الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 101062
تحميل: 4360


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101062 / تحميل: 4360
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لله، و أنّ الولاية بمعنى النصرة أي إنّ الله سبحانه هو الناصر للإنسان حين يحيط به البلاء و ينقطع عن كافّة الأسباب لا ناصر غيره.

و هذا معنى حقّ في نفسه لكنّه لا يناسب الغرض المسوق له الآيات و هو بيان أنّ الأمر كلّه لله سبحانه و هو الخالق لكلّ شي‏ء المدبّر لكلّ أمر، و ليس لغيره إلّا سراب الوهم و تزيين الحياة لغرض الابتلاء و الامتحان، و لو كان كما ذكروه لكان الأنسب توصيفه تعالى في قوله:( لِلَّهِ الْحَقِّ ) بالقوّة و العزّة و القدرة و الغلبة و نحوها لا بمثل الحقّ الّذي يقابل الباطل، و أيضاً لم يكن لقوله:( هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً ) وجه ظاهر و موقع جميل.

و الحقّ و الله أعلم أنّ الولاية بمعنى مالكيّة التدبير و هو المعنى الساري في جميع اشتقاقاتها كما مرّ في الكلام على قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) المائدة: ٥٥ أي عند إحاطة الهلاك و سقوط الأسباب عن التأثير و تبيّن عجز الإنسان الّذي كان يرى لنفسه الاستقلال و الاستغناء ولاية أمر الإنسان و كلّ شي‏ء و ملك تدبيره لله لأنّه إله حقّ له التدبير و التأثير بحسب واقع الأمر و غيره من الأسباب الظاهريّة المدعوّة شركاء له في التدبير و التأثير باطل في نفسه لا يملك شيئاً من الأثر إلّا ما أذن الله له و ملّكه إيّاه و ليس له من الاستقلال إلّا اسمه بحسب ما توهّمه الإنسان فهو باطل في نفسه حقّ بالله سبحانه و الله هو الحقّ بذاته المستقلّ الغنيّ في نفسه.

و إذا اُخذ بالقياس بينه - تعالى عن القياس - و بين غيره من الأسباب المدعوّة شركاء في التأثير كان الله سبحانه خيراً منها ثواباً فإنّه يثيب من دان له ثواباً حقّاً و هي تثيب من دان لها و تعلّق بها ثواباً باطلاً زائلاً لا يدوم و هو مع ذلك من الله و بإذنه، و كان الله سبحانه خيراً منها عاقبة لأنّه سبحانه هو الحقّ الثابت الّذي لا يفنى و لا يزول و لا يتغيّر عمّا هو عليه من الجلال و الإكرام، و هي اُمور فانية متغيّرة جعلها الله زينة للحياة الدنيا يتولّه إليها الإنسان و تتعلّق بها قلبه حتّى يبلغ الكتاب أجله و إنّ الله لجاعلها صعيداً جرزاً.

٣٦١

و إذا كان الإنسان لا غنى له عن التعلّق بشي‏ء ينسب إليه التدبير و يتوقّع منه إصلاح شأنه فربّه خير له من غيره لأنّه خير ثواباً و خير عقباً.

و ذكر بعضهم أنّ الإشارة بقوله:( هُنالِكَ ) إلى يوم القيامة فيكون المراد بالثواب و العقب ما في ذلك اليوم. و السياق كما تعلم لا يساعد على شي‏ء من ذلك.

قوله تعالى: ( وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) إلخ هذا هو المثل الثاني ضرب لتمثيل الحياة الدنيا بما يقارنها من الزينة السريعة الزوال.

و الهشيم فعيل بمعنى مفعول من الهشم، و هو على ما قال الراغب كسر الشي‏ء الرخو كالنبات، و ذرا يذرو ذروا أي فرّق، و قيل: أي جاء به و ذهب، و قوله:( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ) و لم يقل: اختلط بنبات الأرض إشارة إلى غلبته في تكوين النبات على سائر أجزائه، و لم يذكر مع ماء السماء غيره من مياه العيون و الأنهار لأنّ مبدأ الجميع ماء المطر، و قوله:( فَأَصْبَحَ هَشِيماً ) أصبح فيه - كما قيل - بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح.

و المعنى: و اضرب لهؤلاء المتولّهين بزينة الدنيا المعرضين عن ذكر ربّهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء و هو المطر فاختلط به نبات الأرض فرفّ نضارة و بهجة و ظهر بأجمل حليّة فصار بعد ذلك هشيماً مكسّراً متقطّعاً تعبث به الرياح تفرّقة و تجي‏ء به و تذهب و كان الله على كلّ شي‏ء مقتدراً.

قوله تعالى: ( الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) إلى آخر الآية. الآية بمنزلة النتيجة للمثل السابق و هي أنّ المال و البنين و إن تعلّقت بها القلوب و تاقت إليها النفوس تتوقّع منها الانتفاع و تحفّ بها الآمال لكنّها زينة سريعة الزوال غارّة لا يسعها أن تثيبه و تنفعه في كلّ ما أراده منها و لا أن تصدقه في جميع ما يأمله و يتمنّاه بل و لا في أكثره ففي الآية - كما ترى - انعطاف إلى بدء الكلام أعني قوله:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ) الآيتين.

و قوله:( وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا ) المراد

٣٦٢

بالباقيات الصالحات الأعمال الصالحة فإنّ أعمال الإنسان محفوظة له عندالله بنصّ القرآن فهي باقية و إذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات، و هي عند الله خير ثواباً لأنّ الله يجازي الإنسان الجائي بها خير الجزاء، و خير أملا لأنّ ما يؤمل بها من رحمة الله و كرامته ميسور للإنسان فهي أصدق أملا من زينات الدنيا و زخارفها الّتي لا تفي للإنسان في أكثر ما تعدّ، و الآمال المتعلّقة بها كاذبة على الأغلب و ما صدق منها غارّ خدوع.

و قد ورد من طرق الشيعة و أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام عدّة من الروايات: أنّ الباقيات الصالحات التسبيحات الأربع: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر، و في اُخرى أنّها الصلاة و في اُخرى مودّة أهل البيت و هي جميعاً من قبيل الجري و الانطباق على المصداق.

٣٦٣

( سورة الكهف الآيات ٤٧ - ٥٩)

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ( ٤٧ ) وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ  بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا ( ٤٨ ) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا  وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا  وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( ٤٩ ) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ  أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ  بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ( ٥٠ ) مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( ٥١ ) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا ( ٥٢ ) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ( ٥٣ ) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ  وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ( ٥٤ ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ( ٥٥ ) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ  وَيُجَادِلُ الَّذِينَ

٣٦٤

كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ  وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا( ٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ  إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا  وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا( ٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ  لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ  بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا( ٥٨) وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا( ٥٩)

( بيان)

الآيات متّصلة بما قبلها تسير مسيرها في تعقيب بيان أنّ هذه الأسباب الظاهريّة و زخارف الدنيا الغارّة زينة الحياة سيسرع إليها الزوال و يتبيّن للإنسان أنّها لا تملك له نفعاً و لا ضرّاً و إنّما يبقى للإنسان أو عليه عمله فيجازى به.

و قد ذكرت الآيات أوّلاً قيام الساعة و مجي‏ء الإنسان فردا ليس معه إلّا عمله ثمّ تذكّر إبليس و إباءه عن السجدة لآدم و فسقه عن أمر ربّه و هم يتّخذونه و ذرّيّته أولياء من دون الله و هم لهم عدوّ ثمّ تذكّر يوم القيامة و إحضارهم و شركاءهم و ظهور انقطاع الرابطة بينهم و تعقّب ذلك آيات اُخر في الوعد و الوعيد، و الجميع بحسب الغرض متّصل بما تقدّم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الظرف متعلّق بمقدّر و التقدير( و اذكر يوم نسير) و تسيير الجبال بزوالها عن مستقرّها و قد عبّر سبحانه عنه بتعبيرات مختلفة كقوله:( وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) المزّمّل: ١٤، و قوله:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: ٥

٣٦٥

و قوله:( فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) الواقعة: ٦، و قوله:( وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) النبأ: ٢٠.

و المستفاد من السياق أنّ بروز الأرض مترتّب على تسيير الجبال فإذا زالت الجبال و التلال ترى الأرض بارزة لا تغيب ناحية منها عن اُخرى بحائل حاجز و لا يستتر صقع منها عن صقع بساتر، و ربّما احتمل أن تشير إلى ما في قوله:( وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ) الزمر: ٦٩.

و قوله:( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) أي لم نترك منهم أحداً فالحشر عامّ للجميع.

قوله تعالى: ( عُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إلخ السياق يشهد على أنّ ضمير الجمع في قوله:( عرِضُوا ) و كذا ضميرا الجمع في الآية السابقة للمشركين و هم الّذين اطمأنّوا إلى أنفسهم و الأسباب الظاهريّة الّتي ترتبط بها حياتهم، و تعلّقوا بزينة الحياة كالمتعلّق بأمر دائم باق فكان ذلك انقطاعاً منهم عن ربّهم، و إنكاراً للرجوع إليه، و عدم مبالاة بما يأتون به من الأعمال أرضى الله أم أسخطه.

و هذه حالهم ما دام أساس الامتحان الإلهيّ و الزينة المعجّلة بين أيديهم و الأسباب الظاهريّة حولهم و لمّا يقض الأمر أجله ثمّ إذا حان الحين و تقطّعت الأسباب و طاحت الآمال و جعل الله ما عليها من زينة صعيداً جرزاً لم يبق إذ ذاك لهم إلّا ربّهم و أنفسهم و صحيفة أعمالهم المحفوظة عليهم، و عرضوا على ربّهم - و ليسوا يرونه ربّا لهم و إلّا لعبدوه - صفّاً واحداً لا تفاضل بينهم بنسب أو مال أو جاه دنيوي لفصل القضاء تبيّن لهم عند ذلك أنّ الله هو الحقّ المبين و أنّ ما يدعونه من دونه و تعلّقت به قلوبهم من زينة الحياة و استقلال أنفسهم و الأسباب المسخّرة لهم ما كانت إلّا أوهاماً لا تغني عنهم من الله شيئاً و قد أخطأوا إذ تعلّقوا بها و أعرضوا عن سبيل ربّهم و لم يجروا على ما أراده منهم بل كان ذلك منهم لأنّهم توهّموا أن لا موقف هناك يوقفون فيه فيحاسبون عليه.

٣٦٦

و بهذا البيان يظهر أنّ هذا الجمل الأربع:( و عُرِضُوا ) إلخ( لقَدْ جِئْتُمُونا ) إلخ( بَل زَعَمْتُمْ‏ ) إلخ( وَ وُضِعَ الْكِتابُ ) إلخ نكت أساسيّة مختارة من تفصيل ما يجري يومئذ بينهم و بين ربّهم من حين يحشرون إلى أن يحاسبوا، و اكتفي بها إيجازاً في الكلام لحصول الغرض بها.

فقوله:( و عُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) إشارة أوّلاً إلى أنّهم ملجؤون إلى الرجوع إلى ربّهم و لقائه فيعرضون عليه عرضاً من غير أن يختاروه لأنفسهم، و ثانياً أن لا كرامة لهم في هذا اللقاء، و يشعر به قوله( على‏ رَبِّكَ) و لو اُكرموا لقيل: ربّهم كما قال:( جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ) البيّنة: ٨ و قال:( إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) هود: ٢٩، أو قيل: عرضوا علينا جريا على سياق التكلّم السابق، و ثالثاً أنّ أنواع التفاضل و الكرامات الدنيويّة الّتي اختلقتها لهم الأوهام الدنيويّة من نسب و مال و جاه قد طاحت عنهم فصفّوا صفّاً واحداً لا تميّز فيه لعال من دان و لا لغنيّ من فقير و لا لمولى من عبد، و إنّما الميز اليوم بالعمل و عند ذلك يتبيّن لهم أنّهم أخطأوا الصواب في حياتهم الدنيا و ضلّوا السبيل فيخاطبون بمثل قوله:( لقَدْ جِئْتُمُونا ) إلخ.

و قوله( لقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) مقول القول و التقدير و قال لهم أو قلنا لهم: لقد جئتمونا إلخ، و في هذا بيان خطإهم و ضلالهم في الدنيا إذ تعلّقوا بزينتها و زخرفها فشغلهم ذلك عن سلوك سبيل الله و الأخذ بدينه.

و قوله:( بل زَعَمْتُمْ أَن لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ) في معنى قوله:( أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) المؤمنون: ١١٥ و الجملة إن كانت إضراباً عن الجملة السابقة على ظاهر السياق فالتقدير ما في معنى قولنا: شغلتكم زينة الدنيا و تعلّقكم بأنفسكم و بظاهر الأسباب عن عبادتنا و سلوك سبيلنا بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعداً تلقوننا فيه فتحاسبوا و بتعبير آخر: إنّ اشتغالكم بالدنيا و تعلّقكم بزينتها و إن كان سببا في الإعراض عن ذكرنا و اقتراف الخطيئات لكن كان هناك سبب هو أقدم منه و هو الأصل و هو أنّكم ظننتم أن لن نجعل لكم موعداً

٣٦٧

فنسيان المعاد هو الأصل في ترك الطريق و فساد العمل قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) ص: ٢٦.

و الوجه في نسبة الظنّ بنفي المعاد إليهم أنّ انقطاعهم إلى الدنيا و تعلّقهم بزينتها و من يدعونه من دون الله فعل من ظنّ أنّها دائمة باقية لهم و أنّهم لا يرجعون إلى الله فهو ظنّ حاليّ عمليّ منهم و يمكن أن يكون كناية عن عدم اعتنائهم بأمر الله و استهانتهم بما اُنذروا به نظير قوله تعالى:( وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ) حم السجدة: ٢٢.

و من الجائز أن يكون قوله:( بل زَعَمْتُمْ أَن لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ) إضراباً عن اعتذار لهم مقدّر بالجهل و نحوه و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ) إلى آخر الآية وضع الكتاب نصبه ليحكم عليه، و مشفقين من الشفقة و أصلها الرقّة، قال الراغب في المفردات: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأنّ المشفق يحبّ المشفق عليه و يخاف ما يلحقه قال تعالى:( وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) فإذا عدّي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدّي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال تعالى:( إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) ( مُشْفِقُونَ مِنْها ) انتهى.

و الويل الهلاك، و نداؤه عند المصيبة - كما قيل - كناية عن كون المصيبة أشدّ من الهلاك فيستغاث بالهلاك لينجى من المصيبة كما ربّما يتمنّى الموت عند المصيبة قال تعالى:( يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا ) مريم: ٢٣.

و قوله:( وَ وُضِعَ الْكِتابُ ) ظاهر السياق أنّه كتاب واحد يوضع لحساب أعمال الجميع و لا ينافي ذلك وضع كتاب خاصّ بكلّ إنسان و الآيات القرآنيّة دالّة على أنّ لكلّ إنسان كتاباً و لكلّ اُمّة كتاباً و للكلّ كتاباً قال تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ) الآية: إسراء: ١٣ و قد تقدّم الكلام فيها، و قال:( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) الجاثية: ٢٨ و قال:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) الجاثية: ٢٩ و سيجي‏ء

٣٦٨

الكلام في الآيتين إن شاء الله تعالى.

و قيل: المراد بالكتاب كتب الأعمال و اللام للاستغراق، و السياق لا يساعد عليه.

و قوله:( فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) تفريع الجملة على وضع الكتاب و ذكر إشفاقهم ممّا فيه دليل على كونه كتاب الأعمال أو كتاباً فيه الأعمال، و ذكرهم بوصف الاجرام للإشارة إلى علّة الحكم و أنّ إشفاقهم ممّا فيه لكونهم مجرمين فالحكم يعمّ كلّ مجرم و إن لم يكن مشركاً.

و قوله:( وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) الصغيرة و الكبيرة وصفان قامتا مقام موصوفهما و هو الخطيئة أو المعصية أو الهنة و نحوها.

و قولهم هذا إظهار للدهشة و الفزع من سلطة الكتاب في إحصائه للذنوب أو لمطلق الحوادث و منها الذنوب في صورة الاستفهام التعجيبيّ، و منه يعلم وجه تقديم الصغيرة على الكبيرة في قوله:( صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً ) مع أنّ الظاهر أن يقال: لا يغادر كبيرة و لا صغيرة إلّا أحصاها بناء على أنّ الكلام في معنى الإثبات و حقّ الترقّي فيه أن يتدرّج من الكبير إلى الصغير هذا، و ذلك لأنّ المراد - و الله أعلم - لا يغادر صغيرة لصغرها و دقّتها و لا كبيرة لكبرها و وضوحها، و المقام مقام الاستفزاع في صورة التعجيب و إحصاء الصغيرة على صغرها و دقّتها أقرب إليه من غيرها.

و قوله:( وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) ظاهر السياق كون الجملة تأسيساً لا عطف تفسير لقوله:( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً ) إلخ و عليه فالحاضر عندهم نفس الأعمال بصورها المناسبة لها لا كتابتها كما هو ظاهر أمثال قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧، و يؤيّده قوله بعده:( وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) فإنّ انتفاء الظلم بناء على تجسّم الأعمال

٣٦٩

أوضح لأنّ ما يجزون به إنّما هو عملهم يردّ إليهم و يلحق بهم لا صنع في ذلك لأحد فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) تذكير ثان لهم بما جرى بينه تعالى و بين إبليس حين أمر الملائكة بالسجود لأبيهم آدم فسجدوا إلّا إبليس كان من الجنّ فتمرّد عن أمر ربّه.

أي و اذكر هذه الواقعة حتّى يظهر لهم أنّ إبليس - و هو من الجنّ - و ذرّيّته عدوّ لهم لا يريدون لهم الخير فلا ينبغي لهم أن يفتتنوا بما يزيّنه لهم هو و ذرّيّته من ملاذّ الدنيا و شهواتها و الإعراض عن ذكر الله و لا أن يطيعوهم فيما يدعونهم إليه من الباطل.

و قوله:( أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) تفريع على محصّل الواقعة و الاستفهام للإنكار أي و يتفرّع على الواقعة أن لا تتّخذوه و ذرّيّته أولياء و الحال أنّهم أعداء لكم معشر البشر، و على هذا فالمراد بالولاية ولاية الطاعة حيث يطيعونه و ذرّيّته فيما يدعونهم فقد اتّخذوهم مطاعين من دون الله، و هكذا فسّرها المفسّرون.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بالولاية ولاية الملك و التدبير و هو الربوبيّة فإنّ الوثنيّة كما يعبدون الملائكة طمعاً في خيرهم كذلك يعبدون الجنّ اتّقاء من شرّهم، و هو سبحانه يصرّح بأنّ إبليس من الجنّ و له ذرّيّة و أنّ ضلال الإنسان في صراط سعادته و ما يلجمه من أنواع الشقاء إنّما هو بإغواء الشيطان فالمعنى أ فتتّخذونه و ذرّيّته آلهة و أرباباً من دوني تعبدونهم و تتقرّبون إليهم و هم لكم عدوّ؟.

و يؤيّده الآية التالية فإنّ عدم إشهادهم الخلقة إنّما يناسب انتفاء ولاية التدبير عنهم لا انتفاء ولاية الطاعة و هو ظاهر.

و قد ختم الآية بتقبيح اتّخاذهم إيّاهم أولياء من دون الله الّذي معناه اتّخاذهم

٣٧٠

إبليس بدلاً منه سبحانه فقال:( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) و ما أقبح ذلك فلا يقدم عليه ذو مسكة، و هو السرّ في الالتفات الّذي في قوله:( مِنْ دُونِي ) فلم يقل: من دوننا على سياق قوله:( وَ إِذْ قُلْنا ) ليزيد في وضوح القبح كما أنّه السرّ أيضاً في الالتفات السابق في قوله:( عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) و لم يقل: عن أمرنا.

و للمفسّرين ههنا أبحاث في معنى شمول أمر الملائكة لإبليس، و في معنى كونه من الجنّ و في معنى، و قد قدّمنا بعض القول في ذلك في تفسير سورة الأعراف.

قوله تعالى: ( ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) ظاهر السياق كون ضميري الجمع لإبليس و ذرّيّته و المراد بالإشهاد الإحضار و الاعلام عيانا كما أنّ الشهود هو المعاينة حضوراً، و العضد ما بين المرفق و الكتف من الإنسان و يستعار للمعين كاليد و هو المراد ههنا.

و قد اشتملت الآية في نفي ولاية التدبير عن إبليس و ذرّيّته على حجّتين إحداهما: أنّ ولاية تدبير اُمور شي‏ء من الأشياء تتوقّف على الإحاطة العلميّة - بتمام معنى الكلمة - بتلك الاُمور من الجهة الّتي تدبّر فيها و بما لذلك الشي‏ء و تلك الاُمور من الروابط الداخليّة و الخارجيّة بما يبتدئ منه و ما يقارنه و ما ينتهي إليه و الارتباط الوجودي سار بين أجزاء الكون و هؤلاء و هم إبليس و ذرّيّته لم يشهدهم الله سبحانه خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم فلا كانوا شاهدين إذ قال للسماوات و الأرض: كن فكانت و لا إذ قال لهم: كونوا فكانوا فهم جاهلون بحقيقة السماوات و الأرض و ما في أوعية وجوداتها من أسرار الخلقة حتّى بحقيقة صنع أنفسهم فكيف يسعهم أن يلوا تدبير أمرها أو تدبير أمر شطر منها فيكونوا آلهة و أرباباً من دون الله و هم جاهلون بحقيقة خلقتها و خلقة أنفسهم.

و أمّا أنّهم لم يشهدوا خلقها فلأنّ كلّاً منهم شي‏ء محدود لا سبيل له إلى ما وراء نفسه فغيره في غيب منه مضروب عليه الحجاب، و هذا بيّن و قد أنبأ الله سبحانه عنه في مواضع من كلامه و كذا كلّ منهم مستور عنه شأن الأسباب الّتي تسبق

٣٧١

وجوده و اللواحق الّتي ستلحق وجوده.

و هذه حجّة برهانيّة غير جدليّة عند من أجاد النظر و أمعن في التدبّر حتّى لا يختلط عنده هذه الاُلعوبة الكاذبة الّتي نسمّيها تدبيراً بالتدبير الكونيّ الّذي لا يلحقه خطأ و لا ضلال، و كذا الظنون و المزاعم الواهية الّتي نتداولها و نركن إليها بالعلم العيانيّ الّذي هو حقيقة العلم و كذا العلم بالاُمور الغائبة بالظفر على أماراتها الأغلبيّة بالعلم بالغيب الّذي يتبدّل به الغيب شهادة.

و الثانية أنّ كلّ نوع من أنواع المخلوقات متوجّه بفطرته نحو كماله المختصّ بنوعه و هذا ضروريّ عند من تتبّعها و أمعن النظر في حالها فالهداية الإلهيّة عامّة للجميع كما قال:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه: ٥٠ و الشياطين أشرار مفسدون مضلّون فتصدّيهم تدبير شي‏ء من السماوات و الأرض أو الإنسان - و لن يكون إلّا بإذن من الله سبحانه - مؤدّ إلى نقضه السنّة الإلهيّة من الهداية العامّة أي توسّله تعالى إلى الإصلاح بما ليس شأنه إلّا الإفساد و إلى الهداية بما خاصّته الإضلال و هو محال.

و هذا معنى قوله سبحانه:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) الظاهر في أنّ سنّته تعالى أن لا يتّخذ المضلّين عضداً فافهم.

و في قوله:( ما أَشْهَدْتُهُمْ ) و قوله:( وَ ما كُنْتُ ) و لم يقل: ما شهدوا و ما كانوا دلالة على أنّه سبحانه هو القاهر المهيمن عليهم على كلّ حال، و القائلون بإشراك الشياطين أو الملائكة أو غيرهم بالله في أمر التدبير لم يقولوا باستقلالهم في ذلك بل بأنّ أمر التدبير مملوك لهم بتمليك من الله تعالى مفوّض إليهم بتفويض منه و أنّهم أرباب و آلهة و الله ربّ الأرباب و إله الآلهة.

و ما تقدّم من معنى الآية مبنيّ على حمل الإشهاد على معناه الحقيقي و إرجاع الضميرين في( ما أَشْهَدْتُهُمْ ) و( أَنْفُسِهِمْ ) إلى إبليس و ذرّيّته كما هو الظاهر المتبادر من السياق، و للمفسّرين أقوال اُخر:

منها قول بعضهم: إنّ المراد من الإشهاد في خلقها المشاورة مجازاً فإنّ أدنى

٣٧٢

مراتب الولاية على شي‏ء أن يشاوره في أمره، و المراد بنفي الاعتضاد نفي سائر مراتب الاستعانة المؤدّية إلى الولاية و السلطة على المولّى عليه بوجه مّا فكأنّه قيل: ما شاورتهم في أمر خلقها و لا استعنت بهم بشي‏ء من أنواع الاستعانة فمن أين يكونون أولياء لهم؟.

و فيه أنّه لا قرينة على هذا المجاز و لا مانع من الحمل على المعنى الحقيقيّ على أنّه لا رابطة بين الإشارة بالشي‏ء و الولاية عليه حتّى تعدّ المشاورة من مراتب التولية أو الإشارة من درجات الولاية.

و قد وجّه بعضهم هذا المعنى بأنّ المراد بالإشهاد المشاورة كناية و لازم المشاورة أن يخلق كما شاؤا أي أن يخلقهم كما أحبّوا أي أن يخلقهم كاملين فالمراد بنفي إشهاد الشياطين خلق أنفسهم نفي أن يكونوا كاملين في الخلقة حتّى يسع لهم ولاية تدبير الاُمور.

و فيه مضافاً إلى أنّه يرد عليه ما اُورد على سابقه أوّلاً أنّ ذلك يرجع إلى إطلاق الشي‏ء و إرادة لازمه بخمس مراتب من اللزوم فالمشاورة لازم الإشهاد على ما يدّعيه و خلق ما يشاؤه المشير لازم المشاورة و خلق ما يحبّه لازم خلق ما يشاؤه، و كمال الخلقة لازم خلق ما يحبّه، و صحّة الولاية لازم كمال الخلقة فإطلاق الإشهاد و إرادة كمال الخلقة أو صحّة الولاية من قبيل التكنية عن لازم المعنى من وراء لزومات أربع أو خمس، و الكتاب المبين يجلّ عن أمثال هذه الإلغازات.

و ثانياً: أنّه لو صحّ فإنّما يصحّ في إشهادهم خلق أنفسهم دون إشهادهم خلق السماوات و الأرض فلازمه التفكيك بين الإشهادين.

و ثالثاً: أنّ لازمه صحّة ولاية من كان كاملاً في خلقه كالملائكة المقرّبين ففيه اعتراف بإمكان ولايتهم و جواز ربوبيّتهم و القرآن يدفع ذلك بأصرح البيان فأين الممكن المفتقر لذاته إلى الله سبحانه من الاستقلال في تدبير نفسه أو تدبير غيره؟ و أمّا نحو قوله تعالى:( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) النازعات: ٥ فسيجي‏ء توضيح معناه إن شاء الله.

٣٧٣

و منها قول بعضهم: إنّ المراد بالإشهاد حقيقة معناه و الضميران للشياطين لكنّ المراد من إشهادهم خلق أنفسهم إشهاد بعضهم خلق بعض لا إشهاد كلّ خلق نفسه.

و فيه أنّ المراد بنفي الإشهاد استنتاج انتفاء الولاية، و لم يقل أحد من المشركين بولاية بعض الشياطين لبعض و لا تعلّق الغرض بنفيها حتّى يحمل لفظ الآية على إشهاد بعضهم خلق بعض.

و منها قول بعضهم: إنّ أوّل الضميرين للشياطين و الثاني للكفّار أو لهم و لغيرهم من الناس. و المعنى ما أشهدت الشياطين خلق السماوات و الأرض و لا خلق الكفّار أو الناس حتّى يكونوا أولياء لهم.

و فيه أنّ فيه تفكيك الضميرين.

و منها قول بعضهم: برجوع الضميرين إلى الكفّار قال الإمام الرازي في تفسيره، و الأقرب عندي عودهما يعني الضميرين على الكفّار الّذين قالوا للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنّه تعالى قال: إنّ هؤلاء الّذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد و التعنّت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أنّي ما أشهدتهم خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم و لا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا و الآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ و نظيره أنّ من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنّك تقول له: لست بسلطان البلد حتّى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها؟.

و يؤكّده أنّ الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات و هو في الآية اُولئك الكفّار لأنّهم المراد بالظالمين في قوله تعالى:( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) انتهى.

و فيه أنّ فيه خرق السياق بتعليق مضمون الآية بما تعرّض به في قوله:( وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ) بنحو الإشارة قبل ثلاث و عشرين آية و قد تحوّل وجه الكلام بالانعطاف على أوّل السورة مرّة بعد مرّة بالتمثيل بعد التمثيل و التذكير بعد التذكير فما احتمله من المعنى في غاية البعد.

٣٧٤

على أنّ ما ذكره من اقتراحهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إن لم تطرد هؤلاء الفقراء من مجلسك لم نؤمن بك) ليس باقتراح فيه مداخلة في تدبير أمر العالم حتّى يردّ عليهم بمثل قوله:( ما أَشْهَدْتُهُمْ ) إلخ بل اشتراط لإيمانهم بطرد اُولئك من غير أن يبتني على دعوى تردّ بمثل ذلك، نعم لو قيل: اطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء و اكتفي به لكان لما قاله بعض الوجه.

و كأنّ التنبّه لهذه النكتة دعا بعضهم إلى توجيه معنى الآية على تقدير رجوع الضميرين إلى الكفّار بأنّ المراد أنّهم جاهلون بما جرى عليه القلم في الأزل من أمر السعادة و الشقاء إذ لم يشهدوا الخلقة فكيف يقترحون عليك أن تقرّبهم إليك و تطرد الفقراء؟

و مثله قول آخرين: إنّ المراد أنّي ما أطلعتهم على أسرار الخلقة و لم يختصّوا منّي بما يمتازون به من غيرهم حتّى يكونوا قدوة يقتدي بهم الناس في الإيمان بك فلا تطمع في نصرتهم فلا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلّين.

و كلا الوجهين أبعد ممّا ذكره الإمام من الوجه فأين الآية من الدلالة على ما اختلقاه من المعنى؟.

و منها أنّ الضميرين للملائكة و المعنى ما أشهدت الملائكة خلق العالم و لا خلق أنفسهم حتّى يعبدوا من دوني، و ينبغي أن يضاف إليه أنّ قوله:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) أيضاً متعرّض لنفي ولاية الشياطين فتدلّ الآية حينئذ بصدرها و ذيلها على نفي ولاية الفريقين جميعاً و إلّا دفعه ذيل الآية.

و فيه أنّ الآية السابقة إنّما خاطبت الكفّار في قولهم بولاية الشياطين ثمّ ذكرتهم بضمير الجمع في قولها:( وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) و لم يتعرّض لشي‏ء من أمر الملائكة فإرجاع الضميرين إلى الملائكة دون الشياطين تفكيك، و الاشتغال بنفي ولاية الملائكة تعرّض لما لم يحوج إليه السياق و لا اقتضاه المقام.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) إلى آخر الآية هذا تذكير ثالث يذكر فيه ظهور بطلان الرابطة بين المشركين و بين شركائهم يوم القيامة

٣٧٥

و يتأكّد بذلك أنّهم ليسوا على شي‏ء ممّا يدّعيه لهم المشركون.

فقوله:( وَ يَوْمَ يَقُولُ ) إلخ الضمير له تعالى بشهادة السياق، و المعنى و اذكر لهم يوم يقول الله لهم نادوا شركائي الّذين زعمتم أنّهم لي شركاء فدعوهم فلم يستجيبوا لهم و بان أنّهم ليسوا لي شركاء و لو كانوا لاستجابوا.

و قوله:( وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ) الموبق بكسر الباء اسم مكان من وبق وبوقا بمعنى هلك، و المعنى جعلنا بين المشركين و شركائهم محلّ هلاك و قد فسّر القوم هذا الموبق و المهلك بالنار أو بمحلّ من النار يهلك فيه الفريقان المشركون و شركاؤهم لكنّ التدبّر في كلامه تعالى لا يساعد عليه فإنّ الآية قد أطلقت الشركاء و فيهم - و لعلّهم الأكثر - الملائكة و بعض الأنبياء و الأولياء، و أرجع إليهم ضمير اُولي العقل مرّة بعد مرّة، و لا دليل على اختصاصهم بمردة الجنّ و الإنس و كون جعل الموبق بينهم دليلا على الاختصاص أوّل الكلام.

فلعلّ المراد من جعل موبق بينهم إبطال الرابطة و رفعها من بينهم و قد كانوا يرون في الدنيا أنّ بينهم و بين شركائهم رابطة الربوبيّة و المربوبيّة أو السببيّة و المسبّبيّة فكنّي عن ذلك بجعل موبق بينهم يهلك فيه الرابطة و العلقة من غير أن يهلك الطرفان، و يومئ إلى ذلك بلطيف الإشارة تعبيره عن دعوتهم أوّلاً بالنداء حيث قال:( نادُوا شُرَكائِيَ ) و النداء إنّما يكون في البعيد فهو دليل على بعد ما بينهما.

و إلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في موضع آخر من كلامه:( وَ ما نَرى‏ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) الأنعام: ٩٤، و قوله تعالى:( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ) يونس: ٢٨.

قوله تعالى: ( وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) في أخذ المجرمين مكان المشركين دلالة على أنّ الحكم عامّ لجميع أهل الاجرام، و المراد بالظنّ هو العلم - على ما قيل - و يشهد به قوله:( وَ لَمْ

٣٧٦

يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) .

و المراد بمواقعة النار الوقوع فيها - على ما قيل - و لا يبعد أن يكون المراد حصول الوقوع من الجانبين فهم واقعون في النار بدخولهم فيها و النار واقعة فيهم باشتعالهم بها. و قوله:( وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) المصرف بكسر الراء اسم مكان من الصرف أي لم يجدوا محلّا ينصرفون إليه و يعدلون عن النار و لا مناص.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ‏ءٍ جَدَلًا ) قد مرّ الكلام في نظير صدر الآية في سورة أسرى آية ٨٩ و الجدل الكلام على سبيل المنازعة و المشاجرة و الآية إلى تمام ستّ آيات مسوقة للتهديد بالعذاب بعد التذكيرات السابقة.

قوله تعالى: ( وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى‏ وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ) و( يَسْتَغْفِرُوا ) عطف على قوله:( يُؤْمِنُوا ) أي و ما منعهم من الإيمان و الاستغفار حين مجي‏ء الهدى.

و قوله:( إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ) أي إلّا طلب أن تأتيهم السنّة الجارية في الاُمم الأوّلين و هي عذاب الاستئصال، و قوله:( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا ) عطف على سابقه أي أو طلب أن يأتيهم العذاب مقابلة و عيانا و لا ينفعهم الإيمان حينئذ لأنّه إيمان بعد مشاهدة البأس الإلهيّ قال تعالى:( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ) المؤمن: ٨٥.

فمحصّل المعنى أنّ الناس لا يطلبون إيماناً ينفعهم و الّذي يريدونه أن يأخذهم عذاب الاستئصال على سنّة الأوّلين فيهلكوا و لا يؤمنوا أو يقابلهم العذاب عيانا فيؤمنوا اضطراراً فلا ينفعهم الإيمان.

و هذا المنع و الاقتضاء في الآية أمر ادّعائيّ يراد به أنّهم معرضون عن الحقّ لسوء سريرتهم فلا جدوى للإطناب الّذي وقع في التفاسير في صحّة ما مرّ من التوجيه و التقدير إشكالاً و دفعاً.

قوله تعالى: ( وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ) إلخ تعزية

٣٧٧

للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يضيق صدره من إنكار المنكرين و إعراضهم عن ذكر الله فما كانت وظيفة المرسلين إلّا التبشير و الإنذار و ليس عليهم وراء ذلك من بأس ففيه انعطاف إلى مثل ما مرّ في قوله في أوّل السورة:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) و في الآية أيضاً نوع تهديد للكفّار المستهزءين.

و الدحض الهلاك و الإدحاض الإهلاك و الإبطال، و الهزؤ: الاستهزاء و المصدر بمعنى اسم المفعول و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ) إعظام و تكبير لظلمهم و الظلم يعظم و يكبر بحسب متعلّقه و إذا كان هو الله سبحانه بآياته فهو أكبر من كلّ ظلم.

و المراد بنسيان ما قدّمت يداه عدم مبالاته بما يأتيه من الإعراض عن الحقّ و الاستهزاء به و هو يعلم أنّه حقّ، و قوله:( إِنَّا جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً ) كأنّه تعليل لإعراضهم عن آيات الله أو له و لنسيانهم ما قدّمت أيديهم، و قد تقدّم الكلام في معنى جعل الأكنة على قلوبهم و الوقر في آذانهم في الكتاب مراراً.

و قوله:( وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى‏ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ) إياس من إيمانهم بعد ما ضرب الله الحجاب على قلوبهم و آذانهم فلا يسعهم بعد ذلك أن يهتدوا بأنفسهم بتعقّل الحقّ و لا أن يسترشدوا بهداية غيرهم بالسمع و الاتّباع، و الدليل على هذا المعنى قوله:( وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى‏ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ) حيث دلّ على تأييد النفي و قيّده بقوله:( إِذاً ) و هو جزاء و جواب.

قال في روح المعاني: و استدلّت الجبريّة بهذه الآية على مذهبهم و القدريّة بالآية الّتي قبلها. قال الإمام: و قلّ ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلّا و معها آية للفريق الآخر، و ما ذاك إلّا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله على عباده ليتميّز العلماء الراسخون من المقلّدين. انتهى.

أقول: و كلتا الآيتين حقّ و لازم ذلك ثبوت الاختيار للعباد في أعمالهم و

٣٧٨

انبساط سلطنته تعالى في ملكه حتّى على أعمال العباد و هو مذهب أئمّة أهل لبيتعليهم‌السلام .

قوله تعالى: ( وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) إلى آخر الآية، الآيات - كما سمعت - مسرودة لتهديدهم بالعذاب و هم فاسدون في أعمالهم فساداً لا يرجى منهم صلاح و هذا مقتض لنزول العذاب و أن يكون معجّلاً لا يمهلهم إذ لا أثر لبقائهم إلّا الفساد لكنّ الله سبحانه لم يعجّل لهم العذاب و إن قضى به قضاء حتم بل أخّره إلى أجل مسمّى عيّنه بعلمه.

فقوله:( وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) صدّرت به الآية المتضمّنة لصريح القضاء في تهديدهم ليعدّل به بواسطة اشتماله على الوصفين: الغفور ذي الرحمة ما يقتضي العذاب المعجّل فيقضي و يمضي أصل العذاب أداء لحقّ مقتضيه و هو عملهم، و يؤخّر وقوعه لأنّ الله غفور ذو رحمة.

فالجملة أعني قوله:( الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) مع قوله:( لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ) بمنزلة متخاصمين متنازعين يحضران عند القاضي، و قوله:( بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ) أي ملجأ يلجؤون منه إليه بمنزلة الحكم الصادر عنه بما فيه إرضاء الجانبين و مراعاة الحقّين فاُعطي وصف الانتقام الإلهيّ باستدعاء ممّا كسبوا أصل العذاب، و اُعطيت صفة المغفرة و الرحمة أن يؤجّل العذاب و لا يعجّل و عند ذلك أخذت المغفرة الإلهيّة تمحو أثر العمل الّذي هو استعجال العذاب، و الرحمة تفيض عليهم حياة معجّلة.

و محصّل المعنى: لو يؤاخذهم ربّك لعجّل لهم العذاب لكن لم يعجّل لأنّه الغفور ذو الرحمة بل حتم عليهم العذاب بجعله لهم موعداً لا ملجأ لهم يلجؤون منه إليه. فقوله:( بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ) إلخ كلمة قضاء و ليس بحكاية محضة و إلّا قيل: بل جعل لهم موعداً إلخ فافهم ذلك.

و الغفور صيغة مبالغة تدلّ على كثرة المغفرة، و ذو الرحمة - و لامه للجنس - صفة تدلّ على شمول الرحمة لكلّ شي‏ء فهي أشمل معنى من الرحمن و الرحيم

٣٧٩

الدالّين على الكثرة أو الثبوت و الاستمرار فالغفور بمنزلة الخادم لذي الرحمة فإنّه يصلح المورد لذي الرحمة بإمحاء ما عليه من وصمة الموانع فإذا صلح شمله ذوالرحمة، فللغفور السعي و كثرة العمل و لذي الرحمة الانبساط و الشمول على ما لا مانع عنده، و لهذه النكتة جي‏ء في المغفرة بالغفور و هو صيغة مبالغة و في الرحمة بذي الرحمة الحاوي لجنس الرحمة فافهم ذلك و دع عنك ما أطنبوا فيه من الكلام في الاسمين.

قوله تعالى: ( وَ تِلْكَ الْقُرى‏ أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً ) المراد بالقرى أهلها مجازاً بدليل الضمائر الراجعة إليها، و المهلك بكسر اللام اسم زمان.

و معنى الآية ظاهر و هي مسوقة لبيان أنّ تأخير مهلكهم و تأجيله ليس ببدع منّا بل السنّة الإلهيّة في الاُمم الماضين الّذين أهلكهم الله لمّا ظلموا كانت جارية على ذلك فكان الله يهلكهم و يجعل لمهلكهم موعدا.

و من هنا يظهر أنّ العذاب و الهلاك الّذي تتضمّنه الآيات ليس بعذاب يوم القيامة بل عذاب دنيويّ و هو عذاب يوم بدر إن كان المراد تهديد صناديد قريش أو عذاب آخر الزمان إن كان المراد تهديد الاُمّة كما مرّ في تفسير سورة يونس.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى:( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ ) الآية: عن خالد بن نجيح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا كان يوم القيامة دفع للإنسان كتابه ثمّ قيل له: اقرأ. قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: إنّه يذكره فما من لحظة و لا كلمة و لا نقل قدم و لا شي‏ء فعله إلّا ذكره كأنّه فعله تلك الساعة. و لذلك قالوا:( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .

أقول: و الرواية كما ترى تجعل ما يذكره الإنسان هو ما عرفه من ذلك الكتاب فمذكوره هو المكتوب فيه، و لو لا حضور ما عمله لم تتمّ عليه الحجّة و لأمكنه أن ينكره.

٣٨٠