الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 75735
تحميل: 5708


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75735 / تحميل: 5708
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و أنبأكم بما تأكلون و ما تدّخرون فقال: دون هذا أصدق.

فقال عليّعليه‌السلام : بكم افترقت بنو إسرائيل بعد عيسى؟ فقال: لا و الله و لا فرقة واحدة فقال عليّعليه‌السلام : كذبت و الله الّذي لا إله إلّا هو لقد افترقت على اثنين و سبعين فرقة كلّها في النار إلّا فرقة واحدة إنّ الله يقول:( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ ) فهذه الّتي تنجو.

و فيه، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: تفرّقت اُمّة موسى على إحدى و سبعين فرقة، سبعون منها في النار و واحدة في الجنّة، و تفرّقت اُمّة عيسى على اثنتين و سبعين فرقة، إحدى و سبعون في النار و واحدة في الجنّة، و تعلو اُمّتي على الفرقتين جميعاً بملّة واحدة في الجنّة و اثنتان و سبعون في النار، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعات، الجماعات.

و فيه،: قال يعقوب بن يزيد: كان عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذا حدّث هذا الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا فيه قرآناً:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ إلى قوله ساءَ ما يَعْمَلُونَ ) ، و تلا أيضاً:( وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ ) يعني اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤١

( سورة المائدة آية ٦٧)

يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ( ٦٧)

( بيان)

معنى الآية في نفسها ظاهر فإنّها تتضمّن أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ في صورة التهديد، و وعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعصمة من الناس، غير أنّ التدبّر في الآية من حيث وقوعها موقعها الّذي وقعت فيه، و قد حفّفتها الآيات المتعرّضة لحال أهل الكتاب و ذمّهم و توبيخهم بما كانوا يتعاورونه من أقسام التعدّي إلى محارم الله و الكفر بآياته. و قد اتّصلت بها من جانبيها الآيتان، أعني قوله:( وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) (الآية)، و قوله تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) (الآية).

ثمّ الإمعان في التدبّر في نفس الآية و ارتباط الجمل المنضودة فيها يزيد الإنسان عجباً على عجب.

فلو كانت الآية متّصلة بما قبلها و ما بعدها في سياق واحد في أمر أهل الكتاب لكان محصّلها أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشدّ الأمر بتبليغ ما أنزله الله سبحانه في أمر أهل الكتاب، و تعيّن بحسب السياق أنّ المراد بما أنزل إليه من ربّه هو ما يأمره بتبليغه في قوله:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) (الآية).

و سياق الآية يأباه فإنّ قوله:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) يدلّ على أنّ هذا

٤٢

الحكم المنزل المأمور بتبليغه أمر مهّم فيه مخافة الخطر على نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على دين الله تعالى من حيث نجاح تبليغه، و لم يكن من شأن اليهود و لا النصارى في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتوجّه إليه من ناحيتهم خطر يسوّغ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمسك عن التبليغ أو يؤخّره إلى حين فيبلغ الأمر إلى حيث يحتاج إلى أن يعده الله بالعصمة منهم إن بلّغ ما اُمر به فيهم حتّى في أوائل هجرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة و عنده حدّة اليهود و شدّتهم حتّى انتهى إلى وقائع خيبر و غيرها.

على أنّ الآية لا تتضمّن أمراً شديداً و لا قولاً حادّاً، و قد تقدّم عليه تبليغ ما هو أشدّ و أحدّ و أمرّ من ذلك على اليهود، و قد اُمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغ ما هو أشدّ من ذلك كتبليغ التوحيد و نفي الوثنيّة إلى كفّار قريش و مشركي العرب و هم أغلظ جانباً و أشدّ بطشاً و أسفك للدماء، و أفتك من اليهود و سائر أهل الكتاب، و لم يهدّده الله في أمر تبليغهم و لا آمنه بالعصمة منهم.

على أنّ الآيات المتعرّضة لحال أهل الكتاب معظم أجزاء سورة المائدة فهي نازلة فيها قطعاً، و اليهود كانت عند نزول هذه السورة قد كسرت سورتهم، و خمدت نيرانهم، و شملتهم السخطة و اللعنة كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله فلا معنى لخوف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم في دين الله، و قد دخلوا يومئذ في السلم في حظيرة الإسلام و قبلوا هم و النصارى الجزية، و لا معنى لتقريره تعالى له خوفه منهم و اضطرابه في تبليغ أمر الله إليهم، و هو أمر قد بلّغ إليهم ما هو أعظم منه، و قد وقف قبل هذا الموقف فيما هو أهول منه و أوحش.

فلا ينبغي الارتياب في أنّ الآية لا تشارك الآيات السابقة عليها و اللّاحقة لها في سياقها، و لا تتّصل بها في سردها، و إنّما هي آية مفردة نزلت وحدها.

و الآية تكشف عن أمر قد اُنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إمّا مجموع الدين أو بعض أجزائه) و كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاف الناس من تبليغه و يؤخّره إلى حين يناسبه، و لو لا مخافته و إمساكه لم يحتج إلى تهديده بقوله:( وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) كما وقع في آيات أوّل البعثة الخالية عن التهديد كقوله تعالى:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي

٤٣

خَلَقَ ) إلى آخر سورة العلق، و قوله:( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) المدّثّر: ٢، و قوله:( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ) حم السجدة: ٦، إلى غير ذلك.

فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخافهم و لم يكن مخافته من نفسه في جنب الله سبحانه فهو أجلّ من أن يستنكف عن تفدية نفسه أو يبخل في شي‏ء من أمر الله بمهجته فهذا شي‏ء تكذّبه سيرته الشريفة و مظاهر حياته، على أنّ الله شهد في رسله على خلاف ذلك كما قال تعالى:( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَ كَفى‏ بِاللهِ حَسِيباً ) الأحزاب: ٣٩ و قد قال تعالى في أمثال هذه الفروض:( فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) آل عمران: ١٧٥، و قد مدح الله سبحانه طائفة من عباده بأنّهم لم يخشوا الناس في عين أنّ الناس خوّفوهم فقال:( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ ) آل عمران: ١٧٣.

و ليس من الجائز أن يقال: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخاف على نفسه أن يقتلوه فيبطل بذلك أثر الدعوة و ينقطع دابرها فكان يعوّقه إلى حين ليس فيه هذه المفسدة فإنّ الله سبحانه يقول لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) آل عمران: ١٢٨، لم يكن الله سبحانه يعجزه لو قتلوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحيي دعوته بأيّ وسيلة من الوسائل شاء، و بأيّ سبب أراد.

نعم من الممكن أن يقدّر لمعنى قوله:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) أن يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاف الناس في أمر تبليغه أن يتّهموه بما يفسد به الدعوة فساداً لا تنجح معه أبداً فقد كان أمثال هذا الرأي و الاجتهاد جائزاً له مأذوناً فيه من دون أن يرجع معنى الخوف إلى نفسه بشي‏ء.

و من هنا يظهر أنّ الآية لم تنزل في بدء البعثة كما يراه بعض المفسّرين إذ لا معنى حينئذ لقوله تعالى:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) إلّا أن يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يماطل في إنجاز التبليغ خوفاً من الناس على نفسه أن يقتلوه فيحرم الحياة أو أن يقتلوه و يذهب

٤٤

التبليغ باطلاً لا أثر له فإنّ ذلك كلّه لا سبيل إلى احتماله.

على أنّ المراد بما اُنزل إليه من ربّه لو كان أصل الدين أو مجموعة في الآية عاد معنى قوله:( وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) إلى نحو قولنا: يا أيّها الرسول بلّغ الدين و إن لم تبلّغ الدين فما بلّغت الدين.

و أمّا جعله من قبيل قول أبي النجم:

أنا أبو النجم و شعري شعري

كما ذكره بعضهم أنّ معنى الآية: و إن لم تبلّغ الرسالة فقد لزمك شناعة القصور في التبليغ و الإهمال في المسارعة إلى ايتمار ما أمرك به الله سبحانه، و أكّده عليك كما أنّ معنى قول أبي النجم: أنّي أنا أبوالنجم و شعري شعري المعروف بالبلاغة المشهور بالبراعة.

فإنّ ذلك فاسد لأنّ هذه الصناعة الكلاميّة إنّما تصحّ في موارد العامّ و الخاصّ و المطلق و المقيّد و نظائر ذلك فيفاد بهذا السياق اتّحادهما كقول أبي النجم: شعري شعري أي لا ينبغي أن يتوهّم علىّ متوهّم أن قريحتي كلّت أو أنّ الحوادث أعيتني أن أقول من الشعر ما كنت أقوله فشعري الّذي أقول اليوم هو شعري الّذي كنت أقوله بالأمس.

و أمّا قوله تعالى:( وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) فليس يجري فيه مثل هذه العناية فإنّ الرسالة الّتي هي مجموع الدين أو أصله على تقدير نزول الآية في أوّل البعثة أمر واحد غير مختلف و لا متغيّر حتّى يصحّ أن يقال: إن لم تبلغ هذه الرسالة فما بلّغت تلك الرسالة أو لم تبلّغ أصل الرسالة فإنّ المفروض أنّه أصل الرسالة الّتي هي مجموع المعارف الدينيّة.

فقد تبيّن أنّ الآية بسياقها لا تصلح أن تكون نازلة في بدء البعثة و يكون المراد فيها بما اُنزل إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجموع الدين أو أصله، و يتبيّن بذلك أنّها لا تصلح أن تكون نازلة في خصوص تبليغ مجموع الدين أو أصله في أيّ وقت آخر غير بدء البعثة فإنّ الإشكال إنّما ينشؤ من جهة لزوم اللغو في قوله تعالى:( وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) كما مرّ.

٤٥

على أنّ قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) لا يلائم النزول في أيّ وقت آخر غير بدء البعثة على تقدير إرادة الرسالة بمجموع الدين أو أصله، و هو ظاهر.

على أنّ محذور دلالة قوله:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخاف الناس في تبليغه على حاله.

فظهر أن ليس هذا الأمر الّذي اُنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أكّدت الآية تبليغه هو مجموع الدين أو أصله على جميع تقاديره المفروضة، فلنضع أنّه بعض الدين، و المعنى: بلغ الحكم الّذي اُنزل إليك من ربّك و إن لم تفعل فما بلّغت رسالته إلخ، و لازم هذا التقدير أن يكون المراد بالرسالة مجموع ما حمّله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدين و رسالته، و إلّا فالمحذور السابق و هو لزوم اللّغو في الكلام على حاله إذ لو كان المراد بقوله:( رِسالَتَهُ ) الرسالة الخاصّة بهذا الحكم كان المعنى: بلّغ هذا الحكم و إن لم تبلّغه فما بلّغته، و هو لغو ظاهر.

فالمراد أن بلّغ هذا الحكم و إن لم تبلّغه فما بلّغت أصل رسالته أو مجموعها، و هو معنى صحيح معقول، و حينئذ يرد الكلام نظير المورد الّذي ورده قول أبي النجم:( أنا أبوالنجم و شعري شعري) .

و أمّا كون هذا الحكم بحيث لو لم يبلّغ فكأنّما لم تبلّغ الرسالة فإنّما ذلك لكون المعارف و الأحكام الدينيّة مرتبطة بعضها ببعض بحيث لو اُخلّ بأمر واحد منها اُخلّ بجميعها و خاصّة في التبليغ لكمال الارتباط، و هذا التقدير و إن كان في نفسه ممّا لا بأس به لكن ذيل الآية و هو قوله:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) لا يلائمه فإنّ هذا الّذيل يكشف عن أنّ قوماً كافرين من الناس همّوا بمخالفة هذا الحكم النازل أو كان المترقّب من حالهم أنّهم سيخالفونه مخالفة شديدة، و يتّخذون أيّ تدبير يستطيعونه لإبطال هذه الدعوة و تركه سدى لا يؤثّر أثراً و لا ينفع شيئاً و قد وعد الله رسوله أن يعصمه منهم، و يبطل مكرهم، و لا يهديهم في كيدهم.

و لا يستقيم هذا المعنى مع أيّ حكم نازل فرض فإنّ المعارف و الأحكام الدينيّة

٤٦

في الإسلام ليست جميعاً في درجة واحدة ففيها الّتي هي عمود الدين، و فيها الدعاء عند رؤية الهلال، و فيها زنى المحصن و فيها النظر إلى الأجنبيّة، و لا يصحّ فرض هذه المخافة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوعد بالعصمة من الله مع كلّ حكم حكم منها كيفما كان بل في بعض الأحكام.

فليس استلزام عدم تبليغ هذا الحكم لعدم تبليغ غيره من الأحكام إلّا لمكان أهمّيّته و وقوعه من الأحكام في موقع لو اُهمل أمره كان ذلك في الحقيقة إهمالاً لأمر سائر الأحكام، و صيرورتها كالجسد العادم للروح الّتي بها الحياة الباقية و الحسّ و الحركة، و تكون الآية حينئذ كاشفة عن أنّ الله سبحانه كان قد أمر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحكم يتمّ به أمر الدين و يستوي به على عريشة القرار، و كان من المترقّب أن يخالفه الناس و يقلّبوا الأمر على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث تنهدم أركان ما بناه من بنيان الدين و تتلاشى أجزاؤه، و كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتفرّس ذلك و يخافهم على دعوته فيؤخّر تبليغه إلى حين بعد حين ليجد له ظرفاً صالحاً و جوّاً آمنّا عسى أن تنجح فيه دعوته، و لا يخيب مسعاه فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل، و بيّن له أهمّيّة الحكم، و وعده أن يعصمه من الناس، و لا يهديهم في كيدهم، و لا يدعهم يقلّبوا له أمر الدعوة.

و إنّما يتصوّر تقليب أمر الدعوة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبطال عمله بعد انتشار الدعوة الإسلاميّة لا من جانب المشركين و وثنيّة العرب أو غيرهم كأن تكون الآية نازلة في مكّة قبل الهجرة، و تكون مخافة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الناس من جهة افترائهم عليه و اتّهامهم إيّاه في أمره كما حكاه الله سبحانه من قولهم:( مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ) الدخان: ١٤. و قولهم:( شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) الطور: ٣٠ و قولهم:( ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) الذاريات: ٥٢، و قولهم:( إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً ) الإسراء: ٤٧ و قولهم:( إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) المدّثّر: ٢٤ و قولهم:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) الفرقان: ٥ و قولهم:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) النحل: ١٠٣ و قولهم:( أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ يُرادُ ) ص: ٦ إلى غير ذلك من أقاويلهم فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٧

فهذه كلّها ليست ممّا يوجب وهن قاعدة الدين، و إنّما تدلّ - إذا دلّت - على اضطراب القوم في أمرهم، و عدم استقامتهم فيه على أنّ هذه الافتراءات و المرامي لا تختصّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يضطرب عند تفرّسها و يخاف وقوعها فسائر الأنبياء و الرسل يشاركونه في الابتلاء بهذه البلايا و المحن، و مواجهة هذه المكاره من جملة اُممهم كما حكاه الله تعالى عن نوح و من بعده من الأنبياء المذكورين في القرآن.

بل إن كان شي‏ء - و لا بدّ - فإنّما يتصوّر بعد الهجرة و استقرار أمر الدين في المجتمع الإسلامي و المسلمون كالمعجون الخليط من صلحاء مؤمنين و قوم منافقين اُولي قوّة لا يستهان بأمرهم، و آخرين في قلوبهم مرض و هم سمّاعون - كما نصّ عليه الكتاب العزيز - و هؤلاء كانوا يعاملون مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في عين أنّهم آمنوا به واقعاً أو ظاهراً - معاملة الملوك، و مع دين الله معاملة القوانين الوضعيّة القوميّة كما يشعر بذلك طوائف من آيات الكتاب قد تقدّم تفسير بعضها في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب(١) .

فكان من الممكن أن يكون تبليغ بعض الأحكام ممّا يوقع في الوهم انتفاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتشريعه و إجرائه يستوجب أن يقع في قلوبهم أنّه ملك في صورة النبوّة و قانون ملكيّ في هيئة الدين كما ربّما وجد بعض شواهد ذلك في مطاوي كلمات بعضهم(٢) .

و هذه شبهة لو كانت وقعت هي أو ما يماثلها في قلوبهم ألقت إلى الدين من الفساد و الضيعة ما لا يدفعه أيّ قوّة دافعة، و لا يصلحه أيّ تدبير مصلح فليس هذا الحكم النازل المأمور بتبليغه إلّا حكماً فيه توهّم انتفاع للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و اختصاص له بمزيّة من‏ المزايا الحيويّة لا يشاركه فيها غيره من سائر المسلمين، نظير ما في قصّة زيد و تعدّد الأزواج و الاختصاص بخمس الغنائم و نظائر ذلك.

غير أنّ الخصائص إذا كانت ممّا لا تمسّ فيه عامّة المسلمين لم يكن من طبعها إثارة الشبهة في القلوب فإنّ الازدواج بزوجة المدعوّ ابناً مثلاً لم يكن يختصّ به

____________________

(١) كآيات قصّة أحد في صورة آل عمران، و الآيات ال ١٠٥ - ١٢٦ من سورة النساء.

(٢) كما يذكر عن أبي سفيان في كلمات قالها في مجلس عثمان حينما تمّ له أمر الخلافة.

٤٨

و الازدواج بأكثر من أربع نسوة لو كان تجويزه لنفسه عن هوى بغير إذن الله سبحانه لم يكن يمنعه أن يجوّز مثل ذلك لسائر المسلمين، و سيرته في إيثار المسلمين على نفسه في ما كان يأخذه لله و لنفسه من الأموال و نظائر هذه الاُمور لا تدع ريباً لمرتاب و لا يشتبه أمرها لمشتبه دون أن تزول الشبهة.

فقد ظهر من جميع ما تقدّم أنّ الآية تكشف عن حكم نازل فيه شوب انتفاع للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و اختصاصه بمزيّة حيويّة مطلوبة لغيره أيضاً يوجب تبليغه و العمل به حرمان الناس عنه فكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه و شدّد فيه، و وعده العصمة من الناس و عدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه.

و هذا يؤيّد ما وردت به النصوص من طرق الفريقين أنّ الآية نزلت في أمر ولاية عليّعليه‌السلام ، و أنّ الله أمر بتبليغها و كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاف أن يتّهموه في ابن عمّه، و يؤخّر تبليغها وقتاً إلى وقت حتّى نزلت الآية فبلّغها بغدير خمّ، و قال فيه: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه.

و كون ولاية أمر الاُمّة ممّا لا غنى للدين عنه ظاهر لا ستر عليه، و كيف يسوغ لمتوهّم أن يتوهّم أنّ الدين الّذي يقرّر بسعته لعامّة البشر في عامّة الأعصار و الأقطار جميع ما يتعلّق بالمعارف الأصليّة، و الاُصول الخلقيّة، و الأحكام الفرعيّة العامّة لجميع حركات الإنسان و سكناته، فرادى و مجتمعين على خلاف جميع القوانين العامّة لا يحتاج إلى حافظ يحفظه حقّ الحفظ؟ أو أنّ الاُمّة الإسلاميّة و المجتمع الدينيّ مستثنى من بين جميع المجتمعات الإنسانيّة مستغنية عن وال يتولّى أمرها و مدبّر يدبّرها و مجر يجريها؟ و بأيّ عذر يمكن أن يعتذر إلى الباحث عن سيرة النبيّ الاجتماعيّة؟ حيث يرى أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا خرج إلى غزوة خلّف مكانه رجلاً يدير رحى المجتمع، و قد خلّف عليّاً مكانه على المدينة عند مسيره إلى تبوك فقال: يا رسول الله أتخلّفني على النساء و الصبيان؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟

و كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينصب الولاة الحكّام في ما بيد المسلمين من البلاد كمكّة و الطائف

٤٩

و اليمن و غيرها، و يؤمرّ رجالاً على السرايا و الجيوش الّتي يبعثها إلى الأطراف، و أيّ فرق بين زمان حياته و ما بعد مماته دون أنّ الحاجة إلى ذلك بعد غيبته بالموت أشدّ، و الضرورة إليه أمسّ ثمّ أمسّ.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) خاطبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة لكونها أنسب الصفات إلى ما تتضمّنه الآية من الأمر بالتبليغ لحكم الله النازل فهو كالبرهان على وجوب التبليغ الّذي تظهره الآية و تقرعه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ الرسول لا شأن له إلّا تبليغ ما حمّل من الرسالة فتحمّل الرسالة يفرض عليه القيام بالتبليغ.

و لم يصرّح باسم هذا الّذي اُنزل إليه من ربّه بل عبّر عنه بالنعت و أنّه شي‏ء اُنزل إليه، إشعاراً بتعظيمه و دلالة على أنّه أمر ليس فيه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صنع، و لا له من أمره شي‏ء ليكون كبرهان آخر على عدم خيرة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتمانه و تأخير تبليغه، و يكون له عذراً في إظهاره على الناس، و تلويحاً إلى أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصيب في ما تفرّسه منهم و تخوّف عليه، و إيماءً إلى أنّه ممّا يجب أن يظهر من ناحيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بلسانه و بيانه.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) المراد بقوله:( رِسالَتَهُ ) و قرئ( رسالاته) كما تقدّم مجموع رسالات الله سبحانه الّتي حمّلها رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قد تقدّم أنّ الكلام يفيد أهمّيّة هذا الحكم المرموز إليه، و أنّ له من المكانة ما لو لم يبلّغه كأن لم يبلّغ شيئاً من الرسالات الّتي حمّلها.

فالكلام موضوع في صورة التهديد، و حقيقته بيان أهمّيّة الحكم، و أنّه بحيث لو لم يصل إلى الناس، و لم يراع حقّه كان كأن لم يراع حقّ شي‏ء من أجزاء الدين فقوله:( وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ ) جملة شرطيّة سيقت لبيان أهمّيّة الشرط وجوداً و عدماً لترتّب الجزاء الأهمّ عليه وجوداً و عدماً.

و ليست شرطيّة مسوقة على طبع الشرطيّات الدائرة عندنا فإنّا نستعمل( إن ) الشرطيّة طبعاً فيما نجهل تحقّق الجزاء للجهل بتحقّق الشرط، و حاشا ساحة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥٠

من أن يقدّر القرآن في حقّه احتمال أن يبلّغ الحكم النازل عليه من ربّه و أن لا يبلّغ، و قد قال تعالى:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) الأنعام: ١٢٤.

فالجملة أعني قوله:( وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ ) إلخ، إنّما تفيد التهديد بظاهرها و تفيد إعلامهعليه‌السلام و إعلام غيره ما لهذا الحكم من الأهمّيّة، و أنّ الرسول معذور في تبليغه.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) قال الراغب: العصم (بالفتح فالسكون) الإمساك و الاعتصام الاستمساك - إلى أن قال - و العصام (بالكسر) ما يعتصم به أي يشدّ، و عصمة الأنبياء حفظه إيّاهم أوّلاً بما خصّهم به من صفاء الجوهر، ثمّ بما أولاهم من الفضائل الجسميّة و النفسيّة، ثمّ بالنصرة و بتثبيت أقدامهم، ثمّ بإنزال السكينة عليهم و بحفظ قلوبهم و بالتوفيق قال تعالى:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) .

و العصمة شبه السوار، و المعصم موضعها من اليد، و قيل للبياض بالرسغ عصمة تشبيهاً بالسوار، و ذلك كتسمية البياض بالرجل تحجيلاً، و على هذا قيل: غراب أعصم، انتهى.

و ما ذكره من معنى عصمة الأنبياء حسن لا بأس به غير أنّه لا ينطبق على الآية( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) بل لو انطبق فإنّما ينطبق على مثل قوله:( وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) النساء: ١١٣.

و أمّا قوله:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فإنّ ظاهره أنّها عصمة بمعنى الحفظ و الوقاية من شرّ الناس المتوجّه إلى نفس النبيّ الشريفة أو مقاصده الدينيّة أو نجاح تبليغه و فلاح سعيه، و بالجملة المعنى المناسب لساحته المقدّسة.

و كيف كان فالمتحصّل من موارد استعمال الكلمة أنّها بمعنى الإمساك و القبض فاستعماله في معنى الحفظ من قبيل استعارة اللازم لملزومه فإنّ الحفظ يلزمه القبض.

٥١

و كان تعليق العصمة بالناس من دون بيان أنّ العصمة من أيّ شأن من شؤون الناس كتعدّياتهم بالإيذاء في الجسم من قتل أو سمّ أو أيّ اغتيال، أو بالقول كالسّب و الافتراء، أو بغير ذلك كتقليب الاُمور بنوع من المكر و الخديعة و المكيدة و بالجملة السكوت عن تشخيص ما يعصم منه لإفادة نوع من التعميم، و لكنّ الّذي لا يعدو عنه السياق هو شرّهم الّذي يوجب انقلاب الأمر على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث يسقط بذلك ما رفعه من أعلام الدين.

و الناس مطلق من وجد فيه معنى الإنسانيّة من دون أن يعتبر شي‏ء من خصوصيّاته الطبيعيّة التكوينيّة كالذكورة و الاُنوثة أو غير الطبيعيّة كالعلم و الفضل و الغنى و غير ذلك. و لذلك قلّ ما ينطبق على غير الجماعة، و لذلك أيضاً ربّما دلّ على الفضلاء من الإنسان إذا كان الفضل روعي فيه وجود معنى الإنسانيّة كقوله تعالى:( إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ ) أي الّذين وجد فيهم معنى الإنسانيّة، و هو ملاك درك الحقّ و تمييزه من الباطل.

و ربّما كان دالّاً على نوع من الخسّة و سقوط الحال، و ذلك إذا كان الأمر الّذي يتكلّم فيه ممّا يحتاج إلى اعتبار شي‏ء من الفضائل الإنسانيّة الّتي اعتبرت زائدة على أصل معنى النوع كقوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) الروم: ٣٠ و كقولك: لا تثق بمواعيد الناس، و لا تستظهر بسوادهم نظراً منك إلى أنّ الوثوق و الاستظهار يجب أن يتعلّقا بالفضلاء من الإنسان ذوي ملكة الوفاء بالعهد و الثبات على العزيمة لا على من ليس له إلّا مجرّد صدق اسم الإنسانيّة، و ربّما لم يفد شيئاً من مدح أو ذمّ إذا تعلّق الغرض بما لا يزيد على أصل معنى الإنسانيّة كقوله تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣.

و لعلّ قوله:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) اُخذ فيه لفظ الناس اعتباراً بسواد الأفراد الّذي فيه المؤمن و المنافق و الّذي في قلبه مرض، و قد اختلطوا من دون تمايز، فإذا خيف خيف من عامّتهم، و ربّما أشعر به قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) فإنّ الجملة

٥٢

في مقام التعليل لقوله:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) و قد تقدّم أيضاً أنّ الآية نزلت بعد الهجرة و ظهور شوكة، الإسلام و كان السواد الأعظم من الناس مسلمين بحسب الظاهر و إن كان فيهم المنافقون و غيرهم.

فالمراد بالقوم الكافرين قوم هم في الناس مذكوري النعت ممحوّي الاسم وعد الله سبحانه أن يبطل كيدهم و يعصم رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شرّهم.

و الظاهر أيضاً أن يكون المراد بالكفر الكفر بآية من آيات الله و هو الحكم المراد بقوله:( ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) ، كما في قوله في آية الحجّ:( وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) آل عمران: ٩٧، و أمّا الكفر بمعنى الاستكبار عن أصل الشهادتين فإنّه ممّا لا يناسب مورد الآية البتّة إلّا على القول بكون المراد بقوله:( ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) مجموع رسالات الدين، و قد عرفت عدم استقامته.

و المراد بعدم هدايته تعالى هؤلاء القوم الكافرين عدم هدايته إيّاهم في كيدهم و مكرهم، و منعه الأسباب الجارية أن تنقاد لهم في سلوكهم إلى ما يرومونه من الشرّ و الفساد نظير قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) المنافقون: ٦، و قوله تعالى:( وَ اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) البقرة: ٢٥٨، و قد تقدّم البحث عنه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

و أمّا كون المراد بعدم الهداية هو عدم الهداية إلى الإيمان فغير صحيح البتّة لمنافاته أصل التبليغ و الدعوة فلا يستقيم أن يقال: أدعهم إلى الله أو إلى حكم الله و أنا لا أهديهم إليه إلّا في مورد إتمام الحجّة محضاً.

على أنّ الله سبحانه قد هدى و لا يزال يهدي كثيرين من الكفّار بدليل العيان، و قد قال أيضاً:( وَ اللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) البقرة: ٢١٣.

فتبيّن أنّ المراد بعدم هداية الكافرين عدم تخليتهم لينالوا ما يهمّون به من إبطال كلمة الحقّ و إطفاء نور الحكم المنزل فإنّ الكافرين و كذا الظالمين و الفاسقين يريدون بشامة أنفسهم و ضلال رأيهم أن يبدّلوا سنّة الله الجارية في الخلقة و سياقة الأسباب السالكة إلى مسبّباتها و يغيّروا مجاري الأسباب الحقّة الظاهرة عن سمة عصيان ربّ العالمين إلى غاياتهم الفاسدة مقاصدهم الباطلة و الله ربّ العالمين لن

٥٣

يعجزه قواهم الصوريّة الّتي لم يودعها فيهم و لم يقدّرها في بناهم إلّا هو.

فهم ربّما تقدّموا في مساعيهم أحياناً و نالوا ما راموه أوينات و استعلوا و استقام أمرهم برهة لكنّه لا يلبث دون أن يبطل أخيراً و ينقلب عليهم مكرهم و لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله، و كذلك يضرب الله الحقّ و الباطل فأمّا الباطل فيذهب جفاءً، و أمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

و على هذا فقوله:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) تفسير قوله:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) بالتصرّف في سعة إطلاقه، و يكون المراد بالعصمة عصمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن يناله الناس بسوء دون أن ينال بغيته في تبليغ هذا الحكم و تقريره بين الاُمّة كأن يقتلوه دون أن يبلّغه أو يثوروا عليه و يقلّبوا عليه الاُمور أو يتّهموه بما يرتدّ به المؤمنون عن دينه، أو يكيدوا كيداً يميت هذا الحكم و يقبره بل الله يظهر كلمة الحقّ و يقيم الدين على ما شاء و أينما شاء و متى ما شاء، و فيمن شاء قال تعالى:( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللهُ عَلى‏ ذلِكَ قَدِيراً ) النساء: ١٣٣.

و أمّا أخذ الآية أعني قوله:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) بإطلاقه على ما فيه من السعة و الشمول فممّا ينافيه القرآن و المأثور من الحديث و التاريخ القطعيّ، و قد نالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اُمتّه أعمّ من كفّارهم و مؤمنيهم و منافقيهم من المصائب و المحن و أنواع الزجر و الأذى ما ليس في وسع أحد أن يتحمّله إلّا نفسه الشريفة، و قد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كما في الحديث المشهور -: ما اُوذي نبيّ مثل ما اُوذيت قطّ.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس و جابر بن عبدالله قالا: أمر الله تعالى نبيّه محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينصب عليّاً علماً في الناس ليخبرهم بولايته فتخوّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقولوا: خابى(١) ابن عمّه و أن يطعنوا(٢) في ذلك عليه. قال: فأوحى الله

____________________

(١) جاءنا، خ ل.

(٢) يطغوا، خ ل.

٥٤

إليه هذه الآية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بولايته يوم غدير خمّ.

و فيه، عن حنان بن سدير، عن أبيه عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لما نزل جبرئيل على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع بإعلان أمر عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية قال: فمكث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثاً حتّى أتى الجحفة فلم يأخذ بيده فرقاً من الناس.

فلمّا نزل الجحفة يوم غدير في مكان يقال له( مهيعة) فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أولى بكم من أنفسكم؟ فجهروا فقالوا: الله و رسوله ثمّ قال لهم الثانية، فقالوا: الله و رسوله، ثمّ قال لهم الثالثة، فقالوا: الله و رسوله.

فأخذ بيد عليّعليه‌السلام فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله فإنّه منّي و أنا منه، و هو منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي.

و فيه، عن أبي الجارود، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لما أنزل الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) قال: فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد عليّعليه‌السلام فقال: يا أيّها الناس إنّه لم يكن نبيّ من الأنبياء ممّن كان من قبلي إلّا و قد عمّر ثمّ دعاه فأجابه، و أوشك أن اُدعى فأجيب، و أنا مسؤل و أنتم مسؤلون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت و نصحت و أدّيت ما عليك فجزاك الله أفضل ما جزى المرسلين، فقال: اللّهمّ اشهد.

ثمّ قال: يا معشر المسلمين ليبلّغ الشاهد الغائب اُوصي من آمن بي و صدّقني بولاية عليّ، ألا إنّ ولاية علىّ ولايتي عهداً عهده إليّ ربّي و أمرني أن اُبلّغكموه، ثمّ قال: هل سمعتم؟ - ثلاث مرّات يقولها - فقال قائل: قد سمعنا يا رسول الله.

٥٥

و في البصائر، بإسناده عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) قال: هي الولاية.

أقول: و روى نزول الآية في أمر الولاية و قصّة الغدير معه الكلينيّ في الكافي، بإسناده، عن أبي الجارود، عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث طويل، و روى هذا المعنى الصدوق في المعاني، بإسناده عن محمّد بن الفيض بن المختار، عن أبيه عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث طويل، و رواه العيّاشيّ أيضاً عن أبي الجارود في حديث طويل، و بإسناده عن عمرو بن يزيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام مختصراً.

و عن تفسير الثعلبيّ، قال: قال جعفر بن محمّد: معنى قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) في فضل عليّ، فلمّا نزلت هذه أخذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد عليّ فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه‏.

و عنه، بإسناده عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس: في هذه الآية قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب، أمر الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلّغ فيه فأخذ بيد عليّ فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه.

و في تفسير البرهان، عن إبراهيم الثقفيّ بإسناده عن الخدريّ، و بريدة الأسلميّ و محمّد بن عليّ: نزلت يوم الغدير في عليّ.

و من تفسير الثعلبيّ، في معنى الآية قال: قال أبوجعفر محمّد بن عليّ: معناه بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك في عليّ.

و في تفسير المنار، عن تفسير الثعلبيّ: أنّ هذا القول من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موالاة عليّ شاع و طار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهريّ فأتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ناقته، و كان بالأبطح فنزل و عقل ناقته، و قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - و هو في ملأ من أصحابه -: يا محمّد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله فقبلنا منك - ثمّ ذكر سائر أركان الإسلام - ثمّ لم ترض بهذا حتّى مددت بضبعي ابن عمّك، و فضّلته علينا، و قلت:( من كنت مولاه فعليّ مولاه) فهذا منك أم من الله؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الله الّذي لا إله إلّا

٥٦

هو هو أمر الله، فولّى الحارث يريد راحلته، و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.

فما وصل إلى راحلته حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره، و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) الحديث.

أقول: قال في المنار بعد نقل هذا الحديث ما لفظه: و هذه الرواية موضوعة، و سورة المعارج هذه مكّيّة، و ما حكاه الله من قول بعض كفّار قريش:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الحقّ مِنْ عِنْدِكَ ) كان تذكيراً بقول قالوه قبل الهجرة، و هذا التذكير في سورة الأنفال، و قد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين، و ظاهر الرواية أنّ الحارث بن النعمان هذا كان مسلماً فارتدّ و لم يعرف في الصحابة، و الأبطح بمكّة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرجع من غدير خمّ إلى مكّة بل نزل فيه منصرفة من حجّة الوداع إلى المدينة، انتهى.

و أنت ترى ما في كلامه من التحكّم: أمّا قوله:( إنّ الرواية موضوعة، و سورة المعارج هذه مكيّة) فيعوّل في ذلك على ما في بعض الروايات عن ابن عبّاس و ابن الزبير أنّ سورة المعارج نزلت بمكّة، و ليت شعري ما هو المرجّح لهذه الرواية على تلك الرواية، و الجميع آحاد؟ سلّمنا أنّ سورة المعارج مكيّة كما ربّما تؤيّده مضامين معظم آياته فما هو الدليل على أنّ جميع آياتها مكّيّة؟ فلتكن السورة مكّيّة، و الآيتان خاصّة غير مكّيّتين كما أنّ سورتنا هذه أعني سورة المائدة مدنيّة نازلة في آخر عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قد وضعت فيها الآية المبحوث عنها أعني قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (الآية)، و هو كعدّة من المفسّرين مصرّون على أنّها نزلت بمكّة في أوّل البعثة، فإذا جاز وضع آية مكّيّة آية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) في سورة مدنيّة (المائدة) فليجز وضع آية مدنيّة آية:( سَأَلَ سائِلٌ ) في سورة مكّيّة سورة المعارج.

و أمّا قوله:( و ما حكاه الله من قول بعض كفّار قريش‏) إلى آخره، فهو في التحكّم كسابقه فهب إنّ سورة الأنفال نزلت قبل المائدة ببضع سنين فهل يمنع ذلك أن يوضع

٥٧

عند التأليف بعض الآيات النازلة بعدها فيها كما وضعت آيات الربا و آية:( وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ) البقرة: ٢٨١، و هي آخر ما نزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندهم في سورة البقرة النازلة في أوائل الهجرة و قد نزلت قبلها ببضع سنين.

ثمّ قوله: إنّ آية:( وَ إِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ ) ، الآية تذكير لما قالوه قبل الهجرة تحكّم آخر من غير حجّة لو لم يكن سياق الآية حجّة على خلافه فإنّ العارف بأساليب الكلام لا يكاد يرتاب في أنّ هذا أعني قوله:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) لاشتماله على قوله:( إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) بما فيه من اسم الإشارة و ضمير الفصل و الحقّ المحلىّ باللّام و قوله:( مِنْ عِنْدِكَ ) ليس كلام وثنيّ مشرك يستهزئُ بالحقّ و يسخر منه، و إنّما هو كلام من أذعن بمقام الربوبيّة، و يرى أنّ الاُمور الحقّة تتعيّن من لدنه، و أنّ الشرائع مثلاً تنزل من عنده، ثمّ إنّه يتوقّف في أمر منسوب إلى الله تعالى يدّعي مدّع أنّه الحقّ لا غيره، و هو لا يتحمّل ذلك و يتحرّج منه فيدعو على نفسه دعاء منزجر ملول سئم الحياة.

و أمّا قوله:( و ظاهر الرواية أنّ الحارث بن النعمان هذا كان مسلماً فارتدّ و لم يعرف في الصحابة) تحكّم آخر فهل يسع أحداً أن يدّعي أنّهم ضبطوا أسماء كلّ من رأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و آمن به أو آمن به فارتدّ؟ و إن يكن شي‏ء من ذلك فليكن هذا الخبر من ذلك القبيل.

و أمّا قوله:( و الأبطح بمكّة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرجع من غدير خمّ إلى مكّة) فهو يشهد على أنّه أخذ لفظ الأبطح اسماً للمكان الخاصّ بمكّة و لم يحمله على معناه العامّ و هو كلّ مكان ذي رمل، و لا دليل على ما حمله عليه بل الدليل على خلافه و هو القصّة المسرودة في الرواية و غيرها، و ربّما استفيد من مثل قوله:

نجوت و قد بلّ المراديّ سيفه

من ابن أبي شيخ الأباطح طالب

أنّ مكّة و ما والاها كانت تسمّى الأباطح.

قال في مراصد الاطّلاع: أبطح بالفتح ثمّ السكون و فتح الطاء و الحاء المهملة

٥٨

كلّ مسيل فيه رقاق الحصى فهو أبطح، و قال ابن دريد: الأبطح و البطحاء السهل المنبسط على وجه الأرض، و قال أبو زيد: الأبطح أثر المسيل ضيّقاً كان أو واسعاً، و الأبطح يضاف إلى مكّة و إلى منى لأنّ مسافته منهما واحدة، و ربّما كان إلى منى أقرب و هو المحصّب، و هي خيف بني كنانة، و قد قيل: إنّه ذو طوى، و ليس به، انتهى.

على أنّ الرواية بعينها رواها غير الثعلبيّ و ليس فيه ذكر من الأبطح و هي ما يأتي من رواية المجمع من طريق الجمهور و غيرها.

و بعد هذا كلّه فالرواية من الآحاد، و ليست من المتواترات و لا ممّا قامت على صحّتها قرينة قطعيّة، و قد عرفت من أبحاثنا المتقدّمة أنّا لا نعوّل على الآحاد في غير الأحكام الفرعيّة على طبق الميزان العامّ العقلائيّ الّذي عليه بناء الإنسان في حياته، و إنّما المراد بالبحث الآنف بيان فساد ما استظهر به من الوجوه الّتي استنتج منها أنّها موضوعة.

و في المجمع: أخبرنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكانيّ قال: أخبرنا أبو عبدالله الشيرازيّ قال أخبرنا أبوبكر الجرجانيّ قال: أخبرنا أبوأحمد البصريّ قال: حدّثنا محمّد بن سهل قال: حدّثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصار قال: حدّثنا محمّد بن أيّوب الواسطيّ قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائه قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً يوم غدير خمّ قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، فقال (فطار، ظ) ذلك في البلاد فقدم على النبيّ النعمان بن الحارث الفهريّ فقال: أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله، و أنّك رسول الله، و أمرتنا بالجهاد و بالحجّ و بالصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها، ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه فهذا شي‏ء منك أو أمر من الله تعالى؟ فقال: بلى و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولّى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك

٥٩

فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، فأنزل الله:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ في الكافي، أيضاً.

و عن كتاب نزول القرآن، للحافظ أبي نعيم يرفعه إلى عليّ بن عامر عن أبي الحجّاف، عن الأعمش، عن عطيّة قال: نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ بن أبي طالب( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) و قد قال الله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) .

و عن الفصول المهمّة، للمالكيّ قال: روى الإمام أبوالحسن الواحديّ في كتابه المسمّى بأسباب النزول رفعه بسنده إلى أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - قال: نزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) يوم غدير خمّ في عليّ بن أبي طالب.

أقول: و رواه في فتح القدير، عن ابن أبي حاتم و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي سعيد الخدريّ و كذلك في الدرّ المنثور.

و قوله:( بغدير خمّ) هو بضمّ الخاء المعجمة و تشديد الميم مع التنوين اسم لغيطة على ثلاثة أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيطة، هكذا ذكره الشيخ محيي الدين النوويّ.

و في فتح القدير، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ ربّك - إنّ عليّاً مولى المؤمنين -وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) .

أقول: و هذه نبذة من الأخبار الدالّة على نزول قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) إلخ، في حقّ عليّعليه‌السلام يوم غدير خمّ، و أمّا حديث الغدير أعني‏ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( من كنت مولاه فعليّ مولاه) فهو حديث متواتر منقول من طرق الشيعة و أهل السنّة بما يزيد على مائة طريق.

٦٠