الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 75694
تحميل: 5708


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75694 / تحميل: 5708
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و إذا كان كذلك كان ما يوصف به من الصفات غير محدود بحدّ - و إن كان لفظنا قاصراً عنه، و المعنى غير واف به - فهو تعالى أحد لا بتأويل عدد يقضي بالمحدوديّة، و على هذا النهج خلقه و سمعه و بصره و شهوده و غير ذلك.

و من فروع ذلك أنّ بينونته من خلقه ليس بمعنى الانفصال و الانعزال تعالى عن الاتّصال و الانفصال، و الحلول و الانعزال، بل بمعنى قهره لها و قدرته عليها، و خضوعهم و رجوعهم إليه.

و قولهعليه‌السلام :( من وصفه فقد حدّه و من حدّه، فقد عدّه و من عدّه، فقد أبطل أزله) فرّع على إثبات الوحدة العدديّة إبطال الأزل لأنّ حقيقة الأزل كونه تعالى غير متناه في ذاته و صفاته و لا محدود فإذا اعتبر من حيث إنّه غير مسبوق بشي‏ء يتقدّم عليه كان هو أزله، و إذا اعتبر من حيث إنّه غير ملحوق بشي‏ء يتأخّر عنه كان هو أبده، و ربّما اعتبر من الجانبين فكان دواماً.

و أمّا ما يظهر من عدّة من الباحثين أنّ معنى كونه تعالى أزليّاً أنّه سابق متقدّم على خلقه المحدث تقدّماً في أزمنة غير متناهية لا خبر فيها عن الخلق و لا أثر منهم فهو من أشنع الخطأ، و أين الزمان الّذي هو مقدار حركة المتحرّكات و المشاركة معه تعالى في أزله؟!.

و في النهج: و من خطبة لهعليه‌السلام :( الحمد لله خالق العباد، و ساطح المهاد، و مسبل الوهاد، و مخصب النجاد، ليس لأوّليّته ابتداء، و لا لأزليّته انقضاء، هو الأوّل لم يزل، و الباقي بلا أجل، خرّت له الجباه، و وحّدته الشفاه، حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها، لا تقدّره الأوهام بالحدود و الحركات، و لا بالجوارح و الأدوات، لا يقال: متى؟ و لا يضرب له أمد بحتّى، الظاهر لا يقال: ممّا؟ و الباطن لا يقال: فيما؟ لا شبح فيتقضّى و لا محجوب فيحوى، لم يقرب من الأشياء بالتصاق، و لم يبعد عنها بافتراق، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، و لا كرور لفظة، و لا ازدلاف ربوة، و لا انبساط خطوة في ليل داج، و لا غسق ساج، يتفيّؤ عليه القمر المنير، و تعقّبه الشمس ذات النور في الاُفول و الكرور و تقلّب الأزمنة و الدهور من إقبال ليل مقبل و إدبار

١٠١

نهار مدبر، قبل كلّ غاية و مدّة، و كلّ إحصاء و عدّة، تعالى عمّا ينحله المحدّدون من صفات الأقدار، و نهايات الأقطار، و تأثّل المساكن، و تمكّن الأماكن، فالحدّ لخلقه مضروب، و إلى غيره منسوب، لم يخلق الأشياء من اُصول أزليّة، و لا أوائل أبديّة بل خلق ما خلق فأقام حدّه، و صوّر ما صوّر فأحسن صورته) .

و في النهج: من خطبة لهعليه‌السلام :( ما وحّده من كيّفه، و لا حقيقته أصاب من مثّله، و لا إيّاه عنى من شبّهه، و لا صمده من أشار إليه و توهّمه، كلّ معروف بنفسه مصنوع، و كلّ قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدّر لا يحول فكره، غنيّ لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، و لا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بمضادّته بين الاُمور عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ضادّ النور بالظلمة، و الوضوح بالبهمة، و الجمود بالبلل، و الحرور بالصرد، مؤلّف بين متعادياتها، مقارن بين متبائناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها، لا يشمل بحدّ، و لا يحسب بعدّ، و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها، منعتها( منذ) القدمة، و حمتها( قد) الأزليّة، و جنّبتها( لو لا) التكملة، بها تجلّى صانعها للعقول، و بها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه؟ و يعود فيه ما هو أبداه؟ و يحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذاً لتفاوتت ذاته، و لتجزّأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه، و لكان له وراء إذا وجد له أمام، و لالتمس التمام إذا لزمه النقصان، و إذاً لقامت آية المصنوع فيه، و لتحوّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه) .

أقول: أوّل كلامهعليه‌السلام مسوق لبيان امتناع ذاته المقدّسة عن الحدّ، و لزمه في جميع ما عداه، و قد تقدّم توضيحه الإجماليّ فيما تقدّم.

و قوله:( لا يشمل بحدّ و لا يحسب بعدّ) كالنتيجة لما تقدّمه من البيان، و قوله:( و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها) بمنزلة بيان آخر لقوله: لا يشمل بحدّ، إلخ فإنّ البيان السابق إنّما سيق من مسلك أنّ هذه الحدود المستقرّة في المصنوعات مجعولة للذات المتعالية متأخّرة عنها تأخّر الفعل عن فاعله فلا يمكن

١٠٢

أن تتقيّد بها الذات إذ كان ذات و لا فعل.

و أمّا ما في قوله:( و إنّما تحدّ) إلخ، من البيان فهو مسوق من طريق آخر، و هو أنّ التقدير و التحديد الّذي هو شأن هذه الأدوات و الحدود إنّما هو بالمسانخة النوعيّة كما أنّ المثقال الّذي هو واحد الوزن مثلاً توزن به الأثقال دون الألوان و الأصوات مثلاً، و الزمان الّذي هو مقدار الحركة إنّما تحدّ به الحركات، و الإنسان مثلاً إنّما يقدّر بما له من الوزن الاجتماعيّ المتوسّط مثلاً من يماثله في الإنسانيّة، و بالجملة كلّ حدّ من هذه الحدود يعطي لمحدوده شبيه معناه، و كلّ صفة إمكانيّة كائنة ما كانت مبنيّة على قدر و حدّ و ملزومة لأمد و نهاية، و كيف يمكن أن يحمل معناها المحدود على ذات أزليّة أبديّة غير متناهية؟.

فهذا هو مرادهعليه‌السلام ، و لذلك أردفه بقوله:( منعتها منذ القدمة) إلخ، أي صدق كلمة( منذ) و كلمة( قد) الدالّتين على الحدوث الزمانيّ، على الأشياء منعتها و حمتها أن تتّصف بالقدمة، و كذلك صدق كلمة( لو لا) في الأشياء و هي تدلّ على النقص و اقتران المانع جنبتها و بعّدتها أن تكون كاملة من كلّ وجه.

و قوله:( بها تجلّى صانعها للعقول و بها امتنع من نظر العيون) الضميران للأشياء أي إنّ، الأشياء بما هي آيات له تعالى و الآية لا تري إلّا ذا الآية فهي كالمرائي لا تجلّي إلّا إيّاه تعالى فهو بها تجلّى للعقول و بها أيضاً امتنع عن نظر العيون إذ لا طريق إلى النظر إليه تعالى إلّا هذه الآيات و هي محدودة لا تنال إلّا مثلها لا ربّها المحيط بكلّ شي‏ء.

و هذا المعنى بعينه هو الموجب لامتناعه عن نظر العيون فإنّها آلات مركّبة مبنيّة على الحدود لا تعمل إلّا في المحدود، و جلّت ساحة ربّ العزّة عن الحدّ.

و قولهعليه‌السلام :( لا يجري عليه السكون و الحركة) إلخ، بمنزلة العود إلى أوّل الكلام ببيان آخر يبيّن به أنّ هذه الأفعال و الحوادث الّتي هي تنتهي إلى الحركة

١٠٣

و السكون لا تجري عليه، و لا تعود فيه و لا تحدث فإنّها آثاره الّتي تترتّب على تأثيره في غيره، و معنى تأثير المؤثّر توجيهه أثره المتفرّع على نفسه إلى غيره، و لا معنى لتأثير الشي‏ء في نفسه إلّا بنوع من التجزّي و التركيب العارض لذاته كالإنسان مثلاً يدبّر بنفسه بدنه، و يضرب بيده على رأسه، و الطبيب يداوي بطبّه مرضه، فكلّ ذلك إنّما يصحّ لاختلاف في الأجزاء أو الحيثيّات، و لو لا ذلك لامتنع وقوع التأثير.

فالقوّة الباصرة مثلاً لا تبصر نفسها، و النار لا تحرق ذاتها، و هكذا جميع الفواعل لا تفعل إلّا في غيرها إلّا مع التركيب و التجزئة كما عرفت و هذا معنى قوله:( إذاً لتفاوتت ذاته، و لتجزّأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه) إلخ.

و قولهعليه‌السلام :( و إذاً لقامت آية المصنوع فيه، و لتحوّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه) أي إذاً لزمه النقص من تطرّق هذه الحدود و الأقدار عليه، و النقص من علائم المصنوعيّة و أمارات الإمكان كان (تعالى و تقدّس) مقارناً لما يدلّ على كونه مصنوعاً و كان نفسه كسائر المصنوعات دليلاً على موجود آخر أزليّ كامل الوجود غير محدود الذات هو الإله المنزّه عن كلّ نقص مفروض، المتعالي عن أن تناله أيدي الحدود و الأقدار.

و اعلم أنّ ما يدلّ عليه قوله - من كون الدلالة هي من شؤون المصنوع الممكن - لا ينافي ما يستفاد من سائر كلامه و كلام سائر أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : أنّه تعالى معلوم بنفس ذاته، و غيره معلوم به، و أنّه دالّ على ذاته، و هو الدليل على مخلوقاته فإنّ العلم غير العلم و الدلالة غير الدلالة، و أرجو أن يوفّقني الله تعالى لإيضاحه و بسط الكلام فيه في بعض ما يرتبط به من الأبحاث الآتية إن شاء الله العزيز.

و في التوحيد، بإسناده عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: بينا أميرالمؤمنينعليه‌السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له( ذعلب) ذرب اللسان، بليغ في الخطاب، شجاع القلب فقال: يا أميرالمؤمنين هل رأيت ربّك؟ فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن لأعبد ربّاً لم أره!.

فقال: يا أميرالمؤمنين كيف رأيته؟ قال: يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار،

١٠٤

و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب إنّ ربّي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كلّ شي‏ء لا يقال: شي‏ء قبله، و بعد كلّ شي‏ء لا يقال: له بعد، شاء الأشياء لا بهمّة، دراك لا بخديعة، هو في الأشياء غير متمازج بها و لا بائن، عنها ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلّ لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسّم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدّر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، و لا تصحبه الأوقات، و لا تحدّه الصفات، و لا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، و الجسوء بالبلل، و الصرد بالحرور، مؤلّف بين متعادياتها، مفرّق بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها، و بتأليفها على مؤلّفها، و ذلك قوله عزّوجلّ:( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ، ففرّق بها بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرّزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه غير خلقه، كان ربّاً و لا مربوب، و إلهاً إذ لا مألوه، و عالماً إذ لا معلوم، و سميعاً إذ لا مسموع. ثمّ أنشأ يقول:

و لم يزل سيّدي بالحمد معروفاً

و لم يزل سيّدي بالجود موصوفاً

و كان إذ ليس نور يستضاء به

و لا ظلام على الآفاق معكوفاً

فربّنا بخلاف الخلق كـلّهم

و كلّ ما كان في الأوهام موصوفاً

الأبيات.

أقول: و كلامهعليه‌السلام - كما ترى - مسوق لبيان معنى أحديّة الذات في جميع ما يصدق عليه و يرجع إليه، و أنّه تعالى غير متناهي الذات و لا محدودها، فلا يقابل ذاته ذات و إلّا لهدّده بالتحديد و قهره بالتقدير، فهو المحيط بكلّ شي‏ء، المهيمن على

١٠٥

كلّ أمر، و لا يلحقه صفة تمتاز عن ذاته، فإنّ في ذلك بطلان أزليّته و عدم محدوديّته.

و أنّ صفته تعالى الكماليّة غير محدودة بحدّ يدفع الغير أو يدفعه الغير كما أنّ العلم فينا غير القدرة لما بينهما من المدافعة مفهوماً و مصداقاً، و لا تدافع بينهما فيه تعالى، بل الصفة عين الصفة و عين كلّ صفة من صفاته العليا و الاسم عين كلّ اسم من أسمائه الحسنى.

بل إنّ هنالك ما هو ألطف معنى و أبعد غوراً من ذلك و هو أنّ هذه المعاني و المفاهيم للعقل بمنزلة الموازين و المكاييل يوزن و يكتال بها الوجود الخارجيّ و الكون الواقعيّ فهي حدود محدودة لا تنعزل عن هذا الشأن و إن ضممنا بعضها إلى بعض، و استمددنا من أحدها للآخر، لا يغترف بأوعيتها إلّا ما يقاربها في الحدّ، فإذا فرضنا أمراً غير محدود ثمّ قصدناه بهذه المقاييس المحدودة لم ننل منه إلّا المحدود و هو غيره، و كلّما زدنا في الإمعان في نيله زاد تعالياً و ابتعاداً.

فمفهوم العلم مثلاً هو معنى أخذناه من وصف محدود في الخارج نعدّه كمالاً لما يوجد له، و في هذا المفهوم من التحديد ما يمنعه أن يشمل القدرة و الحياة مثلاً، فإذا أطلقناه عليه تعالى ثمّ عدّلنا محدوديّته بالتقييد في نحو قولنا: علم لا كالعلوم فهب أنّه يخلص من بعض التحديد لكنّه بعد مفهوم لا ينعزل عن شأنه و هو عدم شموله ما وراءه (و لكلّ مفهوم وراء يقصر عن شموله) و إضافة مفهوم إلى مفهوم آخر لا يؤدّي إلى بطلان خاصّة المفهوميّة، و هو ظاهر.

و هذا هو الّذي يحيّر الإنسان اللبيب في توصيفه تعالى بما يثبته له لبّه و عقله، و هو المستفاد من قولهعليه‌السلام :( لا تحدّه الصفات) و من قوله فيما تقدّم من خطبته المنقولة:( و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه) و قوله أيضاً في تلك الخطبة:( الذي ليس لصفته حدّ محدود، و لا نعت موجود) و أنت ترى أنّهعليه‌السلام يثبت الصفة في عين أنّه ينفيها أو ينفي حدّها، و من المعلوم أنّ إثباتها هي لا تنفكّ عن الحدّ فنفي الحدّ عنها إسقاط لها بعد إقامتها، و يؤول إلى أنّ إثبات شي‏ء من صفات الكمال فيه لا ينفي ما وراءها فتتّحد الصفات بعضها مع بعض ثمّ تتّحد مع الذات و لا حدّ، ثمّ لا ينفي ما

١٠٦

وراءها ممّا لا مفهوم لنا نحكي عنه، و لا إدراك لنا يتعلّق به فافهم ذلك.

و لو لا أنّ المفاهيم تسقط عند الإشراف على ساحة عظمته و كبريائه بالمعنى الّذي تقدّم لأمكن للعقل أن يحيط به بما عنده من المفاهيم العامّة المبهمة كوصفه بأنّه ذات لا كالذوات، و له علم لا كالعلوم، و قدرة لا كقدرة غيره، و حياة لا كسائر أقسام الحياة، فإنّ هذا النحو من الوصف لا يدع شيئاً إلّا أحصاه و أحاط به إجمالاً فهل يمكن أن يحيط به سبحانه شي‏ء؟ أو أنّ الممنوع هو الإحاطة به تفصيلاً، و أمّا الإحاطة الإجماليّة فلا بأس بها؟ و قد قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) طه: ١١٠، و قال:( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ ) حم السجدة: ٥٤، و الله سبحانه لا يحيط به شي‏ء من جهة من الجهات بنحو من أنحاء الإحاطة، و لا يقبل ذاته المقدّسة إجمالاً و تفصيلاً حتّى يتبعّض فيكون لإجماله حكم و لتفصيله حكم آخر فافهم ذلك.

و في الإحتجاج، عنهعليه‌السلام في خطبة:( دليله آياته، و وجوده إثباته، و معرفته توحيده، و توحيده تمييزه من خلقه، و حكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنّه ربّ خالق، غير مربوب مخلوق، ما تصوّر فهو بخلافه - ثمّ قالعليه‌السلام : - ليس بإله من عرف بنفسه، هو الدالّ بالدليل عليه، و المؤدّي بالمعرفة إليه) .

أقول: التأمّل فيما تقدّم يوضح أنّ الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عدديّة لصراحته في أنّ معرفته تعالى عين توحيده أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته، و لو كانت هذه الوحدة عدديّة لكانت غير الذات فكانت الذات في نفسها لا تفي بالوحدة إلّا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذات.

و هذا من عجيب المنطق و أبلغ البيان في باب التوحيد الّذي يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب، و من ألطف المقاصد الموضوعة فيه قولهعليه‌السلام :( وجوده إثباته) يريد به أنّ البرهان عليه نفس وجوده الخارجيّ أي إنّه لا يدخل الذهن، و لا يسعه العقل.

قوله:( ما تصوّر فهو بخلافه) ليس المراد به أنّه غير الصورة الذهنيّة فإنّ جميع الأشياء الخارجيّة على هذا النعت، بل المراد أنّه تعالى بخلاف ما يكشف عنه

١٠٧

التصوّر الذهنيّ أيّاً ما كان، فلا يحيط به صورة ذهنيّة، و لا ينبغي لك أن تغفل عن أنّه أنزه ساحة حتّى من هذا التصوّر أعني تصوّر أنّه بخلاف كلّ تصوّر.

و قوله:( ليس بإله من عرف بنفسه) مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلّق به معرفة، و قهره كلّ فهم و إدراك فإنّ كلّ من يتعلّق بنفسه معرفتنا هو في نفسه غير نفسنا و معرفتنا ثمّ يتعلّق به معرفتنا، لكنّه تعالى محيط بنا و بمعرفتنا، قيّم على ذلك فلا معصم تعتصم به أنفسنا و لا معرفتنا عن إحاطة ذاته و شمول سلطانه حتّى يتعلّق به تعلّق منعزل بمنعزل.

و بيّنعليه‌السلام ذلك بقوله:( هو الدالّ بالدليل عليه و المؤدّي بالمعرفة إليه) أي إنّه تعالى هو الدليل يدلّ الدليل على أن يدلّ عليه، و يؤدّي المعرفة إلى أن يتعلّق به تعالى نوع تعلّق لمكان إحاطته تعالى و سلطانه على كلّ شي‏ء، فكيف يمكن لشي‏ء أن يهتدي إلى ذاته ليحيط به و هو محيط به و باهتدائه؟.

و في المعاني، بإسناده عن عمر بن عليّ عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( التوحيد ظاهره في باطنه، و باطنه في ظاهره، ظاهره موصوف لا يرى، و باطنه موجود لا يخفى، يطلب بكلّ مكان، و لم يخل عنه مكان طرفة عين، حاضر غير محدود، و غائب غير مفقود) .

أقول: كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسوق لبيان وحدته تعالى غير العدديّة المبنيّة على كونه تعالى غير محدود بحدّ، فإنّ عدم المحدوديّة هو الموجب لعدم انعزال ظاهر توحيده و توصيفه تعالى عن باطنه، و باطنه عن ظاهره فإنّ الظاهر و الباطن إنّما يتفاوتان و ينعزل كلّ منهما عن الآخر بالحدّ فإذا ارتفع الحدّ اختلطاً و اتّحداً.

و كذلك الظاهر الموصوف إنّما يحاط به، و الباطن الموجود إنّما يخفى و يتحجّب إذا تحدّداً فلم يتجاوز كلّ منهما حدّه المضروب له، و كذلك الحاضر إنّما يكون محدوداً مجموعاً وجوده عند من حضر عنده، و الغائب يكون مفقوداً لمكان المحدوديّة، و لو لا ذلك لم يجتمع الحاضر بتمام وجوده عند من حضر عنده، و لم يستر الغائب حجاب الغيبة و لا ساتر دونه عمّن غاب عنه، و هو ظاهر.

١٠٨

( بحث تاريخي)

( كلام في معنى التوحيد)

القول بأنّ للعالم صانعاً ثمّ القول بأنّه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكّري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتّى أنّ الوثنيّة المبنيّة على الإشراك، إذا أمعنّا في حقيقة معناها وجدناها مبنيّة على أساس توحيد الصانع، و إثبات شفعاء عنده( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى‏ ) و إن انحرفت بعد عن مجراها، و آل أمرها إلى إعطاء الاستقلال و الأصالة لآلهة دون الله.

و الفطرة الداعية إلى توحيد الإله و إن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة و الكبرياء ذاتاً و صفة - على ما تقدّم بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز - غير أنّ اُلفة الإنسان و اُنسه في ظرف حياته بالآحاد العدديّة من جانب، و بلاء الملّيّين بالوثنيّين و الثنويّين و غيرهم لنفي تعدّد الآلهة من جانب آخر سجّل عدديّة الوحدة و جعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه.

و لذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديم و اليونان و إسكندريّة و غيرهم ممّن بعدهم يعطي الوحدة العدديّة حتّى صرّح بها مثل الرئيس أبي عليّ بن سينا في كتاب الشفاء، و على هذا المجرى يجري كلام غيره ممّن بعده إلى حدود الألف من الهجرة النبويّة.

و أمّا أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العدديّة أيضاً في عين أنّ هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامّة فهذا ما يتحصّل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة.

فالّذي بيّنه القرآن الكريم من معنى التوحيد أوّل خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أنّ أهل التفسير و المتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة و التابعين ثمّ الّذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث و كتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثراً من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، و لا بسلوك استدلاليّ.

١٠٩

و لم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلّا ما ورد في كلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصّة، فإنّ كلامه هو الفاتح لبابها، و الرافع لسترها و حجابها على أهدى سبيل و أوضح طريق من البرهان، ثمّ ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميّين بعد الألف الهجريّ، و قد صرّحوا بأنّهم إنّما استفادوه من كلامهعليه‌السلام .

و هذا هو السرّ في اقتصارنا في البحث الروائيّ السابق على نقل نماذج من غرر كلامهعليه‌السلام الرائق، لأنّ السلوك في هذه المسألة و شرحها من مسلك الإحتجاج البرهانيّ لا يوجد في كلام غيرهعليه‌السلام .

و لهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفيّ مستقلّ لهذه المسألة فإنّ البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلّفة من هذه المقدّمات المبيّنة في كلامه لا تزيد على ما في كلامه بشي‏ء، و الجميع مبنيّة على صرافة الوجود و أحديّة الذات جلّت عظمته(١) .

____________________

(١) و للناقد البصير و المتدبّر المتعمّق أن يقضي عجباً من ما صدر من الهفوة من عدّة من العلماء الباحثين حيث ذكروا أنّ هذه الخطب العلويّة الموضوعة في نهج البلاغة موضوعة دخيلة، و قد ذكر بعضهم أنّها من وضع الشريف الرضي رحمه الله، و قد تقدّم الكلام في أطراف هذه السقطة.

و ليت شعري كيف يسع للوضع و الدس أن يتسرب إلى موقف علمي دقيق لم يقو بالوقوف عليه أفهام العلماء حتّى بعد ما فتحعليه‌السلام بابه و رفع ستره قروناً متمادية إلى أن وفق لفهمه بعد ما سير في طريق الفكر المترقّي مسير ألف سنة، و لا أطاق حمله غيره من الصحابة و لا التابعون، بل كلام هؤلاء الرامين بالوضع ينادي بأعلى صوته أنّهم كانوا يظنّون أنّ الحقائق القرآنيّة و الاُصول العالية العلميّة ليست إلّا مفاهيم مبتذلة عاميّة و إنّما تتفاضل باللفظ الفصيح و البيان البليغ.

١١٠

( سورة المائدة الآيات ٨٧ - ٨٩)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ( ٨٧) وَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيّباً وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ( ٨٨) لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقّدتّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ( ٨٩)

( بيان)

الآيات الثلاثة و عدّة من الآيات الواقعة بعدها إلى بضع و مائة من آيات السورة آيات مبيّنة لعدّة من فروع الأحكام، و هي جميعاً كالمتخلّلة بين الآيات المتعرّضة لقصص المسيحعليه‌السلام و النصارى، و هي لكونها طوائف متفرّقة نازلة في أحكام متنوّعة كلّ منها ذات استقلال و تمام في ما تقصده من المعنى يشكل القضاء كونها نزلت دفعة أو صاحبت بقيّة آيات السورة في النزول إذ لا شاهد يشهد بذلك من مضامينها، و أمّا ما ورد من أسباب النزول فسيأتي بعض ما هو العمدة منها في البحث الروائيّ.

و كذلك القول في هذه الآيات الثلاث المبحوث عنها فإن الآية الثالثة مستقلّة في معناها، و تستقلّ عنها الآية الاُولى و إن لم تخلو من نوع من المناسبة فبينهما بعض الارتباط من جهة أنّ من جملة مصاديق لغو اليمين أن تتعلّق بتحريم بعض الطيّبات ممّا أحلّه الله تعالى، و لعلّ هذا هو الداعي لمن نقل عنه في أسباب النزول أنّه ذكر نزول الآيات جميعاً في اليمين اللاغية.

هذا حال الآية الاُولى مع الثالثة، و أمّا الآية الثانية فكأنّها من تمام الآية

١١١

الاُولى كما يشهد به بعض الشهادة ذيلها أعني قوله تعالى:( وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) بل و صدرها حيث يشتمل على العطف، و على الأمر بأكل الحلال الطيّب الّذي تنهى الآية الاُولى عن تحريمه و اجتنابه، و بذلك تلتئم الآيتان معنى و تتّحدان حكماً ذواتي سياق واحد.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) ، قال الراغب في المفردات: الحرام الممنوع منه إمّا بتسخير إلهيّ، و إمّا بمنع قهريّ، و إمّا بمنع من جهة العقل أو جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، انتهى موضع الحاجة.

و قال أيضاً: أصل الحلّ حلّ العقدة، و منه قوله عزّوجلّ:( وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ) ، و حللت: نزلت، أصله من حلّ الأحمال عند النزول ثمّ جرّد استعماله للنزول فقيل: حلّ حلولاً و أحلّه غيره، قال عزّوجلّ:( أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ، وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ) ، و يقال: حلّ الدين وجب أداؤه، و الحلّة القوم النازلون و حيّ حلال مثله، و المحلّة مكان النزول، و عن حلّ العقدة أستعير قولهم: حلّ الشي‏ء حلّاً قال الله تعالى:( وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالًا طَيِّباً ) ، و قال تعالى:( هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ ) ، انتهى.

فالظاهر أنّ مقابلة الحلّ الحرمة و كذا التقابل بين الحلّ و الحرم أو الإحرام من جهة تخيّل العقد في المنع الّذي هو معنى الحرمة و غيرها ثمّ مقابلته بالحلّ المستعار لمعنى الجواز و الإباحة، و اللفظان أعني الحلّ و الحرمة من الحقائق العرفيّة قبل الإسلام دون الشرعيّة أو المتشرّعيّة.

و الآية أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا ) إلخ، تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحلّ الله لهم و تحريم، ما أحلّ الله هو جعله حراماً كما جعله الله تعالى حلالاً و ذلك إمّا بتشريع قبال تشريع، و إمّا بالمنع أو الامتناع بأن يترك شيئاً من المحلّلات بالامتناع عن إتيانه أو منع نفسه أو غيره من ذلك فإنّ ذلك كلّه تحريم و منع و منازعة لله سبحانه في سلطانه و اعتداء عليه ينافي الإيمان بالله و آياته، و لذلك صدّر النهي بقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فإنّ المعنى: لا تحرّموا ما أحلّ الله لكم و قد آمنتم به و سلّمتم لأمره.

١١٢

و يؤيّده أيضاً قوله في ذيل الآية التالية:( وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) .

و إضافة قوله:( طَيِّباتِ ) إلى قوله:( ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) - مع أنّ الكلام تامّ بدونه - للإشارة إلى تتميم سبب النهي فإنّ تحريم المؤمنين لما أحلّ الله لهم على أنّه اعتداء منهم على الله في سلطانه، و نقض لإيمانهم بالله و تسليمهم لأمره كذلك هو خروج منهم عن حكم الفطرة، فإنّ الفطرة تستطيب هذه المحلّلات من غير استخباث، و قد أخبر الله سبحانه عن ذلك فيما نعت به نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الشريعة الّتي جاء بها حيث قال:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الأعراف: ١٥٧.

و بهذا الّذي بيّنّا يتأيّدأوّلاً: أنّ المراد بتحريم طيّبات ما أحلّ الله هو الإلزام و الالتزام بترك المحلّلات.

و ثانياً: أنّ المراد بالحلّ مقابل الحرمة و يعمّ المباحات و المستحبّات بل و الواجبات قضاءً لحقّ المقابلة.

و ثالثاً: أنّ إضافة الطيّبات إلى ما أحلّ الله في قوله:( طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) إضافة بيانيّة.

و رابعاً: أنّ المراد بالاعتداء في قوله:( وَ لا تَعْتَدُوا ) هو الاعتداء على الله سبحانه في سلطانه التشريعيّ، أو التعدّي عن حدود الله بالانخلاع عن طاعته و التسليم له و تحريم ما أحلّه كما قال تعالى في ذيل آية الطلاق:( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) البقرة: ٢٢٩، و قوله في ذيل آيات الإرث:( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ ) النساء: ١٤، و الآيات - كما ترى - تعدّ الاستقامة و الالتزام بما شرّعه الله طاعةً له تعالى و لرسوله ممدوحة، و الخروج عن التسليم و الالتزام و الانقياد

١١٣

اعتداءً و تعدّياً لحدود الله مذموماً معاقباً عليه.

فمحصّل مفاد الآية النهي عن تحريم ما أحلّه الله بالاجتناب عنه و الامتناع من الاقتراب منه فإنّه يناقض الإيمان بالله و آياته و يخالف كون هذه المحلّلات طيّبات لا خباثة فيها حتّى يجتنب عنها لأجلها، و هو اعتداء و الله لا يحبّ المعتدين.

قوله تعالى: ( وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) قد عرفت أنّ ظاهر السياق أنّ المراد بالاعتداء هو التحريم المذكور في الجملة السابقة عليه فقوله:( وَ لا تَعْتَدُوا ) يجري مجرى التأكيد لقوله:( لا تُحَرِّمُوا ) ، إلخ.

و أمّا ما ذكره بعضهم: أنّ المراد بالاعتداء تجاوز حدّ الاعتدال في المحلّلات بالانكباب على التمتّع بها و لاستلذاذ منها قبال تركها و اجتناب تناولها تقشّفاً و ترهّباً فيكون معنى الآية: لا تحرّموا على أنفسكم ما أحلّ الله لكم من الطيّبات المستلذّة بأن تتعمّدوا ترك التمتّع بها تنسّكاً و تقرّباً إليه تعالى، و لا تعتدوا بتجاوز حدّ الاعتدال إلى الإسراف و الإفراط الضارّ بأبدانكم أو نفوسكم.

أو أنّ المراد بالاعتداء تجاوز المحلّلات الطيّبة إلى الخبائث المحرّمة، و يعود المعنى إلى أن لا تجتنبوا المحلّلات و لا تقترفوا المحرّمات، و بعبارة اُخرى: لا تحرّموا ما أحلّ الله لكم، و لا تحلّلوا ما حرّم الله عليكم.

فكلّ من المعنيين و إن كان في نفسه صحيحاً يدلّ عليه الكتاب بما لا غبار عليه لكنّ شيئاً منهما لا ينطبق على الآية بظاهر سياقها و سياق ما يتلوها من الآية اللاحقة فما كلّ معنى صحيح يمكن تحميله على كلّ لفظ كيفما سيق و أينما وقع.

قوله تعالى: ( وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالًا طَيِّباً ) إلى آخر الآية، ظاهر العطف أعني انعطاف قوله:( وَ كُلُوا ) على قوله:( لا تُحَرِّمُوا ) أن يكون مفاد هذه الآية بمنزلة التكرار و التأكيد لمضمون الآية السابقة، و يؤيّده سياق صدر الآية من حيث اشتماله على قوله:( حَلالًا طَيِّباً ) ، و هو يحاذي قوله في الآية السابقة:( طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ ) ، و كذا ذيلها من حيث المحاذاة الواقعة بين قوله فيه:( وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) و قوله في الآية السابقة:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) و قد مرّ بيانه.

١١٤

و على هذا فقوله:( كُلُوا ) إلخ، من قبيل ورود الأمر عقيب الحظر، و تخصيص قوله:( كُلُوا ) بعد تعميم قوله:( لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ) إلخ، إمّا تخصيص بحسب اللفظ فقط، و المراد بالأكل مطلق التصرّف فيما رزقه الله تعالى من طيّبات نعمه، سواء كان بالأكل بمعنى التغذّي أو بسائر وجوه التصرّف، و قد تقدّم مراراً أنّ استعمال الأكل بمعنى مطلق التصرّف استعمال شائع ذائع.

و إمّا أن يكون المراد - و من الممكن ذلك - الأكل بمعناه الحقيقيّ، و يكون سبب نزول الآيتين تحريم بعض المؤمنين في زمن النزول المأكولات الطيّبة على أنفسهم فتكون الآيتان نازلتين في النهي عن ذلك، و قد عمّم النهي في الآية الاُولى للأكل و غيره إعطاءً للقاعدة الكلّيّة لكون ملاك النهي يعمّ محلّلات الأكل و غيرها على حدّ سواء.

و قوله:( مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) لازم ما استظهرناه من معنى الآيتين كونه مفعولاً لقوله:( كُلُوا ) و قوله:( حَلالًا طَيِّباً ) حالين من الموصول و بذلك تتوافق الآيتان، و ربّما قيل: إنّ قوله:( حَلالًا طَيِّباً ) مفعول قوله:( كُلُوا ) و قوله:( مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) متعلّق بقوله:( كُلُوا ) أو حال من الحلال قدّم عليه لكونه نكرة، أو كون قوله:( حَلالًا ) وصفاً لمصدر محذوف، و التقدير: رزقاً حلالاً طيّباً إلى غير ذلك.

و ربّما استدلّ بعضهم بقوله:( حَلالًا ) على أنّ الرزق يشمل الحلال و الحرام معاً و إلّا لغا القيد.

و الجواب: أنّه ليس قيداً احترازيّاً لإخراج ما هو رزق غير حلال و لا طيّب بل قيد توضيحيّ مساو لمقيّده، و النكتة في الإتيان به بيان أنّ كونه حلالاً طيّباً لا يدع عذراً لمعتذر في الاجتناب و الكفّ عنه على ما تقدّم، و قد تقدّم الكلام في معنى الرزق في ذيل الآية ٢٧ من سورة آل عمران في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) اللغو ما لا يترتّب عليه أثر من الأعمال، و الأيمان جمع يمين و هو القسم و

١١٥

الحلف قال الراغب في المفردات: و اليمين في الحلف مستعار من اليد اعتباراً بما يفعله المعاهد و المحالف و غيره، قال تعالى:( أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) انتهى، و التعقيد مبالغة في العقد و قرئ: عقدتم بالتخفيف، و قوله:( فِي أَيْمانِكُمْ ) متعلّق بقوله:( لا يُؤاخِذُكُمُ ) أو بقوله:( بِاللَّغْوِ ) و هو أقرب.

و التقابل الواقع بين قوله:( بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) و قوله:( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) يعطي أنّ المراد باللغو في الأيمان ما لا يعقد عليه الحالف، و إنّما يجري على لسانه جرياً لعادة اعتادها أو لغيرها و هو قولهم - و خاصّة في قبيل البيع و الشري -: لا و الله، بلى و الله، بخلاف ما عقد عليه عقداً بالالتزام بفعل أو ترك كقول القائل: و الله لأفعلنّ كذا، و و الله لأتركنّ كذا.

هذا هو الظاهر من الآية، و لا ينافي ذلك أن يعدّ شرعاً قول القائل: و الله لأفعلنّ المحرّم الفلانيّ، و الله لأتركنّ الواجب الفلانيّ مثلاً من لغو اليمين لكون الشارع ألغى اليمين فيما لا رجحان فيه، فإنّما هو إلحاق من جهة السنّة، و ليس من الواجب أن يدلّ القرآن على خصوص كلّ ما ثبت بالسنّة بخصوصه.

و أمّا قوله:( وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) فلا يشمل إلّا اليمين الممضاة شرعاً لمكان قوله في ذيل الآية:( وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) فإنّه لا مناص عن شموله لهذه الأيمان بحسب إطلاق لفظه، و لا معنى للأمر بحفظ الأيمان الّتي ألغى الله سبحانه اعتبارها فالمتعيّن أنّ اللغو من الأيمان في الآية ما لا عقد فيه، و ما عقد عليه هو اليمين الممضاة.

قوله تعالى: ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ - إلى قوله -أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ، الكفّارة هي العمل الّذي يستر به مساءة المعصية بوجه، من الكفر بمعنى الستر، قال تعالى:( نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) النساء: ٣١، قال الراغب: و الكفّارة ما يغطّي الإثمّ و منه كفّارة اليمين، انتهى.

و قوله:( فَكَفَّارَتُهُ ) تفريع على اليمين باعتبار مقدّر هو نحو من قولنا: فإن

١١٦

حنثتم فكفّارته كذا، و ذلك لأنّ في لفظ الكفّارة دلالة على معصية تتعلّق به الكفّارة، و ليست هذه المعصية هي نفس اليمين، و لو كان كذلك لم يورد في ذيل الآية قوله:( وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) إذ لا معنى لحفظ ما فيه معصية فالكفّارة إنّما تتعلّق بحنث اليمين لا بنفسها.

و منه يظهر أنّ المؤاخذة المذكورة في قوله:( وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) هي المؤاخذة على حنث اليمين لا على نفس إيقاعها، و إنّما اُضيفت إلى اليمين لتعلّق متعلّقها - أعني الحنث - بها، فقوله:( فَكَفَّارَتُهُ ) متفرّع على الحنث المقدّر لدلالة قوله:( يُؤاخِذُكُمُ ) ، إلخ، عليه، و نظير هذا البيان جار في قوله:( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) و تقديره: إذا حلفتم و حنثتم.

و قوله:( إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) خصال ثلاث يدلّ الترديد على تعيّن إحداها عند الحنث من غير جمع، و يدلّ قوله بعده:( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) على كون الخصال المذكورة تخييريّة من غير لزوم مراعاة الترتيب الواقع بينها في الذكر، و إلّا لغا التفريع في قوله:( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ) إلخ، و كان المتعيّن بحسب اقتضاء السياق أن يقال: أو صيام ثلاثة أيّام.

و في الآية أبحاث فرعيّة كثيرة مرجعها علم الفقه.

قوله تعالى: ( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) تقدّم أنّ الكلام في تقدير: إذا حلفتم و حنثتم، و في قوله:( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ ) و كذا في قوله:( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ) نوع التفات و رجوع من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لعلّ النكتة فيه أنّ الجملتين جميعاً من البيان الإلهيّ للناس إنّما هو بوساطة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكأنّ في ذلك حفظاً لمقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان ما اُوحي إليه للناس كما قال تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي يبيّن لكم بواسطة نبيّه أحكامه لعلّكم تشكرونه بتعلّمها و العمل بها.

١١٧

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) (الآية) قال: حدّثني أبي عن ابن أبي عمير، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: نزلت هذه الآية في أميرالمؤمنينعليه‌السلام و بلال و عثمان بن مظعون فأمّا أميرالمؤمنينعليه‌السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبداً، و أمّا بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنهار أبداً، و أمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبداً.

فدخلت امرأة عثمان على عائشة، و كانت امرأة جميلة فقالت عائشة: ما لي أراك متعطّلة؟ فقالت: و لمن أتزيّن؟ فوالله ما قربني زوجتي منذ كذا و كذا فإنّه قد ترهّب و لبس المسوح و زهد في الدنيا.

فلمّا دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه، ثمّ قال: ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيّبات؟ ألا إنّي أنام بالليل و أنكح و اُفطر بالنهار، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.

فقاموا هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله عليه:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) .

أقول: و في انطباق قوله تعالى:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) (الآية)، على حلفهم خفاءٌ، و قد تقدّم بعض الكلام فيه، و قد روى الطبرسيّ في مجمع البيان، القصّة عن أبي عبداللهعليه‌السلام و لم يذكر الّذيل فليتأمّل فيه.

و في الإحتجاج، عن الحسن بن عليّعليه‌السلام في حديث: أنّه قال لمعاوية و أصحابه:

١١٨

اُنشدكم بالله أ تعلمون أنّ عليّاً أوّل من حرّم الشهوات على نفسه من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) .

و في المجمع، في الآية: قال المفسّرون: جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً فذكّر الناس و وصف القيامة فرقّ الناس و بكوا و اجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحيّ، و هم عليّ و أبوبكر و عبدالله بن مسعود و أبوذرّ الغفاريّ و سالم مولى أبي حذيفة و عبدالله بن عمر و المقداد بن الأسود الكنديّ و سلمان الفارسيّ و معقل بن مقرن، و اتّفقوا على أن يصوموا النهار، و يقوموا الليل، و لا يناموا على الفرش، و لا يأكلوا اللحم و لا الودك، و لا يقربوا النساء و الطيب، و يلبسوا المسوح، و يرفضوا الدنيا، و يسيحوا في الأرض، و همّ بعضهم أن يجبّ مذاكيره.

فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته اُمّ حكيم بنت أبي اُميّة - و اسمها حولاء و كانت عطّارة -: أ حقّ ما بلغني عن زوجك و أصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا دخل عثمان أخبرته بذلك.

فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو و أصحابه فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ لم اُنبّئكم أنّكم اتّفقتم على كذا و كذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله و ما أردنا إلّا الخير، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لم اُومر بذلك، ثمّ قال: إنّ لأنفسكم عليكم حقّاً فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا فإنّي أقوم و أنام و أصوم و اُفطر و آكل اللحم و الدسم و آتي النساء، و من رغب عن سنّتي فليس منّي.

ثمّ جمع الناس و خطبهم و قال: ما بال أقوام حرّموا النساء و الطعام و الطيب و النوم و شهوات الدنيا أمّا إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين و رهباناً فإنّه ليس في ديني ترك اللحم و لا النساء و لا اتّخاذ الصوامع، و إنّ سياحة اُمّتي الصوم، و رهبانيّتهم الجهاد، اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئاً، و حجّوا، و اعتمروا، و أقيموا الصلاة، و آتوا الزكاة، و صوموا رمضان، و استقيموا يستقم لكم فإنّما هلك من كان قبلكم

١١٩

بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فاُولئك بقاياهم في الديارات و الصوامع فأنزل الله الآية.

أقول: و يظهر بالرجوع إلى روايات القوم أنّ هذه الرواية إنّما هي تلخيص للروايات المرويّة في هذا الباب، و هي كثيرة جدّاً فقد أوردها بالجمع بين شتات مضامينها بإدخال بعضها في بعض، و سبكها رواية واحدة.

و أمّا نفس هذه الروايات على كثرتها فلم يجتمع أسماء هؤلاء الصحابة في واحدة منها بل ذكر الأجمع منها لفظاً هؤلاء الصحابة بلفظ عثمان بن مظعون و أصحابه و في بعضها اُناس من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في بعضها رجال من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و كذلك ما وقع في هذه الرواية من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خطبته على تفصيلها متفرّقة الجمل في الروايات، و كذلك الّذي عقدوا عليه و همّوا به من التروك لم تصرّح الروايات بأنّهم اتّفقوا جميعهم على جميعها بل صرّح بعض الروايات باختلافهم فيما همّوا به أو عقدوا عليه‏ كما في صحيح البخاريّ و مسلم عن عائشة: أنّ ناساً من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألوا أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عمله في السرّ فقال بعضهم: لا آكل اللحم، و قال بعضهم: لا أتزوّج النساء، و قال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا و كذا؟ لكنّي أصوم و اُفطر، و أنام و أقوم، و آكل اللحم، و أتزوّج النساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.

و لعلّ المراد بقوله في الرواية: و اتّفقوا على أن يصوموا النهار إلخ، أنّ المجموع اتّفقوا على المجموع لا أنّ كلّ واحد منهم عزم على الجميع. و الروايات و إن كانت مختلفة في مضامينها، و فيها الضعيف و المرسل و المعتبر لكنّ التأمّل في جميعها يوجب الوثوق بأنّ رهطاً من الصحابة عزموا على هذا النوع من التزهّد و التنسّك، و أنّه كان فيهم عليّعليه‌السلام و عثمان بن مظعون، و أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهم: من رغب عن سنّتي فليس منّي، و الله أعلم، فعليك بالرجوع إلى التفاسير الروائيّة كتفسير الطبريّ و الدرّ المنثور و فتح القدير و أمثالها.

و في الدرّ المنثور: أخرج الترمذيّ و حسّنه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن عديّ

١٢٠