الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 101091
تحميل: 4361


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101091 / تحميل: 4361
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فلم يرزق ذو القرنين أن يشرب منها و شرب الخضر و اغتسل منها فكان له البقاء المؤبّد و في هذه الروايات أنّ الظلمات في جانب المشرق.

و من ذلك اختلافها في موضع السدّ الّذي بناها ففي بعضها أنّه في(١) المشرق و في بعضها(٢) أنّه في الشمال، و قد بلغ من مبالغة بعض الروايات أن ذكرت(٣) أنّ طول السدّ و هو مسافة ما بين الجبلين مائة فرسخ و عرضه خمسون فرسخاً و ارتفاعه ارتفاع الجبلين و قد حفر له أساساً حتّى بلغ الماء و قد جعل حشوه الصخور و طينه النحاس ثمّ علاه بزبر الحديد و النحاس المذاب و جعل خلاله عرقا من نحاس أصفر فصار كأنّه برد محبّر.

و من ذلك اختلافها في وصف يأجوج و مأجوج فروي(٤) أنّهم من الترك و من ولد يافث بن نوح كانوا يفسدون في الأرض فضرب السدّ دونهم و روي(٥) أنّهم من غير ولد آدم و في(٦) عدّة من الروايات أنّهم قوم ولود لا يموت الواحد منهم من ذكر أو اُنثى‏ حتّى يولد له ألف من الأولاد و أنّهم أكثر عدداً من سائر البشر حتّى عدّوا في(٧) بعض الروايات تسعة أضعاف البشر، و روي(٨) أنّهم من الشدّة و البأس بحيث لا يمرّون ببهيمة أو سبع أو إنسان إلّا افترسوه و أكلوه و لا على زرع

____________________

(١) الدرّ المنثور عن ابن إسحاق و غيره عن وهب.

(٢) الدرّ المنثور عن ابن المنذر عن ابن عبّاس.

(٣) الدرّ المنثور عن ابن إسحاق و غيره عن وهب.

(٤) الدرّ المنثور عن ابن المنذر عن عليّعليه‌السلام و عن ابن أبي حاتم عن قتادة. و في نور الثقلين عن علل الشرائع عن العسكري.

(٥) نور الثقلين عن روضة الكافي عن ابن عبّاس.

(٦) الطبريّ عن عبدالله بن عمير، و عن عبدالله بن سلام، و في الدرّ المنثور عن النسائيّ و ابن مردويه عن أوس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و فيه عن ابن أبي حاتم عن السدّيّ عن عليّعليه‌السلام .

(٧) في الدرّ المنثور عن عبدالرزّاق و غيره عن عبدالله بن عمر.

(٨) الدرّ المنثور عن ابن إسحاق و غيره عن وهب.

٤٠١

أو شجر إلّا رعوه و لا على ماء نهر إلّا شربوه و نشفوه، و روي(١) أنّهم اُمّتان كلّ منهما أربع مائة ألف اُمّة كلّ اُمّة لا يحصي عددهم إلّا الله سبحانه.

و روي(٢) أنّهم طوائف ثلاث فطائفة كالاُرز و هو شجر طوال، و طائفة يستوي طولهم و عرضهم: أربعة أذرع في أربعة أذرع و طائفة و هم أشدّهم للواحد منهم اُذنان يفترش بإحداهما و يلتحف بالاُخرى يشتو في إحداهما لابسا له و هي وبرة ظهرها و بطنها و يصيّف في الاُخرى و هي زغبة ظهرها و بطنها، و هم صلب على أجسادهم من الشعر ما يواريها، و روي أنّ الواحد(٣) منهم شبر أو شبران أو ثلاثة، و روي(٤) أنّ الذين كانوا يقاتلونهم كان وجوههم وجوه الكلاب.

و من ذلك اختلافها في زمان ملكه ففي بعضها(٥) أنّه كان بعد نوح، و روي(٦) أنّه كان في زمن إبراهيم و معاصره و قد حجّ البيت و لقيه و صافحه و هي أوّل مصافحة على وجه الأرض، و روي(٧) أنّه كان في زمن داود.

و من ذلك اختلافها في مدّة ملكه فروي(٨) ثلاثون سنة و روي(٩) اثنتا عشرة سنة إلى غير ذلك من جهات الاختلاف الّتي يعثر عليها من راجع أخبار القصّة

____________________

(١) في الدرّ المنثور عن ابن المنذر و أبي الشيخ عن حسان بن عطية. و عن ابن أبي حاتم و غيره عن حذيفة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد بلغ من مبالغة الروايات في عددهم أنّه روى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأجوج و مأجوج يعدل ألف ضعف للمسلمين (البداية و النهاية عن الصحيحين عن أبي سعيد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) و هو ذا يقال: إنّ المسلمين خمس أهل الأرض و لازمه أن يكون يأجوج و مأجوج مائتا ضعف أهل الأرض.

(٢) في الدرّ المنثور عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار.

(٣) في الدرّ المنثور عن ابن المنذر و الحاكم و غيرهما عن ابن عبّاس.

(٤) في الدرّ المنثور عن عدّة عن عقبة بن عامر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٥) في تفسير العيّاشيّ عن الأصبغ عن عليّعليه‌السلام .

(٦) الدرّ المنثور عن ابن مردويه و غيره عن عبيد بن عمير، و في نور الثقلين عن أمالي الشيخ عن الباقرعليه‌السلام و في العرائس لابن إسحاق.

(٧) الدرّ المنثور عن ابن أبي حاتم و ابن عساكر عن مجاهد.

(٨) البرهان عن البرقي عن موسى بن جعفرعليه‌السلام .

(٩) الدرّ المنثور عن ابن أبي حاتم عن وهب.

٤٠٢

من جوامع الحديث و خاصّة الدرّ المنثور، و البحار، و البرهان، و نور الثقلين.

و في كتاب كمال الدين، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: قام ابن الكوّاء إلى عليّعليه‌السلام و هو على المنبر فقال: يا أميرالمؤمنين أخبرني عن ذي القرنين أ نبيّاً كان أم ملكاً؟ و أخبرني عن قرنيه أ من ذهب أم من فضّة؟ فقال له: لم يكن نبيّاً و لا ملكاً، و لم يكن قرناه من ذهب و لا فضّة و لكن كان عبداً أحبّ الله فأحبّه الله و نصح الله فنصحه الله، و إنّما سمّي ذا القرنين لأنّه دعا قومه إلى الله عزّوجلّ فضربوه على قرنه فغاب عنهم حينا ثمّ عاد إليهم فضرب على قرنه الآخر، و فيكم مثله.

أقول: الظاهر أنّ( الملك) في الرواية بفتح اللام لا بكسرها لاستفاضة الروايات عنه و عن غيرهعليه‌السلام بملك ذي القرنين فنفيهعليه‌السلام أن يكون ذو القرنين نبيّاً أو ملكاً بفتح اللّام إنكار منه لصحّة ما ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الروايات أنّه كان نبيّاً و في بعضها الآخر أنّه كان ملكاً من الملائكة و به كان يقول عمر بن الخطّاب كما تقدّمت الإشارة إليه.

و قوله:( و فيكم مثله) أي مثل ذي القرنين في شجّتيه يشيرعليه‌السلام إلى نفسه فإنّه اُصيب بضربة من عمرو بن عبد ودّ و بضربة من عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله فاستشهد بها، و لرواية مستفيضة عنهعليه‌السلام روته عنه الشيعة و أهل السنّة بألفاظ مختلفة، و أبسط ألفاظها ما أوردناه، و قد لعبت به يد النقل بالمعنى فأظهرته في صور عجيبة و بلغ بها التحريف غايته.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل عليّ عن ذي القرنين أ نبيّ هو؟ فقال سمعت نبيّكمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: هو عبد ناصح الله فنصحه.

و في احتجاج الطبرسيّ، عن الصادقعليه‌السلام في حديث طويل: و فيه قال السائل‏ أخبرني عن الشمس أين تغيب؟ قال: إنّ بعض العلماء قال: إذا انحدرت أسفل القبّة دار بها الفلك إلى بطن السماء صاعدة أبداً إلى أن تنحطّ إلى موضع مطلعها.

٤٠٣

يعني أنّها تغيب في عين حمئة ثمّ تخرق الأرض راجعة إلى موضع مطلعها فتحير تحت العرش حتّى يؤذن لها بطلوع و يسلب نورها كلّ يوم و تتجلّل نوراً أحمر.

أقول: قوله:( إذا انحدرت أسفل القبّة - إلى قوله - مطلعها) بيان لسير الشمس من حين غروبها إلى إبّان طلوعها في مدارها السماويّ على ما تفرضه هيئة بطليموس الدائرة في تلك الأعصار المبنيّة على سكون الكرة الأرضيّة و حركة الأجرام السماويّة حولها، و لذا نسبهعليه‌السلام إلى بعض العلماء.

و قوله:( يعني أنّها تغيب في عين حمئة ثم تخرق الأرض راجعة إلى موضع مطلعها) من كلام بعض رواة الخبر لا من كلامهعليه‌السلام فالراوي لقصور منه في الفهم فسّر قوله تعالى:( تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) بسقوط القرص في العين و غيبوبته فيها ثمّ سبحه فيها كالسمكّة في الماء و خرقه الأرض حتّى يبلغ المطلع ثمّ ذهابه إلى تحت العرش و هو على زعمه سماء فوق السماوات السبع أو جسم نورانيّ كأعظم ما يكون موضوع فوق السماء السابعة و مكثه هناك حتّى يؤذن له في الطلوع فيكسى نوراً أحمر و يطلع.

و الراوي يشير بقوله: فتحير تحت العرش حتّى يؤذن لها إلخ إلى رواية اُخرى مأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الملائكة تذهب بالشمس بعد غروبها فتوقّفها تحت العرش و هي مسلوبة النور فتمكث هناك و هي لا تدري ما تؤمر به غدا حتّى تكسى نوراً و تؤمر بالطلوع، الرواية. و قد ارتكب فهمه في تفسير العرش هناك نظير ما ارتكبه في تفسير الغروب ههنا فزاد عن الحقّ بعداً على بعد.

و لم يرد تفسير العرش في كتاب و لا سنّة قابلة للاعتماد بالفلك التاسع أو بجسم نورانيّ علويّ كهيئة السرير الّتي اختلقها فهمه و قد قدّمنا معظم روايات العرش في أوائل الجزء الثامن من هذا الكتاب.

و في التسمية أعني قوله: قال بعض العلماء بعض الإشارة إلى أنّ هذا القول

٤٠٤

لم يكن مرضيّاً عندهعليه‌السلام و مع ذلك لم يسعه أن يسمح بحقّ القول في المسألة كيف؟ و إذا ساقتهم سذاجة الفهم في فرضيّة سهلة التصوّر عند أهله في تلك الأعصار هذا المساق فما ظنّك بهم لو اُلقي إليهم ما لا يصدّقه ظاهر حسّهم و لا يسعه ظرف فكرهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاضر: أنّ ابن عبّاس ذكر له أنّ معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية الّتي في سورة الكهف( تغرب في عين حامية) قال ابن عبّاس: فقلت لمعاوية: ما نقرؤها إلّا حمئة فسأل معاوية عبدالله بن عمر و كيف تقرؤه؟ فقال عبدالله: كما قرأتها.

قال ابن عبّاس: فقلت لمعاوية: في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب: سل أهل العربيّة فإنّهم أعلم بها، و أمّا أنا فإنّي أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء و طين، و أشار بيده إلى المغرب. قال ابن أبي حاضر: لو أنّي عندكما أيّدتك بكلام تزداد به بصيرة في حمئة. قال ابن عبّاس: و ما هو؟ قلت: فيما نأثر قول تبّع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم و اتّباعه إيّاه:

قد كان ذو القرنين عمّر مسلما

ملكاً تدين له الملوك و تحشد

فأتى المشارق و المغارب يبتغي

أسباب ملك من حكيم مرشد

فرأى مغيب الشمس عند غروبها

في عين ذي خلب و ثأط حرمد

فقال ابن عبّاس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم. قال: فما الثأط؟ قلت: الحمأة. قال: فما الحرمد؟ قلت: الأسود فدعا ابن عبّاس غلاماً فقال له: اكتب ما يقول هذا الرجل.

أقول: و الحديث لا يلائم ما ذهبوا إليه من تواتر القراءات تلك الملائمة و عن التيجان لابن هشام الحديث و فيه أنّ ابن عبّاس أنشد هذه الأشعار لمعاوية و أنّ معاوية سأله عن معنى الخلب و الثأط و الحرمد قال: الخلب الحمأة و الثأط

٤٠٥

ما تحتها من الطين و الحرمد ما تحته من الحصى و الحجر، و قد أورد القصيدة، و هذا الاختلاف يؤذن بشي‏ء في الرواية.

في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً ) قال: لم يعلموا صنعة البيوت.

و في تفسير القمّيّ في الآية قال: لم يعلموا صنعة الثياب.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن عبّاس: في قوله:( حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) قال: الجبلين أرمينيّة و آذربيجان.

و في تفسير العيّاشيّ، عن المفضّل قال: سألت الصادقعليه‌السلام عن قوله:( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً ) قال: التقيّة( فما استطاعوا أن يظهروه و ما استطاعوا له نقبا) إذا عملت بالتقيّة لم يقدروا لك على حيلة، و هو الحصن الحصين، و صار بينك و بين أعداء الله سدّاً لا يستطيعون له نقبا.

و فيه، أيضاً عن جابر عنهعليه‌السلام في الآية قال: التقيّة.

أقول: الروايتان من الجري و ليستا بتفسير.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الأصبغ بن نباتة عن عليّعليه‌السلام :( وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) يعني يوم القيامة.

أقول: ظاهر الآية بحسب السياق أنّه من أشراط الساعة، و لعلّه المراد بيوم القيامة فربّما تطلق على ظهور مقدّماتها.

و فيه، عن محمّد بن حكيم قال: كتبت رقعة إلى أبي عبداللهعليه‌السلام فيها: أ تستطيع النفس المعرفة؟ قال: فقال لا فقلت: يقول الله:( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) قال: هو كقوله:( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ ) قلت: فعابهم؟ قال: لم يعبهم بما صنع هو بهم و لكن عابهم بما صنعوا، و لو لم يتكلّفوا لم يكن عليهم شي‏ء.

أقول: يعني أنّهم تسبّبوا لهذا الحجاب فرجع إليهم تبعته.

٤٠٦

و في تفسير القمّيّ في الآية قال: كانوا لا ينظرون إلى ما خلق الله من الآيات و السماوات و الأرض.

أقول: و في العيون، عن الرضاعليه‌السلام : تطبيق الآية على منكري الولاية و هو من الجري‏.

( كلام حول قصّة ذي القرنين)

و هو بحث قرآنيّ و تاريخيّ في فصول:

١- قصّة ذي القرنين في القرآن: لم يتعرّض لاسمه و لا لتاريخ زمان ولادته و حياته و لا لنسبه و سائر مشخّصاته على ما هو دأبه في ذكر قصص الماضين بل اكتفى على ذكر ثلاث رحلات منه فرحلة اُولى إلى المغرب حتّى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة (أو حامية) و وجد عندها قوماً، و رحلة ثانية إلى المشرق حتّى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترا، و رحلة ثالثة حتّى إذا بلغ بين السدّين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا فشكوا إليه إفساد يأجوج و مأجوج في الأرض و عرضوا عليه أن يجعلوا له خرجاً على أن يجعل بين القوم و بين يأجوج و مأجوج سدّاً فأجابهم إلى بناء السدّ و وعدهم أن يبني لهم فوق ما يأملون و أبى أن يقبل خرجهم و إنّما طلب منهم أن يعينوه بقوّة و قد اُشير منها في القصّة إلى الرجال و زبر الحديد و المنافخ و القطر.

و الخصوصيّات و الجهات الجوهريّة الّتي تستفاد من القصّة هي أوّلاً أنّ صاحب القصّة كان يسمّى قبل نزول قصّته في القرآن بل حتّى في زمان حياته بذي القرنين كما يظهر في سياق القصّة من قوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) ( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) و( قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) .

و ثانياً: أنّه كان مؤمناً بالله و اليوم الآخر و متديّناً بدين الحقّ كما يظهر من قوله:( هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) و قوله:( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى‏ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَ أَمَّا مَنْ

٤٠٧

آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ) إلخ و يزيد في كرامته الدينيّة أنّ قوله تعالى:( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) يدلّ على تأييده بوحي أو إلهام أو نبيّ من أنبياء الله كان عنده يسدّده بتبليغ الوحي.

و ثالثاً: أنّه كان ممّن جمع الله له خير الدنيا و الآخرة، أمّا خير الدنيا فالملك العظيم الّذي بلغ به مغرب الشمس و مطلعها فلم يقم له شي‏ء و قد ذلّت له الأسباب، و أمّا خير الآخرة فبسط العدل و إقامة الحقّ و الصفح و العفو و الرفق و كرامة النفس و بثّ الخير و دفع الشرّ، و هذا كلّه ممّا يدلّ عليه قوله تعالى:( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ سَبَباً ) مضافاً إلى ما يستفاد من سياق القصّة من سيطرته الجسمانيّة و الروحانيّة.

و رابعاً: أنّه صادف قوماً ظالمين بالمغرب فعذّبهم.

و خامساً: أنّ الردم الّذي بناه هو في غير مغرب الشمس و مطلعها فإنّه بعد ما بلغ مطلع الشمس أتبع سبباً حتّى إذا بلغ بين السدّين. و من مشخّصات ردمه مضافاً إلى كونه واقعاً في غير المغرب و المشرق أنّه واقع بين جبلين كالحائطين، و أنّه ساوى بين صدفيهما و أنّه استعمل في بنائه زبر الحديد و القطر، و لا محالة هو في مضيق هو الرابط بين ناحيتين من نواحي الأرض المسكونة.

٢- ذكرى ذي القرنين و السدّ و يأجوج و مأجوج: في أخبار الماضين، لم يذكر القدماء من المورّخين في أخبارهم ملكاً يسمّى في عهده بذي القرنين أو ما يؤدّي معناه من غير اللفظ العربيّ و لا يأجوج و مأجوج بهذين اللفظين و لا سدّاً ينسب إليه باسمه نعم ينسب إلى بعض ملوك حمير من اليمنيّين أشعار في المباهاة يذكر فيها ذا القرنين و أنّه من أسلافه التبابعة و فيها ذكر سيره إلى المغرب و المشرق و سدّ يأجوج و مأجوج و سيوافيك نبذة منها في بعض الفصول الآتية.

و ورد ذكر( مأجوج) و( جوج و مأجوج) في مواضع من كتب العهد العتيق ففي الإصلاح(١) العاشر من سفر التكوين من التوراة:( و هذه مواليد بني

____________________

(١) كتب العهدين مطبوعة بيروت سنة ١٨٧٠ و منها نقل سائر ما نقل في هذه الفصول.

٤٠٨

نوح: سام و حام و يافث و ولد لهم بنون بعد الطوفان. بنو يافث جومر و مأجوج و ماداي و بأوان و نوبال و ماشك و نبراس) .

و في كتاب حزقيال،(١) الإصحاح الثامن و الثلاثون:( و كان إلى كلام الربّ قائلا: يا بن آدم اجعل وجهك على جوج أرض مأجوج رئيس روش ماشك و نوبال، و تنبّأ عليه و قل: هكذا قال السيّد الربّ: ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش و ماشك و نوبال و أرجعك و أضع شكائم في فكّيك و اُخرجك أنت و كلّ جيشك خيلاً و فرساناً كلّهم لابسين أفخر لباس جماعة عظيمة مع أتراس و مجانّ كلّهم ممسكين السيوف. فارس و كوش و فوط معهم كلّهم بمجنّ و خوذة، و جومر و كلّ جيوشه و بيت نوجرمه من أقاصي الشمال مع كلّ جيشه شعوباً كثيرين معك) .

قال:( لذلك تنبّأ يا بن آدم و قل لجوج: هكذا قال السيّد الربّ في ذلك اليوم عند سكنى شعب إسرائيل آمنين أ فلا تعلم و تأتي من موضعك من أقاصي الشمال) إلخ.

و قال في الإصحاح التاسع و الثلاثين ماضياً في الحديث السابق: و أنت يا بن آدم تنبّأ على جوج و قل هكذا قال السيّد الربّ ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش ماشك و نوبال و أردّك و أقودك و اُصعدك من أقاصي الشمال. و آتي بك على جبال إسرائيل و أضرب قوسك من يدك اليسرى و اُسقط سهامك من يدك اليمني فتسقط على جبال إسرائيل أنت و كلّ جيشك و الشعوب الّذين معك أ بذلك مأكلا للطيور الكاسرة من كلّ نوع و لوحوش الحفل، على وجه الحفل تسقط لأنّي تكلمت بقول السيّد الربّ، و اُرسل ناراً على مأجوج و على الساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أنّي أنا الربّ) إلخ.

و في رؤيا يوحنّا في الإصحاح العشرين:( و رأيت ملاكاً نازلاً من السماء معه مفتاح الهاوية و سلسلة عظيمة على يده فقبض على التنيّن الحيّة القديمة الّذي هو إبليس و الشيطان، و قيّده ألف سنة، و طرحه في الهاوية و أغلق عليه و ختم عليه

____________________

(١) و كان بين اليهود أيّام إسارتهم بابل.

٤٠٩

لكيلا يضلّ الاُمم فيما بعد حتّى تتمّ الألف سنة، و بعد ذلك لا بدّ أن يحلّ زماناً يسيراً.

قال:( ثمّ متى تمّت الألف السنّة لن يحلّ الشيطان من سجنه و يخرج ليضلّ الاُمم الّذين في أربع زوايا الأرض جوج و مأجوج ليجمعهم للحرب الّذين عددهم مثل رمل البحر فصعدوا على عرض الأرض، و أحاطوا بمعسكر القدّيسين و بالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء و أكلتهم، و إبليس الّذي كان يضلّهم طرح في بحيرة النار و الكبريت حيث الوحش و النبيّ الكذاب و سيعذّبون نهاراً و ليلاً إلى أبد الآبدين) .

و يستفاد منها أنّ( مأجوج) أو( جوج و مأجوج) اُمّة أو اُمم عظيمة كانت قاطنة في أقاصي شمال آسيا من معمورة الأرض يومئذ و أنّهم كانوا اُمماً حربيّة معروفة بالمغازي و الغارات.

و يقرب حينئذ أن يحدس أنّ ذا القرنين هذا هو أحد الملوك العظام الّذين سدّوا الطريق على هذه الاُمم المفسدة في الأرض، و أنّ السدّ المنسوب إليه يجب أن يكون فاصلاً بين منطقة شماليّة من قارّة آسيا و جنوبها كحائط الصين أو سدّ باب الأبواب أو سدّ( داريال) أو غير هذه.

و قد تسلّمت تواريخ الاُمم اليوم من أنّ ناحية الشمال الشرقيّ من آسيا و هي الأحداب و المرتفعات في شمال الصين كانت موطنا لاُمّة كبيرة بدويّة همجيّة لم تزل تزداد عدداً و تكثر سواداً فتكرّ على الاُمم المجاورة لها كالصين و ربّما نسلت من أحدابها و هبطت إلى بلاد آسيا الوسطى و الدنيا و بلغت إلى شمال اُوربة فمنهم من قطن في أراض أغار عليها كأغلب سكنة اُوربة الشماليّة فتمدين بها و اشتغل بالزراعة و الصناعة، و منهم من رجع ثمّ عاد و عاد(١) .

____________________

(١) و ذكر بعضهم أن يأجوج و مأجوج هم الاُمم الّذين كانوا يشغلون الجزء الشماليّ من آسيا تمتد بلادهم من التبت و الصين إلى المحيط المنجمد الشماليّ و تنتهي غرباً بما يلي بلاد تركستان و نقل ذلك عن فاكهة الخلفاء و تهذيب الأخلاق لابن مسكويه و رسائل إخوان الصفا.

٤١٠

و هذا أيضاً ممّا يؤيّد ما استقربناء آنفاً أنّ السدّ الّذي نبحث عنه هو أحد الأسداد الموجودة في شمال آسيا الفاصلة بين الشمال و جنوبه.

٣- من هو ذو القرنين؟ و أين سدّة؟ للمورّخين و أرباب التفسير في ذلك أقوال بحسب اختلاف أنظارهم في تطبيق القصّة:

أ- ينسب إلى بعضهم أنّ السدّ المذكور في القرآن هو حائط الصين، و هو حائط طويل يحول بين الصين و بين منغوليا بناه( شين ‏هوانك ‏تى) أحد ملوك الصين لصدّ هجمات المغول عن الصين، طوله ثلاثة آلاف كيلومتر في عرض تسعة اُمتار و ارتفاع خمسة عشر متراً و قد بنى بالأحجار شرع في بنائه سنة ٢٦٤ ق م و قد تمّ بناؤه في عشر أو عشرين و على هذا فذو القرنين هو الملك المذكور.

و يدفعه أنّ الأوصاف و المشخّصات المذكورة في القرآن لذي القرنين و سدّة لا تنطبق على هذا الملك و حائط الصين الكبير فلم يذكر من هذا الملك أنّه سار من أرضه إلى المغرب‏ الأقصى، و السدّ الّذي يذكره القرآن يصفه بأنّه ردم بين جبلين و قد استعمل فيه زبر الحديد و القطر و هو النحاس المذاب و الحائط الكبير يمتدّ ثلاثة آلاف كيلومتر يمرّ في طريقه على السهول و الجبال، و ليس بين جبلين و هو مبنيّ بالحجارة لم يستعمل فيه حديد و لا قطر.

ب- نسب إلى بعضهم أنّ الّذي بنى السدّ هو أحد ملوك آشور(١) و قد كان يهجم في حوالي القرن السابع قبل الميلاد أقوام(٢) سيت من مضيق جبال قفقاز إلى أرمينستان ثمّ غربيّ إيران و ربّما بلغوا بلاد آشور و عاصمتها نينوا فأحاطوا بهم قتلاً و سبيا و نهبا فبنى ملك آشور السدّ لصدّهم، و كأنّ المراد به سدّ باب الأبواب المنسوب تعميره أو ترميمه إلى كسرى أنوشيروان من ملوك الفرس هذا. و لكنّ

____________________

(١) منقول عن، كتاب ( كيهان شناخت ) للحسن بن قطان المروزي بن قطان المروزي الطبيب المنجّم المتوفّى سنة ٥٤٨ ه و ذكر فيه أن اسمه ( بلينس ) و سمّاه أيضاً إسكندر.

(٢) كانت هذه الأقوام يسمّون على ما ذكروا عند الغربيّين ( سيت ) و لهم ذكر في بعض النقوش الباقية من زمن ( داريوش ) و يسمّون عند اليونانيّين ( ميكاك ) .

٤١١

الشأن في انطباق خصوصيّات القصّة عليه.

ج- قال في روح المعاني: و قيل: هو يعني ذا القرنين فريدون بن أثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية، و كان ملكاً عادلاً مطيعاً لله تعالى، و في كتاب صور الأقاليم، لأبي زيد البلخيّ: أنّه كان مؤيّداً بالوحي و في عامّة التواريخ أنّه ملك الأرض و قسّمها بين بنيه الثلاثة: إيرج و سلم و تور فأعطى إيرج العراق و الهند و الحجاز و جعله صاحب التاج، و أعطى سلم الروم و ديار مصر و المغرب، و أعطى تور الصين و الترك و المشرق، و وضع لكلّ قانوناً يحكم به، و سميّت القوانين الثلاثة( سياسة) و هي معرّبة( سي أيسا) أي ثلاثة قوانين.

و وجه تسميته ذا القرنين أنّه ملك طرفي الدنيا أو طول أيّام سلطنته فإنّها كانت على ما في روضة الصفا، خمسمائة سنة، أو عظم شجاعته و قهره الملوك انتهى.

و فيه أنّ التاريخ لا يعترف بذلك.

د- و قيل: إنّ ذا القرنين هو الإسكندر المقدونيّ و هو المشهور في الألسن و سدّ الإسكندر كالمثل السائر بينهم و قد ورد ذلك في بعض الروايات كما في رواية قرب الإسناد، عن موسى بن جعفرعليهما‌السلام و رواية عقبة بن عامر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رواية وهب بن منبّه المرويّتين في الدرّ المنثور.

و به قال بعض قدماء المفسّرين من الصحابة و التابعين كمعاذ بن جبل على ما في مجمع البيان، و قتادة على ما رواه في الدرّ المنثور، و وصفه الشيخ أبوعليّ بن سينا عند ما ذكره في كتاب الشفاء، بذي القرنين، و أصرّ على ذلك الإمام الرازيّ في تفسيره الكبير.

قال فيه ما ملخّصه: إنّ القرآن دلّ على أنّ ملك الرجل بلغ إلى أقصى المغرب و أقصى المشرق و جهة الشمال، و ذلك تمام المعمورة من الأرض و مثل هذا الملك يجب أن يبقى اسمه مخلّداً، و الملك الّذي اشتهر في كتب التواريخ أنّ ملكه بلغ هذا المبلغ ليس إلّا الإسكندر.

و ذلك أنّه بعد موت أبيه جمع ملوك الروم و المغرب و قهرهم و انتهى إلى

٤١٢

البحر الأخضر ثمّ إلى مصر، و بنى الإسكندريّة ثمّ دخل الشام و قصد بني إسرائيل و ورد بيت المقدّس، و ذبح في مذبحه. ثمّ انعطف إلى أرمينيّة و باب الأبواب، و دان له العراقيّون و القبط و البربر، و استولى على إيران، و قصد الهند و الصين و غزا الاُمم البعيدة و رجع إلى خراسان و بنى المدن الكثيرة ثمّ رجع إلى العراق و مات في شهرزور أو روميّة المدائن و حمل إلى إسكندريّة و دفن بها، و عاش ثلاثاً و ثلاثين سنة، و مدّة ملكه اثنتا عشرة سنة.

فلمّا ثبت بالقرآن أنّ ذا القرنين ملك أكثر المعمورة، و ثبت بالتواريخ أنّ الذي هذا شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأنّ المراد بذي القرنين هو الإسكندر. انتهى.

و فيه أوّلاً: أنّ الذي ذكره من انحصار ملك معظم المعمورة في الإسكندر المقدونيّ غير مسلّم في التاريخ ففي الملوك من يماثله أو يزيد عليه ملكاً.

و ثانياً: أنّ الذي يذكره القرآن من أوصاف ذي القرنين لا يتسلّمه التاريخ للإسكندر أو ينفيه عنه فقد ذكر القرآن أنّ ذا القرنين كان مؤمناً بالله و اليوم الآخر و هو دين التوحيد و كان الإسكندر وثنيّاً من الصابئين كما يحكى أنّه ذبح ذبيحته للمشتري، و ذكر القرآن أنّ ذا القرنين كان من صالحي عباد الله ذا عدل و رفق و التاريخ يقصّ للإسكندر خلاف ذلك.

و ثالثاً: أنّه لم يرد في شي‏ء من تواريخهم أنّ الإسكندر المقدونيّ بنى سدّ يأجوج و مأجوج على ما يذكره القرآن.

و قال في البداية، و النهاية، في خبر ذي القرنين: و قال إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة قال: إسكندر هو ذو القرنين و أبوه أوّل القياصرة، و كان من ولد سام بن نوح. فأمّا ذوالقرنين الثاني فهو إسكندر بن فيلبس (و ساق نسبه إلى عيص بن إسحاق بن إبراهيم) المقدونيّ اليونانيّ المصريّ باني إسكندريّة الّذي يورّخ بأيّامه الروم، و كان متأخّراً عن الأوّل بدهر طويل.

و كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، و كان أرسطاطاليس الفيلسوف

٤١٣

وزيره، و هو الّذي قتل دارا بن دارا، و أذلّ ملوك الفرس و أوطأ أرضهم.

قال: و إنّما نبّهنا عليه لأنّ كثيراً من الناس يعتقد أنّهما واحد و أنّ المذكور في القرآن هو الّذي كان أرسطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير، و فساد عريض طويل كثير فإنّ الأوّل كان عبداً مؤمناً صالحاً، و ملكاً عادلاً، و كان وزيره الخضر و قد كان نبيّاً على ما قرّرناه قبل هذا، و أمّا الثاني فكان مشركاً، و قد كان وزيره فيلسوفاً، و قد كان بين زمانيهما، أزيد من ألفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان و لا يشتبهان إلّا على غبيّ لا يعرف حقائق الاُمور انتهى.

و فيه تعريض بالإمام الرازيّ في مقاله السابق لكنّك لو أمعنت فيما نقلنا من كلامه ثمّ راجعت كتابه فيما ذكره من قصّة ذي القرنين وجدته لا يرتكب من الخطاء أقلّ ممّا ارتكبه الإمام الرازيّ فلا أثر في التاريخ عن ملك كان قبل المسيح بأكثر من ألفين و ثلاثمائة سنة ملك الأرض من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق و جهة الشمال و بنى السدّ و كان مؤمناً صالحاً بل نبيّاً و وزيره الخضر و دخل الظلمات في طلب ماء الحياة سواء كان اسمه الإسكندر أو غير ذلك.

ه- ذكر جمع من المورّخين أنّ ذا القرنين أحد التبابعة(١) الأذواء اليمنيّين

____________________

(١) كانت مملكة اليمن ينقسم إلى أربعة و ثمانين مخلافاً، و المخلاف بمنزلة القضاء و المديريّة في العرف الحاضر، و كلّ مخلاف يشتمل على عدّة قلاع يسمّى كلّ قلعة قصراً أو محفداً يسكنه جماعة من الاُمّة يحكم فيهم كبير لهم، و كان صاحب القصر الّذي يتولّى أمره يسمّى بذي كذي غمدان و ذي معين أي صاحب غمدان و صاحب معين و الجمع أذواء و ذوين، و الّذي يتولّى أمر المخلاف يسمّى القيل و الجمع أقيال، و الّذي يتولّى أمر مجموع المخاليف يسمّى الملك: و الملك الّذي يضمّ حضرموت و الشحر إلى اليمين و يحكم في الثلاث يسمّى تبع أمّا إذا ملك اليمن فقط فملك و ليس بتبع.

و قد عثر على أسماء خمس و خمسين من الأذواء لكن الملوك منهم ثمانية أذواء هم من ملوك حمير و هم من ملوك الدولة الأخيرة من الدول الحاكمة في اليمن قبل، و قد عدّ منهم أربعة عشر ملكاً، و الّذي يتحصّل من تاريخ ملوك اليمن من طريق النقل و الرواية مبهم جدّاً لا اعتماد على تفاصيله.

٤١٤

من ملوك حمير باليمن كالأصمعي في تاريخ العرب قبل الإسلام، و ابن هشام في السيرة، و التيجان و أبي ريحان البيروني في الآثار الباقية، و نشوان بن سعيد الحميريّ في شمس العلوم، على ما نقل عنهم - و غيرهم -.

و قد اختلفوا في اسمه فقيل اسمه مصعب بن عبدالله، و قيل: صعب بن ذي المرائد و هو أوّل التبابعة، و هو الّذي حكم لإبراهيم في بئر السبع، و قيل: تبّع الأقرن و اسمه حسّان، و ذكر الأصمعيّ أنّه أسعد الكامل الرابع من التبابعة بن حسّان الأقرن ملكي كرب تبّع الثاني ابن الملك تبّع الأوّل، و قيل: اسمه( شمّر يرعش) .

و قد ورد ذكر ذي القرنين و الافتخار به في عدّة من أشعار الحميريّين و بعض شعراء الجاهليّة ففي البداية، و النهاية،: أنشد ابن هشام للأعشى:

و الصعب ذو القرنين أصبح ثاويا

بالجنو في جدث أشمّ مقيما

و قد مرّ في البحث الروائيّ السابق أنّ عثمان بن أبي الحاضر أنشد لابن عبّاس قول بعض الحميريّين:

قد كان ذو القرنين جدّي مسلما

ملكاً تدين له الملوك و تحشد

بلغ المشارق و المغارب يبتغي

أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى مغيب الشمس عند غروبها

في عين ذي خلب و ثأط حرمد

قال المقريزيّ في الخطط: اعلم أنّ التحقيق عند علماء الأخبار أنّ ذا القرنين الّذي ذكره الله في كتابه العزيز فقال:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ سَبَباً ) الآيات عربيّ قد كثر ذكره في أشعار العرب.

و أنّ اسمه الصعب بن ذي مرائد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد بن عاد ذي منح بن عار الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوحعليه‌السلام .

٤١٥

و أنّه ملك من ملوك حمير و هم العرب(١) العاربة، و يقال لهم أيضاً العرب العرباء، و كان ذوالقرنين تبّعاً متوّجاً، و لمّا ولي الملك تجبّر ثمّ تواضع لله، و اجتمع بالخضر، و قد غلط من ظنّ أنّ الإسكندر بن فيلبس هو ذو القرنين الّذي بنى السدّ فإنّ لفظة ذو عربيّة، و ذوالقرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن، و ذاك رومي يونانيّ.

قال أبوجعفر الطبريّ: و كان الخضر في أيّام أفريدون الملك بن الضحّاك في قول عامّة علماء أهل الكتاب الأوّل، و قيل: موسى بن عمرانعليه‌السلام ، و قيل: إنّه كان على مقدّمة ذي القرنين الأكبر الّذي كان على أيّام إبراهيم الخليلعليه‌السلام و أنّ الخضر بلغ مع ذي القرنين أيّام مسيره في البلاد نهر الحياة فشرب من مائه و هو لا يعلم به ذو القرنين و لا من معه فخلد و هو حيّ عندهم إلى الآن، و قال آخرون إنّ ذا القرنين الّذي كان على عهد إبراهيم الخليلعليه‌السلام هو أفريدون بن الضحّاك و على مقدّمته كان الخضر.

و قال أبومحمّد عبدالملك بن هشام في كتاب التيجان، في معرفة ملوك الزمان بعد ما ذكر نسب ذي القرنين الّذي ذكرناه: و كان تبّعاً متوّجاً لمّا ولي الملك تجبّر ثمّ تواضع و اجتمع بالخضر ببيت المقدّس، و سار معه مشارق الأرض و مغاربها و أوتي من كلّ شي‏ء سببا كما أخبر الله تعالى، و بنى السدّ على يأجوج و مأجوج و مات بالعراق.

و أمّا الإسكندر فإنّه يونانيّ، و يعرف بالإسكندر المجدوني (و يقال: المقدوني) سئل ابن عبّاس عن ذي القرنين: ممّن كان؟ فقال: من حمير و هو الصعب بن ذي مرائد الّذي مكّنه الله في الأرض و آتاه من كلّ شي‏ء سبباً فبلغ قرني الشمس و رأس الأرض و بنى السدّ على يأجوج و مأجوج. قيل له: فالإسكندر؟ قال: كان رجلاً صالحاً روميّاً حكيماً بنى على البحر في إفريقيّة مناراً، و أخذ أرض رومة، و أتى بحر العرب، و أكثر عمل الآثار في العرب من المصانع و المدن.

____________________

(١) العرب العاربة هم العرب قبل إسماعيل و أمّا إسماعيل و بنوه فهم العرب المستعربة.

٤١٦

و سئل كعب الأحبار عن ذي القرنين فقال: الصحيح عندنا من أحبارنا و أسلافنا أنّه من حمير و أنّه الصعب بن ذي مرائد، و الإسكندر كان رجلاً من يونان من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليلعليهما‌السلام ، و رجال الإسكندر(١) أدركوا المسيح بن مريم منهم جالينوس و أرسطاطاليس.

و قال الهمدانيّ في كتاب الأنساب،: و ولد كهلان بن سبا زيدا، فولد زيد عريبا و مالكا و غالبا و عميكرب، و قال الهيثم: عميكرب بن سبإ أخو حمير و كهلان فولد عميكرب أبا مالك فدرحا و مهيليل ابني عميكرب، و ولد غالب جنادة بن غالب و قد ملك بعد مهيليل بن عميكرب بن سبإ، و ولد عريب عمراً، فولد عمرو زيداً و الهميسع و يكنّى أبا الصعب و هو ذو القرنين الأوّل، و هو المسّاح و البناء، و فيه يقول النعمان بن بشير:

فمن ذا يعادونا من الناس معشرا

كراما فذو القرنين منّا و حاتم

و فيه يقول الحارثي:

سمّوا لنا واحدا منكم فنعرفه

في الجاهلية لاسم الملك محتملا

كالتبّعين و ذي القرنين يقبله

أهل الحجى فأحقّ القول ما قبلا

و فيه يقول ابن أبي ذئب الخزاعيّ:

و منّا الّذي بالخافقين تغرّبا

و أصعد في كلّ البلاد و صوّبا

فقد نال قرن الشمس شرقا و مغربا

و في ردم يأجوج بنى ثمّ نصبا

و ذلك ذو القرنين تفخر حمير

بعسكر فيل ليس يحصى فيحسبا

قال الهمدانيّ: و علماء همدان تقول: ذو القرنين الصعب بن مالك بن الحارث الأعلى بن ربيعة بن الحيار بن مالك، و في ذي القرنين أقاويل كثيرة. انتهى كلام المقريزيّ.

و هو كلام جامع، و يستفاد منه أوّلاً أنّ لقب ذي القرنين تسمّى به أكثر من واحد من ملوك حمير و أنّ هناك ذا القرنين الأوّل (الكبير) و غيره.

____________________

(١) و هذا لا يوافق ما قطع به التاريخ أنّه ملك ٣٥٦ - ٣٢٤ ق م.

٤١٧

و ثانياً: أنّ ذا القرنين الأوّل و هو الّذي بنى سدّ يأجوج و مأجوج قبل الإسكندر المقدوني بقرون كثيرة سواء كان معاصراً للخليلعليه‌السلام أو بعده كما هو مقتضى ما نقله ابن هشام من ملاقاته الخضر ببيت المقدّس المبنيّ بعد إبراهيم بعدّة قرون في زمن داود و سليمانعليه‌السلام فهو على أيّ حال قبله مع ما في تاريخ ملوك حمير من الإبهام.

و يبقى الكلام على ما ذكره و اختاره من جهتين:

أحدهما: أنّه أين موضع هذا السدّ الّذي بناه التبّع الحميريّ؟.

و ثانيهما: أنّه من هم هذه الاُمّة المفسدة في الأرض الّتي بنى السدّ لصدّهم فهل هذا السدّ أحد الأسداد المبنيّة في اليمن أو ما والاها كسدّ مأرب و غيره فهي أسداد مبنيّة لادّخار المياه للشرب و السقي لا للصدّ على أنّها لم يعمل فيها زبر الحديد و القطر كما ذكره الله في كتابه، أو غيرها؟ و هل كان هناك اُمّة مفسدة مهاجمة، و ليس فيما يجاورهم إلّا أمثال القبط و الآشور و كلدان و غيرهم و هم أهل حضارة و مدنيّة؟.

و ذكر بعض أجلّة المحقّقين(١) من معاصرينا في تأييد هذا القول ما محصّله: أنّ ذا القرنين المذكور في القرآن قبل الإسكندر المقدوني بمآت من السنين فليس هو هو بل هو أحد الملوك الصالحين من التبابعة الأذواء من ملوك اليمن، و كان من شيمة طائفة منهم التسمّي بذي كذي همدان و ذي غمدان و ذي المنار و ذي الإذعار و ذي يزن و غيرهم.

و كان مسلماً موحّداً و عادلاً حسن السيرة و قويّاً ذا هيبة و شوكة سار في جيش كثيف نحو المغرب فاستولى على مصر و ما وراءها ثمّ لم يزل يسير على سواحل البحر الأبيض حتّى بلغ ساحل المحيط الغربيّ فوجد الشمس تغيب في عين حمئة أو حامية.

____________________

(١) و هو العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني.

٤١٨

ثمّ رجع سائراً نحو المشرق و بنى في مسيره( إفريقيّة(١) ) و كان شديد الولع و ذا خبرة في البناء و العمارة، و لم يزل يسير حتّى مرّ بشبه جزيرة و براري آسيا الوسطى و بلغ تركستان و حائط الصين و وجد هناك قوماً لم يجعل الله لهم من دون الشمس سترا.

ثمّ مال إلى الجانب الشماليّ حتّى بلغ مدار السرطان، و لعلّه الّذي شاع في الألسن أنّه دخل الظلمات، فسأله أهل تلك البلاد أن يبني لهم سدّا يصدّ عنهم يأجوج و مأجوج لما أنّ اليمنيّين - و ذو القرنين منهم - كانوا معروفين بعمل السدّ و الخبرة فيه فبنى لهم السدّ.

فإن كان هذا السدّ هو الحائط الكبير الحائل بين الصين و منغوليا فقد كان ذلك ترميماً منه لمواضع تهدّمت من الحائط بمرور الأيّام و إلّا فأصل الحائط إنّما بناه بعض ملوك الصين قبل ذلك، و إن كان سدّا آخر غير الحائط فلا إشكال. و ممّا بناه ذو القرنين و اسمه الأصليّ( شمّر يرعش) في تلك النواحي مدينة سمرقند(٢) على ما قيل.

و أيّد ذلك بأنّ كون ذي القرنين ملكاً عربيّاً صالحاً يسأل عنه الأعراب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يذكره القرآن الكريم للتذكّر و الاعتبار أقرب للقبول من أن يذكر قصّة بعض ملوك الروم أو العجم أو الصين، و هم من الاُمم البعيدة الّتي لم يكن للأعراب هوى في أن يسمعوا أخبارهم أو يعتبروا بآثارهم، و لذا لم يتعرّض القرآن لشي‏ء من أخبارهم. انتهى ملخّصاً.

و الّذي يبقى عليه أنّ كون حائط الصين هو سدّ ذي القرنين لا سبيل إليه فإنّ ذا القرنين قبل الإسكندر بعدّة قرون على ما ذكره و قد بنى حائط الصين بعد

____________________

(١) بناها التبع أقريقس الملك و يقال إنّه ذو القرنين، و قيل إنّه أبو ذي القرنين أو أخوه و به سميت القارة إفريقا.

(٢) يقال إنّه مرّ بناحية تركستان فخرب ( سند ) و بنى ( سمرقند ) فقيل ( شمركند ) أي شمر قلع و خرب سند فبقي شمر اسما له كند ثمّ عربت الكلمة فصارت سمرقند.

٤١٩

الإسكندر بما يقرب من نصف قرن و أمّا غير الحائط الكبير ففي ناحية الشمال الغربيّ من الصين بعض أسداد اُخر لكنّها مبنيّة من الحجارة على ما يذكر لا أثر فيها من زبر الحديد و القطر.

و قال في تفسير الجواهر بعد ذكر مقدّمة ملخّصها أنّ المعروف من دول اليمن بمعونة من النقوش المكشوفة في خرائب اليمن ثلاث دول:

دولة معين و عاصمتها قرناء و قد قدّر العلماء أنّ آثار دولة معين تبتدئ من القرن الرابع عشر قبل الميلاد إلى القرن السابع أو الثامن قبله، و قد عثروا على بعض ملوك هذه الدولة و هم ستّة و عشرون ملكاً مثل( أب يدع) و( أب يدع ينيع) أي المنقد.

و دولة سبإ و هم من القحطانيين كانوا أوّلاً أذواء فأقيالا، و الّذي نبغ منهم( سبأ) صاحب قصر صرواح شرقيّ صنعاء فاستولى على الجميع، و يبتدئ ملكهم من ٨٥٠ ق م إلى ١١٥ ق م و المعروف من ملوكهم سبعة و عشرون ملكاً خمسة عشر منهم يسمّى مكربا كالمكرب( يثعمر) و المكرب( ذمر على) ، و اثنا عشرة منهم يسمّى ملكاً فقط كالملك( ذرح) و الملك( يريم أيمن) .

و دولة الحميريين و هم طبقتان الاُولى ملوك سبإ و ريدان من سنة ١١٥ ق م إلى سنة ٢٧٥ ق م و هؤلاء ملوك فقط، و الطبقة الثانية ملوك سبإ و ريدان و حضرموت و غيرها، و هؤلاء أربعة عشر ملكاً أكثرهم تبابعة أوّلهم( شمّر يرعش) و ثانيهم( ذو القرنين) و ثالثهم( عمرو) زوج بلقيس(١) و ينتهي إلى ذي جدن و يبتدئ ملكهم من سنة ٢٧٥ م إلى سنة ٥٢٥.

ثمّ قال: فقد ظهرت صلة الاتّصاف بلقب( ذي) بملوك اليمن و لا نجد في غيرهم كملوك الروم مثلاً من يلقّب بذي، فذو القرنين من ملوك اليمن، و قد تقدّم

____________________

(١) بلقيس هذه غير ملكة سبإ الّتي يقال إنّ سليمان بن داودعليه‌السلام تزوّج بها بعد ما أحضرها من سبإ و هو سابق على الميلاد بما يقرب من ألف سنة.

٤٢٠