الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 75755
تحميل: 5708


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75755 / تحميل: 5708
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

زمن عيسىعليه‌السلام ، و لا هذه النصرانيّة الحاضرة تتّصل بزمنه حتّى ينتفع بها فيها يعتورونه يداً بيد، أو فيما لا يعرفونه ممّا ينسب إلى الدعوة العيسويّة أو يتعلّق بها.

نعم وقع في بعض الأناجيل إطعام المسيح تلاميذه و جماعة من الناس بالخبز و السمك القليلين على طريق الإعجاز، غير أنّ القصّة لا تنطبق على ما قصّة القرآن في شي‏ء من خصوصيّاته، ورد في إنجيل يوحنّا، الإصحاح السادس ما هذا نصّه:

(١)( بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل و هو بحر طبريّة (٢) و تبعه جمع كثير لأنّهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى (٣) فصعد يسوع إلى جبل و جلس هناك مع تلاميذه (٤) و كان الفصح عند اليهود قريباً (٥) فرفع يسوع عينيه و نظر أنّ جمعاً كثيراً مقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء (٦) و إنّما قال هذا ليمتحنه لأنّه هو علم ما هو مزمع أن يفعل (٧) أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمأتي دينار ليأخذ كلّ واحد منهم شيئاً يسيراً (٨) قال له واحد من تلاميذه و هو أندراوس أخو سمعان بطرس (٩) هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير و سمكتان و لكن ما هذا لمثل هؤلاء (١٠) فقال يسوع اجعلوا الناس يتّكئون و كان في المكان عشب كثير فاتّكأ الرجال و عددهم نحو خمسة آلاف (١١) و أخذ يسوع الأرغفة و شكر و وزّع على التلاميذ و التلاميذ أعطوا المتّكئين و كذلك من السمكتين بقدر ما شاؤا (١٢) فلمّا شبعوا قال لتلاميذه أجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شي‏ء (١٣) فجمعوا و ملأوا اثنتي عشرة قفّة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير الّتي فضلت عن الآكلين (١٤) فلمّا رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إنّ هذا هو بالحقيقة النبيّ الآتي إلى العالم (١٥) و أمّا يسوع فإذ علم أنّهم مزمعون أن يأتوا و يختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده) .

ثمّ إنّ التدبّر في هذه القصّة بما لها من سياق مسرود في كلامه تعالى يهدي إلى جهة اُخرى من البحث فإنّ السؤال المذكور في أوّلها بظاهره خال عن رعاية الأدب و الواجب حفظه في جنب الله سبحانه، و قد انتهى الكلام إلى وعيد منه تعالى لمن يكفر بهذه الآية وعيداً لا يوجد له نظير في شي‏ء من الآيات الّتي اختصّ الله سبحانه بها أنبياءه أو اقترحها اُممهم عليهم كاقتراح اُمم نوح و هود و صالح و شعيب و موسى و محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٤١

فهل كان ذلك لكون الحواريّين و هم السائلون أساؤا الأدب في سؤالهم؟ لأنّ لفظهم لفظ من يشكّ في قدرة الله سبحانه ففي اقتراحات الاُمم السابقة عليهم من الإهانة بمقام ربّهم و السخريّة و الهزء بأنبيائهم و كذا ما توجد حكايته في القرآن من طواغيت قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اليهود المعاصرين له ما هو أوقح من ذلك و أشنع!.

أو أنّهم لكونهم مؤمنين قبل السؤال و النزول لو كفروا بعد النزول و مشاهدة الآية الباهرة استحقّوا هذا الوعيد على هذه الشدّة؟ فالكفر بعد مشاهدة الآية الباهرة و إن كان عتوّاً و طغياناً كبيراً لكنّه لا يختصّ بهم، ففي سائر الاُمم أمثال لهم في ذلك و لم يوعدوا بمثل هذا الوعيد قطّ حتّى الّذين ارتدّوا منهم بعد التمكّن في مقام القرب و التحقّق بآيات الله سبحانه كالّذي يذكره الله سبحانه في قوله:( وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ) الأعراف: ١٧٥.

و الّذي يمكن أن يقال في المقام أنّ هذه القصّة بما صدّر به من السؤال يمتاز بمعنى يختصّ به من بين سائر معجزات الأنبياء الّتي أتوا بها لاقتراح من اُممهم أو لضرورات اُخر تدعو إلى ذلك.

و ذلك أنّ الآيات المعجزة الّتي يقصّها الكلام الإلهيّ إمّا آيات آتاها الله الأنبياء حين بعثهم لتكون حجّة مؤيّدة لنبوّتهم أو رسالتهم كما اُوتي موسىعليه‌السلام اليد البيضاء و العصا، و اُوتي عيسىعليه‌السلام إحياء الموتى و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص، و اُوتي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن، و هذه آيات اُوتيت لحاجة الدعوة إلى الإيمان و إتمام الحجّة على الكفّار ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيي من حيّ عن بيّنة.

و إمّا آيات معجزة أتى بها الأنبياء و الرسل لاقتراح الكفّار عليهم كناقة صالح، و يلحق بها المخوّفات و المعذّبات المستعملة في الدعوة كآيات موسىعليه‌السلام على قوم فرعون من الجراد و القمّل و الضفادع و غير ذلك في سبع آيات، و طوفان نوح، و رجفة ثمود و صرصر عاد و غير ذلك، و هذه أيضاً آيات متعلّقة بالمعاندين الجاحدين.

و إمّا آيات أراها الله المؤمنين لحاجة مسّتها، و ضرورة دعت إليها، كانفجار العيون من الحجر و نزول المنّ و السلوى على بني إسرائيل في التيه، و رفع الطور فوق رؤسهم و شقّ

٢٤٢

البحر لنجاتهم من فرعون و عمله، فهذه آيات واقعة لإرهاب العاصين المستكبرين أو كرامة للمؤمنين لتتمّ كلمة الرحمة في حقّهم من غير أن يكونوا قد اقترحوها.

و من هذا الباب المواعيد الّتي وعدها الله في كتابه المؤمنين كرامة لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كوعد فتح مكّة و مقت المشركين من كفّار قريش و غلبة الروم إلى غير ذلك.

فهذه أنواع الآيات المقتصّة في القرآن و المذكورة في التعليم الإلهيّ، و أمّا اقتراح الآية بعد نزول الآية فهو من التهوّس يعدّه التعليم الإلهيّ من الهجر الّذي لا يعبأ به كاقتراح أهل الكتاب أن ينزّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم كتاباً من السماء مع وجود القرآن بين أيديهم، قال تعالى:( يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً - إلى أن قال -لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً ) النساء: ١٦٦.

و كما سأل المشركون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنزال الملائكة أو إراءة ربّهم تعالى و تقدّس قال تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ) الفرقان: ٢١ و قال تعالى:( وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) الفرقان: ٩ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و ليس ذلك كلّه إلّا لأنّ عنوان نزول الآية هو ظهور الحقّ و تمام الحجّة فإذا نزلت فقد ظهر الحقّ و تمّت الحجّة فلو اُعيد سؤال نزول الآية و قد نزلت و حصل الغرض فلا عنوان له إلّا العبث بآيات الله و اللعب بالمقام الربوبيّ و التذبذب في القبول، و فيه أعظم العتوّ و الاستكبار.

و هذا لو صدر عن المؤمنين لكان الذنب فيه أكثف و الإثم فيه أعظم فما ذا يصنع المؤمن بنزول الآية السماويّة و هو مؤمن و خاصّة إذا كان ممّن شاهد آيات الله فآمن عن مشاهدتها؟ و هل هو إلّا أشبه شي‏ء بما يقترحه أرباب الهوى و المترفون في مجالس الاُنس و حفل

٢٤٣

التفكّه من المشعوذين أو أصحاب الرياضات العجيبة أن يطيّبوا عيشهم بإتحافهم بأعجب ما يقدرون عليه من الشعبذة و الأعمال الغريبة؟.

و الّذي يفيده ظاهر قوله تعالى:( إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً ) أنّهم اقترحوا على المسيحعليه‌السلام أن يريهم آية خاصّة و هم حواريّوه المختصّون به و قد رأوا تلك الآيات الباهرة و الكرامات الظاهرة فإنّهعليه‌السلام لم يرسل إلى قومه إلّا بالآيات المعجزة كما يعطيه قوله تعالى:( وَ رَسُولًا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ) الخ آل عمران: ٤٩.

و كيف يتصوّر في من آمن بالمسيحعليه‌السلام أن لا يعثر منه على آية و هوعليه‌السلام بنفس وجوده آية خلقه الله من غير أب و أيّده بروح القدس يكلّم الناس في المهد و كهلاً و لم يزل مكرّماً بآية بعد آية حتّى رفعه الله إليه و ختم أمره بأعجب آية.

فاقتراحهم آية اختاروها لأنفسهم بعد هاتيك الآيات على كثرتها من قبيل اقتراح الآية بعد الآية و قد ركبوا أمراً عظيماً و لذلك وبخهم عيسىعليه‌السلام بقوله:( اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

و لذلك بعينه وجّهوا ما اقترحوا عليه و فسّروا قولهم ثانياً بما يكسر سورة ما أوهمه إطلاق كلامهم، و يزيل عنه تلك الحدّة فقالوا:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ ) فضمّوا إلى غرض الأكل أغراضاً اُخر يوجّه اقتراحهم، يريدون به أنّ اقتراحهم هذا ليس من قبيل التفكّه بالاُمور العجيبة و العبث بآيات الإلهيّة بل له فوائد مقصودة: من كمال علمهم و إزالة خطرات السوء من قلوبهم و شهادتهم عليها.

لكنّهم مع ذلك لم يتركوا ذكر إرادة الأكل و منه كانت الخطيئة و لو قالوا:( نريد أن نأكل منها فتطمئنّ قلوبنا) ، إلخ لم يلزمهم ما لزمهم إذ قالوا:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ) ، إلخ فإنّ الكلام الأوّل يقطع جميع منابت التهوّس و المجازفة دون الثاني.

٢٤٤

و لما ألحّوا عليه أجابهم عيسىعليه‌السلام إلى ما اقترحوا عليه و التمسوه و سأل ربّه أن يكرمهم بها، و هي معجزة مختصّة في نوعها باُمّته لأنّها الآية الوحيدة الّتي نزلت إليهم عن اقتراح في أمر غير لازم ظاهراً و هو أكل المؤمنين منها، و لذلك عنونهاعليه‌السلام عنواناً يصلح به أن يوجّه الوجه بسؤاله إلى ساحة العظمة و الكبرياء فقال:( اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا ) فعنونها بعنوان العيديّة، و العيد عند قوم هو اليوم الّذي نالوا فيه موهبة أو مفخرة مختصّة بهم من بين الناس، و كان نزول المائدة عليهم منعوتاً بهذا النعت.

و لما سأل عيسى ربّه ما سأل - و حاشاه أن يسأل إلّا ما يعلم أنّ من المرجوّ استجابته و أنّ ربّه لا يمقته و لا يفضحه، و حاشا ربّه أن يردّه خائباً في دعائه - استجاب له ربّه دعاءه غير أنّه شرط فيها لمن يكفر بها عذاباً يختصّ به من بين جميع الناس كما أنّ الآية آية خاصّة بهم لا يشاركهم في نوعها غيرهم من الاُمم فقال الله سبحانه:( إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) ، هذا.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) ( إِذْ ) ظرف متعلّق بمقدّر و التقدير: اذكر إذ قال إلخ، أو ما يقرب منه، و ذهب بعضهم إلى أنّه متعلّق بقوله في الآية السابقة:( قالُوا آمَنَّا ) ، إلخ أي قال الحواريّون: آمنّا بالله و اشهد بأنّا مسلمون في وقت قالوا فيه لعيسى:( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) و المراد أنّهم ما كانوا على صدق في دعواهم، و لا على جدّ في إشهادهم عيسىعليه‌السلام على إسلامهم له.

و فيه أنّه مخالف لظاهر السياق، و كيف يكون إيمانهم غير خالص؟ و قد ذكر الله أنّه هو أوحى إليهم أن آمنوا بي و برسولي و هو تعالى يمتنّ بذلك على عيسىعليه‌السلام على أنّه لا وجه حينئذ للإظهار في قوله:( إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ ) ، إلخ.

و( المائدة) الخوان إذا كان فيه طعام، قال الراغب: و المائدة الطبق الّذي عليه الطعام، و يقال لكلّ واحدة منهما مائدة، و يقال: مادني يميدني أي أطعمني، انتهى.

و متن السؤال الّذي حكي عنهم في الآية و هو قولهم:( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ

٢٤٥

عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) بحسب ظاهر ما يتبادر من معناه ممّا يستبعد العقل صدوره عن الحواريّين و هم أصحاب المسيح و تلامذته و أخصّاؤه الملازمون له المقتبسون من أنوار علومه و معارفه المتّبعون آدابه و آثاره، و الإيمان بأدنى مراتبه ينبّه الإنسان على أنّ الله سبحانه على كلّ شي‏ء قدير، لا يجوز عليه العجز و لا يغلبه العجز فكيف جاز أن يستفهموا رسولهم عن استطاعة ربّه على إنزال مائدة من السماء.

و لذلك قرأ الكسائيّ من السبعة:( هل تستطيع ربّك) بتاء المضارعة و نصب( ربّك) على المفعوليّة أي هل تستطيع أنت أن تسأل ربّك، فحذف الفعل الناصب للمفعول و اُقيم( تستطيع) مقامه، أو أنّه مفعول لفعل محذوف فقط.

و قد اختلف المفسّرون في توجيهه على بناء من أكثريهم على أنّ المراد به غير ما يتبادر من ظاهره من الشكّ في قدرة الله سبحانه لنزاهة ساحتهم من هذا الجهل السخيف.

و أوجه ما يمكن أن يقال هو أنّ الاستطاعة في الآية كناية عن اقتضاء المصلحة و وقوع الإذن كما أنّ الإمكان و القدرة و القوّة يكنّى بها عن ذلك كما يقال:( لا يقدر الملك أن يصغي إلى كلّ ذي حاجة) بمعنى أنّ مصلحة الملك تمنعه من ذلك و إلّا فمطلق الإصغاء مقدور له، و يقال:( لا يستطيع الغنيّ أن يعطي كلّ سائل) أي مصلحة حفظ المال لا تقتضيه، و يقال:( لا يمكن للعالم أن يبث كلّ ما يعلمه) أي يمنعه عن ذلك مصلحة الدين أو مصلحة الناس و النظام الدائر بينهم، و يقول أحدنا لصاحبه:( هل تستطيع أن تروح معي إلى فلان) ؟ و إنّما السؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة و المصلحة لا بحسب أصل القدرة على الذهاب، هذا.

و هناك وجوه اُخرى ذكروها:

منها: أنّ هذا السؤال لأجل تحصيل الاطمئنان بإيمان العيان لا للشكّ في قدرة الله سبحانه فهو على حدّ قول إبراهيمعليه‌السلام فيما حكى الله عنه:( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) .

و فيه: أنّ مجرّد صحّة أن تسأل الآية لزيادة الإيمان و اطمئنان القلب لا يصحّح حمل سؤالهم عليه و لم تثبت عصمتهم كإبراهيمعليه‌السلام حتّى تكون دليلاً منفصلاً يوجب

٢٤٦

حمل كلامهم على ما لا حزازة فيه بل الدليل على خلافه حيث لم يقولوا: نريد أن نأكل منها فتطمئنّ قلوبنا كما قال إبراهيمعليه‌السلام :( بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) بل قالوا:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ) فعدّوا الأكل بحيال نفسه غرضاً.

على أنّ هذا الوجه إنّما يستدعي تنزّه قلوبهم عن شائبة الشكّ في قدرة الله سبحانه و أمّا حزازة ظاهر الكلام فعلى حالها.

على أنّه قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) الخ: البقرة: ٢٦٠ أنّ مرادهعليه‌السلام لم يكن مشاهدة تلبّس الموتى بالحياة بعد الموت كما عليه بناء هذا الوجه و لو كان كذلك لكان من قبيل طلب الآية بعد العيان و هو في مقام المشافهة مع ربّه بل مراده مشاهدة كيفيّة الإحياء بالمعنى الّذي تقدّم بيانه.

و منها: أنّه سؤال عن الفعل دون القدرة عليه فعبّر عنه بلازمه.

و فيه: أنّه لا دليل عليه، و لو سلم فإنّه إنّما ينفي عنهم الجهل بالقدرة المطلقة الإلهيّة و أمّا منافاة إطلاق اللفظ للأدب العبوديّ فعلى حالها.

و منها: أنّ في الكلام حذفاً تقديره: هل تستطيع سؤال ربّك؟ و يدلّ عليه قراءة هل تستطيع ربّك و المعنى: هل تستطيع أن تسأله من غير صارف يصرفك عن ذلك.

و فيه: أنّ الحذف و التقدير لا يعيد لفظة( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ) إلى قولنا هل تستطيع سؤال ربّك بأيّ وجه فرض لمكان اختلاف الفعل في القراءتين بالغيبة و الحضور، و التقدير لا يحوّل الغيبة إلى الخطاب البتّة، و إن كان و لا بدّ فليقل: أنّه من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى عيسىعليه‌السلام إلى ربّه من جهة أنّ فعله فعل الله أو أنّ كلّ ما لهعليه‌السلام فهو لله سبحانه، و هذا الوجه مع كونه فاسداً من جهة أنّ الأنبياء و الرسل إنّما ينسب من أفعالهم إلى الله ما لا يستلزم نسبته إليه النقص و القصور في ساحته تعالى كالهداية و العلم و نحوهما، و أمّا لوازم عبوديّتهم و بشريّتهم كالعجز و الفقر و الأكل و الشرب و نحو ذلك فممّا لا تستقيم نسبته إليه تعالى البتّة فمشكلة ظاهر اللفظ على حالها.

و منها: أنّ الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة و المعنى: هل يطيعك ربّك و يجيب

٢٤٧

دعاءك إذا سألته ذلك، و فيه: أنّه من قبيل تبديل المشكل بما هو أشكل فإنّ الاستفهام عن إطاعة الله سبحانه لرسوله و انقياده له أشنع و أفظع من الاستفهام عن استطاعته.

و قد انتصر بعضهم لهذا الوجه فقال في تقريره ما محصّله: إنّ الاستطاعة و الإطاعة من مادّة الطوع مقابل الكره فإطاعة الأمر فعله عن رضى و اختيار، و الاستفعال في هذه المادّة كالاستفعال في مادّة الإجابة فإذا كان معنى استجابة: أجاب دعاءه أو سؤاله فمعنى استطاعة: أطاعه أي أنّه انقاد له و صار في طوعه أو طوعاً له، و السين و التاء في المادّتين على أشهر معانيهما و هو الطلب، و لكنّه طلب دخل على فعل محذوف دلّ عليه المذكور المترتّب على المحذوف، و معنى استطاع الشي‏ء: طلب و حاول أن يكون ذلك الشي‏ء طوعاً له فأطاعه و انقاد له، و معنى استجاب: سئل شيئاً و طلب منه أن يجيب إليه فأجاب.

قال: فبهذا الشرح الدقيق تفهم صحّة قول من قال من المفسّرين: إنّ( يَسْتَطِيعُ ) هنا بمعنى يطيع و إنّ معنى يطيع: يفعل مختاراً راضياً غير كاره فصار حاصل معنى الجملة: هل يرضى ربّك و يختار أن ينزّل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته لنا ذلك، انتهى.

و فيهأوّلاً: أنّه لم يأت بشي‏ء دون أن قاس استطاع باستجاب ثمّ أعطى هذا معنى ذاك و هو قياس في اللغة ممنوع.

وثانياً: أنّ كون الاستطاعة و الإطاعة راجعين بحسب المادّة إلى الطوع مقابل الكره لا يستلزم وجوب جريان الاستعمال على رعاية معنى المادّة الأصليّة في جميع التطوّرات الطارئة عليها فكثير من الموادّ هجرت خصوصيّة معناها الأصليّ في ما عرضها من الهيئات الاشتقاقيّة نظير ضرب و أضرب و قبل و أقبل و قبّل و قابل و استقبل بحسب التبادر الاستعماليّ.

و اعتبار المادّة الأصليّة في البحث عن الاشتقاقات اللغويّة لا يراد به إلّا الاستعلام مبلغ ما يعيش المادّة الأصليّة بين مشتقّاتها بحسب عروض تطوّرات الاشتقاق عليها، أو انقضاء أمد حياتها بحسب المعنى و تبدّله إلى معنى آخر لا أن يلغى حكم التطوّرات و يحفظ المعنى الأصليّ ما جرى اللسان، فافهم ذلك.

٢٤٨

فالاعتبار في اللفظ بما يفيده بحسب الاستعمال الدائر الحيّ لا بما تفيده المادّة اللغويّة و قد استعمل لفظ الاستطاعة في كلامه تعالى في أزيد من أربعين موضعاً، و هو في الجميع بمعنى القدرة، و استعمل لفظ الإطاعة فيما يقرب من سبعين موضعاً و هو في الجميع بمعنى الانقياد، و استعمل لفظ الطوع فيما استعمل و هو مقابل الكره فكيف يسوغ أن يؤخذ لفظ يستطيع بمعنى يطيع ثمّ يطيع بمعنى الطوع ثمّ يحكم بأنّ يستطيع في الآية بمعنى يرضى؟.

و أمّا حديث أجاب و استجاب فقد استعملا معاً في كلامه تعالى بمعنى واحد و ورد استعمال الاستجابة في موارد هي أضعاف ما استعملت فيه الإجابة فإنّك تجد الاستجابة فيما يقرب من ثلاثين موضعاً، و لا تجد الإجابة في أكثر من عشرة مواضع فكيف يقاس عليها أطاع و استطاع؟.

و كونهما بمعنى واحد ليس إلّا لانطباق عنايتين مختلفتين على مورد واحد فمعنى أجاب أنّ الجواب تجاوز عن المسؤل إلى السائل، و معنى استجاب أنّ المسؤل طلب من نفسه الجواب فأدّاه إلى السائل.

و من هنا يظهر أنّ الذي فسّر به الاستجابة و هو قوله: (و معنى استجاب سئل شيئاً و طلب منه أن يجيب إليه فأجاب) ليس على ما ينبغي فإنّ باب الاستفعال هو طلب( فعل) لا طلب( افعل) و هو ظاهر.

وثالثاً: أنّ السياق لا يلائم هذا المعنى إذ لو كان معنى قولهم:( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) إنّه هل يرضى ربّك أن نسأله نحن أو تسأله أنت أن ينزل علينا مائدة من السماء، و كان غرضهم من هذا السؤال أو النزول أن يزدادوا إيماناً و يطمئنّوا قلباً فما وجه توبيخ عيسىعليه‌السلام لهم بقوله:( اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ؟ و ما وجه وعيده تعالى الكافرين بها بعذاب لا يعذّبه أحداً من العالمين، و هم لم يقولوا إلّا حقّاً و لم يسألوا إلّا مسألة مشروعة، و قد قال تعالى:( وَ سْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ) النساء: ٣٢.

قوله تعالى: ( قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) توبيخ منهعليه‌السلام لهم لما يشتمل عليه ظاهر كلامهم من الاستفهام عن استطاعة ربّه على إنزال المائدة فإنّ كلامهم مريب على أيّ حال.

٢٤٩

و أمّا على ما قدّمناه من أنّ الأصل في مؤاخذتهم الّذي يترتّب عليه الوعيد الشديد في آخر الآيات هو أنّهم سألوا آية حيث لا حاجة إليها و اقترحوا بما في معنى العبث بآيات الله سبحانه، ثمّ تعبيرهم بما يتبادر من ظاهره كونهم كأنّهم لم يعقدوا قلوبهم على القدرة الربوبيّة فوجه توبيخهعليه‌السلام لهم بقوله:( اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أظهر.

قوله تعالى: ( قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ ) السياق ظاهر في أنّ قولهم هذا عذر اعتذروا به للتخلّص من توبيخهعليه‌السلام و ما ذكروه ظاهر التعلّق باقتراحهم الآية بنزول المائدة دون ما يظهر من قولهم:( هَلْ يَسْتَطِيعُ ربّك أَنْ يُنَزِّلَ ) ، من المعنى الموهم للشكّ في إطلاق القدرة، و هذا أيضاً أحد الشواهد على أنّ ملاك المؤاخذة في المقام هو أنّهم سألوا آية على آية من غير حاجة إليها.

و أمّا قولهم:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها ) ، إلخ فقد عدوّا في بيان غرضهم من اقتراح الآية اُموراً أربعة:

أحدها: الأكل و كأنّ مرادهم بذكره أنّهم ما أرادوا به اللعب بآيات الله بل أرادوا أن يأكلوا منها، و هو غرض عقلائيّ، و قد تقدّم أنّ هذا القول منهم كالتسليم لاستحقاقهم التوبيخ من عيسىعليه‌السلام و الوعيد الشديد من الله لمن يكفر منهم بآية المائدة.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بذكر الأكل إبانة أنّهم في حاجة شديدة إلى الطعام و لا يجدون ما يسدّ حاجتهم. و ذكر آخرون أنّ المراد نريد أن نتبرّك بأكله. و أنت تعلم أنّ المعنى الّذي قرّر في كلّ من هذين الوجهين أمر لا يدلّ عليه مجرّد ذكر الأكل، و لو كان مرادهم ذلك و هو أمر يدفع به التوبيخ لكان مقتضى مقام الاعتذار التصريح بذكره، و حيث لم يذكر شي‏ء من ذلك مع حاجة المقام إلى ذكره لو كان مراداً فليس المراد بالأكل إلّا مطلق معناه من حيث إنّه غرض عقلائيّ هو أحد أجزاء غرضهم في اقتراح نزول المائدة.

الثاني: اطمئنان القلب و هو سكونه باندفاع الخطورات المنافية للخلوص و الحضور.

٢٥٠

و الثالث: العلم بأنّهعليه‌السلام قد صدقهم فيما بلّغهم عن ربّه، و المراد بالعلم حينئذ هو العلم اليقينيّ الّذي يحصل في القلب بعد ارتفاع الخطورات و الوساوس النفسانيّة عنه، أو العلم بأنّه قد صدقهم فيما وعدهم من ثمرات الإيمان كاستجابة الدعاء كما ذكره بعضهم، لكن يبعّده أنّ الحواريّين ما كانوا يسألون إنزال المائدة من السماء إلّا بدعاء عيسىعليه‌السلام و مسألته، و بالجملة بإعجاز منهعليه‌السلام و قد كانوا رأوا منهعليه‌السلام آيات كثيرة فإنّهعليه‌السلام لم يزل في حياته قريناً لآيات إلهيّة كبري، و لم يرسل إلى قومه و لم يدعهم دعوة إلّا مع آيات ربّه فلم يزالوا يرون ثمرات إيمانه من استجابة الدعاء إن كان المراد الثمرة الّتي هي استجابة دعائهعليه‌السلام ، و إن كان المراد الثمرة الّتي هي استجابة دعائهم أنفسهم فإنّهم لم يسألوا نزول الآية بدعاء أنفسهم، و لم تنزل إلّا بدعاء عيسىعليه‌السلام .

الرابع: أن يكونوا عليها من الشاهدين عند ما يحتاج إلى الشهادة كالشهادة عند المنكرين، و الشهادة عند الله يوم القيامة، فالمراد بها مطلق الشهادة، و يمكن أن يكون المراد مجرّد الشهادة عندالله سبحانه كما وقع في بعض قولهم الّذي حكاه الله تعالى إذ قال:( رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ال عمران: ٥٣.

فقد تحصّل أنّهم - فيما اعتذروا به - ضمّوا اُموراً جميلة مرضيّة إلى غرضهم الآخر الّذي هو الأكل من المائدة السماويّة ليحسموا به مادّة الحزازة عن اقتراحهم الآية بعد مشاهدة الآيات الكافية فأجابهم عيسىعليه‌السلام إلى مسألتهم بعد الإصرار.

قوله تعالى: ( قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) خلطعليه‌السلام نفسه بهم في سؤال المائدة، و بدأ بنداء ربّه بلفظ عامّ فقال:( اللهُمَّ رَبَّنا ) و قد كانوا قالوا له:( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ) ليوافق النداء الدعاء.

و قد توحّد هذا الدعاء من بين جميع الأدعية و المسائل المحكيّة في القرآن عن الأنبياءعليه‌السلام بأن صدّر( باللّهمّ ربّنا ) و غيره من أدعيتهم مصدّر بلفظ( ربّ ) أو( ربّنا ) و ليس إلّا لدقّة المورد و هول المطّلع، نعم يوجد في أقسام الثناء المحكيّة نظير هذا التصدير كقوله:( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) النمل: ٥٩ و قوله:( قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ) آل عمران: ٢٦ و قوله:

٢٥١

( قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الزمر: ٤٦.

ثمّ ذكرعليه‌السلام عنواناً لهذه المائدة النازلة هو الغرض له و لأصحابه من سؤال نزولها و هو أن تنزّل فتكون عيداً له و لجميع اُمّته، و لم يكن الحواريّون ذكروا فيما اقترحوه أنّهم يريدون عيداً يخصّون به لكنّهعليه‌السلام عنون ما سأله بعنوان عامّ و قلبه في قالب حسن ليخرج عن كونه سؤالاً للآية مع وجود آيات كبري إلهيّة بين أيديهم و تحت مشاهدتهم، و يكون سؤالاً مرضيّاً عندالله غير مصادم لمقام العزّة و الكبرياء فإنّ العيد من شأنه أن يجمع الكلمة، و يجدّد حياة الملّة، و ينشّط نفوس العائدين، و يعلن كلّما عاد عظمة الدين.

و لذلك قال:( عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا ) أي أوّل جماعتنا من الاُمّة و آخر من يلحق بهم - على ما يدلّ عليه السياق - فإنّ العيد من العود و لا يكون عيداً إلّا إذا عاد حيناً بعد حين، و في الخلف بعد السلف من غير تحديد.

و هذا العيد ممّا اختصّ به قوم عيسىعليه‌السلام كما اختصّوا بنوع هذه الآية النازلة على ما تقدّم بيانه.

و قوله:( وَ آيَةً مِنْكَ ) لما قدّم مسألة العيد و هي مسألة حسنة جميلة لا عتاب عليها عقّبها بكونها آية منه تعالى كأنّه من الفائدة الزائدة المترتّبة على الغرض الأصليّ غير مقصودة وحدها حتّى يتعلّق بها عتاب أو سخط، و إلّا فلو كانت مقصودة وحدها من حيث كونها آية لم تخلُ مسألتها من نتيجة غير مطلوبة فإنّ جميع المزايا الحسنة الّتي كان يمكن أن يراد بها كانت ممكنة الحصول بالآيات المشهودة كلّ يوم منهعليه‌السلام للحواريّين و غيرهم.

و قوله:( وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) و هذه فائدة اُخرى عدّها مترتّبة على ما سأله من العيد من غير أن تكون مقصودةً بالذات، و قد كان الحواريّون ذكروه مطلوباً بالذات حيث قالوا:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها ) فذكروه مطلوباً لذاته و قدّموه على غيره، لكنّهعليه‌السلام عدّه غير مطلوب بالذات و أخّره عن الجميع و أبدل لفظ الأكل من لفظ الرزق فأردفه بقوله:( وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .

٢٥٢

و الدليل على ما ذكرنا أنّهعليه‌السلام جعل ما أخذوه أصلاً فائدة مترتّبة أنّه سأل أوّلاً لجميع اُمتّه و نفسه، و هو سؤال العيد الّذي إضافة إلى سؤالهم فصار بذلك كونها آية من الله و رزقاً وصفين خاصّين للبعض دون البعض كالفائدة المترتّبة غير الشاملة.

فانظر إلى أدبهعليه‌السلام البارع الجميل مع ربّه، و قس كلامه إلى كلامهم - و كلا الكلامين يؤمّان نزول المائدة - تر عجباً فقد أخذعليه‌السلام لفظ سؤالهم فأضاف و حذف، و قدّم و أخّر، و بدّل و حفظ حتّى عاد الكلام الّذي ما كان ينبغي أن يوجّه به إلى حضرة العزّة و ساحة العظمة أجمل كلام يشتمل على أدب العبوديّة، فتدبّر في قيود كلامهعليه‌السلام تر عجباً.

قوله تعالى: ( قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) قرأ أهل المدينة و الشام و عاصم( مُنَزِّلُها ) بالتشديد و الباقون( مُنَزِّلُها ) بالتخفيف - على ما في المجمع - و التخفيف أوفق لأنّ الإنزال هو الدالّ على النزول الدفعيّ، و كذلك نزلت المائدة، و أمّا التنزيل فاستعماله الشائع إنّما هو في النزول التدريجيّ كما تقدّم كراراً.

و قوله تعالى:( إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ) وعد صريح بالإنزال و خاصّة بالنظر إلى الإتيان به في هيئة اسم الفاعل دون الفعل، و لازم ذلك أنّ المائدة قد نزلت عليهم.

و ذكر بعض المفسّرين أنّها لم تنزل كما روي ذلك في الدرّ المنثور، و مجمع البيان، و غيرهما عن الحسن و مجاهد: قالا: إنّها لم تنزل و إنّ القوم لما سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها و قالوا: لا نريدها و لا حاجة لنا فيها فلم تنزل.

و الحقّ أنّ الآية ظاهرة الدلالة على النزول فإنّها تتضمّن الوعد الصريح بالنزول و حاشاه تعالى أن يجود لهم بالوعد الصريح و هو يعلم أنّهم سيستعفون عنها فلا تنزل، و الوعد الّذي في الآية صريح و الشرط الّذي في الآية يتضمّن تفرّع العذاب و ترتّبه على الكفر بعد النزول، و بعبارة اُخرى: الآية تتضمّن الوعد المطلق بالإنزال ثمّ تفريع العذاب على الكفر لا أنّها تشتمل على الوعد بالإنزال على تقدير قبولهم العذاب على الكفر، حتّى يرتفع موضوع الوعد عند عدم قبولهم الشرط فلا تنزل المائدة باستعفائهم عن نزولها، فافهم.

٢٥٣

و كيف كان فاشتمال وعده تعالى بإنزال المائدة على الوعيد الشديد بعذاب الكافرين بها منهم ليس ردّاً لدعاء عيسىعليه‌السلام و إنّما هو استجابة له غير أنّه لما كان ظاهر الاستجابة بعد الدعاء - على ما له من السياق - أنّ هذه الآية تكون رحمة مطلقة منه لهم يتنعّم بها آخرهم و أوّلهم، قيّد تعالى هذا الإطلاق بالشرط الّذي شرط عليهم، و محصّله أنّ هذا العيد الّذي خصّهم الله به لا ينتفع به جميعهم بل إنّما ينتفع به المؤمنون المستمرّون على الإيمان منهم، و أمّا الكافرون بها فيستضرّون بها أشدّ الضرر.

فالآيتان في كلامه تعالى من حيث إطلاق الدعاء بحسب لازمه و تقييد الاستجابة كقوله تعالى:( وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) البقرة: ١٢٤ و قوله تعالى حكاية عن موسىعليه‌السلام :( أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ، وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ١٥٦.

و قد عرفت فيما تقدّم أنّ السبب الأصليّ في هذا العذاب الموعود الّذي يختصّ بهم إنّما هو اقتراحهم آية هي في نوعها مختصّة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الاُمم فإذا اُجيبوا إلى ذلك أوعدوا على الكفر عذاباً لا يشاركهم فيها غيرهم كما شرّفوا بمثل ذلك.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالعالمين عالمو جميع الاُمم عالمو زمانهم فإنّ ذلك مرتبطاً بمن يمتازون عنهم من الناس و هم جميع الاُمم لا أهل زمان عيسىعليه‌السلام خاصّة من اُمم الأرض.

و من هناك يظهر أيضاً أنّ قوله:( فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) و إن كان وعيداً شديداً بعذاب بئيس لكنّ الكلام غير ناظر إلى كون العذاب فوق جميع العذابات و العقوبات في الشدّة و الألم، و إنّما هو مسوق لبيان انفراد العذاب في بابه، و اختصاصهم من بين الاُمم به.

٢٥٤

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ) عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: معنى الآية هل تستطيع أن تدعو ربّك.

أقول: و روي هذا المعنى من طريق الجمهور عن بعض الصحابة و التابعين كعائشة و سعيد بن جبير، و هو راجع إلى ما استظهرناه من معنى الآية فيما تقدّم فإنّ السؤال عن استطاعة عيسىعليه‌السلام إنّما يصحّ بالنسبة إلى استطاعته بحسب الحكمة و المصلحة دون استطاعته بحسب أصل القدرة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عيسى العلويّ عن أبيه عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: المائدة الّتي نزلت على بني إسرائيل مدلاة بسلاسل من ذهب عليها تسعة أحوتة و تسعة أرغفة.

أقول: و في لفظ آخر تسعة أنوان و تسعة أرغفة( و الأنوان) جمع نون و هو الحوت.

و في المجمع، عن عمّار بن ياسر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: نزلت المائدة خبزاً و لحماً، و ذلك لأنّهم سألوا عيسى طعاماً لا ينفد يأكلون منها، قال: فقيل لهم: فإنّها مقيمة لكم ما لم تخونوا و تخبئوا و ترفعوا فإن فعلتم ذلك عذّبتم، قال: فما مضى يومهم حتّى خبئوا و رفعوا و خانوا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن الترمذيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ و أبي الشيخ و ابن مردويه عن عمّار بن ياسر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في آخره: فمسخوا قردة و خنازير.

قال في الدرّ المنثور،: و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عمّار بن ياسر موقوفاً: مثله‏، قال الترمذيّ: و الوقف أصحّ، انتهى.

و الّذي ذكر في الخبر من أنّهم سألوا طعاماً لا ينفد يأكلون منها لا ينطبق على الآية ذاك الانطباق بناءً على ظاهر ما حكاه الله تعالى من قولهم:( وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ ) فإنّ الطعام الّذي لا يقبل النفاد لا يحتاج إلى شاهد يشهد عليه إلّا أن يراد من الشهادة الشهادة عند الله يوم القيامة.

٢٥٥

و الّذي ذكر فيه من مسخهم قردة و خنازير ظاهر السياق أنّ ذلك هو العذاب الموعود لهم، و هذا ممّا يفتح باباً آخر من المناقشة فيه فإنّ ظاهر قوله تعالى:( فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) اختصاص هذا العذاب بهم، و قد نصّ القرآن الشريف على مسخ آخرين بالقردة، قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) البقرة: ٦٥ و المرويّ في هذا الباب عن بعض طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم مسخوا خنازير.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الفضيل بن يسار عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: إنّ الخنازير من قوم عيسى سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها فمسخهم الله خنازير.

و فيه: عن عبدالصمد بن بندار قال: سمعت أباالحسنعليه‌السلام يقول: كانت الخنازير قوماً من القصّارين كذّبوا بالمائدة فمسخوا خنازير.

أقول: و فيما رواه في الكافي، عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن الحسن الأشعريّ عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: الفيل مسخ كان ملكاً زنّاءً، و الذئب مسخ كان أعرابيّاً ديّوثاً، و الأرنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها و لا تغتسل من حيضها، و الوطواط مسخ كان يسرق تمور الناس، و القردة و الخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت، و الجرّيث و الضبّ فرقة من بني إسرائيل لم يؤمنوا حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم فتاهوا فوقعت فرقة في البحر و فرقة في البرّ، و الفأرة فهي الفويسقة، و العقرب كان نمّاماً، و الدبّ و الوزغ و الزنبور كانت لحّاماً يسرق في الميزان.

و الرواية لا تعارض الروايتين السابقتين لإمكان أن يمسخ بعضهم خنزيراً و بعضهم جرّيثاً و ضبّاً غير أنّ هذه الرواية لا تخلو عن شي‏ء آخر و هو ما تضمّنه من مسخ أصحاب السبت قردة و خنازير، و الآية الشريفة المذكورة و نظيرتها ما في سورة الأعراف إنّما تذكران مسخهم قردة بسياق كالمنافي لغيرها، و الله أعلم.

٢٥٦

( سورة المائدة الآيات ١١٦ - ١٢٠)

وَ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنْتَ عَلّامُ الْغُيُوبِ( ١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ شَهيدٌ( ١١٧) إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَ إِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( ١١٨) قَالَ اللّهُ هذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ١١٩) للّهِ‏ِ مُلْكُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنّ وَهُوَ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ( ١٢٠)

( بيان)

مشافهة الله رسوله عيسى بن مريم في أمر ما قالته النصارى في حقّه، و كأنّ الغرض من سرد الآيات ذكر ما اعترف بهعليه‌السلام و حكاه عن نفسه في حياته الدنيا: أنّه لم يكن من حقّه أن يدّعي لنفسه ما ليس فقد كان بعين الله الّتي لا تنام و لا تزيغ و أنّه لم يتعدّ ما حدّه الله سبحانه له فلم يقل إلّا ما اُمر أن يقول ذلك، و اشتغل بالعمل بما كلّفه الله أن يشتغل به و هو أمر الشهادة، و قد صدّقه الله تعالى فيما ذكره من حقّ الربوبيّة و العبوديّة.

و بهذا تنطبق الآيات على الغرض النازل لأجله السورة، و هو بيان الحقّ المجعول لله على عباده أن يفوا بالعهد الّذي عقدوه و أن لا ينقضوا الميثاق فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا و أن يرتعوا رغداً حيث شاؤا فلم يملّكوا هذا النوع من الحقّ من قبل ربّهم، و لا أنّهم قادرون على ذلك من حيال أنفسهم،( و لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) ، و بذلك تختتم السورة.

٢٥٧

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) ( إِذْ ) ظرف متعلّق بمحذوف يدلّ عليه المقام، و المراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها:( قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) و قول عيسىعليه‌السلام فيها( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) .

و قد عبّرت الآية عن مريم بالاُمومة فقيل:( اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ ) دون أن يقال:( اتّخذوني و مريم إلهين) للدلالة على عمدة حجّتهم في الاُلوهيّة و هو ولادته منها بغير أب، فالبنوّة و الاُمومة الكذائيّتين هما الأصل في ذلك فالتعبير به و بأمّه أدلّ و أبلغ من التعبير بعيسى و مريم.

و( دُونِ ) كلمة تستعمل بحسب المال في معنى الغير، قال الراغب: يقال للقاصر عن الشي‏ء( دون) قال بعضهم: هو مقلوب من الدنوّ، و الأدون الدنيّ، و قوله تعالى:( لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة، و قيل: في القرابة، و قوله:( وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ) أي ما كان أقلّ من ذلك، و قيل: ما سوى ذلك، و المعنيان متلازمان، و قوله:( أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتّخذونِي وَ أُمِّي إلهيّنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي غير الله، انتهى.

و قد استعمل لفظ( مِنْ دُونِ اللهِ ) كثيراً في القرآن في معنى الإشراك دون الاستقلال بمعنى أنّ المراد من اتّخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتّخذ غير الله شريكاً لله سبحانه في اُلوهيّته لا أن يتّخذ غير الله إلهاً و تنفي اُلوهيّة الله سبحانه فإنّ ذلك من لغو القول الّذي لا يرجع إلى محصّل فإنّ الّذي أثبته حينئذ يكون هو الإله سبحانه و ينفي غيره، و يعود النزاع إلى بعض الأوصاف الّتي أثبتها فمثلاً لو قال قائل: إنّ الإله هو المسيح و نفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الإله تعالى و توصيفه بصفات المسيح البشريّة، و لو قال قائل: إنّ الأصنام أو أرباب الأصنام آلهة و نفى الله تعالى و تقدّس فإنّه يقول بأنّ للعالم إلهاً فقد أثبت الله سبحانه لكنّه نعته بنعت الكثرة و التعدّد فقد جعل لله شركاء، أو يقول كما يقوله النصارى:( إنّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) أي واحد هو ثلاث و ثلاث هو واحد.

و من قال: إنّ مبدأ العالم هو الدهر أو الطبيعة و نفى أن يكون للعالم إله تعالى

٢٥٨

عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعاً و هو الله عزّ اسمه لكنّه نعته بنعوت القصور و النقص و الإمكان.

و من نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلاً و نفى العلّيّة و التأثير على الرغم من صريح ما تقضي به فطرته فقد أثبت عالماً موجوداً ثابتاً لا يقبل النفي و الانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت و حافظ ثبوته و وجوده إمّا نفسه و ليس لطروّ الزوال و التغيّر إلى أجزائه، و إمّا غيره فهو الله تبارك و تعالى، و له نعوت كماله.

فتبيّن أنّ الله سبحانه لا يقبل النفي أصلاً إلّا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول.

و الملاك في ذلك كلّه أنّ الإنسان إنّما يثبت الإله تعالى من جهة الحاجة العامّة في العالم إلى من يقيم أود وجوده و يدبّر أمر نظامه ثمّ يثبت خصوصيّات وجوده فما أثبته من شي‏ء لسدّ هذه الخلّة و رفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثمّ إذا أثبت إلهاً غيره أو أثبت كثرة فإمّا أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته و ألحد في أسمائه، أو يثبت له شريكاً أو شركاء تعالى عن ذلك، و أمّا نفيه و إثبات غيره فلا معنى له.

فظهر أنّ معنى قوله:( إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) شريكين لله هما من غيره، و إن سلّم أنّ الكلمة لا تؤدّي معنى الشركة بوجه، قلنا: إنّ معناها لا يتعدّى اتّخاذ إلهين هما من سنخ غير الله سبحانه و أمّا كون ذلك مقارناً لنفي اُلوهيّته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدلّ عليه لفظ و إنّما يعلم من خارج، و النصارى لا ينفون اُلوهيّته تعالى مع اتّخاذهم المسيح و اُمّه إلهين من دون الله سبحانه.

و ربّما استشكل بعضهم الآية بأنّ النصارى غير قائلين باُلوهيّة مريم العذراءعليها‌السلام ، و ذكروا في توجيهها وجوهاً.

لكنّ الّذي يجب أن يتنبّه عليه أنّ الآية إنّما ذكرت اتّخاذهم إيّاها إلهة و لم يذكر قولهم بأنّها إلهة بمعنى التسمية، و اتّخاذ الإله غير القول بالاُلوهيّة إلّا من باب الالتزام، و اتّخاذ الإله يصدق بالعبادة و الخضوع العبوديّ قال تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) الجاثية: ٢٣ و هذا المعنى مأثور عن أسلاف النصارى مشهود في أخلافهم.

٢٥٩

قال الآلوسيّ في روح المعاني: إنّ أباجعفر الإماميّ حكى عن بعض النصارى أنّه كان فيما مضى قوم يقال لهم:( المريميّة) يعتقدون في مريم أنّها إله.

و قال في تفسير المنار: أمّا اتّخاذهم المسيح إلهاً فقد تقدّم في مواضع من تفسير هذه السورة، و أمّا اُمّه فعبادتها كانت متّفقاً عليها في الكنائس الشرقيّة و الغربيّة بعد قسطنطين، ثمّ أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت الّتي حدثت بعد الإسلام بعدّة قرون(١) .

إنّ هذه العبادة الّتي توجّهها النصارى إلى مريم والدة المسيحعليها‌السلام منها ما هو صلاة ذات دعاء و ثناء و استغاثة و استشفاع، و منها صيام ينسب إليها و يسمّى باسمها، و كلّ ذلك يقرن بالخضوع و الخشوع لذكرها و لصورها و تماثيلها، و اعتقاد السلطة الغيبيّة لها الّتي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع و تضرّ في الدنيا و الآخرة بنفسها أو بواسطة ابنها، و قد صرّحوا بوجوب العبادة لها، و لكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة( إله) عليها بل يسمّونها( والدة الإله) و يصرّح بعض فرقهم أنّ ذلك حقيقة لا مجاز.

و القرآن يقول هنا: إنّهم اتّخذوها و اُمّها إلهيّن، و الاتّخاذ غير التسمية فهو يصدق بالعبادة و هي واقعة قطعاً، و بيّن في آية اُخرى أنّهم قالوا: إنّ الله هو المسيح عيسى بن مريم، و ذلك معنى آخر، و قد فسّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله تعالى في أهل الكتاب:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) أنّهم اتّبعوهم فيما يحلّون و يحرّمون لا أنّهم سمّوهم أرباباً.

و أوّل نصّ صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقيّة ما في كتاب( السواعي) من كتب الروم الاُرثوذكس، و قد اطّلعت على هذا الكتاب في دير يسمّى( دير التلميد) و أنا في أوّل العهد بمعاهد التعليم، و طوائف الكاثوليك يصرّحون بذلك و يفاخرون به.

____________________

(١) كما أنّ القول برسالة المسيح و نفي اُلوهيّته لا يزال يشيع في هذه الأيّام و هي سنة ١٩٥٨ م بين نصارى أمريكا، و قد ذكر المحقّق ه. ج. فلز في مجمل التاريخ: أنّ هذه العبادة الّتي تأتي بها عامّة النصارى للمسيح و اُمّه لا توافق تعليم المسيح لأنّه نهى كما في إنجيل مرقس أن يعبد غير الله الواحد ليراجع ص ٥٢٦ و ص ٥٣٩ من الكتاب المزبور.

٢٦٠