الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٧

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 417

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 417
المشاهدات: 170806
تحميل: 4521


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 417 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 170806 / تحميل: 4521
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 7

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عصورهم فلم يشيدوا بذكره؟ أو رؤا فيه غلوًّا فاحشاً بتقديم لحية أبي بكر على شيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطووا عن روايته كشحاً؟ أو عقلوا فيه مهزأة بالله ووحيه وأمينه ونبيِّه فضربوا عنه صفحاً؟

وللقوم حول شيبة أبي بكر روايات منها ما أسلفناه في الجزء الخامس ص ٢٧٠ من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا اشتاق إلى الجنَّة قبّل شيبة أبي بكر. ومرَّ هنالك أنَّها من أشهر المشهورات من الموضوعات، ومن المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل كما قاله الفيروز آبادي والعجلوني.

ومنها ما ذكره العجلوني في كشف الخفا ١ ص ٢٣٣ من أنَّ لابراهيم الخليل وأبي بكر الصدِّيق شيبةٌ في الجنَّة.

ثمَّ قال: في المقاصد نقلاً عن شيخه ابن حجر: لم يصحَّ أنَّ للخليل في الجنَّة لحية ولا للصدِّيق، ولا أعرف ذلك في شييء من كتب الحديث المشهورة ولا الأجزاء المنثورة. ثمَّ قال: وعلى تقدير ثبوت وروده فيظهر لي أنَّ الحكمة في ذلك: أمّا في حقِّ الخليل فلكونه مُنزَّلاً منزلة الوالد للمسلمين لأنَّه الذي سمّاهم بالمسلمين و اُمروا باتِّباع ملّته، وأمّا في حقِّ الصدِّيق فلأنَّه كالوالد الثَّاني للمسلمين، إذ هو الفاتح لهم باب الدخول على الإسلام.

قال الأميني: إنَّ الذي سمّى الاُمَّة المرحومة بالمسلمين هو الله سبحانه كما في قوله تعالى: جاهدوا في الله حقَّ جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم هو سمَّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا. (الحج ٧٨).

وإن أمكنت التسمية من ابراهيم من قبلُ فإنَّها غير ممكنة منه في هذا وهو القرآن الكريم، وإنَّما وقع ذكر ملّة ابراهيم في البين إمتناناً منه سبحانه على الاُمَّة بجعل الإسلام شريعة سهلة لا حرج فيها ترغيباً في الدخول فيه. فالقول بأنَّ إبراهيم سمَّاهم مسلمين لا يتمُّ مع قوله تعالى: « وفي هذا » يعني في القرآن. قال القرطبي: هذا القول مخالفٌ لقول عظماء الامَّة. وقال القرطبي: هذا لا وجه له لأنَّه من المعلوم انَّ ابراهيم لم يسمّ هذه الاُمَّة في القرآن المسلمين.

وقال ابن عبّاس: الله سمّاكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدِّمة وفي

٢٤١

الذِّكر. وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل وقتادة وابن مبارك.

وتدلُّ على تعيّن هذا القول قرائة أبيّ بن كعب: ألله سمّاكم المسلمين. كما في تفسير البيضاوي ٢ ص ١١٢، وكشَّاف الزمخشري ٢ ص ٢٨٦، وتفسير الرازي ٦ ص ٢١٠، وتفسير ابن الجزي الكلبي ٣ ص ٤٧.

واستقربه الرازي في تفسيره فقال: لأنَّه تعالى قال: ليكون الرسول شهيداً عليكم ويكونوا شهداء على الناس. فبيّن أنّه سمَّاهم بذلك لهذا الغرض وهذا لا يليق إلّا بالله.

واستصوبه إبن كثير في تفسيره ٣ ص ٢٣٦ وقال: لأنَّه تعالى قال: هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حَرَج. ثمَّ حثَّهم وأغراهم على ما جاء به الرَّسول صلوات الله عليه بأنَّه ملّة أبيهم الخليل، ثمَّ ذكر منَّته تعالى على هذه الاُمّة بما نوَّه به من ذكرها والثناء عليه في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يُتلى على الأحبار والرهبان فقال: هو سمّاكم المسلمين من قبلُ. أي من قبل هذا القرآن. وفي هذا.

وبهذا تعرف قيمة ما حسبه المتفلسف من أنَّ تنزيل ابراهيم منزلة الأب للمسلمين لمحض التسمية فانَّه ممّا لا يُقام له وزنٌ وإلّا لوجب إتِّخاذ من سمّى أحداً باسمٍ أباً تنزيليّاً ومن المعلوم بطلانه، وإنّما سمّاه الله أباً للمسلمين لأنَّهعليه‌السلام أب الرسول الأمين وإنَّ قريشاً من ذريّته وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو الاُمّة واُمّته في حكم أولاده وأزواجه أمّهاتهم كما ورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله: إنّما أنا لكم كالوالد. أو: مثل الوالد(١) .

أنا لا أدري ما هي الخاصّة في الأب التنزيليِّ لاُمّة خاصّة أن تكون له لحية في الجنّة دون الأب الحقيقيِّ للاُمم جمعاء، وهو أبو البشر آدمعليه‌السلام ، ولا لحية له؟ مع ما ورد عن كعب الأحبار أنّه قال: ليس أحدٌ في الجنة له لحية إلّا آدم، له لحية سوداء إلى سرَّته. ذكره ابن كثير في تاريخه ١: ٩٧.

وإن كانت الحكمة في لحية ابراهيم الخليل وأبي بكر ما زعمه العجلوني من الاُبوَّة فما الحكمة في لحية موسى بن عمران؟ وقد جاء في الحديث ليس أحدٌ يدخل الجنَّة إلاّ جرد مرد إلّا موسى بن عمران فانَّ لحيته إلى سرَّته (السيرة الحلبيَّة ١: ٤٢٥).

____________________

١ - تفسير الخازن ٣ ص ٣١٤، تفسير النسفى هامش الخازن ٣ ص ٣١٤.

٢٤٢

ثم إنَّ للامَّة المسلمة أباً تنزيليّاً روحيّاً هو أحقُّ بالأبوَّة من الخليلعليه‌السلام وهو نبيّها الأقدس محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما مرّ حديثه، وبها حياتها الحقيقيَّة، وهو الذي يدعوهم لما يحييهم، ومنه كيانها المستقرُّ، وعزُّ ها الخالد، فهو أولى باللحية من أبيه الخليل وصاحبه أبي بكر.

والعجب كلّ العجب في عدِّ أبي بكر أباً ثانياً للأمّة لأنَّه فتح لها باب الدخول إلى الاسلام، وإنَّ الذي فتح باب الاسلام بمصراعيه لدخول الاُمم فيه، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعوته الكريمة، وبراهينه الصادقة، ومعاجزه المعلومة، ونواميسه المقدَّسة، وخلايقه الرضيَّة، ومغازيه الدامية. فهو أولى بأن تكون له لحية في الجنَّة.

على انَّ الأمَّة قطُّ لم تعرف باباً فتحه الخليفة لها إلى الاسلام، ولم يدر أيّ أحد أنَّه متى فتحه، وأين فتحه، ولماذا فتحه، وأيّ باب هو نعم لا تخفى على الأمَّة جمعاء انَّه غلّق بابا عليها وحرمها من خير أهله وعلمه ورشده وهداه، ألا: وهو باب مدينة علم النبيِّ مولانا أمير المؤمنين بالنصِّ المتواتر، وهو الباب الذي منه يؤتى إلى الله، و اليه يتوجَّه الأولياء، فلولا انتزاع الأمر منه لانتشرت علومه، وزهرت معالمه، وتبلّغت حكمه، وعمل باحكامه، فأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم، منهم اُمَّةٌ مقتصدة وكثيرٌ منهم ساء ما يعملون، لكّنهعليه‌السلام مُنع عن حقِّه فجهلت العباد، وأجدبت البلاد، وصوّحت المرابع، وظهر الفساد في البرِّ والبحر بما كسبت أيدي الناس، وإلى الله المشتكى.

وإن أراد القائل من فتح الباب بدئة الفتوح في أيّام الخليفة؟ فالخليفة الثاني على ذلك أجدر باللحية منه، لأنَّ عمدة الفتوح وقعت في أيّامه.

نعم: إن يكن هناك مَن يحقُّ أن يعدَّ للامَّة أباً ثانياً تنزيلاً بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي به كان تمام الدعوة؟ والنجاح في المغازي، وهو نفس النبيِّ القدسيَّة وخَليفته المنصوص عليه، ولذلك جاء من طريق أنس بن مالك عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله: حقُّ عليٍّ على هذه الاُمَّة كحقِّ الوالد على الولد، ومن طريق عمّار و أبي أيّوب الأنصاري قوله: حقُّ عليّ على كلِّ مسلم حقُّ الوالد على ولده(١) .

____________________

١ - الرياض النضرة ٢ ص ١٧٢ نقلا عن الحاكمى، كنوز الدقائق ص ٦٤ نقلا عن الديلمى، مناقب الخوارزمى ص ٢٤٤، ٢٥٤، فرائد السمطين لشيخ الاسلام الحمويى، نزهة المجالس ٢ ص ٢١٢.

٢٤٣

- ٣ -

شهادة أبي بكر وجبرئيل

ذكر النسفي انَّ رجلاً مات بالمدينة فأراد النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلّي عليه فنزل جبريل وقال: يا محمّد لا تُصلِّ عليه.

فامتنع فجاء أبو بكر فقال: يا نبيَّ الله صلِّ عليه فما علمتُ منه إلّا خيراً. فنزل جبريل وقال: يا محمَّد صلِّ عليه، فإنَّ شهادة أبي بكر مقدّمة على شهادتي، مصباح الظلام للجرداني ٢ ص ٢٥، نزهة المجالس ٢ ص ١٨٤.

قال الأميني: هلمّ معي نناقش راوي هذه السفسطة الحساب بعد أن لم نقف لها على اسناد نناقش رجاله، ونسائله عن أنَّ ما أدّاه جبريل من الشهادة أكان من عند نفسه؟ ولم يكن لأمين الله على وحيه أن يأتي رسوله بشيء من قِبَل نفسه فحابا أبا بكر بتقديم شهادته أم كان وحياً من المولى سبحانه؟ - وهو المطَّرد في كلِّ هبوط له إلى الرسول الأمين - فأبطل ذلك الوحي المبين مجازفةً لمحض انَّ أبا بكر شهدِّ بضدِّ ما جاء به؟ وأيّاً ما كان فإنَّ اخباره كان لا محالة عن عدم تأهّل الرجل في الواقع للصَّلاة عليه في صورة نهي مفيد للتحريم، ومؤدّاه انّ الله سبحانه يبغض أن ترفع اليه صلاةٌ على مثله من نبيِّه والمحبوب، فهل يكون قول أبي بكر بتأهّله المستنبط من ظاهر الحال الذي يخطأ ويصيب، ولا شكَّ انَّه مخطأ في هذه المورد بالخصوص لنزول الوحي بخلافه، فهل يكون قولٌ هذا شأنه مبطلاً للوحي المبين؟ تبصّر واحكم.

- ٤ -

خاتم النبيِّ وسجلّه

روي أنَّ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفع خاتمه الى أبي بكر وقال: اكتب عليه: لا إ~له إلّا الله، فدفعه أبو بكر إلى النقّاش وقال: اكتب عليه: لا إ~له إلّا الله، محمَّد رسول الله. فكتب عليه. فلمّا جاء به أبو بكر إلى النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجد عليه لا إ~له إلّا الله محمّد، رسول الله، أبو بكر الصدِّيق. فقال: ما هذه الزيادة يا أبا بكر؟ فقال: ما رضيت أن افرِّق اسمك عن اسم الله، وأمّا الباقي فما قلته فنزل جبريل وقال: إنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: إنِّي كتبت اسم أبي بكر لأنَّه ما رضي أن يفرِّق اسمك عن اسمي، فأنا ما رضيت أن افرِّق

٢٤٤

إسمه عن اسمك. نزهة المجالس للصفوري ٢ ص ١٨٥ نقلاً عن تفسير الرازي، مصباح الظلام للجرداني ص ٢٥.

قال الأميني: المتسام عليه بين المحدِّثين انَّ نقش خاتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان « محمّد رسول الله » بلا أيِّ زيادة ففي الصِّحاح عن أنس انَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صنع خاتماً من ورق ونقش فيه: محمَّدٌ رسول الله. وقال: فلا ينقش أحدٌ على نقشه.

صحيح البخاري ٨: ٣٠٩، صحيح مسلم ٢: ٢١٤، ٢١٥، صحيح الترمذي ١: ٣٢٤. سنن ابن ماجة ٢: ٣٨٤، ٣٨٥، سنن النسائي ٨: ١٧٣.

وفي رواية البخاري والترمذي عن انس قال: كان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمَّد، سطر. ورسول، سطر. والله سطر. « صحيح البخاري ٨: ٣٠٩، صحيح الترمذي ١: ٣٢٥ »

وروى ابن سعد في طبقاته من مرسل ابن سيرين انَّ نقشه كان: بسم الله محمَّدٌ رسول الله. وقال ابن حجر: ولم يتابع على هذه الزيادة. ذكره عنه الزرقاني في شرح المواهب ٥: ٣٩.

وأخرج أبو الشيخ في الأخلاق النبويَّة من رواية عرعرة بن البرند عن انس قال: كان مكتوباً على فصِّ خاتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا إ~له إلّا الله. محمَّدٌ رسول الله. قال ابن حجر في فتح الباري ١٠: ٢٧٠: عرعرة ضعّفه ابن المديني وزيادته هذه شاذَّة. وقال الزرقاني في شرح المواهب ٥: ٣٩: كان نقش الخاتم النبويِّ كما في الصحيحين وغيرهما. محمَّدٌ رسول الله. فلا عبرة بهذه الرِّواية كرواية انّه كان فيه كلمتا الشهادة معاً، ورواية ابن سعد عن أبي العالية أنَّ نقشه: صدق الله. ثمَّ ألحق الخلفاء: محمَّدٌ رسول الله.

فما قيمة ما جاء به من النقش صوّاغ القرون المتأخِّرة، وصاغته يد الإفك والغلوِّ بعد لأي من وفاة النبيِّ الأعظم وانقطاع الوحي عنه، ولا يوجد في تآليف الأوَّلين منه عين ولا أثر؟ وأنت ترى السلف حاكمين في حديث زيادة كلمة الاخلاص والبسملة بالشذوذ وانَّه لا عبرة به ولا يُتابع عليه، ولا يبحث أيُّ متضلع في الفنِّ عن هذه الزيادة المختلفة التي لا صلة لها بالموضوع، وليست هي إلّا إستهزاءً بالله ونبيِّه ووحيه. وأمين وحيه.

٢٤٥

ثمَّ قد صحَّ عند القوم انَّ ذلك الخاتم المنقوش الخاصّ بالنبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « وكان يتختم به ويختمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن له خاتم غيره ولم يحتمل التعدُّد قطُّ أحدٌ في رفع اختلاف أحاديث النقش » كان عند أبي بكر في يمينه بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعده في يد عمر، و بعده عند عثمان في يمينه وسقط سنة ثلاثين من يده أو: من يد غيره. في بئر أريس(١) واتَّخذ له خاتماً آخر(٢) وفي رواية ابن سعد عن الأنصاري كما في فتح الباري ١٠: ٢٧٠ وسنن النسائي ٨: ١٧٩: انّه كان في يد عثمان ستَّ سنين من عمله. فلو كانت تلكم الاُسطورة صحيحة وكان إسم الخليفة منقوشاً في خاتم كان يلبسه النبيُّ الأقدس طيلة حياته وتنظر إليه الصحابة من كثَب وترى بريقه في خنصره كما في صحيح البخاري ٨: ٣٠٨، ٣٠٩ كان حقّاً على الخليفة والخاتم بيده أن يحتجَّ بها يوم تسنَّم عرش الخلافة، وكان هناك حوارٌ وصخبٌ، لكنَّه لم يحتج لأنَّ ذلك الخاتم ما كان مصوغاً بعدُ ولا منقوشاً، ولم يُعط من المغيّب انّه يُستنحت له ذلك بعد قرون متطاولة.

وكان حقّاً على الصحابة الملتاثين به أن يحتجّوا بذلك النقش المصنوع في عالم الملكوت، فإنَّ الاحتجاج به أولى من الاحتجاج بكبر السنِّ وأمثاله، لكنَّهم تركوا الحِجاج لأنَّ هذا المولود لم يكن يولد بعدُ، وإنَّما ولدته اُمُّ الغلوِّ في الفضائل في آخر الدهر.

ولا يتأتّى لأحد عرفان سرِّ ما جاء به جبريل الخيالي من القرآن بين اسم النبيِّ الأعظم وبين اسم أبي بكر في ذلك النقش المصوغ في عالم الغيب، أكان أبو بكر نفس النبيِّ الأعظم بنصِّ القرآن الكريم؟ أم كان قرينه في العصمة والقداسة في الذكر الحكيم؟ أم نزلت فيه آية التبليغ مع ذلك الإرهاب؟ أم أكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة كما بدء بالنبيِّ الطاهر؟ ام كان رديف النبيِّ الأقدس في الإسلام والدعوة إلى الله من أوَّل يومه؟ أم كان وصيَّه وخليفته المنصوص عليه من بدء الدعوة؟ أم قُرنت طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته كما في صحاح جاءت عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أم كان نظيره في اُمَّته بنصٍّ منه

____________________

١ - هى ميلين من المدينة وهى من أقل الآبار ماء.

٢ - صحيح البخارى ٨: ٣٠٦، صحيح مسلم ٢: ٢١٤، سنن النسائى ٨: ١٧٩، تاريخ الطبرى ٥: ٦٥، تاريخ ابن كثير ٨: ١٥٥، تاريخ الخميس ٢: ٢٢٣، ٢٦٩ تاريخ ابى الفدا ج ١: ١٦٨.

٢٤٦

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أم؟ أم؟ إلى مائة أم. لِماذا ذلك القِران؟ أنا لا أدري، ومختلق الرواية ايضاً لا يدري.

- ٥ -

عَرض جنَّة أبي بكر

قال الصفوري في نزهة المجالس ٢ ص ١٨٣: رأيت في الحديث انَّ الملائكة اجتمعت تحت شجرة طوبى فقال ملكٌ: وددت انَّ الله تعالى أعطاني قوَّة ألف ملك، وكساني ريش ألف طير، فأطير حول الجنَّة حتى أبلغ طرفها، فأعطاه الله ذلك فطار ألف سنة حتّى ذهبت قوَّته وتساقط ريشه، ثمَّ أعطاه الله تعالى قوَّةً وأجنحة فطار الف سنة ثانية حتّى ذهبت قوَّته وتساقط ريشه، ثمَّ أعطاه الله تعالى قوَّة وأجنحة فطار ألف سنة ثالثة حتّى ذهبت قوَّته وتساقط ريشه، فوقع على باب قصر باكياً فأشرفت عليه حوراء فقالت: أيُّها الملك مالي أراك باكياً وليست هذه بدار بكاء وحزن، وإنَّما هي دار فرح وسرور؟ فقال: لأنِّي عارضت الله في قدرته. ثمَّ أعلمها بحديثه، فقالت له: لقد خاطرت بنفسك أتدري كم طرت في هذه الثلاثة آلاف سنة؟ قال: لا. قالت: وعزَّة ربِّي ما طرت أكثر من جزء واحد من عشرة آلاف جزء ممّا أعدَّه الله تعالى لأبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه. وذكره الجرداني في مصباح الظلام ٢ ص ٢٥. قال الأميني: فمجموع ما أعدَّه الله تعالى لأبي بكر في الجنَّة هو مسير ثلاثين ألف ألف سنة لطائر يطير بقوَّة ألف.

ملك وريش ألف طير، جلّت قدرة الباري.

أنا أكل حساب هذه الرواية إلى الشباب النابه العصري المتخرِّج من المدارس العالية في أرجاء العالم. كما أرى النظرة في رجال سندها من وظائف رجال الغيب إذ من المستحيل أن يقف عليه متتبِّع، ويعرفه حافظٌ ضليع، أو محدِّثٌ بعيد الطنء، أو رجاليٌّ واسع الخطوة من رجال عالم الشهود.

- ٦ -

الله يستحيي من أبي بكر

عن انس بن مالك قال: جاءت امرأةٌ من الأنصار فقالت: يا رسول الله! رأيت في المنام كأنَّ النخلة التي في داري وقعت، وزوجي في السفر. فقال: يجب عليكِ الصبر

٢٤٧

فلن تجتمعي به أبداً. فخرجت المرأة باكيةً فرأت أبا بكرَ، فأخبرته بمنامها ولم تذكر له قول النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: إذهبي فانَّك تجتمعين به في هذه الليلة. فدخلت إلى منزلها وهي متفكِّرة في قول النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقول أبي بكر، فلمّا كان الليل وإذا بزوجها قد أتى، فذهبت إلى النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبرته بزوجها، فنظر إليها طويلاً فجاءه جبرئيل وقال: يا محمَّد! الذي قلتَه هو الحقُّ، ولكن لمـّا قال الصدِّيق إنَّكِ تجتمعين به في هذه الليلة إستحيا الله منه أن يجري على لسانه الكذب، لأنَّه صدِّيقٌ فأحياه كرامةً له.

نزهة المجالس ٢ ص ١٨٤

قال الأميني: ليتنا كنّا نقف على رجال هذا الخيال النبهاء الذين أرادوا كسح معرَّة الكذب عن ساحة الصدِّيق فجرُّوها إلى الساحة النبويَّة، فكأنَّ الله لم يبال بأن يجري الكذب على لسان نبيِّه الصّادق المصدَّق، حيث انَّه لم يخبر عن موت الرجل وإنَّما أخبر امرأته بأنَّها لن تجتمع به أبداً بكلمة لن المفيدة لتأييد النفي المؤكّد بقوله أبداً فظهر خلافه، لكنَّه إستحى من أبي بكر بعد أن رجم بالغيب إفكاً ظاهراً فأراد أن يرحض عنه ذلك باحياء الرجل وعدم إماتته كرامةً له، وهل يرحضه ذلك بعد أن وقع الكذب؟ أنا لا أدري.

وهل كانت كرامة أبي بكر على الله أعظم من كرامة رسوله عليه؟ حيث لم يرض بظهور الكذب عليه ورضيه على مصطفاه، ولم يكن في انتشاره عنه كسرٌ للاسلام لكن إنتشاره عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتٌّ في عضد الدين.

ثمَّ اعجب من تعليل الرواية بأنَّ أبا بكر كان صدِّيقاً. أوَ لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيِّد الصدِّيقين أجمع؟ وهب انّ وحي هذه المزعمة خفّف عن ساحة النبوَّة شيئاً يمكن أن يفوه به مَن اختلقها بأنّ الأمر كان كما أخبر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن أحيى الله الرجل للغاية التي ذكرها فلا كذبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن يدفعه ما قدّمناه من انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخبر عن موت الرجل وإنَّما أخبر عن أنَّها لن تجتمع به أبداً وقد وقع خلاف ما أنبأ به. نعم: لعلَّ ما مرَّ من رأي الخليفة من جواز تقديم المفضول على الفاضل، أو الغلوُّ في الفضائل، يرخِّصان بكلِّ ما ذكر.

٢٤٨

- ٧ -

كرامة دفن أبي بكر

أخرج ابن عساكر في تاريخه قال: رُوي أنِّ أبا بكر رضي الله عنه لمـّا حضرته الوفاة قال لمن حضره: إذا أنا متُّ وفرغتم من جهازي فاحملوني حتَّى تقفوا بباب البيت الذي فيه قبر النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقفوا بالباب وقولوا: السلام عليك يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن. فان أذن لكم بأن فتح الباب وكان الباب مغلقاً بقفل فادخلوني وادفنوني، وإن لم يفتح الباب فأخرجوني إلى البقيع وادفنوني به، فلمّا وقفوا على الباب وقالوا ما ذكر سقط القفل وانفتح الباب وإذا بهاتف يهتف من القبر: ادخلوا الحبيب إلى الحبيب فإنَّ الحبيب إلى الحبيب مشتاقٌ.

وذكره الرازي في تفسيره ٥ ص ٣٧٨، والحلبي في السيرة النبويَّة ٣ ص ٣٩٤، والديار بكري في تاريخ الخميس ٢: ٢٦٤، والقرماني في أخبار الدول هامش الكامل ١ ص ٢٠٠، والصفوري في نزهة المجالس ٢ ص ١٩٨.

قال الأميني: أراد رواة هذه الرواية تصحيح عمل القوم في دفن الخليفة في موطن القداسة [حجرة النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ] بعد أن أعيتهم المشكلة وعجزوا عن الجواب، فإنَّ الحجرة الشريفة إمّا أن تكون باقية على ملكهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو الحقُّ المبين.

أو أنَّها عادت صدقة يؤل أمرها إلى المسلمين أجمع؟ وعلى الأوَّل كان يشترط فيه رضاء أولاد وارثته الوحيدة السبطين الإمامين وأخواتهما ولم يستأذن منهم أحدٌ. وعلى الثاني كان يجب على الخليفة أو على من تولّى الأمر بعده أن يستأذن الجامعة الإسلامية ولم يكن من أيّ منهما شيءٌ من ذلك، فبقي الدفن هنالك خارجاً عن ناموس الشريعة. وإن قيل: إنَّه دفن بحق ابنته؟ فأيّ حق لها بعد ما جاء به أبوها من قوله: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة؟ على أنّا أسلفنا في الجزء السادس ص ١٩٠ ط ٢: انَّه لم يكن لاُمّهات المؤمنين إلَّا السكنى في حجرهنَّ كالمعتدَّة ولم يكن لهنَّ ترتيب آثار الملك على شيء منها. وقدّمنا هنالك ايضاً انَّ على فرض الميراث وعلى تقدير الارث من العقار فإنَّ لعائشة تسع الثمن من حجرتها لأنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفّي عن تسع، ومساحة المحلِّ لا يسع

٢٤٩

تسع ثمنها جثمان انسان مهما كبرت الحجرة. على أنَّ حقّها كان مشاعاً وليس لها التصرُّف فيه بغير اذن شريكاتها في الميراث.

أراد القوم التفصِّي عن هذه المشكلات فكوَّنوا ما يستتبع مشكلةً بعد مشكلة و هي: انَّ الخليفة هل قال ما قاله بعهد من النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو انَّه أحاط علماً بالمغيِّب؟ أمّا الثاني فلا أحسب أحداً يدَّعي له ذلك بعد ما أحطنا خُبراً بكلِّ ما قيل في فضائله، وبعد ما أوقفناك على مبلغ علمه في المشهودات، فأين هو عن الغيوب؟

وأمّا الأوَّل فلو كان ذلك لما كان لترديده بين الدفن في الحجرة إن فتح الباب وسقط القفل، وبين الذهاب به إلى البقيع إن لم يكن ذلك، فانَّ ما أخبر به النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بدَّ أن يكون، فلا ترديد فيه.

نعم: من المحتمل انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعهد ذلك لنفس أبي بكر وإنّما رواه عنه من لا يثق به الخليفة ولذلك نوَّه بما قال بالترديد، أو أنَّ الرواية لا صحّة لها، ولذلك لا تنتشر في الصحاح والمسانيد إلى عهد الحافظ ابن عساكر، وهي على فرض صحّتها مكرمة عظمي وقعت بمشهد الصحابة ومزدحم المهاجرين والأنصار يوم شيّعوه إلى مقرِّه الأخير، وكان يجب والحالة هذه أن يتواصل الهتاف بها، وبذلك الهتاف المسموع من القبر الشريف منذ ذلك العهد إلى منصرم الدهر، ولم يكن يوم ذاك في الأبصار غشاوة، ولا في الآذان وقر، ولا في الألسنة بكم، لكنه ويا للأسف لم ينبس أحدٌ عنها ببنت شفة، وما ذلك إلّا لأنَّ المكرمة لم تقع، والقفل ما سقط، والباب ما انفتح، والهتاف لم يكن، وادخلوا الحبيب إلى الحبيب، فإنَّ الحبيب إلى الحبيب مشتاق مهزأة نشأت من الغلوِّ في الفضائل تنبأ عن روح التصوّف في مختلق الرواية. نعم:

ما كلّ من زار الحمى سمع الندا

مِن أهله أهلاً بذاك الزائرِ

م - هذه الكرامة المنحوتة المنحولة ذكرها الرازي ومن بعده مرسلين إيّاها ارسال المسلّم، محتجّين بها عداد فضائل أبي بكر، غير مكترثين لما في اسنادها من العلل أو جاهلين بها، وإنّما أخرجها ابن عساكر من طريق أبي طاهر موسى بن محمّد بن عطاء المقدسي عن عبد الجليل المدني عن حبّة العرني فقال: هذا منكرٌ، وأبو الطاهر كذّابٌ، وعبد الجليل مجهولٌ، وفي لسان الميزان ٣: ٣٩١: خبرٌ باطلٌ. اهـ.

٢٥٠

وأبو الطاهر المقدسي كذّبه ابو زرعة وأبو حاتم. وقال النسائي ليس بثقة و قال ابن حبان: لا تحلُّ الرواية عنه كان يضع الحديث. وقال ابن عدي: كان يسرق الحديث. وقال العقيلي: يحدِّث عن الثقات بالبواطيل والموضوعات، منكر الحديث وقال منصور بن اسماعيل: كان يضع الحديث على مالك. راجع المصادر المذكورة ج ٥ ص ٢٣١ ط ٢].

- ٨ -

جبريل يسجد مهابةً من أبي بكر

حدَّث عالم الاُمّة الشيخ يوسف الفيشي المالكي قال: كان جبريل إذا قدم أبو بكر على النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يحادثه يقوم إجلالاً للصدِّيق دون غيره، فسأله النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك؟ فقال جبريل: أبو بكر له عليَّ مشيخة في الأزل، وما ذاك إلّا انَّ الله تعالى لمـّا أمر الملائكة بالسجود لآدم حدّثتني نفسي بما طُرد به إبليس فحين قال الله تعالى: اسجدوا. رأيت قبّة عظيمة عليها مكتوبٌ أبو بكر أبو بكر. مراراً وهو يقول. اسجد. فسجدت من هيبة أبي بكر فكان ما كان.

ذكره العبيدي المالكي في عمدة التحقيق هامش روض الرياحين ص ١١١ فقال: وحدَّثني ايضاً شيخنا الاستاذ محمّد زين العابدين البكري بما يقارب ما قاله الفيشي و سمعتها من غالب مشايخنا بالأزهر.

قال الأميني: عجباً لهؤلاء القوم لم يسلم منهم حتى أمين الله على وحيه - جبرائيل - المعصوم من الزلل من أوَّل يومه فجعلوه في عداد إبليس اللعين الطريد لو لا أنَّ أبا بكر تدارك أمره.

عجباً لهذا الملك المزعوم يأتمنه المولى سبحانه ثمَّ يرتاب في أمره، ولا يُصلح ذلك الشنار القول بأنّه إنّما أئتمنه بعد زلّته تلك، فانّه سبحانه لا يأتمن من يمكن في حديث نفسه الكفر، فلعلَّ تلك الخاطرة دبّت فيه ولم يحصل مَن يسدِّده فتعود هاجسته كفراً صريحاً.

عجباً لهذا الملك المقرَّب تروعه هيبة أبي بكر ولا تأخذه هيبة الإ~له العظيم فيطيع أبا بكر وهو يهم أن يطيع الله في أمره بالسجدة، وأيّ سجدة هذه وما قيمتها من مثل

٢٥١

جبرئيل وقد وقعت من هيبة أبي بكر لا بصفة القربان إلى المولى سبحانه والزلفى لديه والامتثال لأمره فكأن هيبة أبي بكر في الملأ الأعلى أعظم وأفخم من هيبة بارئه جلّت عظمته.

ثمَّ أين كانت قبَّة أبي بكر من مستوى عالم الملكوت؟ ومِن الأحرى أن تضرب هنالك قبَّة نبيِّ العظمة حتى يسدِّد فيها من شارف الزلَّة لا قبَّة إنسان من الممكن أن تكتنفه المئاثم، وتموت بضعة المصطفى وهي واجدةٌ عليه.

ومِن أين علم أبو بكر بهاجسة جبرئيل وحديث نفسه؟ أو هَل كان يعلم الغيب؟ أو اوحي اليه بواسطة غير أمين الوحي؟ لك الحكم في هذه كلّها أيُّها القارئ الكريم.

ثمَّ العجب من مشايخ الأزهر الذين أخبتوا إلى هذه الخزاية فأثبتوها في الكتب ولهجوا بها في الأندية، وخلف من بعدهم خلفُ ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى فنشروها في الملأ العلمي وشوَّهوا بها صفحة التاريخ وسمعة الاسلام المقدَّس، نعم: أرادوا نحت فضيلة للخليفة فأعماهم الغلوُّ في الفضائل فنحتوها رذيلةً لجبرئيل الأمين، كلّ ذلك لأنَّهم افتعلوها من غير بصيرة في الدين، أو رويَّة شاعرة في المبادئ الاسلاميَّة.

وأحسب أنَّ مَن اختلق هذه الرّواية أراد إثباتها تِجاه ما يروى لمولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام من تسديده لجبرئيل يوم خاطبه الله سبحانه: مَن أنا ومَن أنت؟ فتروّى قليلاً وقد أخذته هيبة الجليل سبحانه حتّى أدركته نورانيَّة مولانا الامامعليه‌السلام ، فعلّمه أن يقول: أنت الجليل وأنا عبدك جبرئيل. وقد نظم ذلك الشاعر المبدع الشيخ صالح التميمي من قصيدة له في مدح مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام وخمسَّها الشاعر المفلق عبد الباقي افندي العمري كما في ديوانه ص ١٢٦ وفي ديوان صاحب الأصل ص ٤ قالا:

روضةٌ أنت للعقول ودوحُ

يجتنى من طوباك رشدٌ ونصحُ

ومتى هبَّ من عبيرك نفحُ

شمل الرُّوح من نسيمك روحُ

حين مِن ربِّه أتاه النِّداءُ

طالما للأملاك كنتَ دليلا

ولناموسهم هديت سبيلا

يوم نادى ربُّ السما جبرئيلا

قائلاً: مَن أنا فروَّى قليلا

وهو لولاك فاته الإهتداءُ(١)

____________________

١ - يعنى الاهتداء الى ذلك الجواب الحسن الجميل.

٢٥٢

لك شكلٌ نتيجةٌ للقضايا

لك قلبٌ للعالمين مرايا

لك فعلٌ حوى رفيع المزايا

لك إسمٌ رآه خير البرايا

مذ تدلّى وضمَّه الاسراءُ

وليست هذه كقصَّة أبي بكر، فليس فيها انَّ جبريل نوى ما نواه إبليس من المروق عن أمره سبحانه، ولا فيها انَّ امير المؤمنين أنبأ عن مغيَّب، ولا أنِّ هيبته غلبت هيبة الله العظيم ولا انَّ جبريل سجد من هيبته، ولا انَّ له هنا لك قبَّةٌ عظيمة مكتوبٌ عليها: علي علي، ولا انَّه هتف مخاطباً: لجبرئيل بقوله: اسجد. و روَّعه بذلك ليست فيها هذه كلّها لأنَّ الشيعة في المنتأى عن الغلوِّ في الفضائل.

- ٩ -

قصَّةٌ فيها كرامةٌ لأبي بكر

أخبر أبو العبّاس ابن عبد الواحد عن الشيخ الصالح عمر بن الزغبي قال: كنت مجاوراً بالمدينة المشرَّفة على مشرِّفها أفضل الصَّلاة والسَّلام فخرجت يوم عاشوراء الذي تجتمع فيه الإماميّة في قبَّة العباس وقد اجتمعوا في القبَّة قال: فوقفت أنا على باب القبَّة وقلت: اريد في محبّة أبي بكر شيئاً. فخرج إليَّ شيخٌ منهم وقال: اُجلس حتّى نفرغ ونعطيك، فجلست حتّى فرغوا ثمَّ خرج ذلك الرجل وأخذ بيدي ومضى بي إلى داره وأدخلني الدار وأغلق ورائي الباب وسلّط عليَّ عبدين فكتَّفاني وأوجعاني ضرباً، ثمَّ أمرهما بقطع لساني فقطعاه، ثمَّ أمرهما فحلّا كتافي وقال: اخرج إلى الذي طلبتَ في محبّته ليردَّ إليك لسانك. قال: فخرجت من عنده إلى الحجرة الشريفة النبويَّة وأنا أبكي من شدَّة الوجع والألم فقلت في نفسي: يا رسول الله! قد تعلم ما أصابني في محبّة أبي بكر فإن كان صاحبك حقّاً؟ فأحبُّ أن يرجع إليَّ لساني وبتُّ في الحجرة قلقاً من شدَّة الألم فأخذتني سِنةٌ من النوم فنمت فرأيت في منامي انَّ لساني قد عاد إلى حاله كما كان فاستيقظت فوجدته في فيَّ صحيحاً كما كان وأنا أتكلّم فقلت: الحمد لله الذي ردَّ عليَّ لساني وازددت محبَّة في أبي بكر رضي الله عنه، فلمّا كان العام الثاني في يوم عاشوراء اجتمعوا على عادتهم فخرجت إلى باب القبَّة وقلت: اريد في محبّة أبي بكر ديناراً، فقام إليَّ شابُّ عن الحاضرين وقال لي: اجلس حتّى نفرغ. فجلست فلمّا

٢٥٣

فرغوا خرج إليَّ ذلك الشابّ وأخذ بيدي ومضى بي إلى تلك الدار فأدخلني فيها و وضع بين يديَّ طعاماً، ولمـّا فرغنا قام الشابُّ وفتح عليَّ باباً على بيت في الدار وجعل يبكي فقمت لأنظر ما سبب بكائه فرأيت في البيت قرداً مربوطاً فسألته عن قضيَّته فزاد بكاءً فسكّنته حتّى سكن، فقلت له: بالله أخبرني عن حالك فقال: إن حلفت لي أن لا تخبر أحداً من أهل المدينة أخبرتك، فحلفت له، فقال: اعلم أنّه أتانا في عام أوَّل رجلٌ و طلب في محبّة أبي بكر رضي الله عنه شيئاً في قبَّة العبّاس يوم عاشوراء فقام إليه أبي و كان من أكابر الاماميّة والشيعة فقال له: اجلس حتّى نفرغ. فلمّا فرغوا أتى به إلى هذه الدار وسلّط عليه عبدين فضرباه، وأمر بقطع لسانه فقطع، وأخرجه فمضى لسبيله ولم نعرف له خبراً، فلمَّا كان الليل ونمنا صرخ أبي صرخة عظيمة فاستيقظنا من شدَّة صرخته فوجدناه قد مسخه الله قرداً ففزعنا منه وأدخلناه هذا البيت وربطناه، وأظهرنا للناس موته وهو ذا نبكي عليه بكرة وعشيَّا. فقلت له: إذا رأيت الذي قطع أبوك لسانه تعرفه؟ قال: لا والله فقلت: أنا هو والله، أنا الذي قطع أبوك لساني، وقصصت عليه القصّة فأكبَّ عليَّ يقبِّل رأسي ويدي ثمَّ أعطاني ثوباً وديناراً وسألني كيف ردَّ الله عليَّ لساني؟ فأخبرته وانصرفت.

مصباح الظلام للجرداني ص ٢٣ من الطبعة الرابعة المصريَّة المطبوعة بمطبعة الرَّحمانيّة بمصر سنة ١٣٤٧ ه‍، ونزهة المجالس للصفوري ٢ ص ١٩٥.

قال الأميني: ما أحوج القوم إلى اختلاق هذه الأساطير المشمرجة وهي لا يصدِّقها أيُّ قارٍ وبادٍ مهما يُقرُّها قصّاص في اُذنيه ولا يصير بها الأمر إلى قراره مهما حبكت نسقه يد الأفك وأبدعت في نسجه مهرة الإفتعال.

أنّى يصدِّق ذو مسكة بأنَّ رجلاً شهيراً يُعدُّ من عليّة قوم ومن أكابر اُمّة تُمسخُ ويُربط في داره وهو بَعدُ مجهولٌ لا يعرف اسمه، ولا ينبِّئ عنه خبير، و يسع لخلفه إخفاء أمره بدعوى موته، ولم يُسأل أهله عن تجهيزه وتشييعه ودفنه ومقبره وسبب موته، وتتأتَّى لولده الغشية عليها عن أعين الناس وأسماعهم كأنَّ في آذانهم صمماً وفي أبصارهم عمى.

ولماذا أخذه ابن الجاني - الذي لم يُخلق بعدُ لا هو ولا أبوه - ضيفه إلى والده

٢٥٤

وهو لا يعرف الرَّجل ولم يخش من الفضيحة، ولِماذا أوقفه على أمر أبيه وعواره وقد كان يستخفيه ويُظهر للناس موته؟

وأنّى يُصدَّق بأن رجلاً قُطع لسانه دون مبدئه وحبّه لخليفته قد استخفى قصّته، وما أشاع بها، وما صاح وما باح بمظلمته، وما أبان أمره عند قومه، وما أفاض عن شأنه بكلمة، ولا يمَّم قاضياً ولا حاكماً ولا الدوائر الحكوميَّة الصالحة للنظر في مظلمته من عدليَّة أو دائرة شرطة، وعقيرته مرفوعةٌ من شدَّة الألم، ولم يزل القوم يتربَّص الدوائر على الشيعة، ويختلق عليهم طامّات كهذه.

وأنّى يُصدَّق انَّه لمـّا خرج من دار مَن جنى عليه وهو مقصوص اللسان وقد ملأ فمه دمه، ولاذ بالحجرة الشريفة باكياً قلقاً من شدَّة الألم، ما باه له أيُّ أحد، وما عُرفت مع هذه كلّها من أمره قُذ عَمِلة، ولا تنبَّه لأمره سدنة الحضرة الشريفة؟

وما بال الرَّجل لم يُمط الستر في وقته عن جناية عدوِّ خليفته، ولم يُفش سرَّه، ولم يُعلن كرامة الصدِّيق، ولم يفضح عدوَّه، ولم يُعرب عن هذه المكرمة الغالية، ولم يقرِّط الآذان بسماعها، وينبس أمره ولم ينبشه، كأنَّ لسانه بعدُ مقطوعٌ، وأنَّه لم يجده في فيه صحيحاً؟ أو رضي بأن يفشفش(١) بعده أعلام قومه؟

وإن تعجب فعجبٌ عود هذا الشحّاذ الجريء إلى سؤاله مرَّة ثانية في سنته القابلة بعد أن رأى ما رأى قبل أن أعوم، ووقوفه في ذلك الموقف الخطر في قبَّة العباس يوم عاشوراء، ومضيِّه من دون أيِّ تحاش إلى تلك الدار التي وقعت فيها واقعته الخطرة الهائلة، ودخوله فيها رابطاً جأشه، وإلقاءه نفسه إلى التهلكة، ولم يكن يعرف شيئاً من قصَّة الشيعيِّ ومسخه، ولا من حنوِّ الشابِّ وعطفه، وقد قال الله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.

ولعلّه كان في هذه كلّها على ثقة وطمأنينة من انَّه قطُّ لا يبقى بلا لسان، وانَّ لسانه مهما قُطع يُردُّ اليه كما كان من بركة الخليفة، وهو في حسبانه هذا وقدومه إلى المهالك مجتهدٌ وله أجره وإن أخطأ كاجتهاد سلفه.

____________________

١ - فشفش: افرط فى الكذب، وانتحل ما لغيره.

٢٥٥

وقد أنصف الشيخ الصالح المدني في اختلاق هذه القصّة على شيعيٍّ كبير لم يولد بعدُ ولم تسمِّه امّه. وجاء غيره بأسطورة معتوه قموص الحنجرة(١) وافتجر(٢) في القول و أفجس(٣) ألا وهو الشيخ عليا المالكي، قال الشيخ ابراهيم العبيدي المالكي في عمدة التحقيق المطبوع بمصر في هامش روض الرياحين ص ١٣٣: سمعت خالي العالم الشيخ عليا المالكي يقول: إنَّ الرافضيَّ إذا أشرف على الموت يقلّب الله صورة وجهه وجه خنزير فلا يموت إلّا إذا مُسخ وجهه وجه خنزير، ويكون ذلك علامة على انّه مات على الرفض، فيستبشرون بذلك الروافض، وإن لم يقلّب وجهه عند الموت يحزنون ويقولون: إنّه مات سنّيّاً، انتهى.

وتخرَّق بعض الثقات في تاريخ حلب شاهداً على هذه المخرقة فقال: لمـّا مات ابن منير(٤) خرج جماعة من شبّان حلب يتفرَّجون فقال بعضهم لبعض: قد سمعنا انّه لا يموت أحدٌ ممّن كان يسبُّ أبا بكر وعمر إلّا ويمسخه الله تعالى في قبره خنزيراً ولا شكَّ أنَّ ابن منير كان يسبّهما، فأجمعوا رأيهم على المضيِّ إلى قبره، فمضوا ونبشوه فوجدوا صورته خنزيراً ووجهه منحرفاً عن جهة القبلة إلى جهة الشمال، فأخرجوا على قبره ليشاهده الناس ثمَّ بدا لهم أن يحرقوه فأحرقوه بالنار وأعادوه في قبره وردُّوا عليه التراب وانصرفوا.

وذكره العلاّمة الجرداني في مصباح الظلام المؤلَّف سنة ١٣٠١ والمطبوع بمصر سنة ١٣٤٧ وقرَّظه جمعٌ من الاعلام ألا وهم كما في آخر الكتاب: العالم العفيف السيِّد محمود أنسي الشافعي الدمياطي، والعلاَّمة الشيخ محمّد جودة، والعلاّمة الأوحد الشيخ محمّد الحمامصي، وحضرة الفاضل اللبيب الشيخ عطية محمود قطارية، والعالم العامل الشيخ محمّد القاضي، وحضرة الشاعر اللبيب محمّد أفندي نجل العلاّمة الشيخ محمّد النشّار.

ليست هذه النفثات إلّا كتيت(٥) الاحن، ونغران(٦) الشحناء. وإن شئت قلت:

____________________

١ - يقال فلان قموص الحنجرة: اى كذّاب.

٢ - افتجر فى الكلام: اى اختلقه وذكره من غير ان يسمعه من احد.

٣ - أفجس: افتخر بالباطل.

٤ - احد شعراء الغدير مرّت ترجمته فى الجزء الرابع ص ٢٧٩ - ٢٨٩ ط ٢ مات فى دمشق ثم نقل الى حلب فدفن بها.

٥ - الكتيت: صوت غليان القدر والنبيذ ونحوهما.

٦ - نغر الرجل على فلان نغراً ونغراناً: غلا جوفه عليه غضباً.

_١٦_

٢٥٦

إنَّها سكرة الحبّ، وسرَف المغالاة. قد أعمت الأهواء بصاير اولئك الرّجال فجاؤا بهذه المخاريق المخزية، والأفائك المزخرفة، بيَّتوها غير مكترثين لمغبّة صنيعهم، و لا متحاشين عن معرَّة قيلهم، وشتّان بينها وبين أدب الدين، أدب العلم، أدب التأليف، أدب العفّة، أدب الدعاية والنشر. إنَّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً، ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيِّتون ما لا يرضى من القول.

كأنَّ هؤلاء يحدِّثون عن اُمَّة بائدة لم يُبق لها الملوان مَن يشاهده أحدٌ من الأجيال الحاضرة، أوَ ليست الشيعة هؤلاء الذين هم مبثوثون في أرجاء العالم وأجواء الاُمم، يشاهدهم كلُّ ذي بصر وبصيرة أحياءً وأمواتاً؟ فمن ذا الذي شهد أحدهم أنّه انقلب عند موته خنزيراً غير اولئك الشبّان الموهومين الذين شاهدوا ابن منير في قبره؟ وهل الشيخ عليا المالكي هو وجد أحداً من الشيعة كما وصفه؟ أو رُوي له ذلك الإفك فوثق به كما وثق العبيدي؟ وهل كان يمكنه أن يقف على الموتى جميعاً أو أكثرهم وليس هو بمغسِّل الموتى أو من حفَّاري القبور ولا مِن نبّاشيها؟

على أنَّ التشيُّع ليس من ولائد تلكم العصور وإنَّما بدء به منذ العهد النبويِّ، فهل كان السلف الشيعيُّ من الصحابة والتابعين يموتون كذلك وكان فيهم مَن يعرف بالتشيُّع كأبي ذر وسلمان وعمّار والمقداد وأبي الطفيل؟ فهل يسحب هذا الرجل ذيل مزعمته الى ساحة أولئك الأعاظم؟ قطعت جهيزة قول كلِّ خطيب(١) .

- ١٠ -

أبو بكر شيخٌ يُعرف، والنبيُّ شابٌّ لا يُعرف

عن أنس بن مالك قال: أقبل النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى المدينة، وأبو بكر شيخٌ يُعرف والنبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شابٌّ لا يُعرف فيلقى الرجل أبا بكر(٢) فيقول: يا أبا بكر! مَن هذا الذي بين يديك؟ فيقول: يهديني السبيل، فيحسب الحاسب انَّه يهديه الطريق وإنّما يعني سبيل الخير.

____________________

١ - مثل يضرب لمن يقطع على الناس ماهم فيه بحماقة يأتي بها.

٢ - فى الانتقال من بنى عمرو. كذا قاله القسطلانى فى ارشاد السارى ٦ ص ٢١٤ وبنو عمرو ابن عوف هم من الانصار النازلين بقباء كان قد نزل عليهم رسول الله صلى ‌الله‌ عليه ‌و آله‌ فى هجرته الى المدينة كما يأتى تفصيله.

٢٥٧

وفي لفظ: إنَّ أبا بكر كان رديف النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان أعرف بذلك الطريق فيراه الرجل يعرفه فيقول: يا أبا بكر! مَن هذا الغلام بين يديك؟ وفي لفظ أحمد: كانوا يقولون: يا أبا بكر! ما هذا الغلام بين يديك؟ فيقول: هذا يهديني السبيل. وفي لفظ: قالوا: يا أبا بكر! مَن هذ الذي تعظِّمه هذا الاعظام؟ قال: هذا يهديني الطريق وهو أعرف به منِّي.

م وفي رواية: ركب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وراء أبي بكر ناقته. وفي التمهيد لابن عبد البرّ: انّه لمـّا اُتي براحلة أبي بكر سأل أبو بكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يركب ويردفه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل أنت اركب وأردفك أنا فانَّ الرجل احقُّ بصدر دابّته. فكان إذا قيل له: من هذا وراءك؟ قال: هذا يهديني السبيل].

وفي لفظ: لمـّا قدمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة تلقّاه المسلمون فقام أبو بكر للناس، وجلس النبيُّ صامتاً، وأبو بكر شيخٌ والنبيُّ شابٌّ، فطفق مَن جاء مِن الأنصار ممَّن لم يرَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجيء أبا بكر فيعرّفه بالنبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أصابت الشمس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل أبو بكر حتَّى ظلّل عليه بردائه فعرفه الناس عند ذلك.

صحيح البخاري باب هجرة النبيِّ ٦: ٥٣، سيرة ابن هشام ٢: ١٠٩، طبقات ابن سعد ١: ٢٢٢، مسند أحمد ٣: ٢٨٧، معارف ابن قتيبة ص ٧٥، الرياض النضرة ١: ٧٨، ٧٩، ٨٠، المواهب اللدنية ١: ٨٦، السيرة الحلبية ٢: ٤٦، ٦١.

قال الأميني: ما أنزل الدهر نبيَّ الإسلام حتّى قيل: إنَّه شابٌّ لا يُعرف. كأنَّه غلامٌ نكرة اتَّخذه شيخٌ انتشر صوته كصيته بين الناس دليلاً في مسيره يرتدفه تارة و يمشّيه بين يديه اخرى ومهما سُأل عنه قول: هذا يهديني الطريق وهو أعرف به منِّي، كأنَّ نبيَّ الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ذلك الذي كان يعرض نفسه على القبائل في كلِّ موسمٍ فعرفوه على بَكرة أبيهم مَن آمن منهم ومَن لم يُؤمن، خصوصاً الأنصار المدنيُّون منهم وفيهم رجال الأوس والخزرج، وقد بايعوه عند العقبة الأولى مرَّة، وبايعه منهم مرَّة ثانية عند العقبة ثلاث وسبعون رجلاً وامرأتان.

وكأنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ذلك الذي أمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة قبله، وكان بتلك الهجرة غلقت أبواب، وخلت دور اُناس من السكنى، وهاجر أهلِها رجالاً ونساءاً

٢٥٨

وكان في مقدَّم المهاجرين ما يناهز ستِّين رجلاً، فلم يبق في مكة المعظَّمة مَن أسلم معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أمير المؤمنين وأبو بكر. وكأنَّ المدينة ليست بدار بني النجار وهم خؤولة النبيِّ الأقدس.

وكأنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن الذي إتَّخذ المدينة قاعدة ملكه، وعاصمة حكومته، ومعسكر نهضته، فبثَّ فيها رجاله وخاصَّته من أهلها ومن المهاجرين فكانوا يرقبون مقدمه الشريف في كلِّ حين حتّى، إذا وافوه مقبلاً عليهم استقبلوه بقضِّهم وقضيضهم وفيهم أهل البيعتين ومن تقدَّمه من المهاجرين وكلّهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم، وإنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكث في قباء عند بني عمرو بن عوف أيّاماً وليالي حتى أسّس مسجده الشريف فيها، فعرفه كلُّ مَن في قباء ممّن لم يكن يعرفه قبلُ من رجال الأوس والخزرج، واتَّصل به كلُّ من قدمها من المدينة فعرفوه جميعاً، وقد صلّى الجمعة في قباء وفي بطن الوادي وادي رانونا وائتمّ به من حضر المسلمين عامّة.

وبقضاء من الطبيعة انَّ الناس عند التطلّع إلى رؤيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يومي إليه كلّ عارف، ويسأل عنه كلُّ جاهل، ويتقدَّم المبايعون إلى التعرُّف به والتزلُّف اليه، فلا يبقى في المجتمع جاهلٌ به حتّى يسأل أبا بكر عنه في انتقاله من بني عمرو وبقوله: مَن هذا الغلام بين يديك يا أبا بكر؟!

فكأنَّ القادم رجلٌ عاديٌّ ما دوَّخ صيته الأقطار، ولم يره بشرٌ من ذلك الجمع الحافل، ولم يحتفل به ذلك الاحتفال، ولا احتفى به تلك الحفاوة، وما صعدت ذوات الخدور على الأجاجير(١) وما هزجت الصبيان والولائد بقولهنَّ.

طلع البدر علينا

من ثنيَّات الوداعِ

وجب الشكر علينا

ما دعا لِلَّه داعي

أيُّها المبعوث فينا

جئت بالأمر المطاعِ

وكأنَّه قدم في صورة منكَّرة بلا أيِّ تقدمة إلى بلد لا يعرفه فيه أحدٌ حتّى خصَّ السؤال عنه بأبي بكر فحسب.

ثمَّ ما هذه التعمية في جواب أبي بكر بقوله: إنَّه يهديني السبيل يريد سبيل

____________________

١ - جمع الاجّار بكسر الاول وتشديد الجيم: السطح.

٢٥٩

السعادة فيحسب الحاسب انَّه يهديه الطريق؟ ألخوف كانت؟ ولم يرد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا على العدَّة والعدد والمنعة والعزَّة، وقد بايعته الأنصار على التفاني دونه. أو كان يخاف أبو بكر قريشاً وهو في حصن الدين المنيع ودرعه الحصينة؟ أم كانت لغير ذلك؟ فاسأل عنه خبيراً. والعجب كلّ العجب انَّ رجلاً هذه سيرته في التقيَّة عن الناس في عاصمة الإسلام بين فرسان المهاجرين والأنصار كيف صحَّ عنه ما جاء عن ابن مسعود وما روي عن مجاهد مرسلاً من قولهم: إنَّ أوَّل من أظهر الاسلام سبعة: رسول الله، وأبو بكر. الخ(١) .

على أنَّ الحالة كانت تقتضي أن يُسأل كلُّ قادم إلى المدينة يوم ذاك عن شخص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوان نزوله بها لا عن الغلام بين أيدي أبي بكر.

والعجب انَّ الجهل برسول الله في مزعمة هذا الراوي كان مستمرًّا بين مستقبليه « وكلّهم نفوسهم نزّاعة إلى عرفانه والتبرّك برؤيته » حتى ظلّله أبو بكر بردائه فعرفه الناس عند ذلك.

ومتى كان أبو بكر شيخاً والنبيُّ شابّاً وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكبر منه بسنتين وعدَّة أشهر كما يأتي تفصيله إنشاء الله؟ وابن قتيبة أخذ هذا الحديث بظاهره فقال في المعارف ص ٧٥: هذا الحديث يدلُّ على أنَّ أبا بكر كان أسنَّ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمدَّة طويلة، والمعروف عند أهل الأخبار ما حكيناه.ا ه. وحكي قبل هذا انَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أكبر سنّاً من أبي بكر.

نعم: عرف شرّاح البخاري من المتأخِّرين موضع الغمز فأوَّلوا كون أبي بكر شيخاً بظهور الشيب في لحيته. وكون النبيِّ شابّاً بسواد كريمته، والعارف بأساليب الكلام يعلم انَّه تمحّلٌ محض، وأنَّ المفهوم من تلك كما فهمه ابن قتيبة: كون أبي بكر شيخاً ورسول الله شابّاً لا غير ذلك. وإلّا فما معنى قولهم: ما هذا الغلام بين يديك؟ و: من هذا الغلام بين يديك؟ ومن المعلوم انَّ الغلام لا يطلق على من عمر خمسون سنة تقريباً مهما اسودَّ عارضه.

وعلى صحَّة هذا التأويل أين المأوِّلون من صحيحة ابن عبّاس قال: قال أبو بكر:

____________________

١ - تاريخ ابن كثير ٣: ٥٨، تأريخ ابن عساكر ٦ ص ٤٤٨.

٢٦٠