الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 75681
تحميل: 5706


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75681 / تحميل: 5706
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فنظام الحياة الّذي نظمه الله سبحانه و وضعه جارياً في الكون فأبدا أشياءً و حجب أشياءً لم يظهر ما أظهره إلّا لحكمة، و لم يخف ما أخفاه إلّا لحكمة أي إنّ التسبّب إلى خفاء ما ظهر منها و التوسّل إلى ظهور ما خفي منها يورث اختلال النظام المبسوط على الكون كالحياة الإنسانيّة المبنيّة على نظام بدنيّ مؤلّف من قوى و أعضاء و أركان لو نقص واحد منها أو زيد شي‏ء عليها أوجب ذلك فقدان أجزاء هامّة من الحياة ثمّ يعتبر ذلك مجرى القوى و الأعضاء الباقية، و ربّما أدّى ذلك إلى بطلان الحياة بحقيقتها أو معناها.

ثمّ إنّ الآية أبهمت ثانياً أمر هذه الأشياء الّتي نهت عن السؤال عنها، و لم توضح من أمرها إلّا أنّها بحيث إن تبد لهم تسؤهم إلخ، و ممّا لا يرتاب فيه أنّ قوله:( إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) نعت للأشياء، و هي جملة شرطيّة تدلّ على تحقّق وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، و لازمه أن تكون هذه أشياء تسوؤهم إن اُبدئت لهم فطلب إبدائها و إظهارها بالمسألة طلب للمساءة.

فيستشكل بأنّ الإنسان العاقل لا يطلب ما يسوؤه، و لو قيل: لا تسألوا عن أشياء فيها ما إن تبد لكم تسؤكم، أو لا تسألوا عن أشياء لا تأمنون أن تسوءكم إن تبد لكم لم يلزم محذور.

و من عجيب ما اُجيب به عن الإشكال: أنّ من المقرّر في قوانين العربيّة أنّ شرط( إن ) ممّا لا يقطع بوقوعه، و الجزاء تابع للشرط في الوقوع و عدمه فكان التعبير بقوله( إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) دون( إذا اُبدئت لكم تسؤكم) دالّاً على أنّ احتمال إبدائها و كونها تسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها، انتهى موضع الحاجة.

و قد أخطأ في ذلك، و ليت شعري أيّ قانون من قوانين العربيّة يقرّر أن يكون الشرط غير مقطوع الوقوع؟ ثمّ الجزاء بما هو جزاء متعلّق الوجود بالشرط غير مقطوع الوقوع؟ و هل يفيد قولنا: إن جئتني أكرمتك إلّا القطع بوقوع الإكرام على تقدير وقوع المجي‏ء؟ فقوله: إنّ التعبير بالشرط يدلّ على أنّ احتمال إبدائها و كونه يسوء كاف في وجوب الانتهاء، انتهى. إنّما يصحّ لو كان مفاد الشرط في الآية هو النهي

١٦١

عن السؤال عن أشياء يمكن أن تسوء إن اُبدئت و ليس كذلك كما عرفت بل المفاد النهي عن السؤال أشياء يقطع بمساءتها إن اُبدئت، فالإشكال على حاله.

و يتلو هذا الجواب في الضعف قول بعضهم - على ما في بعض الروايات -: إنّ المراد بقوله:( أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) ما ربّما يهواه بعض النفوس من الاطّلاع على بعض المغيبات كالآجال و عواقب الاُمور و جريان الخير و الشرّ و الكشف عن كلّ مستور ممّا لا يخلو العلم به طبعاً من أن يتضمّن ما يسوء الإنسان و يحزنه كسؤال الرجل عن باقي عمره، و سبب موته، و حسن عاقبته، و عن أبيه من هو؟ و قد كان دائراً بينهم في الجاهليّة.

فالمراد بقوله:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) هو النهي عن السؤال عن هذه الاُمور الّتي لا يخلو انكشاف الحال فيها غالباً أن يشتمل على ما يسوء الإنسان و يحزنه كظهور أنّ الأجل قريب، أو أنّ العاقبة وخيمة، أو أنّ أباه في الواقع غير من يدعى إليه.

فهذه اُمور يتضمّن غالباً مساءة الإنسان و حزنه، و لا يؤمن من أن يجاب إذا سئل عنه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لا يرتضيه السائل فيدعوه الاستكبار النفسانيّ و أنفة العصبيّة أن يكذّب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يجيب به فيكفر بذلك كما يشير إليه قوله تعالى في الآية التالية:( قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ) .

و هذا الوجه و إن كان سليماً في بادئ النظر لكنّه لا يلائم قوله تعالى:( وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) سواء قلنا: إنّ مفاده تجويز السؤال عن هذه الأشياء حين نزول القرآن، أو تشديد النهي عنه حين نزول القرآن بالدلالة على أن المجيب - و هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في غير حال نزول القرآن في سعة من أن لا يجيب عن هذه الأسئلة رعاية لمصلحة السائلين لكنّها أعني الأشياء المسؤول عنها مكشوفة الحقيقة مرفوع عنها الحجاب لا محالة فلا تسألوا عنها حين ينزّل القرآن البتّة.

أمّا عدم ملاءمته على المعنى الأوّل فلأنّ السؤال عن هذه الأشياء لما اشتمل على المفسدة بحسب طبعه فلا معنى لتجويزه حال نزول القرآن، و المفسدة هي المفسدة.

١٦٢

و أمّا على المعنى الثاني فلأنّ حال نزول القرآن و إن كان حال البيان و الكشف عن ما يحتاج إلى الكشف و الإبداء غير أنّ هذه الخصيصة مرتبطة بحقائق المعارف و شرائع الأحكام و ما يجري مجراها، و أمّا تعيين أجل زيد و كيفيّة وفاة عمرو، و تشخيص من هو أبو فلان؟ و نحو ذلك فهي ممّا لا يرتبط به البيان القرآنيّ، فلا وجه لتذييل النهي عن السؤال عن أشياء كذا و كذا بنحو قوله:( وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) و هو ظاهر.

فالأوجه في الجواب ما يستفاد من كلام آخرين أنّ الآية( قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) إلخ و كذا قوله:( وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْْ ) تدلّ على أنّ المسؤل عنها أشياء مرتبطة بالأحكام المشرّعة كالخصوصيّات الراجعة إلى متعلّقات الأحكام ممّا ربّما يستقصي في البحث عنه و الإصرار في المداقّة عليه، و نتيجة ذلك ظهور التشديد و نزول التحريج كلّما اُمعن في السؤال و اُلحّ على البحث كما قصّه الله سبحانه في قصّة البقرة عن بني إسرائيل حيث شدّد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلّما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة الّتي اُمروا بذبحها.

ثمّ إنّ قوله تعالى:( عَفَا اللهُ عَنْها ) الظاهر أنّه جملة مستقلّة مسوقة لتعليل النهي في قوله:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) لا كما ذكروه: أنّه وصف لأشياء، و أنّ في الكلام تقديماً و تأخيراً، و التقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، إلخ.

و هذا التعبير - أعني تعدية العفو بعن - أحسن شاهد على أنّ المراد بالأشياء المذكورة هي الاُمور الراجعة إلى الشرائع و الأحكام، و لو كانت من قبيل الاُمور الكونيّة كان كالمتعيّن أن يقال: عفاها الله.

و كيف كان فالتعليل بالعفو يفيد أنّ المراد بالأشياء هي الخصوصيّات الراجعة إلى الأحكام و الشرائع و القيود و الشرائط العائدة إلى متعلّقاتها، و أنّ السكوت عنها ليس لأنّها مغفول عنها أو ممّا اُهمل أمرها بل لم يكن ذلك إلّا تخفيفاً من الله سبحانه لعباده و تسهيلاً كما قال:( وَ اللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) فما يقترحونه من السؤال عن

١٦٣

خصوصيّاته تعرّض منهم للتضييق و التحريج و هو ممّا يسوؤهم و يحزنهم البتّة فإنّ في ذلك ردّاً للعفو الإلهيّ الّذي لم يكن البتّة إلّا للتسهيل و التخفيف، و تحكيم صفتي المغفرة و الحلم الإلهيّين.

فيرجع مفاد قوله:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ) ، إلخ إلى نحو قولنا: يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أشياء مسكوت عنها في الشريعة عفا الله عنها و لم يتعرّض لبيانها تخفيفاً و تسهيلاً فإنّها بحيث تبيّن لكم إن تسألوا عنها حين نزول القرآن، و تسوؤكم إن اُبدئت لكم و بيّنت.

و قد تبيّن ممّا مرّ أوّلاً: أنّ قوله تعالى:( وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) من تتمّة النهي كما عرفت، لا لرفع النهي عن السؤال حين نزول القرآن كما ربّما قيل.

و ثانياً: أنّ قوله تعالى:( عَفَا اللهُ عَنْها ) جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهي عن السؤال فتفيد فائدة الوصف من غير أن يكون وصفاً بحسب التركيب الكلاميّ.

و ثالثاً: وجه تذييل الكلام بقوله:( وَ اللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) مع كون الكلام مشتملاً على النهي غير الملائم لصفتي المغفرة و الحلم فالاسمان يعودان إلى مفاد العفو المذكور في قوله:( عَفَا اللهُ عَنْها ) دون النهي الموضوع في الآية.

قوله تعالى: ( قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ) يقال: سأله و سأل عنه بمعنى، و( ثُمَّ ) يفيد التراخي بحسب الرتبة الكلاميّة دونه بحسب الزمان.

و الباء في قوله:( بِها ) متعلّقة بقوله:( كافِرِينَ ) على ما هو ظاهر الآية من كونها مسوقة للنهي عن السؤال عمّا يتعلّق بقيود الأحكام و الشرائع المسكوت عنها عند التشريع فالكفر كفر بالأحكام من جهة استلزامها تحرّج النفوس عنها و تضيّق القلوب من قبولها، و يمكن أن تكون الباء للسببيّة و لا يخلو عن بعد.

و الآية و إن أبهمت القوم المذكورين و لم يعرّفهم لكن في القرآن الكريم ما يمكن أن تنطبق عليه الآية من القصص كقصّة المائدة من قصص النصارى و قصص اُخرى من قوم موسى و غيرهم.

١٦٤

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير و أبوالشيخ و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا أيّها الناس كتب الله عليكم الحجّ فقام عكاشة بن محصن الأسديّ فقال: أ في كلّ عام يا رسول الله؟ قال: أمّا إنّي لو قلت: نعم لوجبت، و لو وجبت ثمّ تركتم لضللتم اسكتوا عنّي ما سكتّ عنكم فإنّما هلك من كان قبلكم بسؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) إلى آخر الآية.

أقول: و روي القصّة عن أبي هريرة و أبي أمامة و غيرهما عدّة من الرواة، و رويت في المجمع و غيره من كتب الخاصّة، و هي تنطبق على ما قدّمناه في البيان المتقدّم.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ) ، الآية قال: غضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً من الأيّام فقام خطيباً فقال: سلوني فإنّكم لا تسألوني عن شي‏ء إلّا أنبأتكم به فقام إليه رجل من قريش من بني سهم يقال له: عبدالله بن حذاقة - و كان يطعن فيه - فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: أبوك فلان فدعاه لأبيه فقام إليه عمر فقبّل رجله و قال: يا رسول الله رضينا بالله ربّاً و لك نبيّاً و بالقرآن إماماً فاعف عنّا عفا الله عنك فلم يزل به حتّى رضي فيومئذ قال: الولد للفراش و للعاهر الحجر، و اُنزل عليه:( قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .

أقول: و الرواية مرويّة بعدّة طرق على اختلاف في متونها، و قد عرفت فيما تقدّم أنّها غير قابلة الانطباق على الآية.

و فيه، أيضاً: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه عن ثعلبة الخشنيّ قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، و فرض لكم فرائض

١٦٥

فلا تضيّعوها، و حرّم أشياء فلا تنتهكوها، و ترك أشياء في غير نسيان و لكن رحمة منه لكم فاقبلوها و لا تبحثوا عنها.

و في المجمع، و الصافي، عن عليّعليه‌السلام قال: إنّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها و حدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الجارود قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام : إذا حدّثتكم بشي‏ء فاسألوني عنه من كتاب الله، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثرة السؤال فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) و قال:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً ) و قال:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن أحمد بن محمّد قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضاعليه‌السلام و كتب في آخره: أ و لم تنهوا عن كثرة المسائل؟ فأبيتم أن تنتهوا، إيّاكم و ذلك فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فقال الله تبارك و تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ - إلى قوله تعالى -كافِرِينَ ) .

١٦٦

( سورة المائدة الآيات ١٠٣ - ١٠٤)

مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ( ١٠٣) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى‏ مَا أَنْزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ( ١٠٤)

( بيان)

قوله تعالى: ( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ ) ، هذه أصناف من الأنعام كان أهل الجاهليّة يرون لها أحكاماً مبنيّة على الاحترام و نوع من التحرير، و قد نفى الله سبحانه أن يكون جعل من ذلك شيئاً، فالجعل المنفيّ متعلّق بأوصافها دون ذواتها فإنّ ذواتها مخلوقة لله سبحانه من غير شكّ، و كذلك أوصافها من جهة أنّها أوصاف فحسب، و إنّما الّذي تقبل الإسناد إليه تعالى و نفيه هي أوصافها من جهة كونها مصادر لأحكام كانوا يدّعونها لها فهي الّتي تقبل الإسناد و نفيه، فنفي جعل البحيرة و أخواتها في الآية نفي لمشروعيّة الأحكام المنتسبة إليها المعروفة عندهم.

و هذه الأصناف الأربعة من الأنعام و إن اختلفوا في معنى أسمائها و يتفرّع عليه الاختلاف في تشخيص أحكامها كما ستقف عليه، لكن من المسلّم أنّ أحكامها مبنيّة على نوع من تحريرها و الاحترام لها برعاية حالها، ثلاثة منها و هي البحيرة و السائبة و الحامي من الإبل، و واحدة و هي الوصيلة من الشاة.

أمّا البحيرة ففي المجمع،: أنّها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن و كان آخرها ذكراً بحروا اُذنها (أي شقوها شقّاً واسعاً) و امتنعوا عن ركوبها و نحرها، و لا تطرد عن ماء و لا تمنع عن مرعى، فإذا لقيها المعيي لم تركبها، عن الزجّاج.

١٦٧

و قيل: إنّهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكراً نحروه فأكله الرجال و النساء جميعاً، و إن كانت اُنثى شقّوا اُذنها فتلك البحيرة ثمّ لا يجزّ لها وبر، و لا يذكر لها اسم الله إن ذكّيت، و لا حمل عليها، و حرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئاً، و لا أن ينتفعن بها، و كان لبنها و منافعها للرجال خاصّة دون النساء حتّى تموت فإذا ماتت اشتركت الرجال و النساء في أكلها، عن ابن عبّاس، و قيل: إنّ البحيرة بنت السائبة، عن محمد بن إسحاق.

و أمّا السائبة ففي المجمع، أنّها ما كانوا يسيبونه فإنّ الرجل إذا نذر القدوم من سفر أو البرء من علّة أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها، و أن لا تخلى عن ماء و لا تمنع من مرعى، عن الزجّاج، و هو قول علقمة.

و قيل: هي الّتي تسيب للأصنام أي تعتق لها، و كان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجي‏ء به إلى السدنة - و هم خدمة آلهتهم - فيطعمون من لبنها أبناء السبيل و نحو ذلك عن ابن عبّاس و ابن مسعود.

و قيل: إنّ السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهنّ ذكر سيبت فلم يركبوها، و لم يجزّوا وبرها و لم يشرب لبنها إلّا ضيف فما نتجت بعد ذلك من اُنثى شقّ اُذنها ثمّ تخلّى سبيلها مع اُمّها، و هي البحيرة، عن محمّد بن إسحاق.

و أمّا الوصيلة ففي المجمع: و هي في الغنم، كانت الشاة إذا ولدت اُنثى فهي لهم، و إذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم، فإنّ ولدت ذكراً و اُنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. عن الزجّاج.

و قيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جدياً ذبحوه لآلهتهم و لحمه للرجال دون النساء، و إن كان عناقاً، استحيوها و كانت من عرض الغنم، و إن ولدت في البطن السابع جدياً و عناقاً قالوا: إنّ الاُخت وصلت أخاها لحرمته علينا فحرما جميعاً فكانت المنفعة و اللبن للرجال دون النساء، عن ابن مسعود و مقاتل.

و قيل: الوصيلة الشاة إذا تأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإناث عن محمّد بن إسحاق.

١٦٨

و أمّا الحامي ففي المجمع: هو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، و لا يمنع من ماء و لا من مرعى، عن ابن عبّاس و ابن مسعود، و هو قول أبي عبيدة و الزجّاج.

و قيل: إنّه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب، عن الفرّاء.

و هذه الأسماء و إن اختلفوا في تفسيرها إلّا أنّ من المحتمل قريباً أن يكون ذلك الاختلاف ناشئاً من اختلاف سلائق الأقوام في سننهم فإنّ أمثال ذلك كثيرة في السنن الدائرة بين الأقوام الهمجيّة.

و كيف كان فالآية ناظرة إلى نفي الأحكام الّتي كانوا قد اختلقوها لهذه الأصناف الأربعة من الأنعام، ناسبين ذلك إلى الله سبحانه بدليل قوله أوّلاً:( ما جَعَلَ اللهُ ) ، إلخ و ثانياً:( وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ) ، إلخ.

و لذلك كان قوله:( وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، إلخ بمنزلة الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لما قيل:( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ) ، إلخ سئل فقيل: فما هذا الّذي يدّعيه هؤلاء الّذين كفروا؟ فاُجيب بأنّه افتراء منهم على الله الكذب ثمّ زيد في البيان فقيل:( وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) و مفاده أنّهم مختلفون في هذا الافتراء فأكثرهم يفترون ما يفترون و هم لا يعقلون، و القليل من هؤلاء المفترين يعقلون الحقّ و أنّ ما ينسبونه إليه تعالى من الافتراء، و هم المتبوعون المطاعون لغيرهم المديرون لأزمّة اُمورهم فهم أهل عناد و لجاج.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى‏ ما أَنْزَلَ اللهُ ) ، إلى آخر الآية في حكاية دعوتهم إلى ما أنزل الله إلى الرسول الّذي شأنه البلاغ، فقط فالدعوة دعوة إلى الحقّ و هو الصدق الخالي عن الفرية، و العلم المبرّى من الجهل فإنّ الآية السابقة تجمع الافتراء و عدم التعقّل في جانبهم فلا يبقى لما يدعون إليه - أعني جانب الله سبحانه - إلّا الصدق و العلم.

لكنّهم ما دفعوه إلّا بالتقليد حيث قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، و التقليد و إن كان حقّاً في بعض الأحيان و على بعض الشروط و هو رجوع الجاهل إلى

١٦٩

العالم، و هو ممّا استقرّ عليه سير المجتمع الإنسانيّ في جميع أحكام الحياة الّتي لا يتيسّر فيها للإنسان أن يحصّل العلم بما يحتاج إلى سلوكه من الطريق الحيويّ، لكنّ تقليد الجاهل في جهله بمعنى رجوع الجاهل إلى جاهل آخر مثله مذموم في سنّة العقلاء كما يذمّ رجوع العالم إلى عالم آخر بترك ما يستقلّ بعمله من نفسه و الأخذ بما يعلم غيره.

و لذلك ردّه تعالى بقوله:( أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ ) و مفاده أنّ العقل - لو كان هناك عقل - لا يبيح للإنسان الرجوع إلى من لا علم عنده و لا اهتداء فهذه سنّة الحياة لا تبيح سلوك طريق لا تؤمن مخاطره، و لا يعلم وصفه لا بالاستقلال و لا باتّباع من له به خبرة.

و لعلّ إضافة قوله:( وَ لا يَهْتَدُونَ ) إلى قوله:( لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً ) لتتميم قيود الكلام بحسب الحقيقة، فإنّ رجوع الجاهل إلى مثله و إن كان مذموماً لكنّه إنّما يذمّ إذا كان المسؤل المتبوع مثل السائل التابع في جهله لا يمتاز عنه بشي‏ء، و أمّا إذا كان المتبوع نفسه يسلك الطريق بهداية عالم خبير به و دلالته فهو مهتد في سلوكه، و لا ذمّ على من اتّبعه في مسيره و قلّده في سلوك الطريق، فإنّ الأمر ينتهي إلى العلم بالآخرة كمن يتّبع عالماً بأمر الطريق ثمّ يتّبعه آخر جاهل به.

و من هنا يتّضح أنّ قوله:( أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً ) غير كاف في تمام الحجّة عليهم لاحتمال أن يكون آباؤهم الّذين اتّبعوهم بالتقليد مهتدين بتقليد العلماء الهداة فلا يجري فيهم حكم الذمّ، و لا تتمّ عليهم الحجّة فدفع ذلك بأنّ آباءهم لا يعلمون شيئاً و لا يهتدون، و لا مسوّغ لاتّباع من هذا حاله.

و لما تحصّل من الآية الاُولى أعني قوله:( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ) ، إلخ أنّهم بين من لا يعقل شيئاً و هم الأكثرون، و من هو معاند مستكبر تحصّل أنّهم بمعزل من أهليّة توجيه الخطاب و إلقاء الحجّة و لذلك لم تُلق إليهم الحجّة في الآية الثانية بنحو التخاطب بل سيق الكلام على خطاب غيرهم و الصفح عن مواجهتهم فقيل:( أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ ) .

١٧٠

و قد تقدّم في الجزء الأوّل من أجزاء هذا الكتاب بحث علميّ أخلاقيّ في معنى التقليد يمكنك أن تراجعه.

و يتبيّن من الآية أنّ الرجوع إلى كتاب الله و إلى رسوله - و هو الرجوع إلى السنّة - ليس من التقليد المذموم في شي‏ء.

( بحث روائي)

في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده إلى محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ ) قال: إنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن واحد قالوا: وصلت، فلا يستحلّون ذبحها و لا أكلها، و إذا ولدت عشراً جعلوها سائبة، و لا يستحلّون ظهرها و لا أكلها، و الحام فحل الإبل لم يكونوا يستحلّونه فأنزل الله: أنّه لم يكن يحرّم شيئاً من ذلك.

قال: ثمّ قال ابن بابويه: و قد روي: أنّ البحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن و إن كان الخامس ذكراً نحروه فأكله الرجال و النساء، و إن كان الخامس اُنثى بحروا اُذنها أي شقّوه و كانت حراماً على النساء لحمها و لبنها فإذا ماتت حلّت للنساء، و السائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلّمه الله من مرض أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك.

و الوصيلة من الغنم، كانوا إذا ولدت شاة سبعة أبطن فكان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال و النساء، و إن كان اُنثى تركت في الغنم و إن كان ذكراً و اُنثى قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح و كان لحمها حراماً على النساء إلّا أن تموت منها شي‏ء فيحلّ أكلها للرجال و النساء.

و الحام الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره، قال: و قد يروى:

١٧١

أنّ الحام هو من الإبل إذا أنتج عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب و لا يمنع من كلاء و لا ماء.

أقول: و من طرق الشيعة و أهل السنّة روايات اُخر في معاني هذه الأسماء: البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، و قد مرّ شطر منها في الكلام المنقول عن الطبرسيّ في مجمع البيان، في البيان المتقدّم.

و المتيقّن من معانيها - كما عرفت - أنّ هذه الأصناف من الأنعام كانت في الجاهليّة محرّرة نوعاً من التحرير ذات أحكام مناسبة لذلك كحماية الظهر و حرمة أكل اللحم و عدم المنع من الماء و الكلاء، و أنّ الوصيلة من الغنم و الثلاثة الباقية من الإبل.

و في المجمع: روى ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن عمرو بن لُحيّ بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكّة، و كان أوّل من غيّر دين إسماعيل، و اتّخذ الأصنام و نصب الأوثان، و بحّر البحيرة، و سيّب السائبة، و وصّل الوصيلة، و حمّى الحامي.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه، و يروى: يجر قصبه في النار.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، هذا المعنى بعدّة طرق عن ابن عبّاس و غيره.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لأعرف أوّل من سيّب السوائب، و نصب النصب، و أوّل من غيّر دين إبراهيم، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لُحيّ أخو بني كعب لقد رأيته يجرّ قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه.

و إنّي لأعرف من نحّر النحائر، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجذع آذانهما و حرّم ألبانهما و ظهورهما و قال: هاتان لله ثمّ احتاج إليهما فشرب ألبانهما و ركب ظهورهما.

قال: فلقد رأيته في النار، و هما يقصمانه بأفواههما و يطئانه بأخفافهما.

و فيه: أخرج أحمد و عبد بن حميد و الحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول، و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقيّ في الأسماء و الصفات، عن أبي الأحوص، عن

١٧٢

أبيه قال: أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خلقان من الثياب فقال لي: هل لك من مال؟ قلت: نعم قال: من أيّ المال؟ قلت: من كلّ المال: من الإبل و الغنم و الخيل و الرقيق قال: فإذا آتاك الله فلير عليك.

ثمّ قال: تنتج إبلك رافعة آذانها؟ قلت: نعم و هل تنتج الإبل إلّا كذلك؟ قال: فلعلّك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها، و تقول: هذه بحر، و تشقّ آذان طائفة منها و تقول: هذه الصرم؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل إنّ كلّ ما آتاك الله لك حلّ، ثمّ قال:( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ ) .

١٧٣

( سورة المائدة آية ١٠٥)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُم مَن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( ١٠٥)

( بيان)

الآية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم، و يلازموا سبيل هدايتهم و لا يوحشهم ضلال من ضلّ من الناس فإنّ الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم، و الكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) لفظة( عَلَيْكُمْ ) اسم فعل بمعنى ألزموا، و( أَنْفُسَكُمْ ) مفعوله.

و من المعلوم أنّ الضلال و الاهتداء - و هما معنيان متقابلان - إنّما يتحقّقان في سلوك الطريق لا غير فالملازم لمتن الطريق ينتهي إلى ما ينتهي إليه الطريق، و هو الغاية المطلوبة الّتي يقصدها الإنسان السالك في سلوكه، أمّا إذا استهان بذلك و خرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الّذي تفوت به الغاية المقصودة فالآية تقدّر للإنسان طريقاً يسلكه و مقصداً يقصده غير أنّه ربّما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضلّ و ليس هناك مقصد يقصده القاصد إلّا الحياة السعيدة، و العاقبة الحسنى بلا ريب لكنّها مع ذلك تنطق بأنّ الله سبحانه هو المرجع الّذي يرجع إليه الجميع: المهتدي و الضالّ.

فالثواب الّذي يريده الإنسان في مسيره بالفطرة إنّما هو عندالله سبحانه يناله المهتدون، و يحرم عنه الضلّال، و لازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لأهل الهداية و الطرق المسلوكة لأهل الضلال تنتهي إلى الله سبحانه، و عنده سبحانه الغاية المقصودة و إن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الإنسان إلى البغية و الفوز و الفلاح أو ضربه بالخيبة و الخسران، و كذلك في القرب و البعد كما قال تعالى:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ

١٧٤

إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الإنشقاق: ٦ و قال تعالى:( أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة: ٢٢ و قال تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ) إبراهيم: ٢٨ و قال تعالى:( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة: ١٨٦ و قال تعالى:( وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) حم السجدة: ٤٤.

بيّن تعالى في هذه الآيات أنّ الجميع سائرون إليه سبحانه سيراً لا مناص لهم عنه، غير أنّ طريق بعضهم قصير و فيه الرشد و الفلاح، و طريق آخرين طويل لا ينتهي إلى سعادة، و لا يعود إلى سالكه إلّا الهلاك و البوار.

و بالجملة فالآية تقدّر للمؤمنين و غيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه، و تأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم و ينصرفوا عن غيرهم و هم أهل الضلال من الناس و لا يقعوا فيهم و لا يخافوا ضلالهم فإنّما حسابهم على ربّهم لا على المؤمنين و ليسوا بمسؤلين عنهم حتّى يهمّهم أمرهم فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى:( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الجاثية: ١٤ و نظيرها قوله تعالى:( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) البقرة: ١٣٤.

فعلى المؤمن أن يشتغل بما يهمّ نفسه من سلوك سبيل الهدى، و لا يهزهزه ما يشاهده من ضلال الناس و شيوع المعاصي بينهم و لا يشغله ذلك و لا يشتغل بهم فالحقّ حقّ و إن ترك و الباطل باطل و إن اُخذ به كما قال تعالى:( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) المائدة: ١٠٠ و قال تعالى:( وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ) حم السجدة: ٣٤.

فقوله تعالى:( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) بناء على ما مرّ مسوق سوق الكناية اُريد به نهي المؤمنين عن التأثّر من ضلال من ضلّ من النّاس فيحملهم ذلك على ترك طريق الهداية كأن يقولوا: إنّ الدنيا الحاضرة لا تساعد الدين و لا تبيح

١٧٥

التنحّل بالمعنويّات فإنّما ذلك من السنن الساذجة و قد مضى زمنه و انقرض أهله، قال تعالى:( وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) القصص: ٥٧.

أو يخافوا ضلالهم على هدى أنفسهم فيشتغلوا بهم و ينسوا أنفسهم فيصيروا مثلهم فإنّما الواجب على المؤمن هو الدعوة إلى ربّه و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بالجملة الأخذ بالأسباب العاديّة ثمّ إيكال أمر المسبّبات إلى الله سبحانه فإليه الأمر كلّه، فأمّا أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الهلكة فلم يؤمر به، و لا يؤاخذ بعمل غيره، و ما هو عليه بوكيل، و على هذا فتصير الآية في معنى قوله تعالى:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً، إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) الكهف: ٨، و قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى‏ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) الرعد: ٣١ و نحو ذلك.

و قد تبيّن بهذا البيان أنّ الآية لا تنافي آيات الدعوة و آيات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإنّ الآية إنّما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم و إهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم و إنجائه.

على أنّ الدعوة إلى الله و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه و سلوكه سبيل ربّه، و كيف يمكن أن تنافي الآية آيات الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أو تنسخها؟ و قد عدّهما الله سبحانه من مشخّصات هذا الدين و اُسسه الّتي بني عليها كما قال تعالى:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) يوسف: ١٠٨ و قال تعالى:( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) آل عمران: ١١٠.

فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة و أن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإلهيّة و ليس عليه أن يجيش و يهلك نفسه حزناً أو يبالغ في الجدّ في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه.

١٧٦

و إذا كانت الآية قدّرت للمؤمنين طريقاً فيه اهتداؤهم و لغيرهم طريقاً من شأنه ضلال سالكيه، ثمّ أمر المؤمنين في قوله:( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أنّ نفس المؤمن هو الطريق الّذي يؤمر بسلوكه و لزومه فإنّ الحثّ على الطريق إنّما يلائم الحثّ على لزومه و التحذير من تركه لا على لزوم سألك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) الأنعام: ١٥٣.

فأمره تعالى المؤمنين بلزوم أنفسهم في مقام الحثّ على التحفّظ على طريق هدايتهم يفيد أنّ الطريق الّذي يجب عليهم سلوكه و لزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الّذي يسلكه إلى ربّه و هو طريق هداه، و هو المنتهى به إلى سعادته.

فالآية تجلّي الغرض الّذي تؤمّه إجمالاً آيات اُخرى كقوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ ) الحشر: ٢٠.

فالآيات تأمر بأن تنظر النفس و تراقب صالح عملها الّذي هو زادها غداً و خير الزاد التقوى فللنّفس يوم و غد و هي في سير و حركة على مسافة، و الغاية هو الله سبحانه و عنده حسن الثواب و هو الجنّة فعليها أن تدوم على ذكر ربّها و لا تنساه فإنّه سبحانه هو الغاية، و نسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسي ربّه نسي نفسه، و لم يعدّ لغده و مستقبل مسيره زاداً يتزوّد به و يعيش باستعماله و هو الهلاك، و هذا معنى‏ ما رواه الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من عرف نفسه فقد عرف ربّه.

و هذا المعنى هو الّذي يؤيّده التدبّر التامّ و الاعتبار الصحيح فإنّ الإنسان في مسير حياته إلى أيّ غاية امتدّت لا همّ له في الحقيقة إلّا خير نفسه و سعادة حياته و إن اشتغل في ظاهر الأمر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره، قال تعالى:( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) .

و ليس هناك إلّا هذا الإنسان الّذي يتطوّر طوراً بعد طور، و يركب طبقاً عن

١٧٧

طبق من جنين و صبيّ و شابّ و كهل و شيخ ثمّ الّذي يديم الحياة في البرزخ ثمّ يوم القيامة ثمّ ما بعده من جنّة أو نار، فهذه هي المسافة الّتي يقطعها الإنسان من موقفه في أوّل تكوّنه إلى أن ينتهي إلى ربّه، قال تعالى:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى) النجم: ٤٢.

و هو الإنسان لا يظأ موطأً في مسيره و لا يسير و لا يسري إلّا بأعمال قلبيّة هي الاعتقادات و نحوها و أعمال جوارحيّة صالحة، أو طالحة و ما أنتجه عمله يوماً كان هو زاده غداً فالنفس هو طريق الإنسان إلى ربّه، و الله سبحانه هو غايته في مسيره.

و هذا طريق اضطراريّ لا مناص للإنسان عن سلوكه كما يدلّ عليه قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الإنشقاق: ٦ فهذا طريق ضروريّ السلوك يشترك فيه المؤمن و الكافر و الملتفت المتنبّه و الغافل العامّة، و الآية لا تريد الحثّ على لزومه بمعنى البعث على سلوكه ممّن لا يسلك.

و إنّما تريد الآية تنبيه المؤمنين على هذه الحقيقة بعد غفلتهم عنها، فإنّ هذه الحقيقة كسائر الحقائق التكوينيّة و إن كانت ثابتة غير متغيّرة بالعلم و الجهل لكنّ التفات الإنسان إليها يؤثّر في عمله تأثيراً بارزاً، و الأعمال الّتي تربّي النفس الإنسانيّة تربية مناسبة لسنخها و إذا كان العمل ملائماً لواقع الأمر مناسباً لغاية الصنع و الإيجاد كانت النفس المستكملة بها سعيدة في جدّها، غير خائبة في سعيها و لا خاسرة في صفقتها، و قد مرّ بيان ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب بما لا يبقى معه ريب.

و توضيح ذلك بما يناسب هذا المقام أنّ الإنسان كغيره من خلق الله سبحانه واقع تحت التربية الإلهيّة من دون أن يفوته تعالى شي‏ء من أمره، و قد قال تعالى:( ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هود: ٥٦ و هذه تربية تكوينيّة على حدّ ما يربّي الله سبحانه غيره من الاُمور، في مسيرها جميعاً إليه تعالى، و قد قال:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى: ٥٣ و لا يتفاوت الأمر و لا يختلف الحال في هذه التربية بين شي‏ء و شي‏ء فإنّ الصراط مستقيم، و الأمر متشابه مطّرد، و قد قال تعالى أيضاً:( ما تَرى‏ فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) الملك: ٣.

١٧٨

و قد جعل سبحانه غاية الإنسان و ما ينتهي إليه أمره و يستقرّ عليه عاقبته من حيث السعادة و الشقاوة و الفلاح و الخيبة مبنيّة على أحوال و أخلاق نفسانيّة مبنيّة على أعمال من الإنسان تنقسم تلك الأعمال إلى صالحة و طالحة و تقوى و فجور كما قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) الشمس: ١٠ فالآيات - كما ترى - تضع النفس المسوّاة في جانب و هو مبدأ الحال، و الفلاح و الخيبة في جانب و هو الغاية و منتهى المسير، ثمّ تبني الغايتين أعني الفلاح و الخيبة على تزكية النفس و تدسيتها و ذلك مرحلة الأخلاق، ثمّ تبني الفضيلة و الرذيلة على التقوى و الفجور أعني الأعمال الصالحة و الطالحة الّتي تنطق الآيات بأنّ الإنسان ملهم بها من جانب الله تعالى.

و الآيات في بيانها لا تتعدّى طور النفس بمعنى أنّها تعتبر النفس هي المخلوقة المسوّاة و هي الّتي اُضيف إليها الفجور و التقوى، و هي الّتي تزكّى و تدسّى، و هي الّتي يفلح فيها الإنسان و يخيب، و هذا كما عرفت جري على مقتضى التكوين.

لكنّ هذه الحقيقة التكوينيّة أعني كون الإنسان في حياته سائراً في مسير نفسه لا يسعه التخطّي عنها و لو بخطوة، و لا تركها و الخروج منها و لو لحظة، لا يتساوى حال من تنبّه له و تذكّر به تذكّراً لازماً لا يتطرّق إليه نسيان، و حال من غفل عنه و نسي الواقع الّذي لا مفرّ له منه، و قد قال تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) الزمر: ٩.

و قال تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏، وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى‏ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً، قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) طه: ١٢٦.

و ذلك أنّ المتنبّه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربّه و نسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره و قد كان يجدها على غير هذا النعت و مضروباً دونها الحجاب لا يمسّها بالإحاطة و التأثير إلّا ربّها المدبّر لأمرها الّذي يدفعها من ورائها و يجذبها إلى قدّامها بقدرته و هدايته، و وجدها خالية بربّها

١٧٩

ليس لها من دونه من وال، و عند ذلك يفقه معنى قوله تعالى:( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) بعد قوله:( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) و معنى قوله تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢.

و عند ذلك يتبدّل إدراك النفس و شعورها، و يهاجر من موطن الشرك إلى موقف العبوديّة و مقام التوحيد و لا يزال يعوّض شركاً من توحيد و توهّماً من تحقّق و بعداً من قرب و استكباراً شيطانيّاً من تواضع رحمانيّ و استغناءً وهميّاً من فقر عبوديّ إن أخذت بيدها العناية الإلهيّة و ساقها سائق التوفيق.

و نحن و إن كان لا يسعنا أن نفقه هذه المعاني حقّ الفقه لمكان إخلادنا إلى الأرض و اشتغالنا عن الغوص في أغوار هذه الحقائق الّتي يكشف عنها الدين و يشير إليها الكتاب الإلهيّ بما لا يعنينا من فضولات هذه الحياة الفانية الّتي لا يعرّفها الكلام الإلهيّ في بيانه إلّا بأنّها لعب و لهو كما قال تعالى:( وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ ) الأنعام: ٣٢ و قال تعالى:( ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: ٣٠.

إلّا أنّ الاعتبار الصحيح و البحث البالغ و التدبّر الوافي يوصلنا إلى التصديق بكلّيّاتها إجمالاً و إن قصرنا عن إحصاء التفاصيل و الله الهادي.

و لعلّنا خرجنا عن طور الاختصار فلنرجع إلى أوّل الكلام فنقول: و تسع الآية أن تحمل على الخطاب الاجتماعيّ بأن يكون المخاطب بقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله:( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلاميّ باتّخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهيّة بأن يحتفظوا على معارفهم الدينيّة و الأعمال الصالحة و الشعائر الإسلاميّة العامّة كما قال تعالى:( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا ) آل عمران: ١٠٣ و قد تقدّم في تفسيره أنّ المراد بهذا الاعتصام الاجتماعيّ الأخذ بالكتاب و السنّة.

و يكون قوله:( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) يراد به أنّهم في أمن من إضرار المجتمعات الضالّة غير الإسلاميّة فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجدّ

١٨٠