الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 101075
تحميل: 4360


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101075 / تحميل: 4360
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة الإسراء الآيات ٢٣ - ٣٩)

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا  إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ( ٢٣ ) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ( ٢٤ ) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ  إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ( ٢٥ ) وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ( ٢٦ ) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ  وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ( ٢٧ ) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا ( ٢٨ ) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ( ٢٩ ) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ  إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( ٣٠ ) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ  نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ  إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ( ٣١ ) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ  إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ( ٣٢ ) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ  وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ  إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ( ٣٣ ) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ  وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ  إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ( ٣٤ ) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ  ذَٰلِكَ خَيْرٌ

٨١

وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا( ٣٥) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ  إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا( ٣٦) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا  إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا( ٣٧) كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا( ٣٨) ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ  وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا( ٣٩)

( بيان‏)

عدّة من كلّيّات الدين يذكرها الله سبحانه و هي تتبع قوله قبل آيات( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) الآية.

قوله تعالى: ( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) ( أَلَّا تَعْبُدُوا ) إلخ، نفي و استثناء و( أن ) مصدريّة و جوّز أن يكون نهياً و استثناء و أن مصدريّة أو مفسّرة، و على أيّ حال ينحلّ مجموع المستثنى و المستثنى منه إلى جملتين كقولنا: تعبدونه و لا تعبدون غيره و ترجع الجملتان بوجه آخر إلى حكم واحد و هو الحكم بعبادته عن إخلاص.

و القول سواء كان منحلّاً إلى جملتين أو عائداً إلى جملة واحدة متعلّق القضاء و هو القضاء التشريعيّ المتعلّق بالأحكام و القضايا التشريعيّة، و يفيد معنى الفصل و الحكم القاطع المولويّ، و هو كما يتعلّق بالأمر يتعلّق بالنهي و كما يبرم الأحكام المثبتة يبرم الأحكام المنفيّة، و لو كان بلفظ الأمر فقيل: و أمر ربّك أن لا تعبدوا إلّا إيّاه، لم يصحّ إلّا بنوع من التأويل و التجوّز.

و الأمر بإخلاص العبادة لله سبحانه أعظم الأوامر الدينيّة و الإخلاص بالعبادة أوجب الواجبات كما أنّ معصيته و هو الشرك بالله سبحانه أكبر الكبائر الموبقة، قال

٨٢

تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: ٤٨.

و إليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لو لا طاعة غير الله من شياطين الجنّ و الإنس و هوى النفس و الجهل لم يقدم الإنسان على معصية ربّه فيما أمره به أو نهاه عنه و الطاعة عبادة قال تعالى:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) يس: ٦٠، و قال:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) الجاثية: ٢٣، حتّى أنّ الكافر المنكر للصانع مشرك بإلقائه زمام تدبير العالم إلى المادّة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك و هو مقرّ بسذاجة فطرته بالصانع تعالى.

و لعظم أمر هذا الحكم قدّمه على سائر ما عدّ من الأحكام الخطيرة شأناً كعقوق الوالدين و منع الحقوق الماليّة و التبذير و قتل الأولاد و الزنا و قتل النفس المحترمة و أكل مال اليتيم و نقض العهد و التطفيف في الوزن و اتّباع غير العلم و الكبير ثمّ ختمها بالنهي ثانياً عن الشرك.

قوله تعالى: ( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) عطف على سابقه أي و قضى ربّك بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً أو أن أحسنوا بالوالدين إحساناً و الإحسان في الفعل يقابل الإساءة.

و هذا بعد التوحيد لله من أوجب الواجبات كما أنّ عقوقهما أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، و لذلك ذكره بعد حكم التوحيد و قدّمه على سائر الأحكام المذكورة المعدودة و كذلك فعل في عدّة مواضع من كلامه.

و قد تقدّم في نظير الآية من سورة الأنعام - الآية ١٥١ من السورة - أنّ الرابطة العاطفيّة المتوسّطة بين الأب و الاُمّ من جانب و الولد من جانب آخر من أعظم ما يقوم به المجتمع الإنسانيّ على ساقه، و هي الوسيلة الطبيعيّة الّتي تمسك الزوجين على حال الاجتماع فمن الواجب بالنظر إلى السنّة الاجتماعيّة الفطريّة أن يحترم الإنسان والديه بإكرامهما و الإحسان إليهما، و لو لم يجر هذا الحكم و هجر المجتمع الإنسانيّ بطلت العاطفة و الرابطة للأولاد بالأبوين و انحلّ به عقد الاجتماع.

٨٣

قوله تعالى: ( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ) ( إِمَّا ) مركّب من( إن ) الشرطيّة و( ما ) الزائدة و هي المصحّحة لدخول نون التأكيد على فعل الشرط، و الكبر هو الكبر في السنّ و اُفّ كلمة تفيد الضجر و الانزجار، و النهر هو الزجر بالصياح و رفع الصوت و الإغلاظ في القول.

و تخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها أشقّ الحالات الّتي تمرّ على الوالدين فيحسّان فيها الحاجة إلى إعانة الأولاد لهما و قيامهم بواجبات حياتيهما الّتي يعجزان عن القيام بها، و ذلك من آمال الوالدين الّتي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم و تربيتهم في حال الصغر و في وقت لا قدرة لهم على شي‏ء من لوازم الحياة و واجباتها.

فالآية تدلّ على وجوب إكرامهما و رعاية الأدب التامّ في معاشرتهما و محاورتهما في جميع الأوقات و خاصّة في وقت يشتدّ حاجتهما إلى ذلك و هو وقت بلوغ الكبر من أحدهما أو كليهما عند الولد و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع و الخضوع قولاً و فعلاً مأخوذ من خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف اُمّه لتغذيته، و لذا قيّده بالذلّ فهو دأب أفراخ الطيور إذا أرادت الغذاء من اُمّهاتها، فالمعنى واجههما في معاشرتك و محاورتك مواجهة يلوج منها تواضعك و خضوعك لهما و تذلّلك قبالهما رحمة بهما.

هذا إن كان الذلّ بمعنى المسكنة و إن كان بمعنى المطاوعة فهو مأخوذ من خفض الطائر جناحه ليجمع تحته أفراخه رحمة بها و حفظاً لها.

و قوله:( وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) أي اذكر تربيتهما لك صغيراً فادع الله سبحانه أن يرحمهما كما رحماك و ربّياك صغيراً.

قال في المجمع،: و في هذا دلالة على أنّ دعاء الولد لوالده الميّت مسموع و إلّا لم يكن للأمر به معنى. انتهى. و الّذي يدلّ عليه كون هذا الدعاء في مظنّة

٨٤

الإجابة و هو أدب دينيّ ينتفع به الولد و إن فرض عدم انتفاع والديه به على أنّ وجه تخصيص استجابة الدعاء بالوالد الميّت غير ظاهر و الآية مطلقة.

قوله تعالى: ( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ) السياق يعطي أن تكون الآية متعلّقة بما تقدّمها من إيجاب إحسان الوالدين و تحريم عقوقهما، و على هذا فهي متعرّضة لما إذا بدرت من الولد بادرة في حقّ الوالدين من قول أو فعل يتأذّيان به، و إنّما لم يصرّح به للإشارة إلى أنّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يذكر كما لا ينبغي أن يقع.

فقوله:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ) أي أعلم منكم به، و هو تمهيد لما يتلوه من قوله:( إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ ) فيفيد تحقيق معنى الصلاح أي إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم ذلك فإنّه كان إلخ، و قوله:( فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ) أي للراجعين إليه عند كلّ معصية و هو من وضع البيان العامّ موضع الخاصّ.

و المعنى: إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم و رجعتم و تبتم إليه في بادرة ظهرت منكم على والديكم غفر الله لكم ذلك إنّه كان للأوّابين غفوراً.

قوله تعالى: ( وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ) تقدّم الكلام فيه في نظائره، و بالآية يظهر أنّ إيتاء ذي القربى و المسكين و ابن السبيل ممّا شرع قبل الهجرة لأنّها آية مكّيّة من سورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) قال في المجمع: التبذير التفريق بالإسراف، و أصله أن يفرّق كما يفرّق البذر إلّا أنّه يختصّ بما يكون على سبيل الإفساد، و ما كان على وجه الإصلاح لا يسمّى تبذيراً و إن كثر. انتهى.

و قوله:( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ) تعليل للنهي عن التبذير، و المعنى لا تبذّر إنّك إن تبذّر كنت من المبذّرين و المبذّرون إخوان الشياطين، و كأنّ وجه المواخاة بينهم أنّ الواحد منهم يصير ملازما لشيطانه و بالعكس كالأخوين الّذين هما شقيقان متلازمان في أصلهما الواحد كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ قَيَّضْنا

٨٥

لَهُمْ قُرَناءَ ) حم السجدة: ٢٥، و قوله:( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ ) الصافّات: ٢٢ أي قرناءهم، و قوله:( وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) الأعراف: ٢٠٢.

و من هنا يظهر أنّ تفسير من فسّر الآية بأنّهم قرناء الشياطين أحسن من قول من قال: المعنى أنّهم أتباع الشياطين سالكون سبيلهم.

و أمّا قوله:( وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) فالمراد بالشيطان فيه هو إبليس الّذي هو أبوالشياطين و هم ذرّيّته و قبيله و اللّام حينئذ للعهد الذهنيّ و يمكن أن يكون اللّام للجنس و المراد به جنس الشيطان و على أيّ حال كونه كفوراً لربّه من جهة كفرانه بنعم الله حيث أنّه يصرف ما آتاه من قوّة و قدرة و استطاعة في سبيل إغواء الناس و حملهم على المعصية و دعوتهم إلى الخطيئة و كفران النعمة.

و قد ظهرت ممّا تقدم النكتة في جمع الشيطان أوّلاً و إفراده ثانياً فإنّ الاعتبار أوّلاً بأنّ كلّ مبذّر أخو شيطانه الخاصّ فالجميع إخوان للشياطين و الاعتبار ثانياً بإبليس الّذي هو أبوالشياطين أو بجنس الشيطان.

قوله تعالى: ( وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ) أصله إن تعرض عنهم و( ما ) زائدة للتأكيد و النون للتأكيد.

و السياق يشهد بأنّ الكلام في إنفاق الأموال فالمراد بقوله:( وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ) الإعراض عمّن سأله شيئا من المال ينفقه له و يسدّ به خلّته و ليس المراد به كلّ إعراض كيف اتّفق بل الإعراض عند ما ليس عنده شي‏ء من المال يبذله له و ليس بآيس من وجدانه بدليل قوله:( ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ) أي كنت تعرض عنهم لا لكونك مليئاً بالمال شحيحاً به، و لا لأنّك فاقد له آيس من حصوله بل لأنّك فاقد له مبتغ و طالب لرحمة من ربّك ترجوها يعني الرزق.

و قوله:( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ) أي سهلاً ليّناً أي لا تغلظ في القول و لا تجف في الردّ كما قال تعالى:( وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) الضحى: ١٠ بل ردّه بقول سهل ليّن.

قال في الكشّاف: و قوله:( ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) إمّا أن يتعلّق بجواب

٨٦

الشرط مقدّماً عليه أي فقل لهم قولاً سهلاً ليّناً و عدهم وعداً جميلاً رحمة لهم و تطييباً لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربّك أي ابتغ رحمة الله الّتي ترجوها برحمتك عليهم، و إمّا أن يتعلّق بالشرط أي و إن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربّك ترجو أن يفتح لك - فسمّى الرزق رحمة - فردّهم ردّاً جميلاً فوضع الابتغاء موضع الفقد لأنّ فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء و الابتغاء مسبّباً عنه فوضع المسبّب موضع السبب. انتهى.

قوله تعالى: ( وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‏ عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن الإمساك كمن لا يعطي و لا يهب شيئاً لبخله و شحّ نفسه، و بسط اليد كلّ البسط كناية عن إنفاق الإنسان كلّ ما في وجده بحيث لا يبقى شيئاً كمن يبسط يده كلّ البسط بحيث لا يستقرّ عليها شي‏ء ففي الكلام نهي بالغ عن التفريط و الإفراط في الإنفاق.

و قوله:( فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) متفرّع على قوله:( وَ لا تَبْسُطْها ) إلخ و الحسر هو الانقطاع أو العرى أي و لا تبسط يدك كلّ البسط حتّى يتعقّب ذلك أن تقعد ملوماً لنفسك و غيرك منقطعاً عن واجبات المعاش أو عرياناً لا تقدر على أن تظهر للناس و تعاشرهم و تراودهم.

و قيل: إنّ قوله:( فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) متفرّع على الجملتين لا على الجملة الأخيرة فحسب و المعنى إن أمسكت قعدت ملوماً مذموماً و إن أسرفت بقيت متحسّراً مغموماً.

و فيه أنّ كون قوله:( وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) ظاهراً في النهي عن التبذير و الإسراف غير معلوم و كذا كون إنفاق جميع المال في سبيل الله إسرافاً و تبذيراً غير ظاهر و إن كان منهيّاً عنه بهذه الآية كيف و من المأخوذ في مفهوم التبذير أن يكون على وجه الإفساد، و وضع المال و لو كان كثيراً أو جميعه في سبيل الله و إنفاقه على من يستحقّه ليس بإفساد له، و لا وجه للتحسّر و الغمّ على ما لم يفسد و لا أفسد.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً

٨٧

بَصِيراً ) ظاهر السياق أنّ الآية في مقام التعليل لما تقدّم في الآية السابقة من النهي عن الإفراط و التفريط في إنفاق المال و بذله.

و المعنى: إنّ هذا دأب ربّك و سنّته الجارية يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر لمن يشاء فلا يبسطه كلّ البسط و لا يمسك عنه كلّ الإمساك رعاية لمصلحة العباد إنّه كان بعباده خبيراً بصيراً و ينبغي لك أن تتخلّق بخلق الله و تتّخذ طريق الاعتدال و تتجنّب الإفراط و التفريط.

و قيل: إنّها تعليل على معنى أنّ ربّك يبسط و يقبض، و ذلك من الشؤون الإلهيّة المختصّة به تعالى، و ليس لك أن تتّصف به و الّذي عليك أن تقتصد من غير أن تعدل عنه إلى إفراط أو تفريط، و قيل في معنى التعليل غير ذلك، و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) الإملاق الفاقة و الفقر، و قال في المفردات،: الخطأ العدول عن الجهة و ذلك أضرب: أحدها أن تريد غير ما تحسن إرادته و فعله، و هذا هو الخطأ التامّ المأخوذ به الإنسان يقال: خطئ يخطأ و خطأة، قال تعالى:( إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) و قال:( وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) و الثاني أن يريد ما يحسن فعله و لكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال: أخطأ إخطاء فهو مخطئ و هذا قد أصاب في الإرادة و أخطأ في الفعل، و هذا المعنىّ بقوله:( وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ، و الثالث أن يريد ما لا يحسن فعله و يتّفق منه خلافه فهذا مخطئ في الإرادة مصيب في الفعل فهو مذموم بقصده غير محمود على فعله.

و جملة الأمر أنّ من أراد شيئاً فاتّفق منه غيره يقال: أخطأ، و إن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، و قد يقال لمن فعل فعلاً لا يحسن أو أراد إرادة لا يجمل: إنّه أخطأ، و لذا يقال: أصاب الخطأ و أخطأ الصواب و أصاب الصواب و أخطأ الخطأ و هذه اللفظة مشتركة كما ترى متردّدة بين معان يجب لمن يتحرىّ الحقائق أن يتأمّلها. انتهى بتلخيص.

٨٨

و في الآية نهي شديد عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر و الحاجة و قوله( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ ) تعليل للنهي و تمهيد لقوله بعده:( إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) .

و المعنى و لا تقتلوا أولادكم خوفاً من أن تبتلوا بالفقر و الحاجة فيؤدّيهم ذلك إلى ذلّ السؤال أو ازدواج بناتكم من غير الأكفاء أو غير ذلك ممّا يذهب بكرامتكم فإنّكم لستم ترزقونهم حتّى تفقدوا الرزق عند فقركم و إعساركم بل نحن نرزقهم و إيّاكم إنّ قتلهم كان خطأ كبيراً.

و قد تكرّر في كلامه تعالى النهي عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر و خشية من الإملاق، و هو مع كونه من قتل النفس المحترمة الّتي يبالغ كلامه تعالى في النهي عنه إنّما اُفرد بالذكر و اختصّ بنهي خاصّ لكونه من أقبح الشقوة و أشدّ القسوة، و لأنّهم - كما قيل - كانوا يعيشون في أراضي يكثر فيها السنة و يسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح الفاقة و الإعسار بجدب و غيره بادروا إلى قتل الأولاد خوفاً من ذهاب الكرامة و العزّة.

و في الكشّاف: قتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم كانوا يئدونهنّ خشية الفاقة و هي الإملاق فنهاهم الله و ضمن لهم أرزاقهم انتهى، و الظاهر خلاف ما ذكره و أنّ الآيات المتعرّضة لوأد البنات آيات خاصّة تصرّح به و بحرمته كقوله تعالى:( وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) التكوير: ٩، و قوله:( وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى‏ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى‏ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى‏ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) النحل: ٥٩.

و أمّا الآية الّتي نحن فيها و أترابها فإنّها تنهى عن قتل الأولاد خشية إملاق، و لا موجب لحمل الأولاد على البنات مع كونه أعمّ، و لا حمل الهون على خوف الفقر مع كونهما متغايرين فالحقّ أنّ الآية تكشف عن سنّة سيّئة اُخرى غير وأد البنات دفعا للهون و هي قتل الأولاد من ذكر و اُنثى خوفاً من الفقر و الفاقة و الآيات تنهى عنه.

٨٩

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا ) نهي عن الزنا و قد بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن أن يقربوه، و علّله بقوله:( إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً ) فأفاد أنّ الفحش صفة لازمة له لا يفارقه، و قوله:( وَ ساءَ سَبِيلًا ) فأفاد أنّه سبيل سيّي‏ء يؤدّي إلى فساد المجتمع في جميع شؤونه حتّى ينحلّ عقده و يختلّ نظامه و فيه هلاك الإنسانيّة و قد بالغ سبحانه في وعيد من أتى به حيث قال في صفات المؤمنين:( وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً ) الفرقان: ٧٠.

( كلام في حرمة الزنا)

و هو بحث قرآنيّ اجتماعيّ.

من المشهود أنّ في كلّ من الزوجين من الإنسان أعني الذكر و الاُنثى إذا أدرك و صحّت بنيته ميلاً غريزيّاً إلى الآخر و ليس ذلك ممّا يختصّ بالإنسان بل ما نجده من عامّة الحيوان أيضاً على هذه الغريزة الطبيعيّة.

و قد جهّز بحسب الأعضاء و القوى بما يدعوه إلى هذا الاقتراب و التمايل و التأمّل في نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبا في أنّ هذه الشهوة الطبيعيّة وسيلة تكوينيّة إلى التوالد و التناسل الّذي هو ذريعة إلى بقاء النوع، و قد جهّز باُمور اُخرى متمّمة لهذه البغية الطبيعيّة كحبّ الولد و تجهيز الاُنثى من الحيوان ذي الثدي باللبن لتغذّي طفلها حتّى يستطيع التقام الغذاء الخشن و مضغه و هضمه فكلّ ذلك تسخير إلهيّ يتوسّل به إلى بقاء النوع.

و لذلك نرى أنّ الحيوان مع عدم افتقاره إلى الاجتماع و المدنيّة لسذاجة حياته و قلّة حاجته يهتدي حيناً بعد حين بحسب غريزته إلى الاجتماع الزوجيّ - السفاد - ثمّ يلتزم الزوجان أو الاُنثى منهما الطفل أو الفرخ و يتكفّلان أو تتكفّل الاُنثى تغذيته و تربيته حتّى يدرك و يستقلّ بإدارة رحى حياته.

و لذلك أيضاً لم يزل الناس منذ ضبط التاريخ سيرهم و سننهم تجري فيهم سنّة

٩٠

الازدواج الّتي فيها نوع من الاختصاص و الملازمة بين الرجل و المرأة لتجاب به داعية الغريزة و يتوسّل به إلى إنسالّ الذرّيّة، و هو أصل طبيعيّ لانعقاد المجتمع الإنسانيّ فإنّ من الضروريّ أنّ الشعوب المختلفة البشريّة على ما لها من السعة و الكثرة تنتهي إلى مجتمعات صغيرة منزليّة انعقدت في سالف الدهور.

و ما مرّ من أنّ في سنّة الازدواج شي‏ء من معنى الاختصاص هو المنشأ لما كان الرجال يعدّون أهلهم إعراضاً لأنفسهم و يرون الذبّ عن الأهل و صونها من تعرّض غيرهم فريضة على أنفسهم كالذبّ عن أنفسهم أو أشدّ، و الغريزة الهائجة إذ ذاك هي المسمّاة بالغيرة و ليست بالحسد و الشحّ.

و لذلك أيضاً لم يزالوا على مرّ القرون و الأجيال يمدحون النكاح و يعدّونه سنّة حسنة ممدوحة، و يستقبحون الزنا و هو المواقعة من غير علقة النكاح و يستشنعونه في الجملة و يعدّونه إثماً اجتماعيّاً و فاحشة أي فعلاً شنيعاً لا يجهر به و إن كان ربّما وجد بين بعض الأقوام الهمجيّة في بعض الأحيان و على شرائط خاصّة بين الحرائر و الشبّان أو بين الفتيات من الجواري على ما ذكر في تواريخ الاُمم و الأقوام.

و إنّما استفحشوه و أنكروه لما يستتبعه من فساد الأنساب و قطع النسل و ظهور الأمراض التناسليّة و دعوته إلى كثير من الجنايات الاجتماعيّة من قتل و جرح و سرقة و خيانة و غير ذلك و ذهاب العفّة و الحياء و الغيرة و المودّة و الرحمة.

غير أنّ المدنيّة الغربيّة الحديثة لابتنائها على التمتّع التامّ من مزايا الحياة المادّيّة و حرّيّة الأفراد في غير ما تعتني به القوانين المدنيّة سواء فيه السنن القوميّة و الشرائع الدينيّة و الأخلاق الإنسانيّة أباحته إذا وقع من غير كره كيفما كان، و ربّما اُضيف إلى ذلك بعض شرائط جزئيّة اُخرى في موارد خاصّة، و لم تبال بما يستتبعه من وجوه الفساد عناية بحرّيّة الأفراد فيما يهوونه و يرتضونه و القوانين الاجتماعية تراعي رأي الأكثرين.

فشاعت الفاحشة بين الرجال و النساء حتّى عمّت المحصنين و المحصنات و المحارم

٩١

حتّى كاد أن لا يوجد من لم يبتل به و كثر مواليدها كثرة كاد أن تثقل كفّة الميزان و أخذت تضعّف الأخلاق الكريمة الّتي كانت تتّصف بها الإنسانيّة الطبيعيّة و ترتضيها لنفسه بتسنين سنّة الازدواج من العفّة و الغيرة و الحياء يوماً فيوماً حتّى صار بعض هذه الفضائل اُضحوكة و سخريّة، و لو لا أنّ في ذكر الشنائع بعض الشناعة ثمّ في خلال الأبحاث القرآنيّة خاصّة لأوردنا بعض ما نشرته المنشورات من الإحصاءآت في هذا الباب.

و الشرائع السماويّة على ما يذكره القرآن الكريم - و قد مرّت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات ١٥١ - ١٥٣ من سورة الأنعام - تنهى عن الزنا أشدّ النهي و قد كان محرّماً في ملّة اليهود و يستفاد من الأناجيل حرمته.

و قد نهي عنه في الإسلام و عدّ من المعاصي الكبيرة و اُغلظ في التحريم في المحارم كالاُمّ و البنت و الاُخت و العمّة و الخالة، و في التحريم في الزنا، مع الإحصان و هو زنا الرجل و له زوجة و المرأة ذات البعل، و قد اُغلظ فيما شرع له من الحدّ و هو الجلد مائة جلدة و القتل في المرّة الثالثة أو الرابعة لو اُقيم الحدّ مرّتين أو ثلاثاً و الرجم في الزنا مع الإحصان.

و قد أشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله:( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا ) حيث عدّه أوّلاً فاحشة ثمّ وصفه ثانياً بقوله:( وَ ساءَ سَبِيلًا ) و المراد - و الله أعلم - سبيل البقاء كما يستفاد من قوله:( أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) العنكبوت: ٢٩، أي و تتركون إتيان النساء الّذي هو السبيل فتنقطع بذلك و ليس إلّا سبيلاً للبقاء من جهة تسبّبه إلى تولّد المواليد و بقاء النسل بذلك، و من جهة أنّ الازدواج و عقد المجتمع المنزليّ هو أقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدنيّ بعد انعقاده.

فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح و الازدواج إذ لا يبقى له إلّا محنة النفقة و مشقّة حمل الأولاد و تربيتها و مقاساة الشدائد في حفظها و القيام بواجب حياتها و الغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كدّ و تعب، و هو مشهود من

٩٢

حال الشبان و الفتيات في هذه البلاد، و قد قيل لبعضهم: لم لا تتزوّج؟ فقال: و ما أصنع بالازدواج و كلّ نساء البلد نسائي، و لا يبقى حينئذ للازدواج و النكاح إلّا شركة الزوجين في مساعي الحياة الجزئيّة غير التناسل كالشركة في تجارة أو عمل و يسرع إليهما الافتراق لأدنى عذر، و هذا كلّه مشهود اليوم في المجتمعات الغربيّة.

و من هنا أنّهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل و المرأة و جعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الإنسال و تهيئة الأولاد و لا إجابة غريزة الميل الطبيعيّ بل عدوّاً ذلك من الآثار المترتّبة عليه إن توافقا على ذلك و هذا انحراف عن سبيل الفطرة و التأمّل في حال الحيوان على اختلاف أنواعه يهدي إلى أنّ الغاية المطلوبة منه عندها هو إرضاء الغريزة الهائجة و إنسال الذرّيّة و كذا الإمعان في حال الإنسان أوّل ما يميل إلى ذلك يعطي أنّ الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو إرضاء الغريزة و يعقبه طلب الولد.

و لو كانت الغريزة الإنسانيّة الّتي تدفعه إلى هذه السنّة الطبيعيّة إنّما تطلب الشركة في الحياة و التعاون على واجب المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و ما هذا شأنه يمكن أن يتحقّق بين رجلين أو بين امرأتين لظهر أثره في المجتمع البشريّ و استنّ عليه و لا أقلّ في بعض المجتمعات في طول تاريخ الإنسان و تزوّج رجل برجل أحياناً أو امرأة بامرأة و لم تجر سنّة الازدواج على وتيرة واحدة دائماً و لم تقم هذه الرابطة بين طرفين أحدهما من الرجال و الآخر من النساء أبداً.

و من جهة اُخرى أخذ مواليد الزنا في الإزدياد يوماً فيوماً يقطع منابت المودّة و الرحمة و تعلّق قلوب الأولاد بالآباء و يستوجب ذلك انقطاع المودّة و الرحمة من ناحية الآباء بالنسبة إلى الأولاد و هجر المودّة و الرحمة بين الطبقتين الآباء و الأولاد يقضي بهجر سنّة الازدواج للمجتمع و فيه انقراضهم و هذا كلّه أيضاً ممّا يلوح من المجتمعات الغربيّة.

و من التصوّر الباطل أن يتصوّر أنّ البشر سيوفّق يوماً أن يدير رحى مجتمعة باُصول فنّية و طرق علميّة من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعيّة فيهيّأ

٩٣

يومئذ طبقة المواليد مع الاستغناء عن غريزة حبّ الأولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد و الإنسال أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فإنّ السنن القوميّة و القوانين المدنيّة تستمدّ في حياتها بما جهّز به الإنسان من القوى و الغرائز الطبيعيّة فلو بطلت أو اُبطلت انفصم بذلك عقد مجتمعة، و هيئة المجتمع قائمة بأفراده و سننه مبنيّة على إجابتهم لها و رضاهم بها و كيف تجري في مجتمع سنّة لا ترتضيها قرائحهم و لا تستجيبها نفوسهم ثمّ يدوم الأمر عليه.

فهجر الغرائز الطبيعيّة و ذهول المجتمع البشريّ عن غاياته الأصليّة يهدّد الإنسانيّة بهلاك سيغشاها و يهتف بأنّ أمامهم يوماً سيتّسع فيه الخرق على الراقع و إن كان اليوم لا يحسّ به كلّ الإحساس لعدم تمام نمائه بعد.

ثمّ إنّ لهذه الفاحشة أثراً آخر سيّئا في نظر التشريع الإسلاميّ و هو إفساده للأنساب و قد بني المناكح و المواريث في الإسلام عليها.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآية نهي عن قتل النفس المحترمة إلّا بالحقّ أي إلّا أن يكون قتلاً بالحقّ بأن يستحقّ ذلك لقود أو ردّة أو لغير ذلك من الأسباب الشرعيّة، و لعلّ في توصيف النفس بقوله:( حَرَّمَ اللهُ ) من غير تقييد إشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماويّة فيكون من الشرائع العامّة كما تقدّمت الإشارة إليه في ذيل الآيات ١٥١ - ١٥٣ من سورة الأنعام.

و قوله:( وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) المراد بجعل السلطان لوليّه تسليطه شرعاً على قتل قاتل وليّه قصاصاً و الضميران في( فَلا يُسْرِفْ ) و( إِنَّهُ ) للوليّ، و المراد بكونه منصوراً هو التسليط الشرعيّ المذكور.

و المعنى و من قتل مظلوماً فقد جعلنا بحسب التشريع لوليّه و هو وليّ دمه سلطنة على القصاص و أخذ الدية و العفو فلا يسرف الوليّ في القتل بأن يقتل غير القاتل أو يقتل أكثر من الواحد إنّه كان منصوراً أي فلا يسرف فيه لأنّه كان

٩٤

منصوراً فلا يفوته القاتل بسبب أنّا نصرناه أو فلا يسرف اعتماداً على أنّا نصرناه.

و ربّما احتمل بعضهم رجوع الضمير في قوله:( فَلا يُسْرِفْ ) إلى القاتل المدلول عليه بالسياق، و في قوله:( إِنَّهُ ) إلى( مَنْ ) و المعنى قد جعلنا لوليّ المقتول ظلماً سلطنة فلا يسرف القاتل الأوّل بإقدامه على القتل ظلماً فإنّ المقتول ظلماً منصور من ناحيتنا لما جعلنا لوليّه من السلطنة، و هو معنى بعيد من السياق و دونه إرجاع ضمير( إِنَّهُ ) فقط إلى المقتول.

و قد تقدم كلام في معنى القصاص في ذيل قوله تعالى:( وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) البقرة: ١٧٩ في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) نهي عن أكل مال اليتيم و هو من الكبائر الّتي أوعد الله عليها النار قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) النساء: ١٠.

و في النهي عن الاقتراب مبالغة لإفادة اشتداد الحرمة.

و قوله:( إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي بالطريقة الّتي هي أحسن و فيه مصلحة إنماء ماله، و قوله:( حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) هو أوان البلوغ و الرشد و عند ذلك يرتفع عنه اليتم فالتحديد بهذه الجملة لكون النهي عن القرب في معنى الأمر بالصيانة و الحفظ كأنّه قيل: احتفظوا على ماله حتّى يبلغ أشدّه فتردّوه إليه، و بعبارة اُخرى الكلام في معنى قولنا: لا تقربوا مال اليتيم ما دام يتيماً، و قد تقدم بعض ما يناسب المقام في سورة الأنعام آية ١٥٢.

قوله تعالى: ( وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا ) أي مسئول عنه و هو من الحذف و الإيصال السائغ في الكلام، و قيل: المراد السؤال عن نفس العهد فإنّ من الجائز أن تتمثّل الأعمال يوم القيامة فتشهد للإنسان أو عليه و تشفع له أو تخاصمه.

قوله تعالى: ( وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ

٩٥

وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) القسطاس بكسر القاف و ضمّها هو الميزان قيل: روميّ معرّب و قيل: عربيّ، و قيل مركّب في الأصل من القسط و هو العدل و طاس و هو كفّة الميزان و القسطاس المستقيم هو الميزان العادل لا يخسر في وزنه.

و قوله:( ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) الخير هو الّذي يجب أن يختاره الإنسان إذا تردّد الأمر بينه و بين غيره، و التأويل هو الحقيقة الّتي ينتهي إليها الأمر، و كون إيفاء الكيل و الوزن بالقسطاس المستقيم خيراً لما فيه من الاتّقاء من استراق أموال الناس و اختلاسها من حيث لا يشعرون و جلب وثوقهم.

و كونهما أحسن تأويلاً لما فيهما من رعاية الرشد و الاستقامة في تقدير الناس معيشتهم فإنّ معايشهم تقوم في التمتّع بأمتعة الحياة على أصلين اكتساب الأمتعة الصالحة للتمتّع و المبادلة على الزائد على قدر حاجتهم فهم يقدّرون معيشتهم على قدر ما يسعهم أن يبذلوه من المال عينا أو قيمة، و على قدر ما يحتاجون إليه من الأمتعة المشتراة فإذا خسروا بالتطفيف و نقص الكيل و الوزن فقد اختلّت عليهم الحياة من الجهتين جميعاً، و ارتفع الأمن العامّ من بينهم.

و أمّا إذا اُقيم الوزن بالقسط فقد أطلّ عليهم الرشد و استقامت أوضاعهم الاقتصاديّة بإصابة الصواب فيما قدّروا عليه معيشتهم و اجتلب وثوقهم إلى أهل السوق و استقرّ بينهم الأمن العامّ.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) القراءة المشهورة( لا تَقْفُ ) بسكون القاف و ضمّ الفاء من قفا يقفو قفواً إذا اتّبعه و منه قافية الشعر لكونها في آخر المصراع تابعة لما تقدّمها، و قرئ( لا تَقْفُ ) بضمّ القاف و سكون الفاء من قاف بمعنى قفا، و لذلك نقل عن بعض أهل اللغة أنّ قاف مقلوب قفا مثل جبذ مقلوب جذب، و منه القيافة بمعنى اتّباع أثر الأقدام.

و الآية تنهى عن اتّباع ما لا علم به، و هي لإطلاقها تشمل الاتّباع اعتقاداً و عملاً، و تتحصّل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به و لا تقل ما لا علم لك به

٩٦

و لا تفعل ما لا علم لك به لأنّ في ذلك كلّه اتّباعاً.

و في ذلك إمضاء لما تقضي به الفطرة الإنسانيّة و هو وجوب اتّباع العلم و المنع عن اتّباع غيره فإنّ الإنسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله إلّا إصابة الواقع و الحصول على ما في متن الخارج و المعلوم هو الّذي يصحّ له أن يقول: إنّه هو، و أمّا المظنون و المشكوك و الموهوم فلا يصحّ فيها إطلاق القول بأنّه هو فافهم ذلك.

و الإنسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقّاً و يجده واقعاً في الخارج، و يتبع في عمله ما يرى نفسه مصيباً في تشخيصه، و ذلك فيما تيسّر له أن يحصّل العلم به، و أمّا فيما لا يتيسّر له العلم به كالفروع الاعتقاديّة بالنسبة إلى بعض الناس و غالب الأعمال بالنسبة إلى غالب الناس فإنّ الفطرة السليمة تدفعه إلى اتّباع علم من له علم بذلك و خبرة باعتبار علمه و خبرته علما لنفسه فيؤل اتّباعه في ذلك بالحقيقة اتّباعاً لعلمه بأنّ له علماً و خبرة كما يرجع السالك و هو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته و معرفته، و يرجع المريض إلى الطبيب و مثله أرباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلّقة بحوائجهم إلى أصحاب تلك الصناعات.

و يتحصّل من ذلك أنّه لا يتخطّى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدي إليه فطرته غير أنّه يعدّ ما يثق به نفسه و يطمئنّ إليه قلبه علماً و إن لم يكن ذاك اليقين الّذي يسمّى علماً في صناعة البرهان من المنطق.

فله في كلّ مسألة ترد عليه إمّا علم بنفس المسألة و إمّا دليل علميّ بوجوب العمل بما يؤدّيه و يدلّ عليه، و على هذا ينبغي أن ينزّل قوله سبحانه:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) فاتّباع الظنّ عن دليل علميّ بوجوب اتّباعه اتّباع للعلم كاتّباع العلم في مورد العلم.

فيؤل المعنى إلى أنّه يحرم الاقتحام على اعتقاد أو عمل يمكن تحصيل العلم به إلّا بعد تحصيل العلم، و الاقتحام على ما لا يمكن فيه ذلك إلّا بعد الاعتماد على

٩٧

دليل علميّ يجوّز الاقتحام و الورود و ذلك كأخذ الأحكام عن النبيّ و اتّباعه و إطاعته فيما يأمر به و ينهى عنه عن قبل ربّه و تناول المريض ما يأمر به الطبيب و الرجوع إلى أصحاب الصنائع فيما يرجع إلى صناعتهم فإنّ الدليل العلميّ على عصمة النبيّ دليل علميّ على مطابقة ما يخبر به أو ما يأمر به و ينهى عنه الواقع و أصابة من اتّبعه الصواب، و الحجّة العلميّة على خبرة الطبيب في طبّه و أصحاب الصناعات في صناعاتهم حجّة علميّة على أصابة من يرجع إليهم فيما يعمل به.

و لو لا كون الاقتحام على العمل عن حجّة علميّة على وجوب الاقتحام اقتحاماً علميّاً لكانت الآية قاصرة عن الدلالة على مدلولها من رأس فإنّ الطريق إلى فهم مدلول الآية هو ظهورها اللفظيّ فيه، و الظهور اللفظيّ من الأدلّة الظنّيّة غير أنّه حجّة عن دليل علميّ و هو بناء العقلاء على حجّيّته فلو كان غير ما تعلّق العلم به بعينه ممّا لا علم به مطلقاً لكان اتّباع الظهور و منه ظهور نفس الآية منهيّاً عنه بالآية و كانت الآية ناهية عن اتّباع نفسه فكانت ناقضة لنفسها.

و من هنا يظهر اندفاع ما أورده بعضهم في المقام كما عن الرازيّ في تفسيره أنّ العمل بالظنّ كثير في الفروع فالتمسّك بالآية تمسّك بعامّ مخصوص و هو لا يفيد إلّا الظنّ فلو دلّت على أنّ التمسّك بالظنّ غير جائز لدلّت على أنّ التمسّك بها غير جائز فالقول بحجيّتها يقضي إلى نفيه و هو غير جائز.

و فيه أنّ الآية تدلّ على عدم جواز اتّباع غير العلم بلا ريب غير أنّ موارد العمل بالظنّ شرعاً موارد قامت عليها حجّة علميّة فالعمل فيها بالحقيقة إنّما هو عمل بتلك الحجج العلميّة و الآية باقية على عمومها من غير تخصّص، و لو سلّم فالعمل بالعامّ المخصّص فيما بقي من الأفراد سالمة عن التخصيص عمل بحجّة عقلائيّة نظير العمل بالعامّ غير المخصّص من غير فرق بينهما البتّة.

و نظيره الاستشكال فيها بأنّ الطريق إلى فهم المراد من الآية هو ظهورها و الظهور طريق ظنّي فلو دلّت الآية على حرمة اتّباع غير العلم لدلّت على حرمة الأخذ بظهور نفسها، و لازمها حرمة العمل بنفسها.

٩٨

و يردّه ما تقدّمت الإشارة إليه أن اتّباع الظهور اتّباع لحجّة علميّة عقلائيّة و هي بناء العقلاء على حجيّته فليس اتّباعه من اتّباع غير العلم بشي‏ء.

و قوله:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) تعليل للنهي السابق في قوله:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) .

و الظاهر المتبادر إلى الذهن، أنّ الضميرين في( كانَ عَنْهُ ) راجعان إلى( كُلُّ ) فيكون( عَنْهُ ) نائب فاعل لقوله:( مَسْؤُلًا ) مقدّماً عليه كما ذكره الزمخشريّ في الكشّاف، أو مغنياً عن نائب الفاعل، و قوله:( أُولئِكَ ) إشارة إلى السمع و البصر و الفؤاد، و إنّما عبّر عنها باُولئك المختصّ بالعقلاء لأنّ كون كلّ منها مسئولاً عنه يجريه مجرى العقلاء و هو كثير النظير في كلامه تعالى.

و ربّما منع بعضهم كون( اُولئك ) مختصّاً بالعقلاء استناداً إلى قول جرير:

ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى

و العيش بعد اُولئك الأيّام

و على ذلك فالمسؤل هو كلّ من السمع و البصر و الفؤاد يسأل عن نفسه فيشهد للإنسان أو عليه كما قال تعالى:( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) يس: ٦٥.

و اختار بعضهم رجوع ضمير( عَنْهُ ) إلى( كُلُّ ) و عود باقي الضمائر إلى القافي المدلول عليه في الكلام فيكون المسؤل هو القافي يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده كيف استعملها؟ و فيما استعملها؟ و عليه ففي الكلام التفات عن الخطاب إلى الغيبة، و كان الأصل أن يقال: كنت عنه مسؤلاً. و هو بعيد.

و المعنى: لا تتّبع ما ليس لك به علم لأنّ الله سبحانه سيسأل عن السمع و البصر و الفؤاد و هي الوسائل الّتي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم، و المحصّل من التعليل بحسب انطباقه على المورد أنّ السمع و البصر و الفؤاد إنّما هي نعم آتاها الله الإنسان ليشخّص بها الحقّ و يحصل بها على الواقع فيعتقد به و يبني عليه عمله و سيسأل عن كلّ منها هل أدرك ما استعمل فيه إدراكاً علميّاً؟ و هل اتّبع الإنسان ما حصّلته تلك الوسيلة من العلم؟

٩٩

فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوماً مقطوعاً به؟ و عن البصر هل كان ما رآه ظاهراً بيّنا؟ و عن الفؤاد هل كان ما فكّره و قضى به يقينيّاً لا شكّ فيه؟ و هي لا محالة تجيب بالحقّ و تشهد على ما هو الواقع فمن الواجب على الإنسان أن يتحرّز عن اتّباع ما ليس له به علم فإنّ الأعضاء و وسائل العلم الّتي معه ستسأل فتشهد عليه فيما اتّبعه ممّا حصّلته و لم يكن له به علم و لا يقبل حينئذ له عذر.

و مآله إلى نحو من قولنا: لا تقف ما ليس لك به علم فإنّه محفوظ عليك في سمعك و بصرك و فؤادك، و الله سائلها عن عملك لا محالة، فتكون الآية في معنى قوله تعالى:( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ - إلى أن قال -وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) حم السجدة: ٢٠ - ٢٣ و غيرها من آيات شهادة الأعضاء.

غير أنّ الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الإنسان و هو الّذي به يشعر الإنسان ما يشعر و يدرك ما يدرك، و هو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر أن يوقف الله النفس الإنسانيّة فيسألها عمّا أدركت فتشهد على الإنسان نفسه.

و قد تبيّن أنّ الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به سواء كان اعتقاداً مع الجهل أو عملاً مع الجهل بجوازه و وجه الصواب فيه أو ترتيب أثر لأمر مع الجهل به و ذيلها يعلّل ذلك بسؤاله تعالى السمع و البصر و الفؤاد، و لا ضير في كون العلّة أعمّ ممّا علّلتها فإنّ الأعضاء مسؤلة حتّى عمّا إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام قال تعالى:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) الآية.

قال في المجمع، في معنى قوله:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) معناه لا تقل: سمعت و لم تسمع و لا رأيت و لم تر و لا علمت و لم تعلم عن ابن عبّاس و قتادة، و قيل: معناه لا تقل في قفا غيرك كلاماً أي إذا مرّ بك فلا تغتبه عن الحسن، و قيل: هو

١٠٠