت معلومة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إجمالاً عند نزول القصّة و إنّما العناية متعلّقة بالإخبار عن تفصيلها، و يؤيّد ذلك تعقيب الآية بالآيات الثلاث المتضمّنة لإجمال القصّة حيث إنّها تذكر إجمال القصّة المؤدّي إلى عدّهم آية عجيبة نادرة في بابها.

قوله تعالى: ( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ) إلى آخر الآية الاُويّ الرجوع و لا كلّ رجوع بل رجوع الإنسان أو الحيوان إلى محلّ يستقرّ فيه أو ليستقرّ فيه و الفتية جمع سماعيّ لفتى و الفتى الشابّ و لا تخلو الكلمة من شائبة مدح.

و التهيئة الإعداد قال البيضاويّ: و أصل التهيئة إحداث هيأة الشي‏ء انتهى و الرشد بفتحتين أو الضمّ فالسكون الاهتداء إلى المطلوب، قال الراغب: الرشد و الرشد خلاف الغيّ يستعمل استعمال الهداية. انتهى.

٢٦٤

و قوله:( فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) تفريع لدعائهم على اُويّهم كأنّهم اضطرّوا لفقد القوّة و انقطاع الحيلة إلى المبادرة إلى المسألة، و يؤيّده قولهم:( مِنْ لَدُنْكَ ) فلو لا أنّ المذاهب أعيتهم و الأسباب تقطّعت بهم و اليأس أحاط بهم ما قيّدوا الرحمة المسؤولة أن تكون من لدنه تعالى بل قالوا: آتنا رحمة كقول غيرهم( رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) البقرة: ٢٠١( رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى‏ رُسُلِكَ ) آل عمران: ١٩٤ فالمراد بالرحمة المسؤولة التأييد الإلهيّ إذ لا مؤيّد غيره.

و يمكن أن يكون المراد بالرحمة المسؤولة من لدنه بعض المواهب و النعم المختصّة به تعالى كالهداية الّتي يصرّح في مواضع من كلامه بأنّها منه خاصّة، و يشعر به التقييد بقوله( مِنْ لَدُنْكَ ) ، و يؤيّده ورود نظيره في دعاء الراسخين في العلم المنقول في قوله:( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) آل عمران: ٨ فما سألوا إلّا الهداية.

و قوله:( وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ) المراد من أمرهم الشأن الّذي يخصّهم و هم عليه و قد هربوا من قوم يتتبّعون المؤمنين و يسفكون دماءهم و يكرهونهم على عبادة غير الله، و التجأوا إلى كهف و هم لا يدرون ما ذا سيجري عليهم؟ و لا يهتدون أيّ سبيل للنجاة يسلكون؟ و من هنا يظهر أنّ المراد بالرشد الاهتداء إلى ما فيه نجاتهم.

فالجملة أعني قوله:( وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ) على أوّل الاحتمالين السابقين في معنى الرحمة عطف تفسير على قوله:( آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) و على ثانيهما مسألة بعد مسألة.

قوله تعالى: ( فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) قال في الكشّاف، أي ضربنا عليها حجابا من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبّههم فيها الأصوات كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع و لا يستنبه فحذف المفعول الّذي هو الحجاب كما يقال: بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبّة. انتهى.

و قال في المجمع،: و معنى ضربنا على آذانهم سلّطنا عليهم النوم، و هو من

٢٦٥

الكلام البالغ في الفصاحة يقال: ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به، قال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير على يد فلان إذا منعه من التصرّف، قال الأسود بن يعفر و قد كان ضريرا:

و من الحوادث لا أبالك أنني

ضربت علي الأرض بالأسداد

و قال: هذا من فصيح لغات القرآن الّتي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ انتهى، و ما ذكره من المعنى أبلغ ممّا ذكره الزمخشريّ.

و هنا معنى ثالث و إن لم يذكروه: و هو أن يكون إشارة إلى ما تصنعه النساء عند إنامة الصبيّ غالباً من الضرب على اُذنه بدقّ الأكفّ أو الأنامل عليها دقّاً نعيماً لتتجمّع حاسته عليه فيأخذه النوم بذلك فالجملة كناية عن إنامتهم سنين معدودة بشفقة و حنان كما تفعل الاُمّ المرضع بطفلها الرضيع.

و قوله:( سِنِينَ عَدَداً ) ظرف للضرب، و العدد مصدر كالعدّ بمعنى المعدود فالمعنى سنين معدودة، و قيل بحذف المضاف و التقدير ذوات عدد.

و قد قال في الكشّاف، إنّ توصيف السنين بالعدد يحتمل أن يراد به التكثير أو التقليل لأنّ الكثير قليل عنده كقوله: لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار، و قال الزجّاج إنّ الشي‏ء إذا قلّ فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعدّ و إذا كثر احتاج إلى أن يعدّ. انتهى ملخّصاً.

و ربّما كانت العناية في التوصيف بالعدد هي أنّ الشي‏ء إذا بلغ في الكثرة عسر عدّه فلم يعدّ عادة و كان التوصيف بالعدد أمارة كونه قليلاً يقبل العدّ بسهولة، قال تعالى:( وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ ) يوسف: ٢٠ أي قليلة.

و كون الغرض من التوصيف بالعدد هو التقليل هو الملائم للسياق على ما مرّ فإنّ الكلام مسرود لنفي كون قصّتهم عجباً و إنّما يناسبه تقليل سني لبثهم لا تكثيرها - و معنى الآية ظاهر و قد دلّ فيها على كونهم نائمين في الكهف طول المدّة لا ميّتين.

قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً ) المراد

٢٦٦

بالبعث هو الإيقاظ دون الإحياء بقرينة الآية السابقة، و قال الراغب: الحزب جماعة فيها غلظ انتهى.

و قال: الأمد و الأبد يتقاربان لكنّ الأبد عبارة عن مدّة الزمان الّتي ليس لها حدّ محدود و لا يتقيّد لا يقال: أبد كذا، و الأمد مدّة لها حدّ مجهول إذا اُطلق، و قد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا. و الفرق بين الأمد و الزمان أنّ الأمد يقال باعتبار الغاية و الزمان عامّ في المبدء و الغاية، و لذلك قال بعضهم: المدى و الأمد يتقاربان. انتهى.

و المراد بالعلم العلم الفعليّ و هو ظهور الشي‏ء و حضوره بوجوده الخاصّ عند الله، و قد كثر ورود العلم بهذا المعنى في القرآن كقوله:( لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) الحديد: ٢٥، و قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) الجنّ: ٢٨ و إليه يرجع قول بعضهم في تفسيره: أنّ المعنى ليظهر معلومنا على ما علمناه.

و قوله:( لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) إلخ تعليل للبعث و اللام للغاية و المراد بالحزبين الطائفتان من أصحاب الكهف حين سأل بعضهم بعضاً بعد البعث: قائلا كم لبثتم قالوا لبثناً يوماً أو بعض يوم قالوا ربّكم أعلم بما لبثتم على ما يفيده قوله تعالى في الآيات التالية:( وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ ) إلخ.

و أمّا قول القائل: إنّ المراد بالحزبين الطائفتان من قومهم المؤمنون و الكافرون كأنّهم اختلفوا في أمد لبثهم في الكهف بين مصيب في إحصائه و مخطئ فبعثهم الله تعالى ليبيّن ذلك و يظهر، و المعنى أيقظناهم ليظهر أيّ الطائفتين المختلفتين من المؤمنين و الكافرين في أمد لبثهم مصيبة في قولها، فبعيد.

و قوله:( أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً ) فعل ماض من الإحصاء، و( أمدا ) مفعوله و الظاهر أنّ( لِما لَبِثُوا ) قيد لقوله:( أَمَداً ) و ما مصدريّة أي أيّ الحزبين عدّ أمد لبثهم و قيل: أحصى اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد كقولهم: هو أحصى للمال و أفلس من ابن المذلق(١) ، و أمدا منصوب بفعل يدلّ عليه( أَحْصى) و لا يخلو

____________________

(١) مثل.

٢٦٧

من تكلّف، و قيل غير ذلك.

و معنى الآيات الثلاث أعني قوله:( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ - إلى قوله -أَمَداً ) إذ رجع الشبّان إلى الكهف فسألوا عند ذلك ربّهم قائلين: ربّنا هب لنا من لدنك ما ننجو به ممّا يهدّدنا بالتخيير بين عبادة غيرك و بين القتل و أعدّ لنا من أمرنا هدى نهتدي به إلى النجاة فأنمناهم في الكهف سنين معدودة ثمّ أيقظناهم ليتبيّن أيّ الحزبين عدّ أمداً للبثهم.

و الآيات الثلاث - كما ترى - تذكر إجمال قصّتهم تشير بذلك إلى جهة كونهم من آيات الله و غرابة أمرهم، تشير الآية الاُولى إلى دخولهم الكهف و مسألتهم للنجاة، و الثانية إلى نومهم فيه سنين عدداً، و الثالثة إلى تيقّظهم و انتباههم و اختلافهم في تقدير زمان لبثهم.

فلإجمال القصّة أركان ثلاثة تتضمّن كلّ واحدة من الآيات الثلاث واحداً منها و على هذا النمط تجري الآيات التالية المتضمّنة لتفصيل القصّة غير أنّها تضيف إلى ذلك بعض ما جرى بعد ظهور أمرهم و تبيّن حالهم للناس، و هو الّذي يشير إليه قوله:( وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ) إلى آخر آيات القصّة.

قوله تعالى: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآية. شروع في ذكر ما يهمّ من خصوصيّات قصّتهم تفصيلاً، و قوله:( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ) أي آمنوا إيماناً مرضيّاً لربّهم و لو لا ذلك لم ينسبه إليهم قطعاً.

و قوله:( وَ زِدْناهُمْ هُدىً ) الهدى بعد أصل الإيمان ملازم لارتقاء درجة الإيمان الّذي فيه اهتداء الإنسان إلى كلّ ما ينتهي إلى رضوان الله قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) الحديد: ٢٨.

قوله تعالى: ( وَ رَبَطْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا ) إلى آخر الآيات الثلاث الربط هو الشدّ، و الربط على القلوب كناية عن سلب القلق و الاضطراب عنها، و الشطط الخروج عن الحدّ و التجاوز عن الحقّ، و السلطان الحجّة و البرهان.

٢٦٨

و الآيات الثلاث تحكي الشطر الأوّل من محاورتهم حين انتهضوا لمخالفة الوثنيّة و مخاصمتهم( إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً ) .

و قد أتوا بكلام مملوء حكمة و فهما راموا به إبطال ربوبيّة أرباب الأصنام من الملائكة و الجنّ و المصلحين من البشر الّذين رامت الفلسفة الوثنيّة إثبات اُلوهيّتهم و ربوبيّتهم دون نفس الأصنام الّتي هي تماثيل و صور لاُولئك الأرباب تدعوها عامّتهم آلهة و أرباباً، و من الشّاهد على ذلك قوله:( عَلَيْهِمْ ) حيث أرجع إليهم ضمير( عَلَيْهِمْ ) المختصّ باُولى العقل.

فبدؤوا بإثبات توحيده بقولهم:( رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) فأسندوا ربوبيّة الكلّ إلى واحد لا شريك له، و الوثنيّة تثبت لكلّ نوع من أنواع الخلقية إلها و ربّا كربّ السماء و ربّ الأرض و ربّ الإنسان.

ثمّ أكّدوا ذلك بقولهم:( لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ) و من فائدته نفي الآلهة الّذين تثبتهم الوثنيّة فوق أرباب الأنواع كالعقول الكلّيّة الّتي تعبده الصابئة و برهما و سيوا و وشنو الّذين تعبدهم البراهمة و البوذيّة و أكّدوه ثانياً بقولهم:( لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً ) فدلّوا على أنّ دعوة غيره من التجاوز عن الحدّ بالغلوّ في حقّ المخلوق برفعه إلى درجة الخالق.

ثمّ كرّوا على القوم في عبادتهم غير الله سبحانه باتّخاذهم آلهة فقالوا:( هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ) فردّوا قولهم بأنّهم لا برهان لهم على ما يدّعونه يدلّ عليه دلالة بيّنة.

و ما استدلّوا به من قولهم: إنّ الله سبحانه أجلّ من أن يحيط به إدراك خلقه فلا يمكن التوجّه إليه بالعبادة و لا التقرّب إليه بالعبوديّة فلا يبقى لنا إلّا أن نعبد بعض الموجودات الشريفة من عباده المقرّبين ليقرّبونا إليه زلفى مردود إليهم أمّا عدم إحاطة الإدراك به تعالى فهو مشترك بيننا معاشر البشر و بين من يعبدونه من

٢٦٩

العباد المقرّبين، و الجميع منّا و منهم يعرفونه بأسمائه و صفاته و آثاره كلّ على قدر طاقته فله أن يتوجّه إليه بالعبادة على قدر معرفته.

على أنّ جميع الصفات الموجبة لاستحقاق العبادة من الخلق و الرزق و الملك و التدبير له وحده و لا يملك غيره شيئاً من ذلك فله أن يعبد و ليس لغيره ذلك.

ثمّ أردفوا قولهم:( لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ) بقولهم:( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً ) و هو من تمام الحجّة الرادّة لقولهم، و معناه أنّ عليهم أن يقيموا برهاناً قاطعاً على قولهم فلو لم يقيموه كان قولهم من القول بغير علم في الله و هو افتراء الكذب عليه تعالى، و الافتراء ظلم و الظلم على الله أعظم الظلم. هذا فقد دلّوا بكلامهم هذا أنّهم كانوا علماء بالله اُولي بصيرة في دينهم، و صدّقوا قوله تعالى( وَ زِدْناهُمْ هُدىً ) .

و في الكلام على ما به من الإيجاز قيود تكشف عن تفصيل نهضتهم في بادئها فقوله تعالى:( وَ رَبَطْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ) يدلّ على أنّ قولهم:( رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلخ لم يكن بإسرار النجوى و في خلإ من عبدة الأوثان بل كان بإعلان القول و الإجهار به في ظرف تذوب منه القلوب و ترتاع النفوس و تقشعرّ الجلود في ملإ معاند يسفك الدماء و يعذّب و يفتن.

و قوله:( لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ) بعد قوله:( رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) - و هو جحد و إنكار - فيه إشعار و تلويح إلى أنّه كان هناك تكليف إجباريّ بعبادة الأوثان و دعاء غير الله.

و قوله:( إِذْ قامُوا فَقالُوا ) إلخ يشير إلى أنّهم في بادئ قولهم كانوا في مجلس يصدر عنه الأمر بعبادة الأوثان و الإجبار عليها و النهي عن عبادة الله و السياسة المنتحلية بالقتل و العذاب كمجلس الملك أو ملأه أو ملإ عامّ كذلك فقاموا و أعلنوا مخالفتهم و خرجوا و اعتزلوا القوم و هم في خطر عظيم يهدّدهم و يهجم عليهم من كلّ جانب كما يدلّ عليه قولهم:( وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) .

٢٧٠

و هذا يؤيّد ما وردت به الرواية - و سيجي‏ء الخبر - أنّ ستّة منهم كانوا من خواصّ الملك يستشيرهم في اُموره فقاموا من مجلس و أعلنوا التوحيد و نفي الشريك عنه تعالى.

و لا ينافي ذلك ما سيأتي من الروايات أنّهم كانوا يسرّون إيمانهم و يعملون بالتقيّة لجواز أن يكونوا سائرين عليها ثمّ يفاجؤوا القوم بإعلان الإيمان ثمّ يعتزلوهم من غير مهل فلم تكن تسعهم إدامة التظاهر بالإيمان و إلّا قتلوا بلا شكّ.

و ربّما احتمل أن يكون المراد بقيامهم قيامهم لله نصرة منهم للحقّ و قولهم:( رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلخ قولاً منهم في أنفسهم و قولهم:( وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ) إلخ قولاً منهم بعد ما خرجوا من المدينة، أو يكون المراد قيامهم لله، و جميع ما نقل من أقوالهم إنّما قالوها فيما بين أنفسهم بعد ما خرجوا من المدينة و تنحوا عن القوم و على الوجهين يكون المراد بالربط على قلوبهم أنّهم لم يخافوا عاقبة الخروج و الهرب من المدينة و هجرة القوم لكن الأظهر هو الوجه الأوّل.

قوله تعالى: ( وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) إلى آخر الآية الاعتزال و التعزّل التنحي عن أمر، و النشر البسط، و المرفق بكسر الميم و فتح الفاء و بالعكس و بفتحهما المعاملة بلطف.

هذا هو الشطر الثاني من محاورتهم جرت بينهم بعد خروجهم من بين الناس و اعتزالهم إيّاهم و ما يعبدون من دون الله و تنحّيهم عن الجميع يشير به بعضهم عليهم أن يدخلوا الكهف و يتستّروا فيه من أعداء الدين.

و قد تفرّسوا بهدى إلهيّ أنّهم لو فعلوا ذلك عاملهم الله من لطفه و رحمته بما فيه نجاتهم من تحكّم القوم و ظلمهم و الدليل على ذلك قولهم بالجزم:( فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) إلخ و لم يقولوا: عسى أن ينشر أو لعلّ.

و هذان اللّذان تفرّسوا بهما من نشر الرحمة و تهيئة المرفق هما اللّذان سألوهما بعد دخول الكهف إذ قالوا - كما حكى الله -( رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ) .

٢٧١

و الاستثناء في قوله:( وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ) استثناء منقطع فإنّ الوثنيّين لم يكونوا يعبدون الله مع سائر آلهتهم حتّى يفيد الاستثناء إخراج بعض ما دخل أوّلاً في المستثنى منه فيكون متّصلاً فقول بعضهم: إنّهم كانوا يعبدون الله و يعبدون الأصنام كسائر المشركين. و كذا قول بعض آخر: يجوز أنّه كان فيهم من يعبدالله مع عبادة الأصنام فيكون الاستثناء متّصلاً في غير محلّه، إذ لم يعهد من الوثنيّين عبادة الله سبحانه مع عبادة الأصنام، و فلسفتهم لا تجيز ذلك، و قد أشرنا إلى حجّتهم في ذلك آنفاً.

قوله تعالى: ( وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ ) إلى آخر الآيتين التزاور هو التمايل مأخوذ من الزور بمعنى الميل و القرض القطع، و الفجوة المتّسع من الأرض و ساحة الدار و المراد بذات اليمين و ذات الشمال الجهة الّتي تلي اليمين أو الشمال أو الجهة ذات اسم اليمين أو الشمال و هما جهتا اليمين و الشمال.

و هاتان الآيتان تمثّلان الكهف و مستقرّهم منه و منظرهم و ما يتقلّب عليهم من الحال أيّام لبثهم فيه و هم رقود و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع لا بما أنّه هو، و هذا شائع في الكلام، و الخطاب على هذا النمط يعمّ كلّ سامع من غير أن يختصّ بمخاطب خاصّ.

فقوله:( وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) يصف موقع الكهف و موقعهم فيه و هم نائمون و أمّا إنامتهم فيه بعد الاُويّ إليه و مدّة لبثهم فيه فقد اكتفي في ذلك بما اُشير إليه في الآيات السابقة من إنامتهم و لبثهم و ما سيأتي من قوله:( وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) ( إلخ) إيثاراً للإيجاز.

و المعنى: و ترى أنت و كلّ راء يفرض اطّلاعه عليهم و هم في الكهف يرى الشمس إذا طلعت تتزاور و تتمايل عن كهفهم جانب اليمين فيقع نورها عليه، و إذا غربت تقطع جانب الشمال فيقع شعاعها عليه و هم في متّسع من الكهف لا تناله الشمس.

٢٧٢

و قد أشار سبحانه بذلك إلى أنّ الكهف لم يكن شرقيّاً و لا غربيّاً لا يقع عليه شعاع الشمس إلّا في أحد الوقتين بل كان قطبيّاً يحاذي ببابه القطب فيقع شعاع الشمس على أحد جانبيه من داخل طلوعاً و غروباً، و لا يقع عليهم لأنّهم كانوا في متّسع منه فوقاهم الله بذلك من أن يؤذيهم حرّ الشمس أو يغيّر ألوانهم أو يبلي ثيابهم بل كانوا مرتاحين في نومتهم مستفيدين من روح الهواء المتحوّل عليهم بالشروق و الغروب و هم في فجوة منه، و لعلّ تنكير فجوة للدلالة على وصف محذوف و التقدير و هم في فجوة منه لا يصيبهم فيه شعاعها.

و قد ذكر المفسّرون أنّ الكهف كان بابه مقابلاً للقطب الشماليّ يسامت بنات النعش، و الجانب الأيمن منه ما يلي المغرب و يقع عليه شعاع الشمس عند طلوعها و الجانب الأيسر منه ما يلي المشرق و تناله الشمس عند غروبها، و هذا مبنيّ على أخذ جهتي اليمين و الشمال للكهف باعتبار الداخل فيه، و كأنّ ذلك منهم تعويلاً على ما هو المشهور أنّ هذا الكهف واقع في بلدة أفسوس من بلاد الروم الشرقيّ فإنّ الكهف الّذي هناك قطبيّ يقابل بابه القطب الشماليّ متمايلاً قليلاً إلى المشرق على ما يقال.

و المعمول في اعتبار اليمين و اليسار لمثل الكهف و البيت و الفسطاط و كلّ ما له باب أن يؤخذاً باعتبار الخارج منه دون الداخل فيه فإنّ الإنسان أوّل ما أحسّ الحاجة إلى اعتبار الجهات أخذها لنفسه فسمّى ما يلي رأسه و قدمه علوا و سفلا و فوق و تحت، و سمّى ما يلي وجهه قدّام و ما يقابله خلف، و سمّى الجانب القويّ منه و هو الّذي فيه يده القويّة يميناً، و الّذي يخالفه شمالاً و يساراً ثمّ إذا مسّت الحاجة إلى اعتبار الجهات في شي‏ء فرض الإنسان نفسه مكانه فما كان من أطراف ذلك الشي‏ء ينطبق عليه الوجه و هو الطرف الّذي يستقبل به الشي‏ء غيره تعيّن به قدّامه و بما يقاطره خلفه، و بما ينطبق عليه يمين الإنسان من أطرافه يمينه و كذا بيسار الإنسان يساره.

و إذ كان الوجه في مثل البيت و الدار و الفسطاط و كلّ ما له باب طرفه الّذي

٢٧٣

فيه الباب كان تعيّن يمينه و يساره باعتبار الخارج من الباب دون الداخل منه، و على هذا يكون الكهف الّذي وصفته الآية بما وصفت جنوبيّاً يقابل بابه القطب الجنوبيّ لا كما ذكروه، و للكلام تتمّة ستوافيك إن شاء الله.

و على أيّ حال كان وضعهم هذا من عناية الله و لطفه بهم ليستبقيهم بذلك حتّى يبلغ الكتاب أجله، و إليه الإشارة بقوله عقيبه:( ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً ) .

و قوله:( وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ ) الأيقاظ جمع يقظ و يقظان و الرقود جمع راقد و هو النائم، و في الكلام تلويح إلى أنّهم كانوا مفتوحي الأعين حال نومهم كالأيقاظ.

و قوله:( وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ ) أي و نقلّبهم جهة اليمين و جهة الشمال، و المراد نقلّبهم تارة من اليمين إلى الشمال و تارة من الشمال إلى اليمين لئلّا تأكلهم الأرض، و لا تبلى ثيابهم، و لا تبطل قواهم البدنيّة بالركود و الخمود طول المكث.

و قوله:( وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) الوصيد فناء البيت و قيل: عتبة الدار و المعنى كانوا على ما وصف من الحال و الحال أنّ كلبهم مفترش بذراعيه باسط لهما بفناء الكهف و فيه إخبار بأنّهم كان لهم كلب يلازمهم و كان ماكثاً معهم طول مكثهم في الكهف.

و قوله:( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) بيان أنّهم و حالهم هذا الحال كان لهم منظر موحش هائل لو أشرف عليهم الإنسان فرّ منهم خوفاً من خطرهم تبعّدا من المكروه المتوقّع من ناحيتهم و ملأ قلبه الروع و الفزع رعبا و سرى إلى جميع الجوارح فملأ الجميع رعباً، و الكلام في الخطاب الّذي في قوله:( لَوَلَّيْتَ ) و قوله:( وَ لَمُلِئْتَ ) كالكلام في الخطاب الّذي في قوله:( وَ تَرَى الشَّمْسَ ) .

و قد بان بما تقدّم من التوضيح أوّلاً: الوجه في قوله:( وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) و لم يقل: و لملي‏ء قلبك رعبا.

٢٧٤

و ثانياً: الوجه في ترتيب الجملتين:( لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) و ذلك أنّ الفرار و هو التبعّد من المكروه معلول لتوقّع وصول المكروه تحذّراً منه، و ليس بمعلول للرعب الّذي هو الخشية و تأثّر القلب، و المكروه المترقّب يجب أن يتحذّر منه سواء كان هناك رعب أو لم يكن.

فتقديم الفرار على الرعب ليس من قبيل تقديم المسبّب على سببه بل من تقديم حكم الخوف على الرعب و هما حالان متغايران قلبيّان، و لو كان بدل الخوف من الرعب لكان من حقّ الكلام تقديم الجملة الثانية و تأخير الاُولى و أمّا بناء على ما ذكرناه فتقديم حكم الخوف على حصول الرعب و هما جميعاً أثران للاطّلاع على منظرهم الهائل الموحش أحسن و أبلغ لأنّ الفرار أظهر دلالة على ذلك من الامتلاء بالرعب.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ ) إلى آخر الآيتين التساؤل سؤال بعض القوم بعضاً، و الورق بالفتح فالكسر: الدراهم، و قيل هو الفضّة مضروبة كانت أو غيرها، و قوله: إن يظهروا عليكم أي إن يطّلعوا عليكم أو إن يظفروا بكم.

و الإشارة بقوله:( وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ) إلى إنامتهم بالصورة الّتي مثّلتها الآيات السابقة أي كما أنمناهم في الكهف دهراً طويلاً على هذا الوضع العجيب المدهش الّذي كان آية من آياتنا كذلك بعثناهم و أيقظناهم ليتساءلوا بينهم.

و هذا التشبيه و جعل التساؤل غاية للبعث مع ما تقدّم من دعائهم لدى ورود الكهف و إنامتهم إثر ذلك يدلّ على أنّهم إنّما بعثوا من نومتهم ليتساءلوا فيظهر لهم حقيقة الأمر، و إنّما اُنيموا و لبثوا في نومتهم دهراً ليبعثوا، و قد نوّمهم الله إثر دعائهم و مسألتهم رحمة من عند الله و اهتداء مهيّأ من أمرهم فقد كان أزعجهم استيلاء الكفر على مجتمعهم و ظهور الباطل و إحاطة القهر و الجبر و هجم عليهم اليأس و القنوط من ظهور كلمة الحقّ و حرّية أهل الدين في دينهم فاستطالوا لبث الباطل في الأرض و ظهوره على الحقّ كالّذي مرّ على قرية و هي خاوية على عروشها

٢٧٥

قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه.

و بالجملة لمّا غلبت عليهم هذه المزعمة و استيأسوا من زوال غلبة الباطل أنامهم الله سنين عدداً ثمّ بعثهم ليتساءلوا فيجيبوا بيوم أو بعض يوم ثمّ ينكشف لهم تحوّل الأحوال و مرور مآت من السنين عند غيرهم و هي بنظرة اُخرى كيوم أو بعض يوم فيعلموا أنّ طول الزمان و قصره ليس بذاك الّذي يميت حقّاً أو يحيي باطلاً و إنّما هو الله سبحانه جعل ما على الأرض زينة لها و جذب إليها الإنسان و أجرى فيها الدهور و الأيّام ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً، و ليس للدنيا إلّا أن تغرّ بزينتها طالبيها ممّن أخلد إلى الأرض و اتّبع هواه.

و هذه حقيقة لا تزال لائحة للإنسان كلّما انعطف على ما مرّت عليه من أيّامه السالفة و ما جرت عليه من الحوادث حلوها و مرّها و جدّها كطائف في نومة أو سنة في مثل يوم غير أنّ سكر الهوى و التلهّي بلهو الدنيا لا يدعه أن ينتبه للحقّ فيتّبعه لكن لله سبحانه على الإنسان يوم لا يشغله عن مشاهدة هذه الحقيقة شاغل من زينة الدنيا و زخرفها و هو يوم الموت كما عن عليّعليه‌السلام :الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا و يوم آخر و هو يوم يطوي فيه بساط الدنيا و زينتها و يقضي على العالم الإنسانيّ بالبيد و الانقراض.

و قد ظهر بما تقدّم أنّ قوله تعالى:( لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ ) غاية لبعثهم و اللّام لتعليل الغاية، و تنطبق على ما مرّ من الغاية في قوله:( ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً ) .

و ذكر بعضهم: أنّه بعض الغاية وضع موضعها لاستتباعه لسائر آثار البعث كأنّه قيل ليتساءلوا بينهم و ينجرّ ذلك إلى ظهور أمرهم و انكشاف الآية و ظهور القدرة و هذا مع عدم شاهد عليه من جهة اللفظ تكلّف ظاهر.

و ذكر آخرون: أنّ اللّام في قوله:( لِيَتَسائَلُوا ) للعاقبة دون الغاية استبعاداً لأن يكون التساؤل و هو أمر هيّن غاية للبعث و هو آية عظيمة، و فيه أنّ جعل اللّام للعاقبة لا يجدي نفعا في دفع ما استبعده إذ كما لا ينبغي أن يجعل أمر هيّن غاية

٢٧٦

مطلوبة لأمر خطير و آية عظيمة كذلك لا يحسن ذكر شي‏ء يسير عاقبة لأمر ذي بال و آية عجيبة مدهشة على أنّك عرفت صحّة كون التساؤل علّة غائيّة للبعث آنفاً.

و قوله:( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ) دليل على أنّ السائل عن لبثهم كان واحدا منهم خاطب الباقين و سألهم عن مدّة لبثهم في الكهف نائمين و كأنّ السائل استشعر طولاً في لبثهم ممّا وجده من لوثة النوم الثقيل بعد التيقّظ فقال: كم لبثتم؟.

و قوله:( قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) تردّدوا في جوابهم بين اليوم و بعض اليوم و كأنّهم بنوا الجواب على ما شاهدوا من تغيّر محلّ وقوع الشمس كأن أخذوا في النوم أوائل النهار و انتبهوا في أواسطه أو أواخره ثمّ شكّوا في مرور الليل عليهم فيكون مكثهم يوماً و عدم مروره فيكون بعض يوم فأجابوا بالترديد بين يوم و بعض يوم و هو على أيّ حال جواب واحد.

و قول بعضهم: إنّ الترديد على هذا يجب أن يكون بين بعض يوم و يوم و بعض لا بين يوم و بعض يوم فالوجه أن يكون( أَوْ ) للتفصيل لا للترديد و المعنى قال بعضهم: لبثنا يوماً و قال بعض آخر: لبثنا بعض يوم.

لا يلتفت إليه أمّا أوّلاً فلأنّ هذا المعنى لا يتلقّى من سياق مثل قوله:( لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) البتّة و قد أجاب بمثله شخص واحد بعينه قال تعالى:( قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) البقرة: ٢٥٩.

و أمّا ثانياً فلأنّ قولهم:( لَبِثْنا يَوْماً ) إنّما أخذوه عمّا استدلّوا به من الاُمور المشهودة لهم لجلالة قدرهم عن التحكّم و التهوّس و المجازفة و الاُمور الخارجيّة الّتي يستدلّ بها الإنسان و خاصّة من نام ثمّ انتبه من شمس و ظلّ و نور و ظلمة و نحو ذلك لا تشخّص مقدار اليوم التامّ من غير زيادة و نقيصة سواء في ذلك الترديد و التفصيل فالمراد باليوم على أيّ حال ما يزيد على ليلة بنهارها بعض الزيادة و هو استعمال شائع.

و قوله تعالى:( قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) أي قال بعض آخر منهم ردّاً على القائلين:( لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) ( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) و لو لم يكن ردّاً لقالوا

٢٧٧

ربّنا أعلم بما لبثنا.

و بذلك يظهر أنّ إحالة العلم إلى الله تعالى في قولهم:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ ) ليس لمجرّد مراعاة حسن الأدب كما قيل بل لبيان حقيقة من حقائق معارف التوحيد و هي أنّ العلم بحقيقة معنى الكلمة ليس إلّا لله سبحانه فإنّ الإنسان محجوب عمّا وراء نفسه لا يملك بإذن الله إلّا نفسه و لا يحيط إلّا بها و إنّما يحصل له من العلم بما هو خارج عن نفسه ما دلّت عليه الأمارات الخارجيّة و بمقدار ما ينكشف بها و أمّا الإحاطة بعين الأشياء و نفس الحوادث و هو العلم حقيقة فإنّما هو لله سبحانه المحيط بكلّ شي‏ء الشهيد على كلّ شي‏ء و الآيات الدالّة على هذه الحقيقة لا تحصى.

فليس للموحّد العارف بمقام ربّه إلّا أن يسلّم الأمر له و ينسب العلم إليه و لا يسند إلى نفسه شيئاً من الكمال كالعلم و القدرة إلّا ما اضطرّ إليه فيبدء بربّه فينسب إليه حقيقة الكمال ثمّ لنفسه ما ملّكه الله إيّاه و أذن له فيه كما قال:( عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) العلق: ٥ و قال:( قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا ) البقرة: ٣٢ إلى آيات اُخرى كثيرة.

و يظهر بذلك أنّ القائلين منهم:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) كانوا أعلى كعبا في مقام المعرفة من القائلين:( لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) و لم يريدوا بقولهم هذا مجرّد إظهار الأدب و إلّا لقالوا: ربّنا أعلم بما لبثنا و لم يكونوا أحد الحزبين اللذين أشار سبحانه إليهما بقوله فيما سبق:( ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً ) فإنّ إظهار الأدب لا يسمّى قولاً و إحصاء و لا الآتي به ذا قول و إحصاء.

و الظاهر أنّ القائلين منهم:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) غير القائلين:( لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) فإنّ السياق سياق المحاورة و المجاوبة كما قيل و لازمه كون المتكلّمين ثانياً غير المتكلّمين أوّلاً و لو كانوا هم الأوّلين بأعيانهم لكان من حقّ الكلام أن يقال: ثمّ قالوا ربّنا أعلم بما لبثنا بدل قوله:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ ) إلخ.

و من هنا يستفاد أنّ القوم كانوا سبعة أو أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم( قالَ ) مرّة و( قالُوا ) مرّتين و أقلّ الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقلّ عددهم من سبعة.

٢٧٨

و قوله تعالى: ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى‏ طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) من تتمّة المحاورة و فيه أمر أو عرض لهم أن يرسلوا رسولاً منهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً يتغذّون به و الضمير في( أَيُّها ) راجع إلى المدينة و المراد بها أهلها من الكسبة استخداماً.

و زكاء الطعام كونه طيّباً و قيل: كونه حلالاً و قيل: كونه طاهراً و وروده بصيغة أفعل التفضيل( أَزْكى‏ طَعاماً ) لا يخلو من إشعار بالمعنى الأوّل.

و الضمير في( مِنْهُ ) للطعام المفهوم من الكلام و قيل: للأزكى طعاماً و( من ) للابتداء أو التبعيض أي ليأتكم من ذلك الطعام الأزكى برزق ترتزقون به، و قيل: الضمير للورق و( من ) للبدليّة و هو بعيد لإحواجه إلى تقدير ضمير آخر يرجع إلى الجملة السابقة و كونه ضمير التذكير و قد اُشير إلى الورق بلفظ التأنيث من قبل.

و قوله تعالى: ( وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ) التلطّف إعمال اللطف و الرفق و إظهاره فقوله:( وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ) عطف تفسيري له و المراد على ما يعطيه السياق: ليتكلّف اللطف مع أهل المدينة في ذهابه و مجيئه و معاملته لهم كي لا يقع خصومة أو منازعة لتؤدّي إلى معرفتهم بحالكم و إشعارهم بكم، و قيل المعنى ليتكلّف اللطف في المعاملة و إطلاق الكلام يدفعه.

و قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ) تعليل للأمر بالتلطّف و بيان لمصلحته.

ظهر على الشي‏ء بمعنى اطّلع عليه و علم به و بمعنى ظفر به و قد فسّرت الآية بكلّ من المعنيين و الكلمة على ما ذكره الراغب مأخوذة من الظهر بمعنى الجارحة مقابل البطن فكان هو الأصل ثمّ أستعير للأرض فقيل: ظهر الأرض مقابل بطنها ثمّ اُخذ منه الظهور بمعنى الانكشاف مقابل البطون للملازمة بين الكون على وجه الأرض و بين الرؤية و الاطّلاع و كذا بينه و بين الظفر و كذا بينه و بين الغلبة عادة فقيل: ظهر عليه أي اطّلع عليه و علم بمكانه أو ظفر به أو غلبه ثمّ اتّسعوا

٢٧٩

في الاشتقاق فقالوا: أظهر و ظاهر و تظاهر و استظهر إلى غير ذلك.

و ظاهر السياق أن يكون( يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ) بمعنى يطّلعوا عليكم و يعلموا بمكانكم فإنّه أجمع المعاني لأنّ القوم كانوا ذوي أيد و قوّة و قد هربوا و استخفوا منهم فلو اطّلعوا عليهم ظفروا بهم و غلبوهم على ما أرادوا.

و قوله:( يَرْجُمُوكُمْ ) أي يقتلوكم بالحجارة و هو شرّ القتل و يتضمّن معنى النفرة و الطرد، و في اختيار الرجم على غيره من أصناف القتل إشعار بأنّ أهل المدينة عامّة كانوا يعادونهم لدينهم فلو ظهروا عليهم بادروا إليهم و تشاركوا في قتلهم و القتل الّذي هذا شأنه يكون بالرجم عادة.

و قوله:( أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ) الظاهر أنّ الإعادة مضمّن معنى الإدخال و لذا عدّي بفي دون إلى.

و كان لازم دخولهم في ملّتهم عادة - و قد تجاهروا برفضها و سمّوها شططاً من القول و افتراء على الله بالكذب - أن لا يقنع القوم بمجرّد اعترافهم بحقيّة الملّة صورة دون أن يثقوا بصدقهم في الاعتراف و يراقبوهم في أعمالهم فيشاركوا الناس في عبادة الأوثان و الإتيان بجميع الوظائف الدينيّة الّتي لهم و الحرمان عن العمل بشي‏ء من شرائع الدين الإلهيّ و التفوّه بكلمة الحقّ.

و هذا كلّه لا بأس به على من اضطرّ على الإقامة في بلاد الكفر و الانحصار بين أهله كالأسير المستضعف بحكم العقل و النقل و قد قال تعالى:( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) النحل: ١٠٦ و قال تعالى:( إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) آل عمران: ٢٨ فله أن يؤمن بقلبه و ينكره بلسانه و أمّا من كان بنجوة منهم و هو حرّ في اعتقاده و عمله ثمّ ألقى بنفسه في مهلكة الضلال و تسبّب إلى الانحصار في مجتمع الكفر فلم يستطع التفوّه بكلمة الحقّ و حرم التلبّس بالوظائف الدينيّة الإنسانيّة فقد حرّم على نفسه السعادة و لن يفلح أبداً قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً ) النساء: ٩٧.

٢٨٠