الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 75680
تحميل: 5706


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75680 / تحميل: 5706
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مُدْخَلًا كَرِيماً ) النساء: ٣١، و قد تكلّمنا في معنى الكبائر في ذيل الآية في الجزء الرابع من هذا الكتاب.

و على هذا المعنى جرى كلامه تعالى في قوله:( وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) النور: ٥.

و نظير الآية السابقة الشارطة للعدالة قوله تعالى:( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) البقرة: ٢٨٢ فإنّ الرضا المأخوذ في الآية هو الرضا من المجتمع الدينيّ، و من المعلوم أنّ المجتمع الدينيّ بما هو دينيّ لا يرضى أحداً إلّا إذا كان على نوع من السلوك يوثق به في أمر الدين.

و هذا هو الّذي نسمّيه في فنّ الفقه بملكة العدالة و هي غير ملكة العدالة بحسب اصطلاح فنّ الأخلاق فإنّ العدالة الفقهيّة هي الهيئة النفسانيّة الرادعة عن ارتكاب الكبائر بحسب النظر العرفيّ و الّتي في فنّ الأخلاق هي الملكة الراسخة بحسب الحقيقة.

و الّذي استفدناه من معنى العدالة هو الّذي يستفاد من مذهب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على ما ورد من طرقهم:

ففي الفقيه، بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: أن تعرفوه(١) بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد الله تعالى عليها النار من شرب الخمر و الزنا و الربا و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و غير ذلك.

و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتّى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته بين الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ و حفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا من علّة.

فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في

____________________

(١) أن يعرفوه خ‏

٢٢١

قبيلته و محلّته قالوا: ما رأينا منه إلّا خيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين و ذلك أنّ الصلاة ستر و كفّارة للذنوب، و ليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلّاه و لا يتعاهد جماعة المسلمين.

و إنّما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلّي ممّن لا يصلّي و من يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيع، و لو لا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح لأنّ من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم بتركهم الحضور لجماعة المسلمين و قد كان منهم من يصلّي في بيته فلم يقبل منه ذلك فكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من الله عزّوجلّ و من رسوله فيه الحرق في جوف بيته بالنار؟ وقد كان يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلّا من علّة.

أقول: و رواه في التهذيب، مع زيادة تركناها، و الستر و العفاف كلاهما بمعنى الترك على ما في الصحاح، و الرواية - كما ترى - تجعل أصل العدالة أمراً معروفاً بين المسلمين و تبيّن أنّ الأثر المترتّب عليه الدالّ على هذه الصفة النفسيّة هو ترك محارم الله و الكفّ عن الشهوات الممنوعة، و معرّف ذلك اجتناب الكبائر من المعاصي، ثمّ تجعل الدليل على ذلك كلّه حسن الظاهر بين المسلمين على ما بيّنهعليه‌السلام تفصيلاً.

و فيه، عن عبدالله بن المغيرة عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته.

و فيه: روى سماعة عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : قال: لا بأس بشهادة الضعيف إذا كان عفيفاً صائناً.

و في الكافي، بإسناده عن عليّ بن مهزيار عن أبي عليّ بن راشد قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إنّ مواليك قد اختلفوا فاُصلّي معهم جميعاً؟ فقال لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه.

أقول: دلالة الروايات على ما قدّمناه ظاهرة، و فيها أبحاث اُخر خارجة عن غرضنا في المقام.

٢٢٢

( كلام في اليمين)

حقيقة معنى قولك:( لعمري إنّ كذا و كذا، و حياتي إنّ الأمر على ما أخبرته) أنّك تعلّق ما أخبرت به من الخبر و تقيّده نوع تقييد في صدقه بعمرك و حياتك الّتي لها مكانة و احترام عندك بحيث يتلازمان في الوجود و العدم، و لو كنت كاذباً في خبرك أبطلت مكانة حياتك و احترامها عندك فسقطت بذلك عن مستوى الإنسانيّة الداعية إلى الاحترام لأمر الحياة.

و معنى قولك:( أقسمك بالله أن تفعل كذا أو تترك كذا) أنّك ربطت أمرك أو نهيك بالمكانة و العزّة الّتي لله عزّ اسمه عند المؤمنين بحيث تكون مخالفة الأمر أو معصية النهي استهانة بمقامه تعالى و إذهاباً لحرمة الإيمان به.

و كذا معنى قولك:( و الله لأفعلنّ كذا) وصل خاصّ بين عزيمتك على ما عزمت عليه من الأمر و بين ما لله سبحانه عندك من المكانة و الحرمة بحسب إيمانك به بحيث يكون فسخك عزيمتك و نقضك همّتك إبطالاً لما له سبحانه من المكانة عندك، و الغرض من ذلك أن تكون على رادع من فسخ العزيمة و نقض الهمّة فالقسم إيجاد ربط خاصّ بين شي‏ء من الخبر أو الإنشاء و بين شي‏ء آخر ذي مكانة و شرف بحيث يبطل المربوط إليه ببطلان المربوط بحسب الدعوى، و حيث كان المربوط إليه ذا مكانة و شرف عند الجاعل مثلاً لا يرضى بإذهاب مكانته و الإهانة بمقامه فهو صادق في خبره أو مطاع فيما يأمر به أو ينهى عنه، أو ماض في عزيمته من غير فسخ لا محالة، و نتيجته التأكيد البالغ.

و يوجد في اللغات نوع آخر من جعل الربط يقابل القسم و هو ربط الخبر مثلاً بما لا قيمة له و لا شرافة عند المخبر ليدلّ بذلك على الاستهانة بما يخبر به أو بلغه من الخبر و يعدّ نوعاً من الشتم و هو في اللغة العربيّة نادر جدّاً.

و الحلف و اليمين - فيما نعلم - من العادات الدائرة في ألسنة الناس الموروثة جيلاً بعد جيل، و لا يختصّ بلغة دون لغة، و هو الدليل على أنّه ليس من الشؤون اللغويّة

٢٢٣

اللفظيّة بل إنّما يهدي الإنسان إليه حياته الاجتماعيّة في موارد يتنبّه على وجوب الالتجاء إليه و الاستفادة منه.

و لم تزل اليمين دائراً بين الاُمم ربّما يبنى عليه و يركن إليه في موارد متفرّقة غير مضبوطة تحدث في مجتمعاتهم لأغراض متنوّعة لدفع التهمة و رفع الفرية و تطييب النفس و تأييد الخبر حتّى اعتنى بأمره القوانين المدنيّة و أعطتها وجهة قانونيّة في بعض من الموارد كحلف الرؤساء و أولياء الاُمور عند تقلّد المناصب الهامّة و إشغال المقامات العظيمة العالية و غير ذلك.

و قد اعتنى الإسلام بشأن اليمين اعتناءً تامّاً إذا وقع على الله سبحانه خاصّة، و ليس ذلك إلّا في ظلّ العناية برعاية حرمة المقام الربوبيّ و وقاية ساحته تعالى أن يواجه بما يأباه ناموس الربوبيّة و العبوديّة، و لذلك وضعت كفّارة خاصّة عند حنث اليمين، و كره الإكثار من الحلف بالله عزّ شأنه، قال تعالى:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ،) الآية: المائدة: ٨٩ و قال تعالى:( وَ لا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ) البقرة: ٢٢٤.

و اعتبر اليمين في موارد من القضاء خلت عن البيّنة، قال تعالى:( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا ) الآية: المائدة: ١٠٧

و من كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر.

و حقيقة اعتبار اليمين الاكتفاء بدلالة نفس الإيمان فيما لا دليل سواه، و ذلك أنّ المجتمع الدينيّ مبنيّ على إيمان الأفراد بالله، و الإنسان المؤمن هو الجزء من هذا المركّب المؤلّف، و هو المنبع الّذي ينبع منه السنن المتّبعة و الأحكام الجارية، و بالجملة جميع الآثار البارزة في القوم الناشئة من حالتهم الدينيّة كما أنّ المجتمع غير الدينيّ مبنيّ على إيمان الأفراد بمقاصدهم القوميّة، و منها تنشأ السنن و القوانين المدنيّة و الآداب و الرسوم الدائرة بينهم.

فإذا كان كذلك و صحّ الاعتماد في جميع الشؤون الاجتماعيّة و الاتّكاء في عامّة لوازم الحياة على إيمان الأفراد بطرق مختلفة كان من الجائز أن يعتمد على إيمانهم في ما لا دليل

٢٢٤

آخر يعتمد عليه، و هو اليمين فيما لا بيّنة عليه بأن يربط المنكر ما ينكره من دعوى المدّعي و يقيّده بإيمانه بحيث يزول اعتبار إيمانه بالله ببطلان إنكاره و ظهور كذبه فيما أظهره و أخبر به.

فإيمانه بسبب ما عقده باليمين بمنزلة مال الرهن الّذي يجعل تحت تسلّط الدائن و يراعي في عوده إلى سلطة راهن صدق وعده و تأديته الدين إلى أجل و إلّا ذهب المال و بقي صفر اليد.

كذلك الحالف يعتبر مرهون الإيمان بما حلف عليه ما لم يظهر خلافه و إذا ظهر الخلاف عاد صفر الكفّ من الإيمان ساقطاً عن درجة الاعتبار محروماً من التمتّع بثمرة الإيمان و هي في المجتمع الدينيّ جميع المزايا الاجتماعيّة، و رجع مطروداً من المجتمع المتلائم الأجزاء لا سماء تظلّه و لا أرض تقلّه.

و يتأيّد هذا البيان بما يروى من تظاهر الناس على مقت المتخلّفين عن السنن الدينيّة كالصلاة مع الجماعة و الشخوص في الجهاد و نحوهما في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان تمام السلطة و الحكومة للدين على الأهواء.

و أمّا في أمثال هذه الأعصار الّتي ضعف فيها نفوذ الدين و تسرّب الهوى في القلوب و انعقد بيننا مجتمع مؤتلف من المقاصد الدينيّة على وهن في بنيتها و إعراض من الناس عنها و من مقاصد المدنيّة الحديثة و يجمعها الاسترسال في التمتّعات المادّيّة على شيد في أساسها و إقبال عامّ من عامّة الناس إليها ثمّ أخذ التنازع و التشاجر الشديد بين الدواعي الدينيّة و المدنيّة الطارقة و لا يزال يغلب هذا و ينهزم ذاك، و انثلمت وحدة النظام الواجب انبساطه على مستوى المجتمع، و بدا الهرج و المرج في الروحيّات فحينئذ لا يكاد ينفع اليمين و لا ما هو أقوى من ذلك و أحفظ لحقوق الناس، و زال الاعتماد لا على الأسباب الدينيّة الموجودة عند المجتمع فحسب بل عليها و على النواميس الحديثة جميعاً.

غير أنّ الله سبحانه لا ينسخ أحكامه و لا يغمض عن شرائعه بتولّي الناس عنها و سأمهم منها و إنّ الدين عند الله الإسلام و لا يرضى لعباده الكفر، و لو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض، و إنّما الإسلام دين متعرّض لجميع شؤون الحياة الإنسانيّة شارح

٢٢٥

لها مبيّن لأحكامها ذو أجزاء متلائمة متناسبة متلازمة تعيش بروح التوحيد الواحد إذا اعتلّ بعض أجزائه اعتلّ الجميع، و إذا فسد بعضها أثّر ذلك في عمل الجميع كالواحد من الإنسان بعينه.

فإذا فسد بعض أجزائه أو اعتلّ كان من الواجب إبقاء السالم منها على سلامته و علاج المعتلّ و إصلاح الفاسد، و لم يكن من الجائز إبقاء المعتلّ على علّته و الفاسد على فساده، و الإعراض عن السالم.

و الإسلام و إن كان ملّة حنيفيّة سهلة سمحة ذات مراتب مختلفة وسيعة يقدّر تكاليفه على قدر ما يستطاع من إتيانها و إجرائها، يتمدّد حبلها الموصول من حالة اجتماعيّة آمنة تتضمّن شرائعها و قوانينها جمعاء من غير استثناء إلى حالة انفراديّة اضطراريّة تكتفى فيها من الصلاة بالإشارة لكنّ التنزّل من مرتبة من مراتبها إلى ما هي دونها مشروطة بالاضطرار النافي للتكليف و المبيح للتوسّع، قال تعالى:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ - إلى أن قال -ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) النحل: ١١٠.

و أمّا بناء الحياة على التمتّع المادّيّ ثمّ التعلّل في رفض ما يناقضه من الموادّ الدينيّة بأنّه لا يوافق السنّة الجارية في الدنيا الحاضرة فإنّه جري على المنطق المادّيّ دون منطق الدين.

و من البحث المتعلّق بهذا الباب ما في قول بعض: (إنّ الحلف بغير الله من الشرك بالله) فينبغي أن يستفهم هذا القائل ما ذا يريد بهذا الشرك الذي ذكره؟.

فإن أراد به أنّ في اليمين بغير الله إعظاماً للمقسم به و إجلالاً لأمره لابتناء معنى القسم على ذلك ففيه نوع خضوع و عبادة له و هو الشرك فما كلّ إعظام شركاً إلّا إعطاء عظمة الربوبيّة المستقلّة التي يستغني بها عن غيره.

و قد أقسم الله تعالى بكثير من خلقه كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و الكنّس الخنّس من الكواكب و بالنجم إذا هوى، و أقسم بالجبل و البحر و التين و الزيتون و الفرس

٢٢٦

و أقسم بالليل و النهار و الصبح و الشفق و العصر و الضحى و يوم القيامة، و أقسم بالنفس، و أقسم بالكتاب و القرآن العظيم و حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بالملائكة إلى غير ذلك في آيات كثيرة و لا يستقيم قسم إلّا عن إعظام.

فما المانع من أن نجري على ما جرى عليه كلامه تعالى من إعظامها بالعظمة الموهوبة و نقتصر على ذلك، و لو كان ذلك من الشرك لكان كلامه تعالى أولى بالتحرّز منه و أحرى برعايته.

و أيضا قد عظم الله تعالى اُموراً كثيرة في كلامه كالقرآن و العرش و خلق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى:( وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) الحجر: ٨٧، و قال:( وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) التوبة: ١٢٩، و قال:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ن: ٤، و جعل لأنبيائه و رسله و المؤمنين حقوقاً على نفسه و عظّمها و احترمها، قال تعالى:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) الصافّات: ١٧٢، و قال:( وَ كانَ حقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧ فما المانع من أن نعظّمها و نجري على ما جرى عليه كلامه في مطلق القسم، و أن نقسمه تعالى بشي‏ء ممّا أقسم به أو بحقّ من الحقوق الّتي جعلها لأوليائه على نفسه؟ نعم اليمين الشرعيّ الّذي له آثار شرعيّة في باب اليمين أو القضاء لا ينعقد بغير الله سبحانه كما بيّن في الفقه و ليس كلامنا فيه.

و إن أراد به أنّ مطلق الإعظام كيفما كان لا يجوز في غير الله حتّى إعظامها بما عظّمها الله تعالى فهو ممّا لا دليل عليه بل القاطع من الدليل على خلافه.

و ربّما قيل: إنّ في الإقسام بحقّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سائر الأولياء و التقرّب إليهم و الاستشفاع بهم بأيّ وجه كان عبادة و إعطاء سلطة غيبيّة لها. و الكلام فيه كالكلام في سابقه: فإن اُريد بهذه السلطة الغيبيّة السلطة المستقلّة الخاصّة بالله فلا يذعن بها مسلم مؤمن بكتاب الله في غيره تعالى، و إن اُريد بها مطلق السلطة غير المادّيّة و لو كان بإذن الله فما الدليل على امتناع أن يتّصف بها بعض عباد الله كأوليائه مثلاً بإذنه، و قد نصّ القرآن الشريف على كثير من السلطات الغيبيّة في الملائكة كما قال:( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) الأنعام: ٦١، و قال:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ) السجدة: ١١

٢٢٧

و قال:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً، وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً، وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) النازعات: ٥، و قال:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) البقرة: ٩٧ و الآيات في هذا الباب كثيرة جدّاً.

و قال في إبليس و جنوده:( إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ٢٧ و قد نزلت في شفاعة الأنبياء و غيرهم في الآخرة، و آياتهم المعجزة في الدنيا آيات كثيرة.

و ليت شعري ما الفرق بين الآثار المادّيّة الّتي يثبتها هؤلاء في الموضوعات من غير استنكاف و بين آثار غير المادّيّة الّتي يسمّونها بالسلطة الغيبيّة؟ فإن كان إثبات التأثير لغير الله ممنوعاً لم يكن فرق بين الأثر المادّيّ و غيره و إن كان جائزاً بإذن الله سبحانه كان الجميع فيه سواءً.

( بحث روائي)

في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن رجاله رفعه قال: خرج تميم الداريّ و ابن بندي و ابن أبي مارية في سفر، و كان تميم الداريّ مسلماً و ابن بندي و ابن أبي مارية نصرانيّين، و كان مع تميم الداريّ خرج له فيه متاع و آنية منقوشة بالذهب و قلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع.

فاعتلّ تميم الداريّ علّة شديدة فلمّا حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندي و ابن أبي مارية و أمرهما أن يوصلاه إلى ورثته فقدما المدينة، و قد أخذا من المتاع الآنية و القلادة، و أوصلا سائر ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الآنية و القلادة فقال أهل تميم لهما: هل مرض صاحبنا مرضاً طويلاً أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا: لا ما مرض إلّا أيّاماً قلائل، قالوا: فهل سرق منه شي‏ء في سفره هذا؟ قالا: لا، فقالوا: فهل اتّجر تجارة خسر فيها؟ قالا: لا، قالوا: فقد افتقدنا أفضل شي‏ء كان معه: آنية منقوشة بالذهب مكلّلة بالجواهر و قلادة، فقالا: ما دفعه إلينا فقد أدّيناه إليكم.

٢٢٨

فقدّموهما إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أوجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهما اليمين فحلفا فخلّا عنهما، ثمّ ظهرت تلك الآنية و القلادة عليهما فجاء أولياء تميم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا رسول الله قد ظهر على ابن بندي و ابن أبي مارية ما ادّعيناه عليهما، فانتظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله عزّوجلّ الحكم في ذلك.

فأنزل الله تبارك و تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) فأطلق الله عزّوجلّ شهادة أهل الكتاب على الوصيّة فقط إذا كان في سفر و لم يجد المسلمين.

ثمّ قال:( فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) ، فهذه الشهادة الاُولى الّتي حلّفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَإِنْ عُثِرَ عَلى‏ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ) أي أنّهما حلفا على كذب( فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما ) يعني من أولياء المدّعي( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) الأوّلين( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ ) أي يحلفان بالله أنّهما أحقّ بهذه الدعوى منهما و أنّهما قد كذبا فيما حلفا بالله( لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) .

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولياء تميم الداريّ أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به فحلفوا فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القلادة و الآنية من ابن بندي و ابن أبي مارية و ردّهما إلى أولياء تميم الداريّ( ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى‏ وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) .

أقول: و أورده القمّيّ في تفسيره مثله‏ و فيه بعد قوله:( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) يعني صلاة العصر، و قوله ع( الأوّلين) الظاهر أنّه بصيغة التثنية و المراد بهما الشاهدان الأوّلان تفسيراً لقوله تعالى:( الْأَوْلَيانِ ) و ظاهره على قراءتهعليه‌السلام ( اسْتَحَقَّ ) بالبناء للفاعل كما نسبت إلى عليّعليه‌السلام ، و قد قدّمنا في البيان السابق أنّه أوضح المعاني المحتملة على هذه القراءة.

٢٢٩

و في الدرّ المنثور: أخرج الترمذيّ و ضعّفه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه و أبوالشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر و هو الكلبيّ عن باذان مولى اُمّ هاني عن ابن عبّاس عن تميم الداريّ في هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) قال: برى‏ء الناس منهما غيري و غير عدي ابن بداء، و كانا نصرانيّين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما، و قدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة، و معه جام من فضّة يريد به الملك و هو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما و أمرهما أن يبلّغا ما ترك أهله.

قال تميم: فلمّا مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثمّ اقتسمناه أنا و عديّ بن بداء فلمّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا و فقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا و ما دفع إلينا غيره.

قال تميم: فلمّا أسلمت بعد قدوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة تأثّمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر و أدّيت إليهم خمسمائة درهم، و أخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألهم البيّنة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ - إلى قوله -أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) فقام عمرو بن العاص و رجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدّي بن بداء.

أقول: و الرواية على ضعفها لا تنطبق على الآية تمام الانطباق و هو ظاهر، و روي عن ابن عبّاس و عن عكرمة ما يقرب من رواية القمّيّ السابقة.

و فيه: أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و أبوعبيد و ابن جرير و ابن المنذر و أبوالشيخ عن عليّ بن أبي طالب: أنّه كان يقرأ:( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) بفتح التاء.

و فيه: أخرج ابن مردويه و الحاكم و صحّحه، عن عليّ بن أبي طالب: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ:( الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) .

و فيه: أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: هذه الآية منسوخة.

٢٣٠

أقول: و لا دليل على ما في الرواية من حديث النسخ.

و في الكافي، عن محمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان و عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله تبارك و تعالى:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال: إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصيّة.

أقول: و معنى الرواية مستفاد من الآية.

و فيه، بإسناده عن يحيى بن محمّد قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ؟ قال:( اللّذان منكم) مسلمان( و اللّذان من غيركم) من أهل الكتاب، فإن لم يجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّ في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية.

و ذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر فيقسمان بالله عزّوجلّ( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) قال: و ذلك إذا ارتاب وليّ الميّت في شهادتهما، فإن عثر على أنّهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما حتّى يجي‏ء بشاهدين فيقومان مقام الشاهدين الأوّلين( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) فإذا فعل ذلك نقض شهادة الأوّلين، و جازت شهادة الآخرين يقول الله عزّوجلّ:( ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى‏ وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) .

أقول: و الرواية - كما ترى - توافق ما تقدّم من معنى الآية، و في معناها روايات اُخر في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي عبدالله و أبي الحسنعليهما‌السلام .

و في بعض الروايات تفسير قوله:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) بالكافرين، و هو أعمّ من أهل الكتاب كما رواه في الكافي، عن أبي الصباح الكنانيّ عن أبي عبدالله. و في تفسير العيّاشيّ،

٢٣١

عن أبي اُسامة عنهعليه‌السلام أيضاً: في الآية: ما( آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ؟ قال: هما كافران قلت:( ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) ؟ فقال: مسلمان‏، و الرواية السابقة المقيّدة بأهل الكتاب و إن لم تصلح لتقييد هذا الإطلاق بحسب صناعة الإطلاق و التقييد لكونهما متوافقين إيجابيّين لكن سياق الرواية الاُولى يصلح لتفسير إطلاق الثانية بما يوافق التقييد.

و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده إلى أبي زيد عيّاش بن يزيد بن الحسن عن أبيه يزيد بن الحسن قال: حدّثني موسى بن جعفرعليه‌السلام قال: قال الصادقعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا ) قال: يقولون لا علم لنا بسواك قال و قال: الصادقعليه‌السلام : القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب.

قال صاحب البرهان: قال ابن بابويه: يعني بذلك أنّه من وراء آيات التوبيخ و الوعيد آيات الرحمة و الغفران.

أقول: و ما نقله عن الصدوق رحمه الله في معنى قولهعليه‌السلام :( القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب) لا ينطبق عليه لا بالنظر إلى صدر الرواية فإنّ كون معنى قول الرسلعليهم‌السلام :( لا عِلْمَ لَنا ) أنّه لا علم لنا بسواك غير مرتبط بكون القرآن مشتملاً على نوعين من الآيات: آيات الوعد و آيات الوعيد.

و لا بالنظر إلى سياق نفس الجملة أعني قوله:( القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب) فإنّ الكلام ظاهر في أنّ القرآن كلّه تقريع و كلّه تقريب، و إنّما يختلف الأمر بحسب الباطن و الظاهر فباطنه تقريب و ظاهره تقريع، لا أنّ القرآن منقسم إلى قسمين فقسم منه آيات التقريع و وراءه القسم الآخر و هو آيات التقريب.

و التأمّل في كلامهعليه‌السلام مع ملاحظة صدر الرواية يعطي أنّ مرادهعليه‌السلام من التقريع بالنظر إلى مقابلة التقريب لازم معناه و هو التبعيد المقابل للتقريب، و القرآن كلّه معارف و حقائق فظاهره تبعيد الحقائق بعضها من بعض و تفصيل أجزائها، و باطنه تقريب البعض من البعض و إحكامها و توحيدها، و يعود محصّل المراد إلى أنّ القرآن بحسب ظاهره يعطي حقائق من المعارف مختلفة بعضها بائن منفصل من بعض لكنّها على كثرتها و

٢٣٢

بينونتها و ابتعاد بعضها من بعض بحسب الباطن يقترب بعضها من بعض و تلتئم شتّى معانيها حتّى تتّحد حقيقة واحدة كالروح الساري في الجميع، و ليست إلّا حقيقة التوحيد قال الله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: ١.

و يظهر حينئذ انطباقه على ما ذكرهعليه‌السلام في صدر الرواية أنّ معنى قول الرسل:( لا عِلْمَ لَنا ) أن لا علم لنا بسواك فإنّ الإنسان أو أيّ عالم فرض إنّما يعلم ما يعلم بالله بمعنى أنّ الله سبحانه هو المعلوم بذاته و غيره معلوم به، و بعبارة اُخرى إذا تعلّق العلم بشي‏ء فإنّما يتعلّق أوّلاً بالله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه و كبريائه ثمّ يتعلّق من جهته بذلك الشي‏ء لما أنّ الله سبحانه عنده علم كلّ شي‏ء يرزق منه لمن يشاء من عباده على قدر ما يشاء كما قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) البقرة: ٢٥٥ و قد تقدّم رواية عبدالأعلى مولى آل سام عن الصادقعليه‌السلام و غيره من الروايات في هذا المعنى.

و على هذا فمعنى قولهم:( لا عِلْمَ لَنا بسواك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) على تفسيرهعليه‌السلام أنّه لا علم لنا بشي‏ء من دونك و إنّما نعلم ما نعلم من جهة علمنا بك لأنّ العلم كلّه لك و إذا كان كذلك فأنت أعلم به منّا لأنّ الّذي نعلمه من شي‏ء هو علمك الّذي أحطنا بشي‏ء منه بمشيئتك و رزقك.

و على هذا يتجلّى معنى آخر لقوله:( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) هو أرفع منالاً ممّا تقدّم من المعنى، و هو أنّ كلّ شي‏ء من الخليقة لما كان منفصل الوجود عن غيره كان في غيب منه لما أنّ وجوده محدود مقدّر لا يحيط إلّا بما شاء الله أن يحيط به، و الله سبحانه هو المحيط بكلّ شي‏ء، العالم بكلّ غيب لا يعلم شي‏ء شيئاً إلّا من جهته تعالى و تقدّس عن كلّ نقص.

و على هذا فتقسيم الاُمور إلى غيب و شهادة تقسيم بالحقيقة إلى غيب شاء الله إحاطتنا به و غيب مستور عنّا، و ربّما تؤيّد هذا المعنى بظاهر قوله تعالى:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) الجنّ: ٢٧ بالنظر إلى ما تفيده إضافة الغيب إلى الضمير، و عليك بإجادة التأمّل في هذا المقام.

٢٣٣

و في تفسير العيّاشيّ، عن يزيد الكناسيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ ، الآية) قال: يقول: ما ذا اُجبتم في أوصيائكم الّذين خلّفتم على اُمتكم؟ قال: فيقولون: لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا.

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره عن محمّد بن مسلم عنهعليه‌السلام .

و في الكافي، عن يزيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام ما في معناه، و هو من الجري أو من قبيل الباطن.

٢٣٤

( سورة المائدة الآيات ١١٠ - ١١١)

إِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى‏ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيّدتّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونَ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيّنَاتِ فَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا إِلّا سِحْرٌ مُبِينٌ( ١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنّا وَاشْهَدْ بِأَنّنَا مُسْلِمُونَ( ١١١)

( بيان)

الآيتان و كذا الآيات التالية لها القاصّة قصّة نزول المائدة و التالية لها المخبرة عمّا سيسأل الله عيسى بن مريمعليهما‌السلام عن اتّخاذ الناس إيّاه و اُمّه إلهين من دون الله سبحانه و ما يجيب به عن ذلك، كلّها مرتبطة بغرض السورة الّذي افتتحت به، و هو الدعوة إلى الوفاء بالعهد و الشكر للنعمة و التحذير عن نقض العهود و كفران النعم الإلهيّة و بذلك يتمّ رجوع آخر السورة إلى أوّلها و تحفظ وحدة المعنى المراد.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - إلى قوله -وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِي ) الآية تعدّ عدّة من الآيات الباهرة الظاهرة بيدهعليه‌السلام إلّا أنّها تمتنّ بها عليه و على اُمّه جميعاً، و هي مذكورة بهذا اللفظ تقريباً فيما يحكيه تعالى من تحديث الملائكة مريم عند بشارتها بعيسىعليهما‌السلام في سورة آل عمران، قال تعالى:( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - إلى أن قال -وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا - إلى أن قال -وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ رَسُولًا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ، أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ

٢٣٥

فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِ اللهِ ) (الآيات) آل عمران: ٤٥ - ٥٠.

و التأمّل في سياق الآيات يوضح الوجه في عدّ ما ذكره من الآيات المختصّة ظاهراً بالمسيح نعمة عليه و على والدته جميعاً كما تشعر به آيات آل عمران فإنّ البشارة إنّما تكون بنعمة، و الأمر على ذلك فإنّ ما اختصّ به المسيحعليه‌السلام من آية و موهبة كالولادة من غير أب و التأييد بروح القدس و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى بإذن الله سبحانه فهي بعينها كرامة لمريم كما أنّها كرامة لعيسىعليه‌السلام فهما معاً منعّمان بالنعمة الإلهيّة كما قال تعالى:( نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى‏ والِدَتِكَ ) .

و إلى ذلك يشير تعالى بقوله:( وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) الأنبياء: ٩١ حيث عدّهما معاً آية واحدة لا آيتين.

و قوله:( إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ ) الظاهر أنّ التأييد بروح القدس هو السبب المهيّئ له لتكليم الناس في المهد، و لذلك وصل قوله( تُكَلِّمُ النَّاسَ ) من غير أن يفصله بالعطف إلى الجملة السابقة إشعاراً بأنّ التأييد و التكليم معاً أمر واحد مؤلّف من سبب و مسبّب، و اكتفى في موارد من كلامه بذكر أحد الأمرين عن الآخر كقوله في آيات آل عمران المنقولة آنفاً:( وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا ) ، و قوله:( وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٢٥٣.

على أنّه لو كان المراد بتأييده بروح القدس مسألة الوحي بوساطة الروح لم يختصّ بعيسى بن مريمعليه‌السلام و شاركه فيها سائر الرسل مع أنّ الآية تأبى ذلك بسياقها.

و قوله:( وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) من الممكن أن يستفاد منه أنّهعليه‌السلام إنّما تلقّى علم ذلك كلّه بتلقّ واحد عن أمر إلهيّ واحد من غير تدريج و تعدّد كما أنّه أيضاً ظاهر جمع الجميع و تصديرها بإذ من غير تكرار لها.

و كذلك قوله:( إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ) ظاهر السياق من جهة عدم تكرار لفظة( إِذْ ) أنّ خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص كانا متقارنين زماناً، و أنّ تذييل خلق الطير بذكر الإذن

٢٣٦

من غير أن يكتفي بالإذن المذكور في آخر الجملة إنّما هو لعظمة أمر الخلق بإفاضة الحياة فتعلّقت العناية به فاختصّ بذكر الإذن بعده من غير أن ينتظر فيه آخر الكلام صوناً لقلوب السامعين من أن يخطر فيها أنّ غيره تعالى يستقلّ دونه بإفاضة الحياة أو تلبث فيها هذه الخطرة و لو لحظات يسيرة، و الله أعلم.

و قوله:( وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِي ) إخراج الموتى كناية عن إحيائها، و فيه عناية ظاهرة بأنّ الإحياء الّذي جرى على يديهعليه‌السلام كان إحياء لموتى مقبورين بإفاضة الحياة عليهم و إخراجهم من قبورهم إلى حياة دنيويّة، و في اللفظ دلالة على الكثرة، و قد تقدّم في الكلام على آيات آل عمران بقيّة ما يتعلّق بهذه الآيات من الكلام فراجع ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ ) إلى آخر الآية. فيه دلالة على أنّهم قصدوه بشرّ فكفّهم الله عن ذلك فينطبق على ما ذكره الله في سورة آل عمران في قصصهعليه‌السلام بقوله:( وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللهُ وَ اللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) الآية، الآية منطبقة على آيات سورة آل عمران بقوله:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٥٢.

و من هنا يظهر أنّ هذا الإيمان الّذي ذكره في الآية بقوله:( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا ) ، الآية غير إيمانهم الأوّل بهعليه‌السلام فإنّ ظاهر قوله في آية آل عمران:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ ) أنّه كان في أواخر أيّام دعوته و قد كان الحواريّون و هم السابقون الأوّلون في الإيمان به ملازمين له.

على أنّ ظاهر قوله في آية آل عمران:( قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) أنّ الدعوة إنّما سيقت لأخذ الميثاق على نصرة دين الله لا أصل الإيمان بالله، و لذلك ختم الآية بقولهم:( وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) و هو التسليم لأمر الله بإقامة دعوته و تحمّل الأذى في جنبه، و كلّ ذلك بعد أصل الإيمان بالله طبعاً.

فتبيّن أنّ المراد بقوله:( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) ، إلخ قصّة أخذ الميثاق من الحواريّين، و في الآية أبحاث اُخر مرّت في تفسير سورة آل عمران.

٢٣٧

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن أبي يعقوب البغداديّ قال: قال ابن السكّيت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام : لما ذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء و العصا و آلة السحر، و بعث عيسى بآلة الطبّ، و بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام و الخطب؟.

فقال أبوالحسنعليه‌السلام : إنّ الله تعالى لما بعث موسىعليه‌السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عندالله تعالى بما لم يكن عند القوم و في وسعهم مثله، و بما أبطل به سحرهم، و أثبت به الحجّة عليهم و إنّ الله تعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات و احتاج الناس إلى الطبّ فأتاهم من عندالله تعالى بما لم يكن عندهم مثله، و بما أحيي لهم الموتى، و أبرأ الأكمه و الأبرص بإذن الله، و أثبت به الحجّة عليهم و إنّ الله تعالى بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب و الكلام و الشعر فأتاهم من كتاب الله و الموعظة و الحكمة بما أبطل به قولهم، و أثبت به الحجّة عليهم.

قال ابن السكّيت ما رأيت مثلك اليوم قطّ فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه و الكاذب على الله فيكذّبه، قال ابن السكّيت: هذا و الله هو الجواب.

و في الكافي، عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن محبوب عن أبي جميلة عن أبان بن تغلب و غيره عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّه سئل هل كان عيسى بن مريم أحيا أحداً بعد موته بأكل و رزق و مدّة و ولد؟ فقال: نعم إنّه كان له صديق مواخ له في الله تبارك و تعالى، و كان عيسىعليه‌السلام يمرّ به و ينزل عليه، و إنّ عيسى غاب عنه حيناً ثمّ مرّ به ليسلّم عليه فخرجت عليه اُمّه فسألها عنه فقالت له: مات يا رسول الله، فقال: أ تحبّين أن تراه؟ قالت: نعم. فقال: إذا كان غداً أتيتك حتّى اُحييه لك بإذن الله تعالى.

فلمّا كان من الغد أتاها فقال لها: انطلقي معي إلى قبره فانطلقا حتّى أتيا قبره فوقف عليه عيسىعليه‌السلام ثمّ دعا الله عزّوجلّ فانفرج القبر فخرج ابنها حيّاً فلمّا رأته اُمّه و رءاها بكيا فرحمهما عيسىعليه‌السلام فقال له عيسى: أ تحبّ أن تبقى مع اُمّك في الدنيا؟

٢٣٨

فقال: يا رسول الله بأكل و رزق و مدّة أم بغير أكل و رزق و مدّة؟ فقال له عيسىعليه‌السلام : بأكل و رزق و مدّة تعمّر عشرين سنة و تزوّج و يولد لك، قال: نعم إذاً.

قال: فدفعه عيسىعليه‌السلام إلى اُمّه فعاش عشرين سنة و ولد له.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن يوسف الصنعانيّ عن أبيه قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام ( إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) قال: اُلهموا.

أقول: و استعمال الوحي في مورد الإلهام جاء في القرآن في غير مورد كقوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) القصص: ٧، و قوله تعالى:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) النحل: ٦٨ و قوله في الأرض:( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) الزلزال: ٥.

٢٣٩

( سورة المائدة الآيات ١١٢ - ١١٥)

إِذْ قَالَ الْحَوارِيّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السّماءِ قَالَ اتّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ( ١١٢) قَالُوا نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشّاهِدِينَ( ١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السّمَاءِ تَكُونَ لَنَا عِيداً لِأَوّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ( ١١٤) قَالَ اللّهُ إِنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَ أُعَذّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ( ١١٥)

( بيان)

الآيات تذكر قصّة نزول المائدة على المسيحعليه‌السلام و أصحابه، و هي و إن لم تصرّح بأنّ الله أنزلها عليهم غير أنّ الآية الأخيرة تتضمّن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد و قد وصف تعالى نفسه بأنّه لا يخلف الميعاد.

و قول بعضهم: (إنّهم استقالوا عيسىعليه‌السلام بعد ما سمعوا الوعيد الشديد من الله تعالى لمن يكفر منهم بعد نزول المائدة) قول من غير دليل من كتاب أو حديث يعتمد عليه.

و قد نقل ذلك عن جمع من المفسّرين، و ممّن يذكر منهم: المجاهد و الحسن، و لا حجّة في قولهما و لا قول غيرهما و لو عدّ قولهما رواية كانت من الموقوفات الّتي لا حجّيّة لها لضعفها على أنّها معارضة بغيرها من الروايات الدالّة على نزولها، على أنّها لو صحّت لم تكن إلّا من الآحاد الّتي لا يعتمد عليها في غير الأحكام.

و ربّما يستدلّ على عدم نزولها بأنّ النصارى لا يعرفونها و كتبهم المقدّسة خالية عن حديثها، و لو كانت نازلة لتوفّرت الدواعي على ذكره في كتبهم و حفظه فيما بينهم بسيرة مستمرّة كما تحفّظوا على العشاء الربّانيّ لكن الخبير بتاريخ شيوع النصرانيّة و ظهور الأناجيل لا يعبأ بأمثال هذه الأقاويل فلا كتبهم مكتوبة محفوظة على التواتر إلى

٢٤٠