الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 75691
تحميل: 5706


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75691 / تحميل: 5706
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أقول: و الروايات في القصص الّتي أعقبت تحريم الخمر في الإسلام كثيرة من طرق الجمهور على ما فيها من الاختلاف الشديد.

أمّا هؤلاء الّذين ذكر منهم الشرب من الصحابة فلا شأن لنا في البحث عنهم فيما نحن بصدده من البحث المرتبط بالتفسير غير أنّ هذه الروايات تؤيّد ما ذكرناه في البيان السابق: أنّ في الآيات إشعاراً أو دلالة على أنّ رهطاً من المسلمين ما تركوا شرب الخمر بعد نزول آية البقرة حتّى نزلت آية المائدة.

نعم ورد في بعض الروايات أنّ عليّاًعليه‌السلام و عثمان بن مظعون كانا قد حرّما الخمر على أنفسهما قبل نزول التحريم، و قد ذكر في الملل و النحل رجالاً من العرب حرّموا الخمر على أنفسهم في الجاهليّة، و قد وفّق الله سبحانه بعض هؤلاء أن أدرك الإسلام و دخل فيه، منهم عامر بن الظرب العدوانيّ، و منهم قيس بن عامر التميميّ و قد أدرك الإسلام، و منهم صفوان بن اُميّة بن محرث الكنانيّ و عفيف بن معدي كرب الكنديّ و الاُسلوم الياميّ و قد حرّم الزنا و الخمر معاً، و هؤلاء آحاد من الرجال جرى كلمة الحقّ على لسانهم، و أمّا عامّتهم في الجاهليّة كعامّة أهل الدنيا يومئذ إلّا اليهود فقد كانوا يعتادون شربها من غير بأس حتّى حرّمها الله سبحانه في كتابه.

و الّذي تفيده آيات الكتاب العزيز أنّها حرّمت في مكّة قبل الهجرة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ ) الأعراف: ٣٣ و الآية مكّيّة، و إذا انضمّت إلى قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، و هي آية مدنيّة نازلة في أوائل الهجرة لم يبق شكّ في ظهور حرمتها للمسلمين يومئذ، و إذا تدبّرنا في سياق آيات المائدة، و خاصّة فيما يفيده قوله:( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) و قوله:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا ) ، الآية انكشف أنّ ما ابتلي به رهط منهم من شربها فيما بين نزول آية البقرة و آية المائدة إنّما كان كالذنابة لسابق العادة السيّئة نظير ما كان من النكاح في ليلة الصيام

١٤١

عصياناً حتّى نزل قوله تعالى:( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى‏ نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ ) البقرة: ١٨٧.

فقد تبيّن أنّ في هذه الروايات كلاماً من وجهين:

أحدهما: من جهة اختلافها في تاريخ تحريم الخمر فقد مرّ في الرواية الاُولى أنّها قبيل غزوة اُحد، و في بعض الروايات: أنّ ذلك بعد غزوة الأحزاب(١) . لكنّ الأمر في ذلك سهل في الجملة لإمكان حملها على كون المراد بتحريم الخمر فيها نزول آية المائدة و إن لم يوافقه لفظ بعض الروايات كلّ الموافقة.

و ثانيهما: من جهة دلالتها على أنّ الخمر لم تكن بمحرّمة قبل نزول آية المائدة أو أنّها لم تظهر حرمتها قبلئذ للناس و خاصّة للصحابة مع صراحة آية الأعراف المحرّمة للإثم و آية البقرة المصرّحة بكونها إثماً، و هي صراحة لا تقبل تأويلاً.

بل من المستبعد جدّاً أن تنزل حرمة الإثمّ بمكّة قبل الهجرة في آية تتضمّن جمل المحرّمات أعني قوله:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) الأعراف: ٣٣، ثمّ يمرّ عليه زمان غير يسير، و لا يستفسر المؤمنون معناه من نبيّهم و لا يستوضحه المشركون و أكبر همّهم النقض و الاعتراض على كتاب الله مهما توهّموا إليه سبيلاً.

بل المستفاد من التاريخ أنّ تحريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للخمر كتحريمه الشرك و الزنا كان معروفاً عند المشركين يدلّ على ذلك ما رواه ابن هشام في السيرة عن خلّاد بن قرّة و غيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم: أنّ أعشى بني قيس خرج إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد الإسلام فقال يمدح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

____________________

(١) روى ذلك الطبريّ في تفسيره، و السيوطيّ في الدرّ المنثور عنه و عن ابن المنذر عن قتادة.

١٤٢

أ لم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

و بتّ كما بات السليم مسهّداً

(القصيدة).

فلمّا كان بمكّة أو قريباً منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه جاء يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسلم فقال له: يا أبا بصير إنّه يحرّم الزنا فقال الأعشى: و الله إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من إرب، فقال له: يا أبابصير فإنّه يحرّم الخمر فقال الأعشى: أمّا هذه فإنّ في النفس منها لعلالات، و لكنّي منصرف فأتروّى منها عامي هذا ثمّ آتيه فاُسلم فانصرف فمات في عامه ذلك و لم يعدّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلا يبقى لهذه لروايات إلّا أن تحمل على استفادتهم ذلك باجتهادهم في الآيات مع الذهول عن آية الأعراف، و للمفسّرين في تقريب معنى هذه الروايات توجيهات غريبة(١) .

و بعد اللتيّا و الّتي فالكتاب نصّ في تحريم الخمر في الإسلام قبل الهجرة، و لم تنزل آية المائدة إلّا تشديداً على الناس لتساهلهم في الانتهاء عن هذا النهي الإلهيّ و إقامة حكم الحرمة.

و في تفسير العيّاشيّ: عن هشام عن الثقة رفعه عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّه قيل له: روي عنكم: أنّ الخمر و الأنصاب و الأزلام رجال؟ فقال: ما كان ليخاطب الله خلقه بما لا يعقلون.

و فيه: عن عبدالله بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: اُتي عمر بن الخطّاب بقدامة بن مظعون و قد شرب الخمر و قامت عليه البيّنة فسأل عليّاً فأمره أن يجلده ثمانين جلدة، فقال قدامة: يا أميرالمؤمنين ليس عليّ حدّ أنا من أهل هذه الآية:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) فقرأ الآية حتّى استتمّها فقال له عليّعليه‌السلام : كذبت لست من أهل هذه الآية ما طعم أهلها فهو حلال لهم، و ليس يأكلون

____________________

(١) حتّى بذكر بعضهم: أنّ الصحابة كانوا يتأولون آية البقرة:( قيل فيهما إثم) مع تصريح القرآن بحرمة الإثمّ قبل ذلك في آية الأعراف، بأنّ المراد به الإثم الخالص.

١٤٣

و لا يشربون إلّا ما يحلّ لهم.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن أبي الربيع عنهعليه‌السلام ، و رواه أيضاً الشيخ في التهذيب، بإسناده عن ابن سنان عنهعليه‌السلام ، و هذا المعنى مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً.

و قولهعليه‌السلام :( ما طعم أهلها فهو حلال لهم، إلخ‏) منطبق على ما قرّرناه في البيان السابق من معنى الآية فراجع.

و في تفسير الطبريّ، عن الشعبيّ قال: نزلت في الخمر أربع آيات:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) ، الآية فتركوها ثمّ نزلت:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) فشربوها ثمّ نزلت الآيتان في المائدة:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ - إلى قوله -فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) .

أقول: ظاهره نسخ آية النحل لآية البقرة ثمّ نسخ آيتي المائدة لآية النحل، و أنت لا تحتاج في القضاء على بطلانه إلى بيان زائد.

و في الكافي، و التهذيب، بإسنادهما عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ما بعث الله نبيّاً قطّ إلّا و في علم الله أنّه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، و لم يزل الخمر حراماً و إنّما ينقلون من خصلة ثمّ خصلة، و لو حمل ذلك جملة عليهم لقطع بهم دون الدين، قال: و قال أبوجعفرعليه‌السلام : ليس أحد أرفق من الله تعالى فمن رفقه تبارك و تعالى أنّه ينقلهم من خصلة إلى خصلة و لو حمل عليهم جملة لهلكوا.

و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لما أنزل الله عزّوجلّ على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) قيل: يا رسول الله ما الميسر؟ قال: كلّما تقمّرت به حتّى الكعاب و الجوز، قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم الّتي يستقسمون بها.

و فيه،: بإسناده عن عطاء بن يسار عن أبي جعفرعليه‌السلام : قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مسكر حرام، و كلّ مسكر خمر.

أقول: و الرواية مرويّة من طرق أهل السنّة أيضاً عن عبدالله بن عمر عن النبيّ

١٤٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لفظها: كلّ مسكر خمر، و كلّ خمر حرام رواها البيهقيّ و غيره، و قد استفاضت الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بأنّ كلّ مسكر حرام، و أنّ كلّما يقامر عليه فهو ميسر.

و في تفسير العيّاشيّ: عن أبي الصباح عن أبي عبداللهعليه‌السلام : قال: سألته عن النبيذ و الخمر بمنزلة واحدة هما؟ قال: لا، إنّ النبيذ ليس بمنزلة الخمر، إنّ الله حرّم الخمر قليلها و كثيرها كما حرّم الميتة و الدم و لحم الخنزير، و حرّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأشربة المسكر، و ما حرّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد حرّم الله.

و في الكافي، و التهذيب، بإسنادهما عن موسى بن جعفرعليه‌السلام قال: إنّ الله لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبتها عاقبة الخمر فهو خمر، و في رواية: فما فعل فعل الخمر فهو خمر.

أقول: و الأخبار في ذمّ الخمر و الميسر من طرق الفريقين فوق حدّ الإحصاء من أراد الوقوف عليها فعليه بجوامع الحديث.

١٤٥

( سورة المائدة الآيات ٩٤ - ٩٩)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مِن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٩٤) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُتَعَمّدَاً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ( ٩٥) أُحِلّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعَاً لَكُمْ وَلِلسّيّارَةِ وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدَ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ( ٩٦) جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنّاسِ وَالشّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ( ٩٧) اعْلَمُوا أَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٩٨) مَا عَلَى الرّسُولِ إِلّا الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ( ٩٩)

( بيان)

الآيات في بيان حكم صيد البرّ و البحر في حال الإحرام.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ ) البلاء هو الامتحان و الاختبار، و لام القسم و النون المشدّدة للتأكيد، و قوله:( بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصَّيْدِ ) يفيد التحقير ليكون تلقينه للمخاطبين عوناً لهم على انتهائهم إلى ما سيواجههم من النهي في الآية الآتية، و قوله:( تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ ) تعميم للصيد من حيث سهولة الاصطياد كما في فراخ الطير و صغار الوحش و البيض تنالها الأيدي فتصطاد بسهولة، و من حيث صعوبة الاصطياد ككبار الوحش لا تصطاد عادة إلّا بالسلاح.

١٤٦

و ظاهر الآية أنّها مسوقة كالتوطئة لما ينزل من الحكم المشدّد في الآية التالية، و لذلك عقّب الكلام بقوله:( لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ) فإنّ فيه إشعاراً بأنّ هناك حكماً من قبيل المنع و التحريم ثمّ عقّبه بقوله:( فَمَنِ اعْتَدى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ) لا يبعد أن يكون قوله: ليبلونّكم الله ليعلم كذا كناية عن أنّه سيقدّر كذا ليتميّز منكم من يخاف الله بالغيب عمّن لا يخافه لأنّ الله سبحانه لا يجوز عليه الجهل حتّى يرفعه بالعلم، و قد تقدّم البحث المستوفى عن معنى الامتحان في تفسير قوله تعالى:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ) الآية: آل عمران: ١٤٢ في الجزء الرابع من هذا الكتاب، و تقدّم أيضاً معنى آخر لهذا العلم.

و أمّا قوله:( مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ) فالظرف متعلّق بالخوف، و معنى الخوف بالغيب أن يخاف الإنسان ربّه و يحترز ما ينذره به من عذاب الآخرة و أليم عقابه، و كلّ ذلك في غيب من الإنسان لا يشاهد شيئاً منه بظاهر مشاعره، قال تعالى:( إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ) يس: ١١، و قال:( وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) ق: ٣٣، و قال:( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) الأنبياء: ٤٩.

و قوله:( فَمَنِ اعْتَدى‏ بَعْدَ ذلِكَ ) أي تجاوز الحدّ الّذي يحدّه الله بعد البلاء المذكور فله عذاب أليم.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ ) إلخ، الحرم بضمّتين جمع الحرام صفة مشبهة، قال في المجمع: و رجل حرام و محرم بمعنى، و حلال و محلّ كذلك، و أحرم الرجل دخل في الشهر الحرام، و أحرم أيضاً دخل في الحرم، و أحرم أهلّ بالحجّ، و الحرم الإحرام، و منه الحديث: كنت اُطيّب النبيّ لحرمه، و أصل الباب، المنع و سمّيت النساء حرماً لأنّها تمنع، و المحروم الممنوع الرزق.

١٤٧

قال: و المثل و المثل و الشبه و الشبه واحد، قال: و النعم في اللغة الإبل و البقر و الغنم، و إن انفردت الإبل قيل لها: نعم، و إن انفردت البقر و الغنم لم تسمّ نعماً ذكره الزجّاج.

قال: قال الفرّاء: العدل بفتح العين ما عادل الشي‏ء من غير جنسه، و العدل بالكسر المثل تقول: عندي عدل (بالكسر) غلامك أو شاتك إذا كانت شاة تعدل شاةً أو غلام يعدل غلاماً فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت و قلت: عدل، و قال البصريّون: العدل و العدل في معنى المثل كان من الجنس أو غير الجنس.

قال: و الوبال ثقل الشي‏ء في المكروه، و منه قولهم: طعام وبيل و ماء وبيل إذا كانا ثقيلين غير ناميين في المال، و منه:( فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا ) أي ثقيلاً شديداً، و يقال لخشبة القصّار: وبيل من هذا، انتهى.

و قوله:( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ ) نهي عن قتل الصيد لكن يفسّره بعض التفسير قوله بعد:( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) هذا من جهة الصيد، و يفسّره من جهة معنى القتل قوله:( وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ ) إلخ، فقوله:( مُتَعَمِّداً ) حال من قوله:( مَنْ قَتَلَهُ ) و ظاهر التعمّد ما يقابل الخطأ الّذي هو القتل من غير أن يريد بفعله ذلك كمن يرمي إلى هدف فأصاب صيداً، و لازمه وجوب الكفّارة إذا كان قاصداً لقتل الصيد سواء كان على ذكر من إحرامه أو ناسياً أو ساهياً.

و قوله:( فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) لظاهر معناه: فعليه جزاء ذلك الجزاء مثل ما قتل من الصيد، و ذلك الجزاء من النعم المماثلة لما قتله يحكم به أي بذلك الجزاء المماثل رجلاًن منكم ذوا عدل في الدين حال كون الجزاء المذكور هدياً يهدي به بالغ الكعبة ينحر أو يذبح في الحرم بمكّة أو بمنى على ما يبيّنه السنّة النبويّة.

فقوله:( فَجَزاءٌ ) بالرفع مبتدأ لخبر محذوف يدلّ عليه الكلام، و قوله:( مِثْلُ ما قَتَلَ ) و قوله:( مِنَ النَّعَمِ ) و قوله:( يَحْكُمُ بِهِ ) إلخ، أوصاف للجزاء، و قوله:( هَدْياً

١٤٨

بالِغَ الْكَعْبَةِ ) موصوف و صفة، و الهدي حال من الجزاء تقدّم، هذا، و قد قيل: غير ذلك.

و قوله:( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً ) خصلتان اُخريان من خصال كفّارة قتل الصيد، و كلمة( أَوْ ) لا يدلّ على أزيد من مطلق الترديد، و الشارح السنّة، غير أنّ قوله:( أَوْ كَفَّارَةٌ ) حيث سمّى طعام المساكين كفّارة ثمّ اعتبر ما يعادل الطعام من الصيام لا يخلو من إشعار بالترتيب بين الخصال.

و قوله:( لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ ) اللّام للغاية، و هي و مدخولها متعلّق بقوله:( فَجَزاءٌ ) فالكلام يدلّ على أنّ ذلك نوع مجازاة.

قوله تعالى: ( عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ) ، إلى آخر الآية تعلّق العفو بما سلف قرينة على أنّ المراد بما سلف هو ما تحقّق من قتل الصيد قبل نزول الحكم بنزول الآية فإنّ تعلّق العفو بما يتحقّق حين نزول الآية أو بعده يناقض جعل الحكم و هو ظاهر، فالجملة لدفع توهّم شمول حكم الكفّارة للحوادث السابقة على زمان النزول.

و الآية من الدليل على جواز تعلّق العفو بما ليس بمعصية من الأفعال إذا كان من طبعها اقتضاء النهي المولويّ لاشتمالها على المفسدة، و أمّا قوله:( وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَ اللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ) فظاهر العود تكرّر الفعل، و هذا التكرّر ليس تكرّر ما سلف من الفعل بأن يكون المعنى: و من عاد إلى مثل ما سلف منه من الفعل فينتقم الله منه لأنّه حينئذ ينطبق على الفعل الّذي يتعلّق به الحكم في قوله:( وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ ) إلخ و يكون المراد بالانتقام هو الحكم بالكفّارة، و هو حكم ثابت بالفعل لكن ظاهر قوله:( فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ) أنّه إخبار عن أمر مستقبل لا عن حكم حالّ فعليّ.

و هذا شاهد على أنّ المراد بالعود العود ثانياً إلى فعل تعلّق به الكفّارة، و المراد بالانتقام العذاب الإلهيّ غير الكفّارة المجعولة.

و على هذا فالآية بصدرها و ذيلها تتعرّض لجهات مسألة قتل الصيد، أمّا ما وقع

١٤٩

منه قبل نزول الحكم فقد عفا الله عنه، و أمّا بعد جعل الحكم فمن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل في المرّة الاُولى فإن عاد فينتقم الله منه و لا كفّارة عليه، و على هذا يدلّ معظم الأخبار المرويّة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في تفسير الآية.

و لو لا هذا المعنى كان كالمتعيّن حمل الانتقام في قوله:( فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ) على ما يعمّ الحكم بوجوب الكفّارة، و حمل العود على فعل ما يماثل ما سلف منهم من قتل الصيد أي و من عاد إلى مثل ما كانوا عليه من قتل الصيد قبل هذا الحكم، أي و من قتل الصيد فينتقم الله منه أي يؤاخذه بإيجاب الكفّارة، و هذا - كما ترى - معنى بعيد من اللفظ.

قوله تعالى: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ ) إلى آخر الآية، الآيات في مقام بيان حكم الاصطياد من بحر أو برّ، و هو الشاهد على أنّ متعلّق الحلّ هو الاصطياد في قوله:( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) دون أكله، و بهذه القرينة يتعيّن قوله:( وَ طَعامُهُ ) في أنّ المراد به ما يؤكل دون المعنى المصدريّ الّذي هو الأكل و المراد بحلّ طعام البحر حلّ أكله فمحصّل المراد من حلّ صيد البحر و طعامه جواز اصطياد حيوان البحر و حلّ أكل ما يؤخذ منه.

و ما يؤخذ من طعام البحر و إن كان أعمّ ممّا يؤخذ منه صيداً كالعتيق من لحم الصيد أو ما قذفته البحر من ميتة حيوان و نحوه إلّا أنّ الوارد من أخبار أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تفسيره بالمملوح و نحوه من عتيق الصيد، و قوله:( مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ ) كأنّه حال من صيد البحر و طعامه، و فيه شي‏ء من معنى الامتنان.

و حيث كان الخطاب للمؤمنين من حيث كونهم محرمين كانت المقابلة بينهم و بين السيّارة في قوّة قولنا: متاعاً للمحرمين و غيرهم.

و اعلم أنّ في الآيات أبحاثاً فرعيّة كثيرة معنونة في الكتب الفقهيّة من أرادها فليراجعها.

قوله تعالى: ( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ ) ظاهر تعليق الكلام بالكعبة ثمّ بيانه بالبيت بأنّه بيت حرام،

١٥٠

و كذا توصيف الشهر بالحرام ثمّ ذكر الهدي و القلائد اللّذين يرتبط شأنهما بحرمة البيت، كلّ ذلك يدلّ على أنّ الملاك فيما يبيّن الله سبحانه في هذه الآية من الأمر إنّما هو الحرمة.

و القيام ما يقوم به الشي‏ء، قال الراغب: و القيام و القوام اسم لما يقوم به الشي‏ء أي يثبت كالعماد و السناد لما يعمد و يسند به كقوله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً ) أي جعلها ممّا يمسككم، و قوله:( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ) أي قواماً لهم يقوم به معاشهم و معادهم، قال الأصمّ: قائماً لا ينسخ، و قرئ: قيماً بمعنى قياماً، انتهى.

فيرجع معنى قوله:( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ) إلى أنّه تعالى جعل الكعبة بيتاً حراماً احترمه، و جعل بعض الشهور حراماً، و وصل بينهما حكماً كالحجّ في ذي الحجّة الحرام، و جعل هناك اُموراً تناسب الحرمة كالهدي و القلائد كلّ ذلك لتعتمد عليه حياة الناس الاجتماعيّة السعيدة.

فإنّه جعل البيت الحرام قبلة يوجّه إليه الناس وجوههم في صلواتهم و يوجّهون إليه ذبائحهم و أمواتهم، و يحترمونه في سيّئ حالاتهم، فيتوحّد بذلك جمعهم، و يجتمع به شملهم، و يحيى و يدوم به دينهم، و يحجّون إليه من مختلف الأقطار و أقاصي الآفاق فيشهدون منافع لهم، و يسلكون به طرق العبوديّة.

و يهدي باسمه و بذكره و النظر إليه و التقرّب به و التوجّه إليه العالمون، و قد بيّنه الله تعالى بوجه آخر قريب من هذا الوجه بقوله:( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ ) آل عمران: ٩٦ و قد وافاك في الآية في الجزء الثالث من هذا الكتاب من الكلام ما يتنوّر به المقام.

و نظير ذلك الكلام في كون الشهر الحرام قياماً للناس و قد حرّم الله فيه القتال، و جعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم و أعراضهم و أموالهم، و يصلحون فيه ما فسد أو اختلّ من شؤون حياتهم، و الشهر الحرام بين الشهور كالموقف و المحطّ الّذي يستريح فيه المتطرّق التعبان، و بالجملة البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتعلّق بذلك من هدي

١٥١

و قلائد قيام للناس من عامّة جهات معاشهم و معادهم، و لو استقرأ المفكّر المتأمل جزئيّات ما ينتفع به الناس انتفاعاً جارياً أو ثابتاً من بركات البيت العتيق و الشهر الحرام من صلة الأرحام، و مواصلة الأصدقاء، و إنفاق الفقراء، و استرباح الأسواق، و موادّة الأقرباء و الأداني، و معارفة الأجانب و الأباعد، و تقارب القلوب، و تطهّر الأرواح، و اشتداد القوى، و اعتضاد الملّة، و حياة الدين، و ارتفاع أعلام الحقّ، و رايات التوحيد أصاب بركات جمّة و رأى عجباً.

و كان المراد من ذكر هذه الحقيقة عقيب الآيات الناهية عن الصيد هو دفع ما يتوهّم أنّ هذه أحكام عديمة أو قليلة الجدوى، فأيّ فائدة لتحريم الصيد في مكان من الأمكنة أو زمان من الأزمنة؟ و أيّ جدوى في سوق الهدي و نحو ذلك؟ و هل هذه الأحكام إلّا مشاكلة لما يوجد من النواميس الخرافيّة بين الاُمم الجاهلة الهمجيّة؟.

فاُجيب عن ذلك بأنّ اعتبار البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتبعهما من الحكم مبنيّ على حقيقة علميّة و أساس جدّيّ و هو أنّها قيام يقوم به صلب حياتهم.

و من هنا يظهر وجه اتّصال قوله:( ذلِكَ لِتَعْلَمُوا ) ، إلى آخر الآية بما قبله، و المشار إليه بقوله:( ذلِكَ ) إمّا نفس الحكم المبيّن في الآيات السابقة الّذي يوضح حكمة تشريعه قوله:( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ) إلخ، و إمّا بيان الحكم الموضح بقوله:( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ ) إلخ، المدلول عليه بالمقام.

و المعنى على التقدير الأوّل أنّ الله جعل البيت الحرام و الشهر الحرام قياماً للناس و وضع ما يناسبهما من الأحكام لينتقلوا من حفظ حرمتهما و العمل بالأحكام المشرّعة فيهما إلى أنّ الله عليم بما في السماوات و الأرض و ما يصلح شؤونها، فشرع ما شرع لكم عن علم من غير أن يكون شي‏ء من ذلك حكماً خرافيّاً صادراً عن جهالة الوهم.

و المعنى على التقدير الثاني أنّا بيّنّا لكم هذه الحقيقة و هي جعل البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتبعهما من الأحكام قياماً للناس لتعلموا أنّ الله عليم بما في السماوات و الأرض و ما يتبعها من الأحكام المصلحة لشؤونها فلا تتوهّموا أنّ هذه الأحكام المشرّعة لاغية من غير جدوى أو أنّها خرافات مختلقة.

١٥٢

قوله تعالى: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، إلى آخر الآيتين تأكيد للبيان و تثبيت لموقع الأحكام المذكورة، و وعيد و وعد للمطيعين و العاصين، و فيه شائبة تهديد، و لذلك قدّم توصيفه بشدّة العقاب على توصيفه بالمغفرة و الرحمة، و لذلك أيضاً أعقب الكلام بقوله:( ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَ اللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ ) .

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن حمّاد بن عيسى و ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ ) ، قال: حشرت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمرة الحديبية الوحوش حتّى نالتها أيديهم و رماحهم.

أقول: و رواه العيّاشيّ، عن معاوية بن عمّار مرسلاً، و روى هذا المعنى أيضاً الكلينيّ في الكافي، و الشيخ في التهذيب، بإسنادهما إلى الحلبيّ عن الصادقعليه‌السلام ، و العيّاشيّ عن سماعة عنهعليه‌السلام مرسلاً، و كذا القمّيّ في تفسيره مرسلاً، و روي ذلك عن مقاتل بن حيّان كما يأتي.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان قال: اُنزلت هذه الآية في عمرة الحديبيّة فكانت الوحوش و الطير و الصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قطّ فيما خلا فنهاهم الله عن قتله و هم محرمون ليعلم الله من يخافه بالغيب.

أقول: و الروايتان لا تنافيان ما قدّمناه في البيان السابق من عموم معنى الآية.

و في الكافي، مسنداً عن أحمد بن محمّد رفعه: في قوله تبارك و تعالى:( تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ ) ، قال: ما تناله الأيدي البيض و الفراخ، و ما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي.

و في تفسير العيّاشيّ، بإسناده عن حريز، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا قتل الرجل المحرم حمامة ففيها شاة، فإن قتل فرخاً ففيه جمل، فإن وطأ بيضة فكسرها فعليه درهم،

١٥٣

كلّ هذا يتصدّق بمكّة و منى، و هو قول الله في كتابه:( لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ ) البيض و الفراخ( وَ رِماحُكُمْ ) الاُمّهات الكبار.

أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، عن حريز عنهعليه‌السلام مقتصراً على الشطر الأخير من الحديث.

و في التهذيب، بإسناده عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاؤه و يتصدّق بالصيد على مسكين، فإن عاد فقتل صيداً آخر لم يكن عليه جزاء و ينتقم الله منه، و النقمة في الآخرة.

و فيه: عن الكلينيّ، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه كفّارة، فإن أصابه ثانية متعمّداً فهو ممّن ينتقم الله منه، و لم يكن عليه كفّارة.

و فيه: عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبدالله: محرم أصاب صيداً؟ قال: عليه كفّارة قلت: فإن هو عاد؟ قال: عليه كلّما عاد كفّارة.

أقول: الروايات - كما ترى - مختلفة، و قد جمع الشيخ بينها بأنّ المراد أنّ المحرم إذا قتل متعمّداً فعليه كفّارة و إن عاد متعمّداً فلا كفّارة عليه، و هو ممّن ينتقم الله منه، و أمّا الناسي فكلّما عاد فعليه كفّارة.

و فيه: بإسناده عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) فالعدل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الإمام من بعده يحكم به و هو ذو عدل فإذا علمت ما حكم الله به من رسول الله و الإمام فحسبك و لا تسأل عنه.

أقول: و في هذا المعنى عدّة روايات‏ و في بعضها: تلوت عند أبي عبداللهعليه‌السلام :( ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) فقال: ذو عدل منكم، هذا ممّا أخطأت به الكتّاب‏، و هو يرجع إلى القراءة كما هو ظاهر.

و في الكافي، عن الزهريّ عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: صوم جزاء الصيد واجب قال الله عزّوجلّ:( وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً ) .

١٥٤

أ و تدري كيف يكون عدل ذلك صياماً يا زهريّ؟ قال: قلت: لا أدري، قال: يقوّم الصيد ثمّ تفضّ تلك القيمة على البرّ ثمّ يكال ذلك البرّ أصواعاً فيصوم لكلّ نصف صاع يوماً.

و فيه، بإسناده عن أحمد بن محمّد، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: من وجب عليه هدي في إحرامه فله أن ينحره حيث شاء إلّا فداء الصيد فإنّ الله يقول:( هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن حريز، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال:( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ ) قال: مالحه الّذي يأكلون و قال: فصل ما بينهما: كلّ طير يكون في الآجام يبيض في البرّ و يفرخ في البرّ من صيد البرّ، و ما كان من الطير يكون في البرّ و يبيض في البحر و يفرخ فهو من صيد البحر.

و فيه: عن زيد الشحّام، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ ) قال: هي حيتان المالح، و ما تزوّدت منه أيضاً و إن لم يكن مالحاً فهو متاع.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام من طرق الشيعة.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرّة، و أحمد عن رجل من الأنصار: أنّ رجلاً أوطأ بعيره أدحى نعامة فكسر بيضها فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليك بكلّ بيضة صوم يوم أو إطعام مسكين.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن ابن أبي شيبة عن عبدالله بن ذكوان، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رواه أيضاً عنه عن أبي الزناد عن عائشة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه: أخرج أبوالشيخ و ابن مردويه من طريق أبي المهزم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: في بيض النعام ثمنه.

و فيه: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر محمّد بن عليّ: أنّ رجلاً سأل عليّاً عن الهدي ممّا هو؟ قال: من الثمانية الأزواج فكأنّ الرجل شكّ فقال عليّ: تقرؤ

١٥٥

القرآن؟ فكأنّ الرجل قال: نعم، قال: فسمعت الله يقول:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) ؟ قال: نعم قال سمعته يقول:( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى‏ ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً ) ، فكلوا من بهيمة الأنعام؟ قال: نعم.

قال: فسمعته يقول:( مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ) ؟ قال: نعم قال: فسمعته يقول:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) ؟ قال الرجل: نعم.

فقال: إن قتلت ظبياً فما عليّ؟ قال: شاة قال عليّ: هدياً بالغ الكعبة؟ قال الرجل: نعم فقال عليّ: قد سمّاه الله بالغ الكعبة كما تسمع.

و فيه: أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراسانيّ: أنّ عمر بن الخطّاب و عثمان بن عفّان و عليّ بن أبي طالب و ابن عبّاس و زيد بن ثابت و معاوية قضوا فيما كان من هدي ممّا يقتل المحرم من صيد فيه جزاء نظر إلى قيمة ذلك فاُطعم به المساكين.

و فيه: أخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُحلّ لكم صيد البحر و طعامه متاعاً لكم قال: ما لفظه ميتاً فهو طعامه.

أقول: و روي ما في معناه عن بعض الصحابة أيضاً لكنّ المرويّ من طرق أهل البيت عنهمعليهم‌السلام خلافه كما تقدّم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام :( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ) قال جعل الله لدينهم و معايشهم.

أقول: و قد تقدّم توضيح معنى الرواية.

١٥٦

( سورة المائدة آية ١٠٠)

قُل لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتّقُوا اللّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ( ١٠٠)

( بيان‏)

الآية كأنّها مستقلّة مفردة لعدم ظهور اتّصالها بما قبلها و ارتباط ما بعدها بها فلا حاجة إلى التمحّل في بيان اتّصالها بما قبلها، و إنّما تشتمل على مثل كلّيّ ضربه الله سبحانه لبيان خاصّة يختصّ بها الدين الحقّ من بين سائر الأديان و السير العامّة الدائرة، و هي أنّ الاعتبار بالحقّ و إن كان قليلاً أهله و شاردة فئته، و الركون إلى الخير و السعادة و إن أعرض عنه الأكثرون و نسيه الأقوون فإنّ الحقّ لا يعتمد في نواميسه إلّا على العقل السليم، و حاشا العقل السليم أن يهدي إلّا إلى صلاح المجتمع الإنسانيّ فيما يشدّ أزره من أحكام الحياة و سبل المعيشة الطيّبة سواء وافق أهواء الأكثرين أو خالف، و كثيراً ما يخالف فهو ذا النظام الكونيّ و هو محتد الآراء الحقّة لا يتّبع شيئاً من أهوائهم، و لو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض.

قوله تعالى: ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) كأنّ المراد بعدم استواء الخبيث و الطيّب أنّ الطيّب خير من الخبيث، و هو أمر بيّن فيكون الكلام مسوقاً للكناية، و ذلك أنّ الطيّب بحسب طبعه و بقضاء من الفطرة أعلى درجة و أسمى منزلة من الخبيث فلو فرض انعكاس الأمر و صيرورة الخبيث خيراً من الطيّب لعارض يعرضه كان من الواجب أن يتدرّج الخبيث في الرقيّ و الصعود حتّى يصل إلى حدّ يحاذي الطيّب في منزلته و يساويه ثمّ يتجاوزه فيفوقه فإذا نفي استواء الخبيث و الطيّب كان ذلك أبلغ في نفي خيريّة الخبيث من الطيّب.

و من هنا يظهر وجه تقديم الخبيث على الطيّب، فإنّ الكلام مسوق لبيان أنّ

١٥٧

كثرة الخبيث لا تصيّره خيراً من الطيّب، و إنّما يكون ذلك بارتفاع الخبيث من حضيض الرداءة و الخسّة إلى أوج الكرامة و العزّة حتّى يساوي الطيّب في مكانته ثمّ يعلو عليه و لو قيل: لا يستوي الطيّب و الخبيث كانت العناية الكلاميّة متعلّقة ببيان أنّ الطيّب لا يكون أردى و أخسّ من الخبيث، و كان من الواجب حينئذ أن يذكر بعده أمر قلّة الطيّب مكان كثرة الخبيث فافهم ذلك.

و الطيب و الخباثة على ما لهما من المعنى وصفان حقيقيّان لأشياء حقيقيّة خارجيّة كالطعام الطيّب أو الخبيث و الأرض الطيّبة أو الخبيثة قال تعالى:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ) الأعراف: ٥٨، و قال تعالى:( وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف: ٣٢، و إن اُطلق الطيب و الخباثة أحياناً على شي‏ء من الصفات الوضعيّة الاعتباريّة كالحكم الطيّب أو الخبيث و الخلق الطيّب أو الخبيث فإنّما ذلك بنوع من العناية.

هذا و لكن تفريع قوله:( فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) على قوله:( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ ) ، إلخ و التقوى من قبيل الأفعال أو التروك، و طيبها و خباثتها عنائيّة مجازيّة، و إرسال الكلام أعني قوله:( لا يَسْتَوِي ) ، إلخ إرسال المسلّمات أقوى شاهد على أنّ المراد بالطيب و الخباثة إنّما هو الخارجيّ الحقيقيّ منهما فيكون الحجّة ناجحة، و لو كان المراد هو الطيّب و الخبيث من الأعمال و السير لم يتّضح ذاك الاتّضاح فكلّ طائفة ترى أنّ طريقتها هي الطريقة الطيّبة، و ما يخالف أهواءها و يعارض مشيئتها هو الخبيث.

فالقول مبنيّ على معنى آخر بيّنه الله سبحانه في مواضع من كلامه، و هو أنّ الدين مبنيّ على الفطرة و الخلقة، و أنّ ما يدعو إليه الدين هو الطيّب من الحياة، و ما ينهى عنه هو الخبيث، و أنّ الله لم يحلّ إلّا الطيّبات و لم يحرّم إلّا الخبائث قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠، و قال:( وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) الأعراف: ١٥٧.

١٥٨

و قال:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف: ٣٢.

فقد تحصّل أنّ الكلام أعني قوله:( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) ، مثل مضروب لبيان أنّ قواعد الدين ركّبت على صفات تكوينيّة في الأشياء من طيب أو خباثة مؤثّرة في سبيل السعادة و الشقاوة الإنسانيّتين، و لا يؤثّر فيها قلّة و لا كثرة فالطيّب طيب و إن كان قليلاً، و الخبيث خبيث و إن كان كثيراً.

فمن الواجب على كلّ ذي لبّ يميّز الخبيث من الطيّب، و يقضي بأنّ الطيّب خير من الخبيث، و أنّ من الواجب على الإنسان أن يجتهد في إسعاد حياته، و يختار الخير على الشرّ أن يتّقي الله ربّه بسلوك سبيله، و لا يغترّ بانكباب الكثيرين من الناس على خبائث الأعمال و مهلكات الأخلاق و الأحوال، و لا يصرفه الأهواء عن اتّباع الحقّ بتولية أو تهويل لعلّه يفلح بركوب السعادة الإنسانيّة.

قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) تفريع على المثل المضروب في صدر الآية، و محصّل المعنى أنّ التقوى لما كان متعلّقه الشرائع الإلهيّة الّتي تبتني هي أيضاً على طيّبات و خبائث تكوينيّة في رعاية أمرها سعادة الإنسان و فلاحه على ما لا يرتاب في ذلك ذو لبّ و عقل فيجب عليكم يا اُولي الألباب أن تتّقوا الله بالعمل بشرائعه لعلّكم تفلحون.

١٥٩

( سورة المائدة الآيات ١٠١ - ١٠٢)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ( ١٠١) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِن قَبْلِكُمْ ثُمّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ( ١٠٢)

( بيان)

الآيتان غير ظاهرتي الارتباط بما قبلهما، و مضمونهما غني عن الاتّصال بشي‏ء من الكلام يبيّن منهما ما لا تستقلّان بإفادته فلا حاجة إلى ما تجشّمه جمع من المفسّرين في توجيه اتّصالهما تارة بما قبلهما، و اُخرى بأوّل السورة، و ثالثة بالغرض من السورة فالصفح عن ذلك كلّه أولى.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (الآية) الإبداء الإظهار، و ساءه كذا خلاف سرّه.

و الآية تنهى المؤمنين عن أن يسألوا عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم، و قد سكتت أوّلاً عن المسئول من هو؟ غير أنّ قوله بعد:( وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) ، و كذا قوله في الآية التالية:( قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ) يدلّ على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقصود بالسؤال مسؤل بمعنى أنّ الآية سيقت للنهي عن سؤال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أشياء من شأنها كيت و كيت، و إن كانت العلّة المستفادة من الآية الموجبة للنهي تفيد شمول النهي لغير مورد الغرض و هو أن يسأل الإنسان و يفحص عن كلّ ما عفاه العفو الإلهيّ، و ضرب دون الاطّلاع عليه بالأسباب العاديّة و الطرق المألوفة ستراً فإنّ في الاطّلاع على حقيقة مثل هذه الاُمور مظنّة الهلاك و الشقاء كمن تفحّص عن يوم وفاته أو سبب هلاكه أو عمر أحبّته و أعزّته أو زوال ملكه و عزّته، و ربّما كان ما يطّلع عليه هو السبب الّذي يخترمه بالفناء أو يهدّده بالشقاء.

١٦٠