العقائد الإسلامية الجزء ٣

العقائد الإسلامية12%

العقائد الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 491

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 491 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 223925 / تحميل: 7803
الحجم الحجم الحجم
العقائد الإسلامية

العقائد الإسلامية الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

مقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ السلام على سيّدنا ونبيّنا محمد وآله الطيبين الطاهرين

وبعد، فهذا هو المجلّد الثالث من كتاب العقائد الإسلامية وقد اشتمل على أكثر مسائل الشفاعة، وعددٍ من البحوث النافعة فيها.

ونظراً لأهمية مسائل الشفاعة، فقد حاولنا استقصاء الآراء فيها، وتعرّضنا أحياناً لآراء غير المسلمين.

وسوف ترى أن هذه العقيدة الربانية من أكبر النعم الإلهية السابغة على العباد، وتلاحظ ما تعرضت له من تحريفات كبيرة بعد الأنبياءعليهم‌السلام خدمةً لأغراضٍ سياسية وثقافية، بعيدةٍ عن الدين الإلهي!!

وقد ساعد على ذلك أنها من عقائد الغيب والآخرة غير المنظورة، التي يسهل على المحرفين التحريف فيها، ويصعب كشف عملهم.

نسأله تعالى أن يجعلنا من المشمولين بشفاعة سيد المرسلين وآله الطيبين الطاهرين، وأن يصلي عليهم أجمعين.‏

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

علي الكوراني العاملي

٣

٤

الباب الثالث

في مسائل الشفاعة

٥

٦

الفصل الأول

تعريف الشفاعة وتاريخها

موقع الشفاعة من الرحمة الإلهية

الرحمة الإلهية وسعت كل شيء، ولا يمكن للبشر أن يحصوا أعدادها.. ولا أنواعها.. لكن نشير إلى ستة أنواع كبرى منها، ليتضح موقع الشفاعة من بينها.

النوع الأول : التوبة، التي تمحو السيئات.

النوع الثاني : أن السيئة بواحدة والحسنة بعشرة.

النوع الثالث : أن نية الحسنة تكتب، ونية السيئة لا تكتب.

النوع الرابع : أن الحسنات يذهبن السيئات.

النوع الخامس : أنواع الرحمة الإلهية الخاصة بالآخرة.

النوع السادس : الشفاعة، وهي نوع من الوساطة الى الله تعالى من وليٍّ مقربٍ عنده ليغفر لمذنب ويسامحه.

٧

شبهة حول أصل الشفاعة

يدور في ذهن البعض سؤال عن أصل الشفاعة مفاده: أن رحمة الله تعالى ومغفرته وسعت وتسع كل شيء، وهي تتم بشكل مباشر، فلماذا يجعلها الله تعالى تحتاج إلى واسطة عباده مثل الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ؟

والجواب: أن الرحمة الإلهية المباشرة في الدنيا والآخرة أنواع كثيرة لا تحصى، ولا يمنع أن يكون منها رحمة غير مباشرة جعلها الله تعالى مرتبطة بالدعاء والشفاعة لمصالح يعلمها سبحانه، كأن يريد رحمة عدد كبير من عباده بالشفاعة، ويُظهر كرامة أنبيائه وأوليائه عنده..

فالشفاعة من ناحية عقلية لا مانع منها ولا إشكال فيها، نعم، لا تثبت إلا بدليل، وفي الحدود والدائرة التي يدل عليها الدليل.

مثال لتقريب فهم عقيدة الشفاعة

يمكن تقريب الشفاعة إلى الذهن بأنها (قاعدة الإستفادة من الدرجات الإضافية) كأن يقال للطالب الذي حصل على معدل عال: يمكنك أن تستفيد من النمرات الإضافية على معدل النجاح فتعطيها إلى أصدقائك، الأقرب فالأقرب من النجاح..

ولنفرض أن الإنسان يحتاج للنجاة من النار ودخول الجنة إلى ٥١ درجة (من رجحت حسناته على سيئاته) فالذي بلغ عمله ٤٠٠ درجة مثلاً يسمح له أن يوزع ٣٤٩ درجة على أعزائه، ولكن ضمن شروط، مثل أن يكونوا من أقربائه القريبين، وأن يكون عند أحدهم ثلاثين درجة فما فوق، وذلك لتحقيق أفضل استفادة وأوسعها من هذه الدرجات الإضافية.

وقد نصّت بعض الأحاديث عن الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام على أن شفاعة المؤمن تكون على قدر عمله، ففي مناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ١٥ عن الإمام الباقرعليه‌السلام

٨

في قوله تعالى:وترى كلّ أُمّة جاثية.. الآية، قال: ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليعليه‌السلام يقوم على كوم قد علا الخلايق فيشفع ثم يقول: يا علي إشفع، فيشفع الرجل في القبيلة، ويشفع الرجل لأهل البيت ويشفع الرجل للرجلين على قدر عمله. فذلك المقام المحمود. انتهى. وورد شبيه به في مصادر السنة أيضاً.

وعلى هذا، فالشفاعة مقننة بقوانين دقيقة حكيمة مثل كل الأعمال الإلهية الدقيقة والحكيمة، وليست كما يتصوره البعض من نوع الوساطات والمحسوبيات والمنسوبيات الدنيوية.

وبما أن درجات الملائكة والأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم ودرجات المؤمنين متفاوتة، وأعظمهم عملاً وأعلاهم درجةً نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله فليس غريباً أن يكون أعظمهم شفاعة عند الله تعالى.

وبما أن سيئات الناس تتفاوت دركاتها ويصل بعضها إلى تحت الصفر بألوف الدرجات مثلاً.. فإن الذين تشملهم الشفاعة هم الأقرب إلى النجاح والأفضل من مجموع المسيئين، وقد وردت في شروطهم عدة أحاديث، منها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (إن أدناكم مني وأوجبكم عليَّ شفاعةً: أصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانةً، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم من الناس).مستدرك الوسائل ج ١١ ص ١٧١

- قال أبو الصلاح الحلبي في الكافي ص ٤٩٧

إن قيل: فإذا كانت الإثابة والمعاقبة مختصتين به تعالى، فكيف يصح لكم ما تذهبون إليه من الحوض واللواء والوقوف على الأعراف، وقسمة النار وإدخال بعض إليها وإخراج بعض منها، مع كون ذلك ثواباً وعقاباً؟

قيل: لا شبهة في اختصاص أمور الآخرة أجمع به تعالى، غير أنه تعالى ردَّها أو ردَّ منها إلى المصطفين من خلقه: رسول الله وأمير المؤمنين والأئمة من آلهما صلوات الله عليهم، فأوردوها عن أمره وأصدروها. كما يضاف تعذيب أهل النار وتنزيل أهل الجنة حاصلاً بالملائكة المأذون لهم فيه وليس لأحد أن يقول: فأي

٩

ميزة لهم بتولي هذه الأمور على غيرهم في الفضل وهي موقوفة على إذنه تعالى؛ لأن الآخرة لما كانت أفضل الدارين بكونها دار الجزاء وغاية المستحقين، وجعل الله سبحانه إلى هؤلاء المصطفين أفضل منازله وأسنى درجاته من اللواء والحوض والشفاعة وقسمة النار، دل على تخصصهم من الفضل بما لا مشارك لهم فيه.

محاولات المستشرقين التشكيك في الشفاعة

وقد حاول بعضهم الإشكال على قانون الشفاعة في الإسلام فتصوّره أو صوّره بأنه من نوع الوساطات الدنيوية المخالفة للعدالة، التي يفعلها الناس عند الحكّام الظلمة لمن يحبونه من المجرمين.. وقد مدح جولد تسيهر في كتابه مذاهب التفسير الإسلامي ص ١٩٢ المعتزلة وزعم أنهم لم يقبلوا الشفاعة لأنها تنافي العدالة، قال: والمعتزلة.. لا يريدون التسليم بقبول الشفاعة على وجه أساسي حتى لمحمد ذلك بأنه يتعارض مع اقتناعهم بالعدل الإلهي المطلق. انتهى.

ولكن لايمكن لعاقلٍ أن يدّعي بأن زيادة الرحمة الإلهية والمغفرة للمذنبين بأسبابٍ متعددة، أمرٌ يتنافى مع العدالة الإلهية!!

ثم إن الذي نفاه المعتزلة هو شمول الشفاعة لأهل الكبائر، ولم ينفوا الشفاعة لمرتكبي المعاصي الصغائر، كما سيأتي في محلّه.

على أن تسيهر اليهودي نفسه يعتقد بالشفاعة التي يزعمها اليهود لكل بني إسرائيل دون سواهم من البشر، ولايراها منافية للعدالة الإلهية، فلا معنى لمدحه المعتزلة بأنهم يرفضون الشفاعة لأنهم طلاب مساواة!

تهافت منطق الوهّابيين في الشفاعة والإستشفاع

والأعجب من المستشرقين الوهابيون.. حيث يتوسعون في الشفاعة فيجعلونها تشمل اليهود والنصارى وجميع الخلق، على حد تعبير ابن تيمية، قال في مجموعة رسائله ج ١ ص ١٠: أجمع المسلمون على أن النبي (ص) يشفع للخلق يوم القيامة

١٠

بعد أن يسأله الناس ذلك وبعد أن يأذن الله في الشفاعة. ثم أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصحابة... أنه يشفع لأهل الكبائر، ويشفع أيضاً لعموم الخلق. انتهى.

ولكنهم في نفس الوقت يحرّمون الإستشفاع والتوسل بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويعتبرونه شركاً، مع أن هو الإستشفاع طلب شفاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الله تعالى في الآخرة، أو في أمر من أمور الدنيا!

إن التناسب بين الإعتقاد بسعة الشفاعة في الآخرة يقتضي تجويز الإستشفاع بأهلها في الدنيا!

وبتعبير آخر: إن تحريم الإستشفاع والتوسل في الدنيا، يناسبه إنكار الشفاعة في الآخرة، لا القول بسعتها لجميع الخلق!

وقد التفت إلى ضرورة هذا التناسب بعض المتأثرين بالفكر الوهابي في تحريم التوسل والإستشفاع، فأنكر شفاعة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعناها المعروف، وفسرها بتفسير شاذٍّ جعل منها أمراً شكلياً بعيداً عن أفعال الله تعالى.

قال فيما قال: إن الشفاعة هي كرامة من الله لبعض عباده فيما يريد أن يظهره من فضلهم في الآخرة فيشفعهم في من يريد المغفرة له ورفع درجته عنده، لتكون المسألة في الشكل واسطة في النتائج التي يتمثل فيها العفو الإلهي الرباني، تماماً كما لو كان النبي السبب أو الولي هو الواسطة.

إلى أن قال: وفي ضوء ذلك لا معنى للتقرب للأنبياء والأولياء ليحصل الناس على شفاعتهم؛ لأنهم لا يملكون من أمرها شيئاً بالمعنى الذاتي المستقل. بل الله هو المالك لذلك كله على جميع المستويات، فهو الذي يأذن لهم بذلك في مواقع محددة ليس لهم أن يتجاوزوها. الأمر الذي يفرض التقرب إلى الله في أن يجعلنا ممن يأذن لهم بالشفاعة له. انتهى.

ولم يصرّح صاحب هذا القول بحرمة طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام ،

١١

ولكن محمد بن عبد الوهاب صرح بذلك، واعتبر طلب الشفاعة منهمعليهم‌السلام شركاً! قال (فالشفاعة كلها لله فاطلبها منه، وقل: اللّهمّ لا تحرمني شفاعته اللّهمّ شفعه فيَّ. وأمثال هذا.

فإن قال: النبي (ص) أعطي الشفاعة، وأنا أطلب مما أعطاه الله.

فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا، وقال:فلا تدعوا مع الله أحداً .... الخ).

وقد قسّم ابن عبد الوهاب الشفاعة الى شفاعة منفية، وهي التي (تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله) وشفاعة مثبتة، وهي (التي تطلب من الله الشافع المكرم بالشفاعة... الخ) انتهى.

والجواب الكلّي على هذه المقولة أنها دعوى بدون دليل، نشأت من سوء الفهم لمعنى الشفاعة، ومعنى طلبها من الشافع، ومعنى الإستشفاع والتوسل الى الله تعالى بالنبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوليائه المقربين! فافترضت فيها معانٍ لا توجد فيها!!

والجواب عنها بشيء من التفصيل، أنها تتضمن شبهتين ينبغي التفكيك بينهما:

فالشبهة الأولى حول الشفاعة ، ومفادها: أن آيات الشفاعة وأحاديثها، يجب أن تحمل على المجاز، لأن الشفاعة فيها أمرٌ شكلي لا حقيقي!

ولم يذكر صاحب هذه الشبهة دليلاً على لزوم ترك المعنى الحقيقي وحمل نصوص الشفاعة على المجاز، بل لم نجد أحداً من الوهابيين ذكر ذلك.. نعم ذكر محمد رشيد رضا إشكال بعضهم على ذلك وأجاب عنه بما قد يفهم منه أن الشفاعة أمرٌ شكلي!

- قال في تفسير المنار ج ٨ ص ١٣:

فإن قيل: أليس الشفعاء يوَثرون في إرادته تعالى، فيحملونه على العفو عن المشفوع لهم والمغفرة لهم؟

قلنا: كلا إن المخلوق لا يقدر على التأثير في صفات الخالق الأزلية الكاملة....

١٢

فيكون ذلك إظهار كرامةٍ وجاهٍ لهم عنده، لا إحداث تأثير الحادث في صفات القديم وسلطانٍ له عليها، تعالى الله عن ذلك. انتهى.

ومفاد هذه الشبهة أن القول بالشفاعة الحقيقية يستلزم أن تكون إرادة الخالق متأثرة بإرادة المخلوق، وهو محال، فلا بد من القول بأن الشفاعة شكلية!!

وكذلك القول بتعليق بعض أفعاله تعالى على طلب أنبيائه وأوليائه منه، مثل الرزق، والشفاء، والمغفرة، والنجاة من النار وإدخال الجنة.. لابد أن يكون شكلياً، لأن الحقيقي منه محال.

والجواب عنها : أن أصحاب هذه الشبهة أخطأوا في تخيلهم أن تعليق الله تعالى لمغفرته أو عطائه على طلب مخلوقٍ، معناه تأثير المخلوق في إرادته سبحانه وتعالى! فإن تعليق الإرادة على شيء ممكنٌ بالوجدان، ولا محذور فيه، لأنه بذاته فعلٌ إرادي وتأكيدٌ للإرادة لا سلبها، أو جعلها متأثرة بفعل آخر، أو شيء آخر.. لقد تصور هؤلاء أن الشفاعة من الله، إذا أعطيت لأحدٍ تصير شفاعةً من دون الله تعالى، فوقعوا في هذه الشبهة!

أما إذا قالوا إن ذلك ممكنٌ ولكن الله تعالى لا يفعله لأنه لا يجوز له، فلا دليل لهم عليه من عقلٍ، ولا قول الله تعالى ولا قول رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وإن كانوا يمنعونه من عند أنفسهم، فهو تعدٍّ على الله تعالى، وتحديدٌ لصلاحيات من لايسأل عما يفعل، وهم يسألون!

ثم إن اللغة تأبى عليهم ما قالوه، فآيات الشفاعة وأحاديثها ظاهرة في الشفاعة الحقيقية لا الشكلية، ولا يمكنهم صرفها عن ظاهرها!

والشبهة الثانية حول الإستشفاع بالنبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي الشبهة التي يكررها ابن تيمية والوهابيون، وهي غير شبهة الشفاعة وإن كانت مرتبطة بها.

ومفادها أن طلب الشفاعة حتى ممن ثبت أن الله تعالى أعطاهم إياها حرامٌ، لأنه شركٌ بالله، وادعاءٌ لهؤلاء المخلوقين بأنهم يملكون الشفاعة من دون الله تعالى!!

١٣

وقد استدل ابن عبد الوهاب على ذلك بآيات النهي عن اتخاذ شريك مع الله كقوله تعالى( فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّـهِ أَحَدًا ) .

والجواب عنها : أنه ثبت من القرآن والسنة أن كثيراً من الأفعال الإلهية تتم بواسطة الملائكة، وليس في ذلك أي شركٍ لهم مع الله تعالى، لا في ملكه، ولا في أمره، بل هم عبادٌ مكرمون مطيعون. ولا مانع من العقل أو النقل أن يجعل الله تعالى أنواعاً من أفعاله وعطائه بواسطة الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام أو يجعلها معلقةً على طلبهم منه!

ولا يصح التفريق بين الأمرين والقول بأن ذلك إن كان بواسطة الملائكة فهو إيمان لأنهم لايصيرون شركاء، أما إن كان بواسطة غيرهم فيصيرون شركاء لله تعالى!

أو القول بأن تعليق العطاء الإلهي على طلب الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام شراكةٌ لله تعالى وشركٌ به، لكن شراكة الملائكة لله تعالى والشرك بهم لا بأس به!!

نقول لأصحاب هذه الشبهة: اقرؤوا قول الله تعالى:( وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) . الفتح - ٤

وقوله تعالى:( وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عزيزًا حَكِيمًا ) . الفتح - ٧

وقوله تعالى:( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) . المدثر - ٣١

ثم نقول لهم: نحن وأنتم لا يحق لنا أن نقسّم رحمة الله تعالى أو نحصرها، أو نحصر طرقها، أو نضع له لائحة فتاوى لما يجوز له أن يفعله وما لا يجوز!

ومعرفتنا ومعرفتكم بما يمكن له تعالى أن يفعله وما لا يمكن، إنما جاءت مما دلنا عليه العقل دلالةً قطعية، أو دلنا عليه كتاب الله وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والعقل لا يرى مانعاً في أن يربط الله تعالى أفعاله بطلب ملائكته أو أوليائه، فيجعلهم أدوات رحمته، ووسائط فيضه، ووسائل عطائه.. وذلك لا يعني تشريكهم في ألوهيته، بل هم عباده المكرمون المطيعون، ووسائله وأدواته التي يرحم بها عباده.

هذا من ناحية نظرية.. وأما من ناحية الوقوع والثبوت، فقد دل الدليل على أن أنظمة الفعل الإلهي وقوانينه واسعةٌ ومعقدةٌ، ودل على أنه تعالى جعل كثيراً من

١٤

عطائه - إن لم يكن كله - عن طريق خِيَرِةِ عباده من الملائكة والأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ودل الدليل على جواز الإستشفاع والتوسل بنبينا وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله والطلب من الله تعالى بحقهم وحرمتهم وواسطتهم، سواءً في ذلك أمور الدنيا والآخرة..

ودل الدليل على أن موتهمعليهم‌السلام ليس كموت غيرهم، وأن حرمتهم أمواتاً كحرمتهم أحياء صلوات الله عليهم.

وقد قال تعالى في آخر سورة أنزلها من كتابه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) . المائدة - ٣٥ ولا فرق في أصحاب الوسيلة إلى الله تعالى بين الملائكة وغيرهم، بل التوسل بنبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل وأرجى من التوسل بالملائكة، لأنه أفضل مقاماً عند الله منهم.

وسيأتي ذلك في بحث التوسل والإستشفاع، إن شاء الله تعالى. ويأتي أنه يجوز لنا أن نطلب العطاء الإلهي المعلق على شفاعة الأنبياء والأولياء، أو غير المعلق، منهم أنفسهمعليهم‌السلام ولا يعتبر ذلك شركاً، بل هو طلبٌ من الله تعالى.

وأن حكم التوسل بالأنبياء والأولياء والإستشفاع بهم إلى الله تعالى، لا يختلف بين الأموات منهم والأحياءعليهم‌السلام .. الى آخر المسائل التي خالف فيها الوهابيون عامة المسلمين.

- وقد أجاب السيد جعفر مرتضى في كتابه خلفيات مأساة الزهراءعليها‌السلام ص ٢١٩ على الشبهتين المذكورتين، ومما قاله:

١ - إن الكل يعلم: أن لا أحد يدعو محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أو علياًعليه‌السلام أو أي نبي أو ولي كوجودات منفصلة عن الله تعالى ومستقلة عنه بالتأثير، ولم تحدث في كل هذا التاريخ الطويل أن تكونت ذهنية شرك عند الشيعة نتيجة لذلك فضلاً عن غيرهم.

٢ - إننا نوضح معنى الشفاعة في ضمن النقاط التالية:

أ - إن الإنسان المذنب قد لا يجد في نفسه الأهلية أو الشجاعة لمخاطبة ذلك الذي أحسن إليه وأجرم هو في حقه، أو هكذا ينبغي أن يكون شعوره في مواقع

١٥

كهذه، فيوسط له من يحل مشكلته معه ممن لا يرد هذا المحسن طلبهم ولا يخيب مسألتهم..

ب - إن الله إنما يريد المغفرة للعبد المذنب بعد شفاعة الشفيع له.. ولم تكن تلك الإرادة لتتعلق بالمغفرة لولا تحقق الشفاعة.. فلو أن الشفيع لم يبادر إلى الشفاعة لكان العذاب قد نال ذلك العبد المذنب.

وهذا كما لو صدر من أحد أولادك ذنب فتبادر إلى عقوبته، فإذا وقف في وجهك من يعز عليك وتشفع به فإنك تعفو عنه إكراماً له، وإن لم يفعل ذلك كما لو لم يكن حاضراً مثلاً فإنك ستمضي عقوبتك في ذلك الولد المذنب لا محالة.. فالشفاعة على هذا سبب في العفو أو جزء سببه له.

إذن فليس صحيحاً ما يقوله البعض من أن الله تعالى له قد تعلقت إرادته بالمغفرة للعبد قبل الشفاعة بحيث تكون المغفرة له حاصلة على كل حال، ثم يكرم الله نبيه ويقول له: هذا العبد أريد أن أغفر له فتعال وتشفع إلي فيه..

ج - إذا كان الشخص المذنب قد أقام علاقة طيبة مع ذلك الشافع وتودد إليه ورأى منه سلوكاً حسناً واستقامة وانقياداً، فإن الشافع يرى أن من اللائق المبادرة إلى مساعدته في حل مشكلته أما إذا كان قد أغضبه وأساء إليه أو تعامل معه بصورة لا توحي بالثقة ولا تشير إلى الإستقامة، فإنه لا يبادر إلى مساعدته ولا يلتفت إليه.. فسلوك المشفوع له أثر كبير في مبادرة الشافع إلى الشفاعة.

د - وحين يكون الشفيع لا يريد شيئاً لنفسه من ذلك الشخص ولا من غيره ويكون ما يرضيه هو ما يرضي الله سبحانه فإن تقديم الصدقات والقربات للفقراء والإهتمام بما يرضى الشافع، هو في الواقع إثباتات عملية على أن ذلك المذنب راغبٌ في تصحيح خطئه وتدارك مافاته، وهو براهين وإثباتات على أنه قد التزم جادة الإستقامة وندم على ما فرط منه، فإذا قدم مالاً للفقراء أو أطعم أو ذبح شاة وفرقها على المحتاجين، فإن ذلك لا يكون رشوةً للنبي أو الولي.. وهو يعلم أن النبي

١٦

والولي لا يأخذ ذلك لنفسه بل يعود نفعه إلى الفقراء والمحتاجين أو يستثمر في سبيل الله وفي نشر الدين والباذل إنما يبذل ذلك رغبة في الحصول على رضا الشافع الذي رضاه رضا الله.

هـ - أما إذا أدار ذلك المذنب ظهره للنبي والوصي ولم يلمس الشافع منه أنه يتحرق لتحصيل العفو والرضا عنه، ويقرع كل باب ويتوسل بكل ما من شأنه أن يحل هذا الاشكال، ويبادر إلى العمل بكل مايعلم أنه يرضي سيده عنه، فإنه لا يشفع له ولا كرامة..

و - ومن الواضح: أن من يكون جرمه هائلاً وعظيماً فإن إمكانية وفرص الإقدام على الشفاعة له تتضاءل وتضعف..فلا يضع النبي والوصي نفسه في مواضع كهذه ولا يرضى الله سبحانه له ذلك. كما أن من يدير ظهره لأولياء الله ولا يهتم لرضاهم ولا يزعجه سخطهم فإنه لا يستحق شفاعتهم قطعاً، لأن الإهتمام بهم وبرضاهم جزء من عبادته تعالى ومن المقربات إليه وموجبات رضاه.. فالتوسل إليهم والفوز بمحبتهم وبرضاهم سبيل نجاةٍ وطريق هدى وسلامةٍ وسعادة.

ز - إن من الواضح أن المجرم لا يمكن أن يتشفع في مجرم مثله، وأن المقصر لا يتشفع بنظيره، لأن الشفاعة مقامٌ عظيمٌ وكرامةٌ إلهية فلا يقبل الله سبحانه شفاعة كل أحد، بل الذين يشفعون هم أناسٌ مخصصون بكرامة الله سبحانه لأنهم يستحقونها..

ح - قد ظهر مما تقدم: أن إرادة الله لم تكن قد تعلقت بالمغفرة للمذنب قبل الشفاعة لتكون شفاعة النبي أو الوصي بعدها - بالشكل - ومن دون أن يكون لها تسبيب حقيقي.. بل هناك تسبيب حقيقي للشفاعة، فإنها هي سبب المغفرة وهي سبب إرادة الله بأن يغفر لذلك المذنب ولو لم يقم الشافع بها لم يغفر الله لذلك المذنب.

ولولا ذلك فإنه لا يبقى معنى للشفاعة.. ولا يكون العفو إكراماً للشافع واستجابة له. انتهى.

١٧

تعريف الشفاعة في اللغة

- قال الخليل في كتاب العين ج ١ ص ٢٦٠

الشافع: الطالب لغيره، وتقول استشفعت بفلان فتشفع لي إليه فشفعه فيَّ. والإسم: الشفاعة. واسم الطالب: الشفيع. قال:

زعمت معاشر أنني مستشفع

لما خرجت أزوره أقلامها

أي: زعموا أني أستشفع (بأقلامهم) أي بكتبهم إلى الممدوح، لا بل إني أستغني عن كتب المعاشر بنفسي عند الملك. والشفعة في الدار ونحوها معروفة يقضى لصاحبها. والشافع: المعين، يقال فلان يشفع لي بالعداوة، أي يعين علي ويضادني قال النابغة:

أتاك امرؤ مستعلن شنآنه

له من عدوٍّ مثل ذلك شافع

أي: معين. وقال الأحوص: بأنَّ من لامَنِي لأصْرمها كانوا علينا بلومهم شفعواأي: أعانوا.

- وقال الراغب في المفردات ص ٢٦٣

الشفع: ضم الشيء إلى مثله ويقال للمشفوع شفع. والشفع والوتر: قيل الشفع المخلوقات من حيث إنها مركبات كما قال:( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) . والوتر هو الله من حيث إن له الوحدة من كل وجه.

وقيل: الشفع يوم النحر من حيث إن له نظيراً يليه، والوتر يوم عرفة. وقيل الشفع ولد آدم والوتر آدم لأنه لا عن والد.

والشفاعة: الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى. ومنه الشفاعة في القيامة قال:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا .لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ .لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا .وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ. فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) ، أي لا يشفع لهم.( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ .مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ .مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً .وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً ) ، أي من انضم إلى غيره وعاونه وصار شفعاً له أو شفعياً في فعل الخير والشر فعاونه وقواه وشاركه في نفعه وضره.

١٨

وقيل الشفاعة هاهنا أن يشرع الإنسان للآخر طريق خير أو طريق شر فيقتدي به، فصار كأنه شفع له وذلك كما قالعليه‌السلام : من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، أي إثمها وإثم من عمل بها وقوله:ما من شفيع إلا من بعد إذنه ، أي يدبر الأمر وحده لا ثاني له في فصل الأمر إلا أن يأذن للمدبرات والمقسمات من الملائكة فيفعلون ما يفعلونه بعد إذنه. واستشفعت بفلان على فلان فتشفع لي، وشفعه أجاب شفاعته، ومنه قولهعليه‌السلام : القرآن شافع مشفع.

والشفعة: هو طلب مبيع في شركته بما بيع به ليضمه إلى ملكه، وهو من الشفع وقالعليه‌السلام : إذا وقعت الحدود فلا شفعة.

- وقال في المفردات ص ٤٣٦

وأما قوله:من يشفع شفاعة حسنة إلى قوله:يكن له كِفْلٌ منها ، فإن الكفل ههنا ليس بمعنى الأول بل هو مستعار من الكفل وهو الشيء الردي.

- وقال الزبيدي في تاج العروس ج ٥ ص ٢٦٠

وشفعته فيه تشفيعاً حين شفع كمنع شفاعة، أي قبلت شفاعته، كما في العباب قال حاتم يخاطب النعمان:

فَكَكْتَ عديّاً كلها من إسارها

فأفضلْ وشفعني بقيسِ بن جُحْدرِ

وفي حديث الحدود: إذا بلغ الحد السلطان فلعن الله الشافع والمشفع.

وفي حديث أبي مسعود رضي الله عنه: القرآن شافع مشفع وماحل مصدق، أي من اتبعه وعمل بما فيه فهو شافع له مقبول الشفاعة من العفو عن فرطاته، ومن ترك العمل به ندم على إساءته وصدق عليه فيما يرفع من مساويه، فالمشفع الذي يقبل الشفاعة.

والمشفع الذي تقبل شفاعته، ومنه حديث الشفاعة: إشفع تشفع، واستشفعه إلينا، وعبارة الصحاح واستشفعه إلى فلان أي سأله أن يشفع له إليه، وأنشد الصاغاني للأعشى:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً

يا رب جنِّب أبي الأوصاب والوجعا

١٩

واستشفعت من سراة الحي ذا شرف

فقد عصاها أبوها والذي شفعا

يريد والذي أعان وطلب الشفاعة فيها. وأنشد أبو ليلى:

زعمت معاشر أنني مستشفعٌ

لما خرجت أزوره أقلامها

قال زعموا أني أستشفع بأقلامهم في الممدوح أي بكتبهم.

ومما يستدرك عليه الشفيع من الأعداد ما كان زوجاً، والشفع ما شفع به سمّي بالمصدر، وجمعه شفاع، قال كثير:

وأخو الإباءة إذ رأى خلانه

تلي شفاعاً حوله كالإذخر

شبههم بالإذخر لأنه لا يكاد ينبت إلا زوجاً زوجاً. وشاة شفوع كشافع ويقال هذه شاة الشافع كقولهم صلاة الأولى ومسجد الجامع.

وهكذا روى في الحديث الذي تقدم عن سعر بن ديسم رضي الله عنه، وشاة مشفع كمكرم ترضع كل بهيمة، عن ابن الأعرابي. وتشفع إليه في فلان: طلب الشفاعة، نقله الجوهري. وتشفعه أيضاً مطاوع استشفع به كما في المفردات. وتشفع صار شافعي المذهب وهذه مولدة.

والشفاعة ذكرها المصنف ولم يفسرها وهي كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره. وشفع اليه في معنى طلب إليه. وقال الراغب: الشفع ضم الشيَ الى مثله، والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه وأكثر ما تستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى ومنه الشفاعة في القيامة. وقال غيره: الشفاعة التجاوز عن الذنوب والجرائم. وقال ابن القطاع: الشفاعة المطالبة بوسيلة أو ذمام.

تعريف الشفاعة عند المتكلّمين

- قال الشريف المرتضى في رسائله ج ١ ص ١٥٠

وحقيقة الشفاعة وفائدتها: طلب إسقاط العقاب عن مستحقه، وإنما تستعمل في طلب إيصال المنافع مجازاً وتوسعاً، ولا خلاف في أن طلب إسقاط الضرر والعقاب يكون شفاعة على الحقيقة.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

والجواب عن تشبّث الرّازي بترك الجاحظ رواية حديث الغدير من وجوه:

١. الجاحظ من النواصب

إن الجاحظ يعدّ من كبار النواصب لأمير المؤمنين -عليه‌السلام - ومن أنصار المروانية أعداء الامام، حتى أنه ألّف لهم كتاباً في تأييد مذهبهم شحنه كذباً وافتراءً على علي -عليه‌السلام -، وملأه تنقيصاً وتشكيكاً في فضائله ومناقبه وخصائصه، ومواقفه التي لم يشركه فيها أحد من المسلمين، في الدفاع عن الإسلام ونبي الاسلام محمد -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -.

قال ( الدهلوي ): « الجاحظ معتزلي وناصبي معاً، وله كتاب ذكر فيه نقائص أمير المؤمنين، وأكثر رواياته هي عن إبراهيم النظام »(١) .

ثم إن ( الدهلوي ) صرح في باب الامامة من كتابه بأن الطعن في أمير المؤمنين -عليه‌السلام - كفر.

هذا، وقد نص على تأليف الجاحظ الكتاب المشار اليه ابن تيمية الحراني حيث قال بعد كلام له حول مراتب الصحابة:

___________________

(١). حاشية التحفة الاثنا عشرية - مبحث الدلائل العقلية على إمامة أمير المؤمنين.

٢٦١

« فإذا كانت هذه مراتب الصحابة عند أهل السنة، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وهم متفقون على تأخر معاوية وأمثاله من مسلمة الفتح، ممن أسلم بعد الحديبية، وعلم تأخر هؤلاء عن السابقين الأولين أهل الحديبية، وعلم أن البدريين أفضل من غير البدريين، وأن علياً أفضل من جماهير هؤلاء، لم يقدّم عليه أحداً غير الثلاثة، فكيف ينسب إلى أهل السنة تسويته بمعاوية أو تقديم معاوية عليه؟

نعم، مع معاوية طائفة كثيرة من المروانية وغيرهم، كالذين قاتلوا معه وأتباعهم، يقولون إنه كان في قتاله على الحق مجتهداً مصيباً، وإنّ عليّاً ومن معه كانوا ظالمين أو مجتهدين مخطئين، وقد صنّف لهم في ذلك مصنفات مثل كتاب المروانية الذي صنفه الجاحظ »(١) .

وقال ابن تيمية في موضع آخر من كتابه:

« والمروانية الذين قاتلوا علياً وإنْ كانوا لا يكفّرونه، فحجتهم أقوى من حجّة هؤلاء الرافضة، وقد صنف الجاحظ كتاباً للمروانية ذكر فيه من الحجج التي لهم ما لا يمكن للزيدية نقضه، دع الرافضة »(٢) .

فهذا هو حال الجاحظ الذي يتمسك الرازي بتركه رواية حديث الغدير.

٢. أضاليل الجاحظ وردود المفيد عليه

واعلم أن الجاحظ قد أورد في كتابه المذكور عن إبراهيم النظام مطاعن أمير المؤمنين -عليه‌السلام - والعياذ بالله -. وقد أجاب عن تلك المزاعم شيخ الامامية الشيخ المفيد - رحمة الله عليه - في كتابه ( العيون والمحاسن ) الذي اختصره تلميذه الشّريف المرتضى علم الهدى -رحمه‌الله - في كتابٍ أسماه بـ ( الفصول المختارة من

___________________

(١). منهاج السنة ٢ / ٢٠٧.

(٢). المصدر نفسه ٤ / ٧٠.

٢٦٢

العيون والمحاسن )، وقد اعتمد ( الدهلوي ) على تلك الأجوبة فأوردها في ( التحفة ) في الجواب عن الدليل السادس من الأدلة العقلية على إمامة أمير المؤمنين -عليه‌السلام - نقلاً عن النواصب.

ترجمة الشيخ المفيد

والشيخ المفيد من كبار أئمّة الإِمامية، وقد ترجم له علماء أهل السنة:

١ - الحافظ الذهبي: « والشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان البغدادي الكرخي، ويعرف أيضاً بابن المعلّم، عالم الشيعة وإمام الرّافضة وصاحب التصانيف الكثيرة.

قال ابن أبي طي في تاريخ الامامية: هو شيخ مشايخ الطائفة ولسان الإمامية ورئيس الكلام والفقه والجدل، يناظر أهل كلّ عقيدة، مع الجلالة العظيمة في الدولة البويهية، قال: وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس.

وقال غيره: كان عضد الدّولة ربما زار الشيخ المفيد، وكان شيخاً ربعة نحيفاً أسمر، عاش ستاً وسبعين سنة، وله أكثر من مائتي مصنف، كانت جنازته مشهودة، وشيّعه ثمانون ألفا من الرافضة والشيعة، وأراح الله منه، وكان موته في رمضان »(١) .

٢ - اليافعي: « وفيها توفي عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة، شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضاً، البارع في الكلام والجدل والفقه، وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية. قال ابن أبي طي »(٢) .

___________________

(١). العبر - حوادث سنة ٤١٣.

(٢). مرآة الجنان - حوادث سنة ٤١٣.

٢٦٣

٣ - الحافظ ابن حجر: « محمد بن محمد بن النعمان، الشيخ المفيد، عالم الرافضة أبو عبد الله ابن المعلم صاحب التصانيف البدعية وهي مائتا تصنيف، طعن فيها على السلف، له صولة عظيمة بسبب عضد الدولة، شيّعه ثمانون ألف رافضي مات سنة ٤١٣.

قال الخطيب: صنّف كتباً كثيرة في ضلالهم والذب عن اعتقادهم والطعن على الصحابة والتابعين وأئمّة المجتهدين، وهلك بها خلق، إلى أن أراح الله منه في شهر رمضان.

قلت: وكان كثير التقشف والتخشع والاكباب على العلم، تخرّج به جماعة وبرع في أفعاله الامامية حتى كان يقال: له على كل إمامي منة، وكان أبوه مقيماً بواسط وولد المفيد بها وقيل: بعكبرا. ويقال: إن عضد الدولة كان يزوره في داره ويعوده إذا مرض.

وقال الشريف أبو يعلى الجعفري - وكان تزوج بنت المفيد -: ما كان المفيد ينام من الليل إلّا هجعة، ثمّ يقوم يصلي أو يطالع أو يدرّس أو يتلو القرآن »(١) .

ردود الاسكافي على الجاحظ

كما أورد ابن أبي الحديد المعتزلي في ( شرح نهج البلاغة ) طرفاً من تشكيكات الجاحظ في فضائل الامام -عليه‌السلام - ومناقبه وخصائصه التي انفرد بها من بين الصحابة، ككونه أول من أسلم، ومبيته على فراش النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وشجاعته ومواقفه في الغزوات، وغير ذلك، ونقل ردود شيخه أبي جعفر الاسكافي المعتزلي على أضاليله وأباطيله في كتابه ( نقض العثمانية ) فمن أراد الوقوف عليها فليراجع.

___________________

(١). لسان الميزان ٥ / ٣٦٨.

٢٦٤

ترجمة أبي جعفر الاسكافي

وقد ترجم لأبي جعفر الاسكافي - صاحب الرد على الجاحظ -:

١ - السمعاني: « أبو جعفر محمد بن عبد الله الاسكافي، أحد المتكلمين من معتزلة البغداديين، له تصانيف معروفة، وكان الحسين بن علي الكرابيسي يتكلّم معه ويناظره. وبلغني أنه مات في سنة أربعين ومائتين »(١) .

٢ - ياقوت الحموي: « محمد بن عبد الله أبو جعفر الاسكافي، عداده في أهل بغداد، أحد المتكلّمين من المعتزلة، له تصانيف، وكان يناظر الحسين بن علي الكرابيسي ويتكلّم معه. مات في سنة أربع ومائتين »(٢) .

٣ - قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي * وهو صاحب كتاب ( المغني ) ترجم له الأسنوي في طبقاته، فقال: القاضي أبو الحسن عبد الجبار الاسترآبادي، إمام المعتزلة، كان مقلّدا للشافعي في الفروع، وعلى رأس المعتزلة في الأصول، وله في ذلك التصانيف المشهورة، تولى قضاء القضاة بالري، ورد بغداد حاجّاً وحدّث بها عن جماعة كثيرين، توفي في ذي القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة، ذكره ابن الصلاح * إذ قال ابن أبي الحديد ما نصه:

« أبو جعفر الاسكافي، فهو شيخنا محمد بن عبد الله الاسكافي، عدّه قاضي القضاة في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة، مع عباد بن سليمان الصيمري ومع زرقان ومع عيسى بن الهيثم الصوفي، وجعل أول الطبقة ثمامة بن أشرس أبا معن، ثم أبا عثمان الجاحظ، ثمّ أبا موسى عيسى بن صبيح المرداد، ثم أبا عمران يونس بن عمران، ثم محمد بن شبيب، ثم محمد بن إسماعيل العسكري، ثم عبد الكريم بن روح العسكري، ثم أبا يعقوب يوسف بن عبد الله الشحّام، ثم

___________________

(١). الأنساب - الاسكافي.

(٢). معجم البلدان ١ / ١٨١.

٢٦٥

أبا الحسين الصالح، ثم صالح قبة، ثم الجعفران جعفر بن جرير وجعفر بن ميسر، ثم أبا عمران بن النقاش، ثم أبا سعيد أحمد بن سعيد الأسدي، ثم عباد ابن سليمان ثم أبا جعفر الاسكافي هذا.

وقال: كان أبو جعفر فاضلاً عالماً، وصنّف سبعين كتاباً في علم الكلام وهو الذي نقض كتاب العثمانية على أبي عثمان الجاحظ في حياته، ودخل الجاحظ سوق الورّاقين ببغداد، فقال: من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرّض لنقض كتابي - وأبو جعفر جالس -؟ فاختفى منه حتى لم يره، وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد يبالغ في ذلك، وكان علويّ الرأي، محققاً منصفاً، قليل العصبية ».

٣. قال الخطابي: الجاحظ ملحد

ولهذه الأمور وغيرها صرّح الحافظ الخطابي بأن الجاحظ رجل ملحد وهل يستند الى ترك رواية هذا الرجل حديث الغدير للطعن فيه؟

إنّه لا قيمة لكلام هكذا شخص ولا وزن له في معرفة الأحاديث النبوية الشريفة مطلقا

أما كلام الخطابي فقد أورده الشيخ محمد طاهر الكجراتي * المتوفى سنة ٩٨٦، ترجمه الشيخ العيدروس في ( النور السافر عن أخبار القرن العاشر ) في حوادث السنة المذكورة بقوله: « استشهد الرّجل الصّالح العلامة جمال الدين محمد طاهر الملقب بملك المحدثين الهندي – رحمه ‌الله آمين - على يدي المبتدعة من فرقتي الرافضة السّبابة والمهدوية القتّالة وهو الذي أشار إليه النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بالمزية في الرؤيا التي رآها الشيخ علي المتقي السابقة، وناهيك بها من منقبة علية، وكان على قدم من الصلاح والورع والتبحّر في العلم، كانت ولادته سنة ٩١٣، وحفظ القرآن وهو لم يبلغ الحنث، وجدّ في العلم ومكث كذلك نحو خمسة عشر سنة، وبرع في فنونٍ عديدة وفاق الأقران، حتى لم يعلم أن أحداً من

٢٦٦

علماء كجرات بلغ مبلغه في فن الحديث. كذا قال بعض مشايخنا. وله تصانيف نافعة » * في كتابه ( تذكرة الموضوعات ) حيث قال:

« في المقاصد: « اختلاف أمتي رحمة » للبيهقي، عن الضحاك، عن ابن عباس، رفعه في حديث طويل بلفظ: واختلاف أصحابي لكم رحمة، وكذا الطبراني والديلمي والضحاك عن ابن عباس منقطع، وقال العراقي: مرسل ضعيف، وقال شيخنا: إن هذا الحديث مشهور على الألسنة وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في القياس، وكثر السؤال عنه، فزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له. لكن ذكره الخطابي وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ما جن والآخر ملحد، وهما: إسحاق الموصلي والجاحظ، وقالا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، ثم رد الخطابي عليهما »(١) .

و قد نقله الشيخ نصر الله الكابلي أيضاً، حيث قال في ( صواعقه ):

« الثامن - ما رواه البيهقي في المدخل، عن ابن عباس -رضي‌الله‌عنه - انه قال -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -: إختلاف أمتى رحمة. قال شيخ الإسلام شهاب الدين ابن حجر العسقلاني: هو حديث مشهور على الألسنة. وقال الخطابي في غريب الحديث: اعترض على هذا الحديث رجلان أحدهما ما جن والآخر ملحد وهما: إسحاق الموصلي وعمرو بن بحر الجاحظ وقالا جميعاً: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً ».

وفي شرح حديث القرطاس من شرح مسلم للنووي عن الخطابي في الجاحظ إنه « مغموص عليه في دينه ».

ترجمة الخطابي

وقد ذكر الخطابي مترجموه بكل إطراء وثناء، فقد ترجم له:

___________________

(١). تذكرة الموضوعات / ٩٠ - ٩١.

٢٦٧

١ - السمعاني: « أبو سليمان أحمد(١) بن محمد بن ابراهيم بن الخطاب البستي الخطابي، إمام فاضل، كبير الشأن، جليل القدر، صاحب التصانيف الحسنة مثل: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، ومعالم السنن في شرح الأحاديث التي في السنن، وكتاب غريب الحديث، والعزلة، وغيرها. سمع أبا سعيد ابن الأعرابي بمكة، وأبا بكر محمد بن بكر بن داسة التمّار بالبصرة وإسماعيل ابن محمد الصفار ببغداد، وغيرهم. وروى عنه الحاكم أبو عبد الله الحافظ، وأبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي، وجماعة كثيرة.

وذكره الحاكم أبو عبد الله في التاريخ فقال: الفقيه الأديب البستي أبو سليمان الخطابي، أقام عندنا بنيسابور سنين، وحدّث بها وكثرت الفوائد من علومه، وتوفي في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ببست »(٢) .

٢ - ابن خلكان: « كان فقيهاً، أديباً محدثاً، له التصانيف البديعة وكان يشبّه في عصره بأبي عبيد القاسم علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً »(٣) .

٣ - الذهبي ، ووصفه بـ « الفقيه الأديب » وقال: « كان علامة محققاً »(٤) .

٤ - اليافعي ، ووصفه بـ « الامام الكبير والحبر الشهير » قال: « كان فقيهاً أديباً، محدثاً »(٥) .

٥ - الصفدي ، وذكر عن السمعاني قوله: « كان الخطابي حجة صدوقاً » وعن الثعالبي: « كان يشبّه في زماننا بأبي عبيد القاسم بن سلام »(٦) .

___________________

(١). في بعض المصادر اسمه: حمد.

(٢). الأنساب - الخطابي.

(٣). وفيات الأعيان ١ / ٤٥٣.

(٤). العبر - حوادث سنة ٣٨٨.

(٥). مرآة الجنان - حوادث سنة ٣٨٨.

(٦). الوافي بالوفيات ٧ / ٣١٧.

٢٦٨

٦ - الأسنوي: « كان فقيهاً، رأساً في علم العربية والأدب وغير ذلك »(١) .

٧ - ابن قاضي شهبة الأسدي، وأضاف: « ومحلّه من العلم مطلقا ومن اللّغة خصوصاً، الغاية العليا »(٢) .

٨ - السيوطي: « الخطابي الامام العلامة المفيد المحدث الرحّال وكان ثقة ثبتاً [ متثبتاً ] من أوعية العلم »(٣) .

٩ - محمد بن محمد السنهوري الشافعي، وصفه بـ « العلامة الحافظ »(٤) .

١٠ - عبد الحق الدهلوي: « المشار إليه في عصره والعلامة فريد دهره في الفقه والحديث والأدب ومعرفة الغريب، له التصانيف المشهورة والتأليفات العجيبة »(٥) .

١١ - ( الدهلوي )، ذكر النووي البغوي والخطابي وقال: « إنّهم من علماء الشافعية وهم معتمدون جدّاً، وكلامهم متين مضبوط »(٦) .

١٢ - الفخر الرازي، حيث مدحه وأطراه بقوله: « والمتأخرون من المحدثين فأكثرهم علماً وأقواهم قوة وأشدّهم تحقيقاً في علم الحديث هؤلاء وهم:

أبو الحسن الدارقطني، والحاكم أبو عبد الله الحافظ، والشيخ أبو نعيم الاصفهاني، والحافظ أبو بكر البيهقي، والامام أبو بكر عبد الله بن محمد بن زكريا الجوزقي صاحب كتاب المتفق، والامام الخطيب صاحب تاريخ بغداد. والامام أبو سليمان الخطابي الذي كان بحراً في علم الحديث واللغة، وقيل في وصفه: جعل الحديث لأبي سليمان كما جعل الحديد لأبي سليمان، يعنون داود النبي

___________________

(١). طبقات الشافعية ١ / ٤٦٧.

(٢). طبقات الشافعية ١ / ١٥٩.

(٣). طبقات الحفاظ: ٤٠٣.

(٤). التعليق على فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي - مخطوط.

(٥). رجال المشكاة لعبد الحق الدهلوي: ٣٨٤.

(٦). أصول الحديث: ٢٣.

٢٦٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - حيث قال تعالى فيه: وألنّا له الحديد.

فهؤلاء العلماء صدور هذا العلم بعد الشيخين، وهم بأسرهم متفقون على تعظيم الشافعي»(١) .

هذا، وقد اعتمد عليه نصر الله الكابلي في ( صواقعه ) في الجواب عن منع عمر المغالاة في المهر، واصفاً إيّاه بـ « الحافظ ». وكذا ( الدهلوي ) في ( التحفة ) في الجواب عن القضية المذكورة، وحيدر علي الفيض آبادي في كتابه ( منتهى الكلام )(٢) .

٤. آراء العلماء في الجاحظ

ومن المناسب أن نورد هنا طرفاً من كلمات أئمّة الجرح والتعديل في الجاحظ، الصريحة في سقوط الرجل عن درجة الاعتبار، وفي عدم وثوقهم به:

١ - الحافظ الذهبي: « عمرو بن بحر الجاحظ المتكلم صاحب الكتب. قال ثعلب: ليس ثقة ولا مأموناً »(٣) .

٢ - الذهبي أيضاً: « عمرو بن بحر الجاحظ صاحب التصانيف، روى عنه أبو بكر بن أبي داود فيما قيل. قال ثعلب: ليس ثقة ولا مأموناً. قلت: وكان من أئمّة البدع »(٤) .

٣ - الذهبي أيضاً: « الجاحظ العلّامة المتبحر، ذو الفنون، ابو عثمان عمرو ابن بحر بن محبوب البصري المعتزلي، صاحب التصانيف، أخذ عن النظام وروى

___________________

(١). فضائل الشافعي للفخر الرازي: ٦٥.

(٢). وله ترجمة أيضاً في يتيمة الدهر ٤ / ٣٣٤، إنباه الرواة ١ / ١٢٥، معجم الأدباء ٤ / ٢٤٦، شذرات الذهب ٣ / ١٢٧ تذكرة الحفاظ ١٠١٨ المنتظم حوادث ٣٨٨، تاريخ ابن كثير والنجوم الزاهرة في حوادث السنة المذكورة.

(٣). المغني في الضعفاء ٢ / ٤٧١.

(٤). ميزان الاعتدال في نقد الرجال ٣ / ٢٤٧.

٢٧٠

عن أبي يوسف القاضي وثمامة بن أشرس. روى عنه أبو العيناء، ويموت بن المزرع ابن أخته. وكان أحد الأذكياء.

قال ثعلب: ما هو بثقة، وقال: قال يموت: كان جدّه جمالاً أسود. وعن الجاحظ: نسيت نسبي ثلاثة أيام حتى عرفني أهلي.

قلت: كان ماجناً قليل الدين، له نوادر

قلت: يظهر من شمائل الجاحظ أنه يختلق.

قال اسماعيل بن الصفار: أنا أبو العيناء، قال: أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك، فادخلناه على الشيوخ ببغداد، فقبلوه إلّا ابن شيبة العلوي، فإنّه قال: لا يشبه آخر هذا الحديث أوّله.

أخبرنا أحمد بن سلامة كتابة، عن أحمد بن طارق، أنبأنا السلفي، أنبأ المبارك بن الطيوري، أنبأ محمد بن علي الصوري إملاء، أنبأ خلف بن محمد الحافظ بصور، أنبأ أبو سليمان بن زبر، ثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: أتيت الجاحظ فاستأذنت عليه فاطلع عليَّ من كوّةٍ في داره، فقال: من أنت؟ فقلت رجل من أصحاب الحديث، فقال: أو ما علمت أني لا أقول بالحشوية! فقلت إني ابن أبي داود. فقال: مرحباً بك وأبيك، أدخل. فلما دخلت قال لي: ما تريد؟ فقلت تحدثني بحديثٍ واحد. فقال: أكتب: أنبأ حجاج بن المنهال أنبأ حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - صلى على طنفسة فقلت: زدني حديثاً آخر، فقال: ما ينبغي لابن أبي داود أن يكذب.

قلت: كفانا الجاحظ المئونة، فما روى في الحديث إلّا النزر اليسير، ولا هو بمتّهم في الحديث، بلى في النفس من حكاياته ولهجته، فربما جازف، وتلطخه بغير بدعة أمر واضح، ولكنه أخباري علامة صاحب فنون وأدب باهر، وذكاء بين. عفا الله تعالى عنه »(١) .

___________________

(١). سير أعلام النبلاء ١١ / ٥٢٦.

٢٧١

٤ - وقال ابن حجر العسقلاني بترجمته ما ملخصه:

« عمرو بن بحر الجاحظ صاحب التصانيف، روى عنه أبو بكر بن أبي داود فيما قيل: قال ثعلب: ليس بثقة ولا مأمون. قلت: وكان من أئمّة البدع.

قلت: وروى الجاحظ عن حجاج الأعور وأبي يوسف القاضي وخلق كثير وروايته عنهم في أثناء كتابه في الحيوان.

وحكى ابن خزيمة أنه دخل عليه هو وإبراهيم بن محمود. وذكر قصة.

وحكى الخطيب بسند له: أنه كان لا يصلّي.

وقال الصولي: مات سنة خمسين ومائتين.

وقال إسماعيل بن محمد الصفار: سمعت أبا العيناء، يقول: أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك.

وقال الخطابي: هو مغموص في دينه.

وذكر أبو الفرج الاصبهاني أنه كان يرمى بالزندقة، وأنشد في ذلك أشعاراً.

وقد وقفت على رواية ابن أبي داود عنه، ذكرتها في غير الموضع، وهو في الطيوريات.

قال ابن قتيبة في اختلاف الحديث: ثم نصير إلى الجاحظ وهو أحسنهم للحجة استنارة، وأشدّهم تلطّفاً، لتعظيم الصغير حتى يعظم وتصغير العظيم حتى يصغر، ويكمل الشيء وينقصه، فتجده مرة يحتج للعثمانية على الرافضة، ومرة للزندقة على أهل السنة، ومرة يفضّل عليا ومرة يؤخّره، ويقول: قال رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كذا، ويتبعه أقوال المجان، ويذكر في الفواحش ما يجل رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أن يذكر في كتاب ذكر أحد منهم فيه، فكيف في ورقة أو بعد سطر أو سطرين؟ ويعمل كتابا يذكر حجج النصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الرد عليهم تجوز الحجة، فكأنّه إنما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون وتشكيك الضعفة، ويستهزء بالحديث إستهزاءً لا يخفى على أهل العلم، وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوّده المشركون، قال: وقد كان يجب

٢٧٢

أن يبيّضه المسلمون حين استلموه، وأشياء من أحاديث أهل الكتاب، وهو مع هذا أكذب الأمة، وأوضعهم للحديث، وأنصرهم للباطل.

وقال النديم: قال المبرد: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ وإسماعيل القاضي والفتح بن خاقان.

وقال النديم - لما حكى قول الجاحظ لما قرأ المأمون كتبي، قال هي كتب لا يحتاج إلى تحضير صاحبها -: إن الجاحظ حسّن هذا اللفظ تعظيماً لنفسه وتفخيماً لتآليفه. وإلّا فالمأمون لا يقول ذلك.

وقال ابن حزم في الملل والنحل: كان أحد المجّان الضلّال، غلب عليه قول الهزل، ومع ذلك فإنّا ما رأينا في كتبه تعمّد كذبة يوردها مثبتاً لها، وإنْ كان كثير الإِيراد لكذب غيره.

وقال أبو منصور الأزهري في مقدّمة تهذيب اللّغة: وممّن تكلّم في اللغات بما حصده لسانه وروى عن الثقات ما ليس من كلامهم الجاحظ. وكان أوتي بسطة في القول، وبياناً عذباً في الخطب ومجالاً في الفنون، غير أنّ أهل العلم ذمّوه، وعن الصدوق دفعوه.

وقال ثعلب: كان كذّاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس »(١) .

ترجمة أبي منصور الأزهري

والأزهري - الذي قال عن الجاحظ ما نقله الحافظ ابن حجر - هو: محمد ابن أحمد اللغوي من كبار علماء أهل السنة وأئمّتهم:

ترجم له ابن خلكان وقال: « الامام المشهور في اللغة، كان فقيهاً شافعي المذهب، غلبت عليه اللّغة فاشتهر بها، وكان متفقاً على فضله وثقته ودرايته وورعه »(٢) .

___________________

(١). لسان الميزان ٤ / ٣٥٥.

(٢). وفيات الأعيان ٣ / ٤٥٨.

٢٧٣

وقال السبكي: « وكان إماماً في اللغة، بصيراً بالفقه، عارفاً بالمذهب، عالي الاسناد، كثير الورع، كثير العبادة والمراقبة، شديد الإِنتصار لألفاظ الشافعي متحرّياً في دينه »(١) .

وقال اليافعي: « وفيها الامام العلّامة اللغوي الشافعي »(٢) .

وذكره الذهبي في حوادث السنة المذكورة(٣) .

وقال السيوطي: « وكان عارفاً عالماً بالحديث، عالي الاسناد، كثير الورع »(٤) .

ترجمة ثعلب

واما ثعلب - الذي قال عن الجاحظ: « ليس ثقة ولا مأموناً » وقال: « كان كذاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس » - فهو أيضاً من كبار المحدّثين، ومن أساطين الفقه والأدب واللغة

قال السيوطي: « ثعلب الامام المحدث، شيخ اللغة والعربية أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني مولاهم البغدادي، المقدّم في نحو الكوفيين. ولد سنة ٢٠٠، وابتدأ الطلب سنة ١٦ حتى برع في علم الحديث.

وإنما أخرجته في هذا الكتاب لأنه قال: سمعت من عبيد الله بن عمر القواريري ألف حديث.

وقال الخطيب: كان ثقة ثبتاً حجة صالحاً مشهوراً بالحفظ. مات في جمادى الآخرة سنة ٢٩١»(٥) .

___________________

(١). طبقات الشافعية ٣ / ٦٣ - ٦٧.

(٢). مرآة الجنان حوادث ٣٧٠.

(٣). العبر حوادث ٣٧٠.

(٤). بغية الوعاة: ١ / ١٩.

(٥). طبقات الحفاظ ٢٩٠.

٢٧٤

وترجم له السيوطي أيضاً ترجمة حافلة ووصفه فيها بـ « الامام » وأورد كلمات العلماء في حقه وقال: « قال أبو بكر بن مجاهد: قال لي ثعلب: يا أبا بكر اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واصحاب الحديث بالحديث ففازوا، وأصحاب الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ما ذا يكون حالي. فانصرفت من عنده فرأيت النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في تلك الليلة فقال لي: إقرأ أبا العباس منّي السّلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل ».

قال السيوطي: « وذكره الداني في طبقات القراء »(١) .

وقال ابن خلكان: « كان إمام الكوفيين في النحو واللغة وكان ثقة حجة صالحاً مشهوراً بالحفظ وصدق اللهجة، والمعرفة بالعربية ورواية الشعر القديم مقدماً عند الشيوخ منذ هو حدث. فكان ابن الأعرابي إذا شك في شيء قال له: ما تقول يا أبا العباس في هذا؟ ثقة بغزارة حفظه...»(٢) .

وقال اليافعي: « وفي السنة المذكورة توفي الامام العلامة الأديب أبو العباس المشهور بثعلب صاحب التصانيف المفيدة، إنتهت اليه رئاسة الأدب في زمانه وكان ثقة صالحاً، مشهوراً بالحفظ وصدق اللهجة ...»(٣) .

وترجم له الحافظ الذهني، وذكر أنه سمع من عبيد الله القواريري وطائفة »(٤) .

وكذا ترجم له ابن الوردي في تاريخه(٥) .

وقال النووي بترجمته ما ملخصه:

« ثعلب مذكور في باب الوقف من المهذّب والوسيط، هو الامام المجمع على

___________________

(١). بغية الوعاة ١ / ٣٩٦ - ٣٩٨.

(٢). وفيات الاعيان ١ / ١٠٢ - ١٠٤.

(٣). مرآة الجنان حوادث سنة ٢٩١.

(٤). العبر - حوادث سنة ٢٩١.

(٥). تتمة المختصر - حوادث سنة ٢٩١.

٢٧٥

إمامته، وكثرة علومه وجلالته، إمام الكوفيين في عصره لغةً ونحواً، وثعلب لقب له. قال الامام أبو منصور الأزهري في خطبة كتابه تهذيب اللغة: أجمع أهل هذه الصناعة من العراقيين أنه لم يكن في زمن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وأبي العباس محمد بن يزيد المبرد مثلهما، وكان أحمد بن يحيى أعلم الرجلين وأورعهما وأرواهما للّغات والغريب، وأوجزهما كلاماً وأقلّهما فضولاً »(١) .

أقول: فهذا رأي علماء أهل السنّة وأئمّة الجرح والتعديل في الجاحظ، فهل يليق بالرازي أن يستند إلى ترك هكذا شخص رواية حديث الغدير، ويستدل بذلك على عدم صحته؟

٥. اتصاف الجاحظ بالصفات الذميمة

والجاحظ - بالاضافة إلى ما تقدم - متصف بصفات ذميمة وأعمال قبيحة تسقطه عن درجة الاعتبار، ولا تدع مجالاً للتوقف في عدم جواز الاعتماد على كلامه في رواية أو قدحه في حديث:

فمن ذلك: أنه كان لا يصلي وقد ذكر ذلك في ترجمته من كتاب ( لسان الميزان ).

ومن ذلك: أنه كان كذّاباً وقد تقدم ذلك أيضاً في ( لسان الميزان ).

ومن ذلك: انه كان مختلفاً وقد صرح بذلك الحافظ الذهبي.

بل ذكر جماعة من علمائهم وضعه - مع أبي العيناء - حديث فدك، وممن ذكر ذلك سبط ابن العجمي في ( الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث ) والسيوطي في ( تدريب الراوي ) وابن الأثير في ( جامع الأصول ).

ومن ذلك: أنه كان كثير الهزل نص على ذلك ابن الوردي وغيره.

ومن ذلك: انه كان يستمع إلى الغناء ويجتمع بالمغنيات، وذكر ذلك ابن

___________________

(١). تهذيب الأسماء واللغات للنووي ٢ / ٢٧٥.

٢٧٦

خلكان واليافعي في تاريخيهما.

٦. الآثار المترتبة على الاعتماد على الجاحظ

وأخيراً، فإن الاعتماد على الجاحظ في الروايات والأخبار، والدفاع عنه ونفي عداوته للإمام أمير المؤمنين -عليه‌السلام ، وتنزيهه عمّا نسب اليه، يؤدّي إلى وقوع أهل السنة في إشكال قوي يصعب بل يستحيل التخلّص منه

وبيان ذلك: انه قد ثبت أن الجاحظ كان يتبع شيخه إبراهيم النظّام في جميع أقو اله وآرائه وما كان يدين به وقد ثبت أيضاً أن النّظام كان يعتقد بإسقاط عمر بن الخطاب جنين فاطمة الزهراء -عليها‌السلام - وبغير ذلك من الأمور التي لا يرتضيها أهل السنة عامة كما جاء في ترجمته من كتاب ( الوافي بالوفيات ).

وقد صرح باقتفاء الجاحظ أثر النّظام في جميع مقالاته جماعة من الأعلام كاليافعي وابن الوردي وابن خلكان.

فلو جاز للفخر الرازي أن يستدل بترك الجاحظ رواية حديث الغدير - أو قدحه فيه - جاز للامامية الاستدلال بكلام شيخه النظّام في باب الطعن في عمر ابن الخطاب وخلافته

ولقد اعتمد ( الدهلوي ) تبعاً لابن حزم على كلام النظّام في الطعن في مؤمن الطاق -رحمه‌الله تعالى - وهكذا استشهد الحافظ ابن حجر في ( لسان الميزان ) بأشعار النظّام التي أنشدها في ذمّ أبي يوسف يعقوب بن ابراهيم القاضي - تلميذ أبي حنيفة - على قبره.

فإنْ قيل: ذمُّ النظام أبا يوسف القاضي غير مسموع، لذمّ العلماء النظّام وقدحههم فيه، كما في ( الأنساب ) و ( لسان الميزان ) و ( الوافي بالوفيات ) وغيرها

قلنا: إن هذا إنّما يتوجه فيما إذا لم يركن العلماء إلى أقواله، ولم يعتمد المحدّثون على مقالاته، ولم يبذلوا قصارى عهدهم في الدفاع عن تلميذه

٢٧٧

الجاحظ الأخذ بأقواله والمقتفي لآثاره، والناقل عنه وجوه المناقشة في فضائل مولانا أمير المؤمنين -عليه‌السلام -.

وإذا كان الجاحظ معتمداً عليه كما يدل عليه صنيع الرازي فقد ثبت ان الجاحظ قد انتقد أبا بكر وعمر على منعها ميراث فاطمة الزهراء من أبيها رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وظلمهما لها وتعدّيهما عليها في كلام طويل له في الموضوع، ذكره الشريف المرتضى -رحمه‌الله - حيث قال:

« فإنْ قيل: إذا كان أبو بكر قد حكم بخطأ في دفع فاطمة -عليها‌السلام - عن الميراث واحتج بخبر لا حجة فيه، فما بال الأمّة أقرّته على هذا الحكم ولم تنكر عليه؟ وفي رضائها وإمساكها دليل على صوابه.

قلنا: قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا، إلّا في المواضع التي لا يكون له وجه سوى الرضا، وبيّنا في الكلام على إمامة أبي بكر هذا الموضع بياناً شافياً.

وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال، جواباً جيّد المعنى واللفظ، نحن نذكره على وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها.

قال: وقد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما - يعني أبا بكر وعمر - في منع الميراث وبراءة ساحتهما: ترك أصحاب رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النكير عليهما.

ثم قال: فيقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلاً على صدقهما، ليكوننّ ترك النكير على المتظلمين منهما والمحتجين عليهما والمطالبين لهما دليلاً على صدق دعوتهم واستحسان مقالتهم، لا سيّما وقد طالت به المناجاة وكثرت المراجعة والملاحاة، وظهرت الشكية واشتدّت المواجدة، و قد بلغ ذلك من فاطمة حتى أنها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر، ولقد كانت قالت له حين أتته طالبة حقها ومحتجة برهطها:

٢٧٨

من يرثك يا أبا بكر إذا متَّ؟

قال: أهلي وولدي.

قالت: فما بالنا لا نرث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

فلمّا منعها ميراثها وبخسها حقّها واعتلّ عليها وحلج في أمرها، وعاينت التهضم وأيست من النزوع، ووجدت من الضعف وقلة الناصر، قالت:

و الله لأدعونَّ الله عليك.

قالت: والله لأدعونَّ الله لك.

قالت: والله لا أكلمّك أبداً.

قال: والله لا أهجرك أبداً.

فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلاً على صواب منعه، إنّ في ترك النكير على فاطمة دليلاً على صواب طلبها، وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت، وتذكيرها ما نسيت، وصرفها على الخطأ، ورفع قدرها عن البذاء، وأن تقول هجراً وتجور عادلاً وتقطع واصلاً، فاذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعاً فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب، والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم، أوجب علينا وعليكم.

وإنْ قالوا: كيف يظنّ بأبي بكر ظلمها والتعدي عليها، وكلّما ازدادت فاطمة عليه غلظة ازداد لها ليناً ورقة، حيث يقول: والله لا أهجرك أبداً ثم تقول: والله لأدعونَّ الله عليك، فيقول: والله لأدعونَّ الله لك!؟ ولو كان كذلك لم يحتمل هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة بحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والرفعة، وما يجب لها من التنزيه والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذراً ومتقرّباً بالكلام المعظّم لحقّها المكرّم لمقامها، والصائن لوجهها والمتحنّن عليها: ما أحد أعن به عليَّ منك فقراً، ولا أحب إليّ منك غنى، ولكني سمعت رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يقول: إنا معشر الأنبياء لا نرث ولا نورّث ما تركناه صدقة.

٢٧٩

قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من العمد، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً وللخصومة معتاداً أن يظهر كلام المظلوم وذلّة المنتصب وحدب الوامق ومقة المحق.

وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ودلالة واضحة، وقد زعمتم أن عمراً قال على منبره: « متعتان كانتا على عهد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - متعة النّساء ومتعة الحج وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما » فما وجدتم أحداً أنكر قوله، ولا استشنع مخرج نهيه، ولا خطّئه في معناه، ولا تعجّب منه ولا استفهمه؟

وكيف تقضون بترك النكير وقد شهد عمر يوم السّقيفة وبعد ذلك: أنّ النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: « الأئمّة من قريش » ثمّ قال في شكاته: ولو كان سالم حيّاً ما تخالجني فيه شك - حين أظهر الشك في استحقاق كلّ واحد من الستّة الذين جعلهم شورى - وسالم عبد لامرأةٍ من الأنصار، وهي أعتقته وحازت ميراثه، ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر ولا قابل إنسان بين خبريه ولا تعجّب منه؟

وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة له ولا رهبة عنده، دليلاً على صدق قوله وصواب عمله، فأمّا ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي، والقتل والاستحياء، والحبس والاطلاق، فليس بحجّة نفي ولا دلالة ترضيّ.

قال: وقال آخرون: بل الدليل على صدق قولهما وصواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما، وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل وردّ المنصوص، ولو كانا كما يقولون وما يصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلّا كسبيلهم فيه، وعثمان كان أعزّ نفراً وأشرف رهطاً وأكثر عدداً وثروة وأقوى عدّة.

قلنا: إنّهما لم يجحدا التنزيل ولم ينكرا المنصوص، ولكنّهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة، إدّعيا رواية وتحدّثا بحديثٍ لم يكن مجال كذبه ولا يمتنع في حجج العقول مجيؤه، وشهد له عليه من علمه مثل علمهما فيه، ولعلّ بعضهما كان يرى التصديق للرجل إذا كان عدلاً في رهطه، مأموناً في

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491