الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 101098
تحميل: 4362


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101098 / تحميل: 4362
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و بهذا يظهر وجه ترتّب قوله:( وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ) على قوله:( أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ) و يندفع ما قيل: إنّ إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفوّ عنه في جميع الأزمان فكيف رتّب على العود في ملّتهم عدم الفلاح أبداً مع أنّ الظاهر من حالهم الكره هذا فإنّهم لو عرضوا بأنفسهم عليهم أو دلّوهم بوجه على مكانهم فأعادوهم في ملّتهم و لو على كره كان ذلك منهم تسبّباً اختياريّاً إلى ذلك و لم يعذروا البتّة.

و قد أجابوا عن الإشكال بوجوه اُخر غير مقنعة:

منها: أنّ الإكراه على الكفر قد يكون سبباً لاستدراج الشيطان إلى استحسانه و الاستمرار عليه و فيه أنّ لازم هذا الوجه أن يقال: و يخاف عليكم أن لا تفلحوا أبداً إلّا أن يقضى بعدم الفلاح قطعاً.

و منها: أنّه يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه و أنت خبير بأنّ سياق القصّة لا يساعد عليه.

و منها: أنّه يجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقيّة بإظهار الكفر مطلقاً و فيه عدم الدليل على ذلك.

و سياق ما حكى من محاورتهم أعني قوله:( لَبِثْتُمْ ) إلى تمام الآيتين سياق عجيب دالّ على كمال تحابّهم في الله و مواخاتهم في الدين و أخذهم بالمساواة بين أنفسهم و نصح بعضهم لبعض و إشفاق بعضهم على بعض فقد تقدّم أنّ قول القائلين:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) تنبيه و دلالة على موقع من التوحيد أعلى و أرفع درجة ممّا يدلّ عليه قول الآخرين( لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) .

ثمّ قول القائل:( فَابْعَثُوا ) حيث عرض بعث الرسول على الجميع و لم يستبدّ بقول: ليذهب أحدكم و قوله:( أَحَدَكُمْ ) و لم يقل اذهب يا فلان أو ابعثوا فلاناً و قوله:( بِوَرِقِكُمْ هذِهِ ) فأضاف الورق إلى الجميع كلّ ذلك دليل المواخاة و المساواة.

ثمّ قوله:( فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى‏ طَعاماً ) إلخ و قوله:( وَ لْيَتَلَطَّفْ ) إلخ نصح

٢٨١

و قوله:( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ) إلخ نصح لهم و إشفاق على نفوسهم بما هم مؤمنون على دينهم.

و قوله تعالى:( بِوَرِقِكُمْ هذِهِ ) على ما فيه من الإضافة و الإشارة المعنيّة لشخص الورق مشعر بعناية خاصّة بذكرها فإنّ سياق استدعاء أن يبعثوا أحداً لاشتراء طعام لهم لا يستوجب بالطبع ذكر الورق الّتي يشتري بها الطعام و الإشارة إليها بشخصها و لعلّها إنّما ذكرت في الآية مع خصوصيّة الإشارة لأنّها كانت هي السبب لظهور أمرهم و انكشاف حالهم لأنّها حين أخرجها رسولهم ليدفعها ثمنا للطعام كانت من مسكوكات عهد مرّت عليها ثلاثة قرون و ليس في آيات القصّة ما يشعر بسبب ظهور أمرهم و انكشاف حالهم إلّا هذه اللّفظة.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) قال في المفردات، عثر الرجل يعثر عثرا و عثورا إذا سقط و يتجوّز به فيمن يطّلع على أمر من غير طلبه قال تعالى:( فإن عُثِرَ عَلى‏ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ) يقال عثرت على كذا قال:( وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ) أي وقفناهم عليهم من غير أن طلبوا. انتهى.

و التشبيه في قوله:( وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ) كنظيره في قوله:( وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ) أي و كما أنساهم دهرا ثمّ بعثناهم لكذا و كذا كذلك أعثرنا عليهم و مفعول أعثرنا هو الناس المدلول عليه بالسياق كما يشهد به ذيل الآية و قوله:( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) ضمير الجمع للناس و المراد بوعد الله على ما يعطيه السياق البعث و يكون قوله:( وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) عطفاً تفسيريّاً لسابقه.

و قوله:( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) ظرف لقوله:( أَعْثَرْنا ) أو لقوله( لِيَعْلَمُوا ) و التنازع التخاصم قيل: أصل التنازع التجاذب و يعبّر به عن التخاصم و هو باعتبار أصل معناه يتعدّى بنفسه، و باعتبار التخاصم يتعدّى بفي كقوله تعالى:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ ) انتهى.

و المراد بتنازع الناس بينهم أمرهم تنازعهم في أمر البعث و إنّما أضيف إليهم

٢٨٢

إشعاراً باهتمامهم و اعتنائهم بشأنه فهذه حال الآية من جهة مفرداتها بشهادة بعضها على بعض.

و المعنى على ما مرّ: و كما أنمناهم ثمّ بعثناهم لكذا و كذا أطلعنا الناس عليهم في زمان يتنازعون أي الناس بينهم في أمر البعث ليعلموا أنّ وعد الله بالبعث حقّ و أنّ الساعة لا ريب فيها.

أو المعنى أعثرنا عليهم ليعلم الناس مقارنا لزمان يتنازعون فيه بينهم في أمر البعث أنّ وعد الله بالبعث حقّ.

و أمّا دلالة بعثهم عن النوم على أنّ البعث يوم القيامة حقّ فإنّما هو من جهة أنّ انتزاع أرواحهم عن أجسادهم ذاك الدهر الطويل و تعطيل شعورهم و ركود حواسهم عن أعمالها و سقوط آثار القوى البدنيّة كالنشو و النماء و نبات الشعر و الظفر و تغيّر الشكل و ظهور الشيب و غير ذلك و سلامة ظاهر أبدانهم و ثيابهم عن الدثور و البلى ثمّ رجوعهم إلى حالهم يوم دخلوا الكهف بعينها يماثل انتزاع الأرواح عن الأجساد بالموت ثمّ رجوعها إلى ما كانت عليها، و هما معا من خوارق العادة لا يدفعهما إلّا الاستبعاد من غير دليل.

و قد حدث هذا الأمر في زمان ظهر التنازع بين طائفتين من الناس موحّد يرى مفارقة الأرواح الأجساد عند الموت ثمّ رجوعها إليها في البعث و مشرك(١) يرى‏ مغايرة الروح البدن و مفارقتها له عند الموت لكنّه لا يرى البعث و ربّما رأى التناسخ.

فحدوث مثل هذه الحادثة في مثل تلك الحال لا يدع ريبا لاُولئك الناس أنّها آية إلهيّة قصد بها إزالة الشكّ عن قلوبهم في أمر البعث بالدلالة بالمماثل على المماثل و رفع الاستبعاد بالوقوع.

و يقوى هذا الحدس منهم و يشتدّ بموتهم بعيد الانبعاث فلم يعيشوا بعده إلّا

____________________

(١) و هذا مذهب عامّة الوثنيّين فهم لا يرون بطلان الإنسان بالموت و إنّما يرون نفي البعث و إثبات التناسخ.

٢٨٣

سويعات لم تسع أزيد من اطّلاع الناس على حالهم و اجتماعهم عليهم و استخبارهم عن قصّتهم و إخبارهم بها.

و من هنا يظهر وجه آخر لقوله تعالى:( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) و هو رجوع الضميرين الأوّلين إلى الناس و الثالث إلى أصحاب الكهف و كون( إِذْ ) ظرفاً لقوله:( لِيَعْلَمُوا ) و يؤيّده قوله بعده:( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) على ما سيجي‏ء.

و الاعتراض على هذا الوجه أوّلاً: بأنّه يستدعي كون التنازع بعد الإعثار و ليس كذلك و ثانياً بأنّ التنازع كان قبل العلم و ارتفع به فكيف يكون وقته وقته، مدفوع بأنّ التنازع على هذا الوجه في الآية هو تنازع الناس في أمر أصحاب الكهف و قد كان بعد الإعثار و مقارناً للعلم زماناً، و الّذي كان قبل الإعثار و قبل العلم هو تنازعهم في أمر البعث و ليس بمراد على هذا الوجه.

و قوله تعالى:( فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) القائلون هم المشركون من القوم بدليل قوله بعده:( قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى‏ أَمْرِهِمْ ) و المراد ببناء البنيان عليهم على ما قيل أن يضرب عليهم ما يجعلون به وراءه و يسترون عن الناس فلا يطّلع عليهم مطّلع منهم كما يقال: بنى عليه جدارا إذا حوّطه و جعله وراءه.

و هذا الشطر من الكلام بانضمامه إلى ما قبله من قوله:( وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ) ( وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ) يلوّح إلى تمام القصّة كأنّه قيل: و لمّا أن جاء رسولهم إلى المدينة و قد تغيّرت الأحوال و تبدّلت الأوضاع بمرور ثلاثة قرون على دخولهم في الكهف و انقضت سلطة الشرك و اُلقي زمام المجتمع إلى التوحيد و هو لا يدري لم يلبث دون أن ظهر أمره و شاع خبره فاجتمع عليه الناس ثمّ هجموا و ازدحموا على باب الكهف فاستنبؤوهم قصّتهم و حصلت الدلالة الإلهيّة ثمّ إنّ الله قبضهم إليه فلم يلبثوا أحياء بعد انبعاثهم إلّا سويعات ارتفعت بها عن الناس شبهتهم في أمر البعث و عندئذ قال المشركون ابنوا عليهم بنياناً ربّهم أعلم بهم.

و في قوله:( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) إشارة إلى وقوع خلاف بين الناس المجتمعين عليهم أمرهم، فإنّه كلام آيس من العلم بهم و استكشاف حقيقة أمرهم يلوح منه

٢٨٤

أنّ القوم تنازعوا في شي‏ء ممّا يرجع إليهم فتبصّر فيه بعضهم و لم يسكن الآخرون إلى شي‏ء و لم يرتضوا رأي مخالفيهم فقالوا: ابنوا لهم بنياناً ربّهم أعلم بهم.

فمعنى الجملة أعني قوله:( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) يتفاوت بالنظر إلى الوجهين المتقدّمين في قوله:( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) إذ للجملة على أيّ حال نوع تفرّع على تنازع بينهم كما عرفت آنفاً فإن كان التنازع المدلول عليه بقوله:( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) هو التنازع في أمر البعث بالإقرار و الإنكار لكون ضمير( أَمْرَهُمْ ) للناس كان المعنى أنّهم تنازعوا في أمر البعث فأعثرناهم عليهم ليعلموا أنّ وعد الله حقّ و أنّ الساعة لا ريب فيها لكنّ المشركين لم ينتهوا بما ظهرت لهم من الآية فقالوا ابنوا على أصحاب الكهف بنياناً و اتركوهم على حالهم ينقطع عنهم الناس فلم يظهر لنا من أمرهم شي‏ء و لم نظفر فيهم على يقين ربّهم أعلم بهم، و قال الموحّدون أمرهم ظاهر و آيتهم بيّنة و لنتّخذنّ عليهم مسجداً يعبد فيه الله و يبقى ببقائه ذكرهم.

و إن كان التنازع هو التنازع في أصحاب الكهف و ضمير( أَمْرَهُمْ ) راجعاً إليهم كان المعنى أنّا أعثرنا الناس عليهم بعد بعثهم عن نومتهم ليعلم الناس أنّ وعد الله حقّ و أنّ الساعة لا ريب فيها عند ما توفّاهم الله بعد إعثار الناس عليهم و حصول الغرض و هم أي الناس يتنازعون بينهم في أمرهم أي أمر أصحاب الكهف كأنّهم اختلفوا: أ نيام القوم أم أموات؟ و هل من الواجب أن يدفنوا و يقبروا أو يتركوا على هيئتهم في فجوة الكهف فقال المشركون: ابنوا عليهم بنياناً و اتركوهم على حالهم ربّهم أعلم بهم أ نيام أم أموات؟ قال الموحّدون:( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) .

لكنّ السياق يؤيّد المعنى الأوّل لأنّ ظاهره كون قول الموحّدين:( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) ردّاً منهم لقول المشركين:( ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً ) إلخ و القولان من الطائفتين إنّما يتنافيان على المعنى الأوّل، و كذا قولهم:( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) و خاصّة حيث قالوا:( رَبُّهُمْ ) و لم يقولوا: ربّنا أنسب بالمعنى الأوّل.

و قوله:( قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى‏ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) هؤلاء القائلون هم الموحّدون و من الشاهد عليه التعبير عمّا اتّخذوه بالمسجد دون المعبد فإنّ

٢٨٥

المسجد في عرف القرآن هو المحلّ المتّخذ لذكر الله و السجود له قال تعالى:( وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ ) الحجّ: ٤٠.

و قد جاء الكلام بالفصل من غير عطف لكونه بمنزلة جواب عن سؤال مقدّر كأنّ قائلاً يقول فما ذا قال غير المشركين؟ فقيل: قال الّذين غلبوا إلخ، و أمّا المراد بغلبتهم على أمرهم فإن كان المراد بأمرهم هو الأمر المذكور في قوله:( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) و الضمير للناس فالمراد بالغلبة غلبة الموحّدين بنجاحهم بالآية الّتي قامت على حقيّة البعث، و إن كان الضمير للفتية فالغلبة من حيث التصدّي لأمرهم و الغالبون هم الموحّدون و قيل: الملك و أعوانه، و قيل: أولياؤهم من أقاربهم و هو أسخف الأقوال.

و إن كان المراد بأمرهم غير الأمر السابق و الضمير للناس فالغلبة أخذ زمام اُمور المجتمع بالملك و ولاية الاُمور، و الغالبون هم الموحّدون أو الملك و أعوانه و إن كان الضمير عائداً إلى الموصول فالغالبون هم الولاة و المراد بغلبتهم على اُمورهم أنّهم غالبون على ما أرادوه من الاُمور قادرون هذا، و أحسن الوجوه أوّلها.

و الآية من معارك آراء المفسّرين و لهم في مفرداتها و في ضمائر الجمع الّتي فيها و في جملها اختلاف عجيب و الاحتمالات الّتي أبدوها في معاني مفرداتها و مراجع ضمائرها و أحوال جملها إذا ضربت بعضها في بعض بلغت الاُلوف، و قد أشرنا منها إلى ما يلائم السياق و على الطالب لأزيد من ذلك أن يراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ - إلى قوله -وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) يذكر تعالى اختلاف الناس في عدد أصحاب الكهف و أقوالهم فيه، و هي على ما ذكره تعالى - و قوله الحقّ - ثلاثة مترتّبة متصاعدة أحدها أنّهم ثلاثة رابعهم كلبهم و الثاني أنّهم خمسة و سادسهم كلبهم و قد عقّبه بقوله:( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) أي قولاً بغير علم.

و هذا التوصيف راجع إلى القولين جميعاً: و لو اختصّ بالثاني فقط كان من حقّ الكلام أن يقدّم القول الثاني و يؤخّر الأوّل و يذكر مع الثالث الّذي لم

٢٨٦

يذكر معه ما يدلّ على عدم ارتضائه.

و القول الثالث أنّهم سبعة و ثامنهم كلبهم، و قد ذكره الله سبحانه و لم يعقّبه بشي‏ء يدلّ على تزييفه، و لا يخلو ذلك من إشعار بأنّه القول الحقّ، و قد تقدّم في الكلام على محاورتهم المحكيّة بقوله تعالى:( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) أنّه مشعر بل دالّ على أنّ عددهم لم يكن بأقلّ من سبعة.

و من لطيف صنع الآية في عد الأقوال نظمها العدد من ثلاثة إلى ثمانية نظما متوالياً ففيها ثلاثة رابعها خمسة سادسها سبعة و ثامنها.

و أمّا قوله:( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) تمييز يصف القولين بأنّهما من القول بغير علم و الرجم هو الرمي بالحجارة و كأنّ المراد بالغيب الغائب و هو القول الّذي معناه غائب عن العلم لا يدري قائله أ هو صدق أم كذب؟ فشبّه الّذي يلقي كلاماً ما هذا شأنه بمن يريد الرجم بالحجارة فيرمي ما لا يدري أ حجر هو يصيب غرضه أم لا؟ و لعلّه المراد بقول بعضهم: رجماً بالغيب أي قذفاً بالظنّ لأنّ المظنون غائب عن الظانّ لا علم له به.

و قيل: معنى( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) ظنّاً بالغيب و هو بعيد.

و قد قال تعالى:( ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ) و قال:( خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ) فلم يأت بواو ثمّ قال:( سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) فأتى بواو قال في الكشّاف: و ثلاثة خبر مبتدء محذوف أي هم ثلاثة، و كذلك خمسة و سبعة، رابعهم كلبهم جملة من مبتدء و خبر واقعة صفة لثلاثة، و كذلك سادسهم كلبهم و ثامنهم كلبهم.

فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة؟ و لم دخلت عليها دون الاُوليين؟

قلت: هي الواو الّتي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل و معه آخر و مررت بزيد و بيده سيف، و منه قوله تعالى:( وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ) و

٢٨٧

فائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف و الدلالة على أنّ اتّصافه بها أمر ثابت مستقرّ.

و هذه الواو هي الّتي آذنت بأنّ الّذين قالوا: سبعة و ثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم و طمأنينة نفس و لم يرجموا بالظنّ كما غيرهم، و الدليل عليه أنّ الله سبحانه أتبع القولين الأوّلين قوله:( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) ، و اتبع القول الثالث قوله:( ما يَعْلَمُهُمْ إلّا قَلِيلٌ ) ، و قال ابن عبّاس: حين وقعت الواو انقطعت العدّة أي لم يبق بعدها عدّة عادّ يلتفت إليها و ثبت أنّهم سبعة و ثامنهم كلبهم على القطع و الثبات انتهى.

و قال في المجمع، في ذيل ما لخّص به كلام أبي عليّ الفارسيّ: و أمّا من قال: هذه الواو واو الثمانية و استدلّ بقوله:( حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها ) لأنّ للجنّة ثمانية أبواب فشي‏ء لا يعرفه النحويّون انتهى.

قوله تعالى: ( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ) إلى آخر الآية أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقضي في عدّتهم حقّ القضاء و هو أنّ الله أعلم بها و قد لوّح في كلامه السابق إلى القول و هذا نظير ما حكى عن الفتية في محاورتهم و ارتضاء إذ قال قائل منهم كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم. قالوا: ربّكم أعلم بما لبثتم.

و مع ذلك ففي الكلام دلالة على أنّ بعض المخاطبين بخطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) إلخ كان على علم من ذلك فإنّ قوله:( ما يَعْلَمُهُمْ ) و لم يقل: لا يعلمهم يفيد نفي الحال فالاستثناء منه بقوله:( إِلَّا قَلِيلٌ ) يفيد الإثبات في الحال و اللائح منه على الذهن أنّهم من أهل الكتاب.

و بالجملة مفاد الكلام أنّ الأقوال الثلاثة كانت محقّقة في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و على هذا فقوله:( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ ) إلخ المفيد للاستقبال، و كذا قوله:( وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ ) إلخ، و قوله:( وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ ) إلخ إن كانا معطوفين على مدخول السين في( سَيَقُولُونَ ) تفيد الاستقبال القريب بالنسبة إلى زمن نزول الآيات أو زمن وقوع الحادثة فافهم ذلك.

و قوله تعالى:( فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً ) قال الراغب: المرية التردّد

٢٨٨

في الأمر و هو أخصّ من الشكّ، قال: و الامتراء و المماراة المحاجّة فيما فيه مرية قال: و أصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب. انتهى. فتسمية الجدال مماراة لما فيه من إصرار المماري بالبحث ليفرغ خصمه كلّ ما عنده من الكلام فينتهي عنه.

و المراد بكون المراء ظاهرا أن لا يتعمّق فيه بالاقتصار على ما قصّه القرآن من غير تجهيل لهم و لا ردّ كما قيل، و قيل: المراء الظاهر ما يذهب بحجّة الخصم يقال: ظهر إذا ذهب، قال الشاعر:

و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و المعنى: و إذا كان ربّك أعلم و قد أنبأك نبأهم فلا تحاجّهم في الفتية إلّا محاجّة ظاهرة غير متعمّق فيها - أو محاجّة ذاهبة لحجّتهم - و لا تطلب الفتيا في الفتية من أحد منهم فربّك حسبك.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) الآية الكريمة سواء كان الخطاب فيها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة أو له و لغيره متعرّضة للأمر الّذي يراه الإنسان فعلا لنفسه و يخبر بوقوعه منه في مستقبل الزمان.

و الّذي يراه القرآن في تعليمه الإلهيّ أنّ ما في الوجود من شي‏ء ذاتاً كان أو فعلاً و أثراً فإنّما هو مملوك لله وحده له أن يفعل فيه ما يشاء و يحكم فيه ما يريد لا معقّب لحكمه، و ليس لغيره أن يملك شيئاً إلّا ما ملّكه الله تعالى منه و أقدره عليه و هو المالك لما ملّكه و القادر على ما عليه أقدره و الآيات القرآنيّة الدالّة على هذه الحقيقة كثيرة جدّاً لا حاجة إلى إيرادها.

فما في الكون من شي‏ء له فعل أو أثر - و هذه هي الّتي نسمّيها فواعل و أسباباً و عللا فعّالة - غير مستقلّ في سببيّته و لا مستغن عنه تعالى في فعله و تأثيره لا يفعل و لا يؤثّر إلّا ما شاء الله أن يفعله و يؤثّره أي أقدره عليه و لم يسلب عنه القدرة عليه بإرادة خلافه.

و بتعبير آخر كلّ سبب من الأسباب الكونيّة ليس سبباً من تلقاء نفسه و

٢٨٩

باقتضاء من ذاته بل بإقداره تعالى على الفعل و التأثير و عدم إرادته خلافه، و إن شئت فقل: بتسهيله تعالى له سبيل الوصول إليه، و إن شئت فقل بإذنه تعالى فالإذن هو الإقدار و رفع المانع و قد تكاثرت الآيات الدالّة على أنّ كلّ عمل من كلّ عامل موقوف على إذنه تعالى قال تعالى:( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى‏ أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ ) الحشر: ٥ و قال:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) التغابن: ١١ و قال:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) الأعراف: ٥٨ و قال:( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) آل عمران: ١٤٥ و قال:( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) يونس: ١٠٠ و قال:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) النساء: ٦٤ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

فعلى الإنسان العارف بمقام ربّه المسلم له أن لا يرى نفسه سبباً مستقلّاً لفعله مستغنياً فيه عن غيره بل مالكاً له بتمليك الله قادراً عليه بإقداره و أنّ القوّة لله جميعاً و إذا عزم على فعل أن يعزم متوكّلاً على الله قال تعالى:( فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) و إذا وعد بشي‏ء أو أخبر عمّا سيفعله أن يقيّده بإذن الله أو بعدم مشيّته خلافه.

و هذا المعنى هو الّذي يسبق إلى الذهن المسبوق بهذه الحقيقة القرآنيّة إذا قرع بابه قوله تعالى:( وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) و خاصّة بعد ما تقدّم في آيات القصّة من بيان توحّده تعالى في اُلوهيّته و ربوبيّته و ما تقدّم قبل آيات القصّة من كون ما على الأرض زينة لها سيجعله الله صعيداً جرزاً. و من جملة ما على الأرض أفعال الإنسان الّتي هي زينة جالبة للإنسان يمتحن بها و هو يراها مملوكة لنفسه.

و ذلك أنّ قوله:( وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ) نهي عن نسبته فعله إلى نفسه، و لا بأس بهذه النسبة قطعاً فإنّه سبحانه كثيراً مّا ينسب في كلامه الأفعال إلى نبيّه و إلى غيره من الناس و ربّما يأمره أن ينسب أفعالاً إلى نفسه قال تعالى:( فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ ) يونس: ٤١، و قال:( لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ ) الشورى: ١٥.

٢٩٠

فأصل نسبة الفعل إلى فاعله ممّا لا ينكره القرآن الكريم و إنّما ينكر دعوى الاستقلال في الفعل و الاستغناء عن مشيّته و إذنه تعالى فهو الّذي يصلحه الاستثناء أعني قوله:( إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) .

و من هنا يظهر أنّ الكلام على تقدير باء الملابسة و هو استثناء مفرّغ عن جميع الأحوال أو جميع الأزمان، و تقديره:( وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ ) أي لأجل شي‏ء تعزم عليه إنّي فاعل ذلك غدا في حال من الأحوال أو زمان من الأزمنة إلّا في حال أو في زمان يلابس قولك المشيّة بأن تقول: إنّي فاعل ذلك غدا إن شاء الله أن أفعله أو إلّا أن يشاء الله أن لا أفعله و المعنى على أيّ حال: إن أذن الله في فعله.

هذا ما يعطيه التدبّر في معنى الآية و يؤيّده ذيلها و للمفسّرين فيها توجيهات اُخرى.

منها أنّ المعنى هو المعنى السابق إلّا أنّ الكلام بتقدير القول في الاستثناء و تقدير الكلام: إلّا أن تقول إن شاء الله، و لمّا حذف( تقول ) نقل( إن شاء الله ) إلى لفظ الاستقبال، فيكون هذا تأديباً من الله للعباد و تعليما لهم أن يعلّقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتّى يخرج عن حدّ القطع فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوه لمانع و الوجه منسوب إلى الأخفش.

و فيه أنّه تكلّف من غير موجب. على أنّ التبديل المذكور يغيّر المعنى و هو ظاهر.

و منها أنّ الكلام على ظاهره غير أنّ المصدر المؤوّل إليه( أَنْ يَشاءَ اللهُ ) بمعنى المفعول، و المعنى لا تقولنّ لشي‏ء إنّي فاعل ذلك غدا إلّا ما يشاؤه الله و يريده، و إذ كان الله لا يشاء إلّا الطاعات فكأنّه قيل: و لا تقولنّ في شي‏ء أنّي سأفعله إلّا الطاعات، و النهي للتنزيه لا للتحريم حتّى يعترض عليه بجواز العزم على المباحات و الإخبار عنه.

و فيه أنّه مبنيّ على حمل المشيّة على الإرادة التشريعيّة و لا دليل عليه و لم يستعمل المشيّة في كلامه تعالى بهذا المعنى قطّ و قد استعمل استثناء المشيّة التكوينيّة

٢٩١

في مواضع من كلامه كما حكى من قول موسى لخضر:( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً ) الكهف: ٦٩، و قول شعيب لموسى:( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) القصص: ٢٧ و قول إسماعيل لأبيه:( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) الصافّات: ١٠٢ و قوله تعالى:( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ) الفتح: ٢٧ إلى غير ذلك من الآيات.

و الوجه مبنيّ على اُصول الاعتزال و عند المعتزلة أن لا مشيّة لله سبحانه في أعمال العباد إلّا الإرادة التشريعيّة المتعلّقة بالطاعات، و هو مدفوع بالعقل و النقل.

و منها أنّ الاستثناء من الفعل دون القول من غير حاجة إلى تقدير، و المعنى و لا تقولنّ لشي‏ء هكذا و هو أن تقول: إنّي فاعل ذلك غداً باستقلالي إلّا أن يشاء الله خلافه بإبداء مانع على ما تقوله المعتزلة إنّ العبد فاعل مستقلّ للفعل إلّا أن يبدئ الله مانعاً دونه أقوى منه، و مآل المعنى أن لا تقل في الفعل بقول المعتزلة.

و فيه أنّ تعلّق الاستثناء بالفعل دون القول بما مرّ من البيان أتمّ فلا وجه للنهي عن تعليق الاستثناء على الفعل، و قد وقع تعليقه على الفعل في مواضع من كلامه من غير أن يردّه كقوله حكاية عن إبراهيم:( وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً ) الأنعام: ٨٠ و قوله حكاية عن شعيب:( وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) الأعراف: ٨٩، و قوله:( ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) الأنعام: ١١١ إلى غير ذلك من الآيات. فلتحمل الآية الّتي نحن فيها على ما يوافقها.

و منها: أنّ الاستثناء من أعمّ الأوقات إلّا أنّ مفعول( يَشاءَ ) هو القول و المعنى و لا تقولنّ ذلك إلّا أن يشاء الله أن تقوله، و المراد بالمشيّة الإذن أي لا تقل ذلك إلّا أن يؤذن لك فيه بالإعلام.

و فيه أنّه مبنيّ على تقدير شي‏ء لا دليل عليه من جهة اللفظ و هو الاعلام و لو لم يقدّر لكان تكليفاً بالمجهول.

و منها: أنّ الاستثناء للتأبيد نظير قوله:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ

٢٩٢

وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: ١٠٨ و المعنى: لا تقولنّ ذلك أبداً.

و فيه أنّه مناف للآيات الكثيرة المنقولة آنفاً الّتي تنسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إلى سائر الناس أعمالهم ماضية و مستقبلة بل تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينسب أعماله إلى نفسه كقوله:( فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ ) يونس: ٤١، و قوله:( قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ) الكهف: ٨٣.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى‏ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً ) اتّصال الآية و اشتراكها مع ما قبلها في سياق التكليف يقضي أن يكون المراد من النسيان نسيان الاستثناء، و عليه يكون المراد من ذكر ربّه ذكره بمقامه الّذي كان الالتفات إليه هو الموجب للاستثناء و هو أنّه القائم على كلّ نفس بما كسبت الّذي ملّكه الفعل و أقدره عليه و هو المالك لما ملّكه و القادر على ما عليه أقدره.

و المعنى: إذا نسيت الاستثناء ثمّ ذكرت أنّك نسيته فاذكر ربّك متى كان ذلك بما لو كنت ذاكراً لذكرته به و هو تسليم الملك و القدرة إليه و تقييد الأفعال بإذنه و مشيّته.

و إذ كان الأمر بالذكر مطلقاً لم يتعيّن في لفظ خاصّ فالمندوب إليه هو ذكره تعالى بشأنه الخاصّ سواء كان بلفظ الاستثناء بأن يلحقه بالكلام، إن ذكره و لما يتمّ الكلام أو يعيد الكلام و يستثني أو يضمر الكلام ثمّ يستثني إن كان فصل قصير أو طويل كما ورد في بعض(١) الروايات أنّه لما نزلت الآيات قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن شاء الله أو كان الذكر باستغفار و نحوه.

و يظهر ممّا مرّ أنّ ما ذكره بعضهم أنّ الآية مستقلّة عمّا قبلها و أنّ المراد بالنسيان نسيانه تعالى أو مطلق النسيان، و المعنى: و اذكر ربّك إذا نسيته ثمّ ذكرته أو و اذكر ربّك إذا نسيت شيئاً من الأشياء، و كذا ما ذكره بعضهم بناء على الوجه

____________________

(١) رواه السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن المنذر عن مجاهد.

٢٩٣

السابق أنّ المراد بذكره تعالى خصوص الاستثناء و إن طال الفصل أو خصوص الاستغفار أو الندم على التفريط، كلّ ذلك وجوه غير سديدة.

و قوله:( وَ قُلْ عَسى‏ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً ) حديث الاتّصال و الاشتراك في سياق التكليف بين جمل الآية يقضي هنا أيضاً أن تكون الإشارة بقوله:( هذا ) إلى الذكر بعد النسيان، و المعنى و ارج أن يهديك ربّك إلى أمر هو أقرب رشداً من النسيان ثمّ الذكر و هو الذكر الدائم من غير نسيان فيكون من قبيل الآيات الداعية لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى دوام الذكر كقوله تعالى:( وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ ) الأعراف: ٢٠٥ و ذكر الشي‏ء كلّما نسي ثمّ ذكر و التحفّظ عليه كرّة بعد كرّة من أسباب دوام ذكره.

و من العجيب أنّ المفسّرين أخذوا قوله:( هذا ) في الآية إشارة إلى نبإ أصحاب الكهف و ذكروا أنّ معنى الآية: قل عسى أن يعطيني ربّي من الآيات الدالّة على نبوّتي ما هو أقرب إرشاداً للناس من نبإ أصحاب الكهف، و هو كما ترى.

و أعجب منه ما عن بعض أنّ هذا إشارة إلى المنسيّ و أنّ معنى الآية: ادع الله إذا نسيت شيئاً أن يذكّرك إيّاه و قل إن لم يذكّرك ما نسيته: عسى أن يهديني ربّي لشي‏ء هو أقرب خيراً و منفعة من المنسيّ.

و أعجب منه ما عن بعض آخر أنّ قوله:( وَ قُلْ عَسى‏ أَنْ يَهْدِيَنِ ) إلخ عطف تفسيري لقوله:( وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ ) و المعنى إذا وقع منك النسيان فتب إلى ربّك و توبتك أن تقول: عسى أن يهدين ربّي لأقرب من هذا رشداً، و يمكن أن يجعل الوجهان الثاني و الثالث وجهاً واحداً و بناؤهما على أيّ حال على كون المراد بقوله:( إِذا نَسِيتَ ) مطلق النسيان، و قد عرفت ما فيه.

قوله تعالى: ( وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً ) بيان لمدّة لبثهم في الكهف على حال النوم فإنّ هذا اللبث هو متعلّق العناية في آيات القصّة

٢٩٤

و قد اُشير إلى إجمال مدّة اللبث بقوله في أوّل الآيات:( فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) .

و يؤيّده تعقيبه بقوله في الآية التالية:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) ثمّ قوله:( وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ ) إلخ ثمّ قوله:( وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ) و لم يذكر عدداً غير هذا فقوله:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) بعد ذكر مدّة اللبث كقوله:( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) يلوّح إلى صحّة العدد المذكور.

فلا يصغي إلى قول القائل إنّ قوله:( وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) إلخ محكيّ قول أهل الكتاب و قوله:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) ردّ له، و كذا قول القائل إنّ قوله:( وَ لَبِثُوا ) إلخ قول الله تعالى و قوله:( وَ ازْدَادُوا تِسْعاً ) إشارة إلى قول أهل الكتاب و الضمير لهم و المعنى أنّ أهل الكتاب زادوا على العدد الواقعيّ تسع سنين ثمّ قوله:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) ردّ له. على أنّ المنقول عنهم أنّهم قالوا بلبثهم مائتي سنة أو أقلّ لا ثلاثمائة و تسعة و لا ثلاثمائة.

و قوله:( سِنِينَ ) ليس بمميّز للعدد و إلّا لقيل: ثلاثمائة سنة بل هو بدل من ثلاثمائة كما قالوا، و في الكلام مضاهاة لقوله فيما أجمل في صدر الآيات:( سِنِينَ عَدَداً ) .

و لعلّ النكتة في تبديل( سنة ) من( سِنِينَ ) استكثار مدّة اللبث، و على هذا فقوله:( وَ ازْدَادُوا تِسْعاً ) لا يخلو من معنى الإضراب كأنّه قيل: و لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة هذه السنين المتمادية و الدهر الطويل بل ازدادوا تسعاً، و لا ينافي هذا ما تقدّم في قوله:( سِنِينَ عَدَداً ) إنّ هذا لاستقلال عدد السنين و استحقاره لأنّ المقامين مختلفان بحسب الغرض فإنّ الغرض هناك كان متعلّقاً بنفي العجب من آية الكهف بقياسها إلى آية جعل ما على الأرض زينة لها فالأنسب به استحقار المدّة، و الغرض ههنا بيان كون اللبث آية من آياته و حجّة على منكري البعث و الأنسب به استكثار المدّة، و المدّة بالنسبتين تحتمل الوصفين فهي بالنسبة إليه تعالى شي‏ء هيّن و بالنسبة إلينا دهر طويل.

٢٩٥

و إضافة تسع سنين إلى ثلاثمائة سنة مدّة اللبث تعطي أنّهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسيّة فإنّ التفاوت في ثلاثمائة سنة إذا اُخذت تارة شمسيّة و اُخرى قمريّة بالغ هذا المقدار تقريباً و لا ينبغي الارتياب في أنّ المراد بالسنين في الآية السنون القمريّة لأنّ السنة في عرف القرآن هي القمريّة المؤلّفة من الشهور الهلاليّة و هي المعتبرة في الشريعة الإسلاميّة.

و في التفسير الكبير، شدّد النكير على ذلك لعدم تطابق العددين تحقيقاً و ناقش في ما روي عن عليّعليه‌السلام في هذا المعنى مع أنّ الفرق بين العددين الثلاثمائة شمسيّة و الثلاثمائة و تسع سنين قمريّة أقلّ من ثلاثة أشهر و التقريب في أمثال هذه النسب ذائع في الكلام بلا كلام.

قوله تعالى: ( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية مضيّ في حديث أصحاب الكهف بالإشارة إلى خلاف الناس في ذلك و أنّ ما قصّه الله تعالى من قصّتهم هو الحقّ الّذي لا ريب فيه.

فقوله:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) مشعر بأنّ مدّة لبثهم المذكورة في الآية السابقة لم تكن مسلّمة عند الناس فاُمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحتجّ في ذلك بعلم الله و أنّه أعلم بهم من غيره.

و قوله:( لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) تعليل لكونه تعالى أعلم بما لبثوا، و اللام للاختصاص الملكيّ و المراد أنّه تعالى وحده يملك ما في السماوات و الأرض من غيب غير مشهود فلا يفوته شي‏ء و إن فات السماوات و الأرض، و إذ كان مالكاً للغيب بحقيقة معنى الملك و له كمال البصر و السمع فهو أعلم بلبثهم الّذي هو من الغيب.

و على هذا فقوله:( أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ) - و هما من صيغ التعجّب معناهما كمال بصره و سمعه - لتتميم التعليل كأنّه قيل: و كيف لا يكون أعلم بلبثهم و هو يملكهم على كونهم من الغيب و قد رأى حالهم و سمع مقالهم.

و من هنا يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ اللّام في( لَهُ غَيْبُ ) إلخ للاختصاص العلميّ أي له تعالى ذلك علماً، و يلزم منه ثبوت علمه لسائر المخلوقات لأنّ من

٢٩٦

علم الخفيّ علم غيره بطريق أولى. انتهى، غير سديد لأنّ ظاهر قوله:( أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ) أنّه للتأسيس دون التأكيد، و كذا ظاهر اللّام مطلق الملك دون الملك العلميّ.

و قوله:( ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ) إلخ المراد بالجملة الاُولى منه نفي ولاية غير الله لهم مستقلّاً بالولاية دون الله، و بالثانية نفي ولاية غيره بمشاركته إيّاه فيها أي ليس لهم وليّ غير الله لا مستقلّاً بالولاية و لا غير مستقلّ.

و لا يبعد أن يستفاد من النظم - بالنظر إلى التعبير في الجملة الثانية( وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) بالفعل دون الوصف و تعليق نفي الإشراك بالحكم دون الولاية - أنّ الجملة الاُولى تنفي ولاية غيره تعالى لهم سواء كانت بالاستقلال فيستقلّ بتدبير أمرهم دون الله أو بالشركة بأن يلي بعض اُمورهم دون الله، و الجملة الثانية تنفي شركة غيره تعالى في الحكم و القضاء في الحكم بأن تكون ولايتهم لله تعالى لكنّه وكّل عليهم غيره و فوّض إليه أمرهم و الحكم فيهم كما يفعله الولاة في نصب الحكّام و العمّال في الشعب المختلفة من اُمورهم فيباشر الحكّام و العمّال من الأحكام ما لا علم به من الولاة.

و يؤول المعنى إلى أنّه كيف لا يكون تعالى أعلم بلبثهم و هو تعالى وحده وليّهم المباشر للحكم الجاري فيهم و عليهم.

و الضمير في قوله:( لَهُمْ ) لأصحاب الكهف أو لجميع ما في السماوات و الأرض المفهوم من الجملة السابقة بتغليب جانب اُولي العقل أو لمن في السماوات و الأرض و الوجوه الثلاثة مترتّبة جودة و أجودها أوّلها.

و عليه فالآية تتضمّن حجّتين على أنّ الله أعلم بما لبثوا إحداهما حجّة عامّة لهم و لغيرهم و هي قوله:( لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ) فهو أعلم بجميع الأشياء و منها لبث أصحاب الكهف، و ثانيتهما حجّة خاصّة بهم و هي قوله:( ما لَهُمْ ) إلى آخر الآية فهو تعالى وليّهم المباشر للقضاء الجاري عليهم فكيف لا يكون أعلم بهم من غيره؟ و لمكان العلّيّة في الجملتين جي‏ء بهما مفصولتين من غير عطف.

٢٩٧

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ ) الآية قال: يقول: قد آتيناك من الآيات ما هو أعجب منه، و هم فتية كانوا في الفترة بين عيسى بن مريم و محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أمّا الرقيم فهما لوحان من نحاس مرقوم أي مكتوب فيهما أمر الفتية و أمر إسلامهم و ما أراد منهم دقيانوس الملك و كيف كان أمرهم و حالهم.

و فيه، حدّثنا أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان سبب نزول سورة الكهف أنّ قريشاً بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران: النضر بن الحارث بن كلدة و عقبة بن أبي معيط و العاص بن وائل السهميّ ليتعلّموا من اليهود مسائل يسألونها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: اسألوه عن ثلاث مسائل فإنّ أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثمّ اسألوه عن مسألة واحدة فإن ادّعى علمها فهو كاذب.

قالوا: و ما هذه المسائل؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأوّل فخرجوا و غابوا و ناموا، كم بقوا في نومهم حتّى انتبهوا؟ و كم كان عددهم؟ و أيّ شي‏ء كان معهم من غيرهم؟ و ما كان قصّتهم؟ و سلوه عن موسى حين أمره الله أن يتّبع العالم و يتعلّم منه من هو؟ و كيف تبعه؟ و ما كان قصّته معه؟ و سلوه عن طائف طاف مغرب الشمس و مطلعها حتّى بلغ سدّ يأجوج و مأجوج من هو؟ و كيف كان قصّته؟ ثمّ أملؤوا عليهم أخبار هذه المسائل الثلاث و قالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، و إن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدّقوه.

قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة! فإن ادّعى علمها فهو كاذب فإنّ قيام الساعة لا يعلمه إلّا الله تبارك و تعالى.

فرجعوا إلى مكّة و اجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إنّ ابن أخيك يزعم أنّ خبر السماء يأتيه و نحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنّه صادق

٢٩٨

و إن لم يخبرنا علمنا أنّه كاذب فقال أبوطالب: سلوه عمّا بدا لكم فسألوه عن الثلاث المسائل.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غدا اُخبركم و لم يستثن، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً حتّى اغتمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و شكّ أصحابه الّذين كانوا آمنوا به، و فرحت قريش و استهزؤا و آذوا، و حزن أبوطالب.

فلمّا كان بعد أربعين يوماً نزل عليه سورة الكهف فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جبرئيل لقد أبطأت فقال: إنّا لا نقدر أن ننزل إلّا بإذن الله فأنزل الله تعالى: أم حسبت يا محمّد أنّ أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجباً ثمّ قصّ قصّتهم فقال: إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربّنا آتنا من لدنك رحمة و هيّئ لنا من أمرنا رشداً.

قال: فقال الصادقعليه‌السلام : إنّ أصحاب الكهف و الرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عات، و كان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله، و كان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عزّوجلّ، و وكّل الملك بباب المدينة و لم يدع أحداً يخرج حتّى يسجد للأصنام فخرجوا هؤلاء بعلّة الصيد و ذلك أنّهم مرّوا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم و كان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب و خرج معهم.

قالعليه‌السلام : فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلّة الصيد هربا من دين ذلك الملك فلمّا أمسوا دخلوا إلى ذلك الكهف و الكلب معهم فألقى الله عليهم النعاس كما قال الله:( فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) فناموا حتّى أهلك الله ذلك الملك و أهل المدينة و ذهب ذلك الزمان و جاء زمان آخر و قوم آخرون.

ثمّ انتبهوا فقال بعضهم لبعض: كم نمنا هاهنا؟ فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت فقالوا: نمنا يوماً أو بعض يوم ثمّ قالوا لواحد منهم: خذ هذه الورق و أدخل المدينة متنكّراً لا يعرفونك فاشتر لنا طعاماً فإنّهم إن علموا بنا و عرفونا قتلونا أو ردّونا في دينهم.

٢٩٩

فجاء ذلك الرجل فرأى مدينة بخلاف الّتي عهدها و رأى قوماً بخلاف اُولئك لم يعرفهم و لم يعرفوا لغته و لم يعرف لغتهم فقالوا له: من أنت؟ و من أين جئت؟ فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه و الرجل معهم حتّى وقفوا على باب الكهف و أقبلوا يتطلّعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة رابعهم كلبهم، و قال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، و قال بعضهم: سبعة و ثامنهم كلبهم.

و حجبهم الله بحجاب من الرعب فلم يكن يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنّه لمّا دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكونوا أصحاب دقيانوس شعروا بهم فأخبرهم صاحبهم أنّهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، و أنّهم آية للناس فبكوا و سألوا الله أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا.

ثمّ قال الملك: ينبغي أن نبني هاهنا مسجداً نزوره فإنّ هؤلاء قوم مؤمنون. فلهم في كلّ سنة تقلّبان ينامون ستّة أشهر على جنوبهم(١) اليمنى و ستّة أشهر على جنوبهم(٢) اليسرى و الكلب معهم باسط ذراعيه بفناء الكهف و ذلك قوله تعالى:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآيات.

أقول: و الرواية من أوضح روايات القصّة متنا و أسلمها من التشوّش و هي مع ذلك تتضمّن أنّ الذين اختلفوا في عددهم فقالوا: ثلاثة أو خمسة أو سبعة هم أهل المدينة الّذين اجتمعوا على باب الكهف بعد انتباه الفتية و هو خلاف ظاهر الآية، و تتضمّن أنّ أصحاب الكهف لم يموتوا ثانياً بل عادوا إلى نومتهم و كذلك كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد و أنّ لهم في كلّ سنة تقلّبين من اليمين إلى اليسار و بالعكس و أنّهم بعد على هيئتهم. و لا كهف معهوداً على وجه الأرض و فيه قوم نيام على هذه الصفة.

على أنّ في ذيل هذه الرواية - و قد تركنا نقله ههنا لاحتمال أن يكون من كلام القمّيّ أو رواية اُخرى - أنّ قوله تعالى:( وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً ) من كلام أهل الكتاب، و أنّ قوله بعده:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا )

____________________

(١) جنبهم الأيمن خ‏

(٢) جنبهم الأيسر خ.

٣٠٠