التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام16%

التربية والتعليم في الإسلام مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 221

التربية والتعليم في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166992 / تحميل: 9375
الحجم الحجم الحجم
التربية والتعليم في الإسلام

التربية والتعليم في الإسلام

مؤلف:
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

غفر اللهُ لك».

وتدلُ هذه الحادثة على عظمة الإمام، وسموّ شخصيّته، وعمق البعد النفسي لها من خلال ما أبداه من ردّ فعل تجاه هذا الرجل، كما تدل على المدى البعيد الذي بلغه في كبح جماح نفسه، والتحكّم بعواطفه.

البُعد الاجتماعي

يحظى البعد الاجتماعي لشخصيّة الإنسان بأهميّة خاصّة. وكما نعلم فإنّ الإنسان حيوان اجتماعي، وإنسانيّته تَبَع للبعد الاجتماعي من حياته إلى حدّ بعيد. فلغته، وإدراكه، وقوّة تفكيره، وكيفيّة تعبيره عن عواطفه وتحكّمه بها، وثقافته، وحضارته، أمور تقع تحت تأثير الحياة الجماعية. والتيارات الاجتماعية من نحو: التكييف أو الانسجام والتفاهم، والتعاون، والمعارضة، والوفاق أو الاتّفاق، والتعايش بين الأُمم والشعوب، تشكّل الركائز الأصلية للحياة الجماعية.

إنّ التيّار الجماعي يمثّل حالة يتآصر فيها الفرد والجماعة معاً، وهذه الآصرة تحدث تبدّلاً مستساغاً، تتيسّر الحياة الجماعية للناس في ظلّه.

إنّ أهمّ التيّارات الجماعية هي: التكييف الاجتماعي، والتعاون، والمعارضة، والوفاق، والتشابه.

التكييف الاجتماعي(*)

ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار عدداً من الملاحظات في التكييف الاجتماعي.

____________________

(*) ورد هذا العنوان في كتاب آخر للمؤلف عنوانه (مباديء التربية والتعليم وفلسفتهما)، وذكر معه ما يقابله بالإنجليزية (Social adjustment) وبناء على هذا الاصطلاح الإنجليزي، فإنّه اصطلاح نفساني يعني: (التوافق الاجتماعي) لكن بما أنّ التوافق سيأتي أيضاً ضمن التيارات الجماعية وعرّبناه: الوفاق أو الاتفاق، لذلك آثرنا أن يكون تعريب هذا الاصطلاح هنا (التكييف الاجتماعي) لمناسبته مع الموضوع.

٦١

الأُولى: يجب أن يعيش أفراد النوع الإنساني جنباً إلى جنب، سواء كانوا في شرائح اجتماعية صغيرة، أو في مجتمع خاص، أو في المجتمع الإنساني الكبير. فوجود التفاهم والإنسجام بين الأشخاص والأُمم والشعوب ضروري لمواصلة الحياة الإنسانية. الثانية: لابُد للمرء في التكيّف الاجتماعي أن يتمرّس على عادات ومهارات ضرورية من أجل المساهمة في الحياة الاجتماعية. هذا من جانب، ومن جانب آخر، عليه أن يترك قسماً من عاداته، أو يجعل ميوله ورغباته الشخصيّة تحت ظلّ المصالح الجماعية كي يتسنى له العيش مع الجماعة. الثالثة: لا يعني التكيّف الاجتماعي الاستسلام أو الخضوع أمام الجماعة، أو الإقرار بالوضع القائم. وكما قلنا فيما سبق، فإنّ الإنسان شخص يعيش مع الجماعة، ومدلول هذه العبارة هو أنّ الإنسان، وهو يعيش مع الآخرين، لا يفقد استقلاليّته وهويّته. بكلمة بديلة، إنّ الإنسان، وهو يحافظ على خصائصه الفردية، يعيش التفاهم والوحدة مع الآخرين. ولابد أن يظلّ حرّاً حتى يتسنّى له تحديد الهدف، واختيار النهج المناسب، والتعامل مع المشاكل على أساس تجاربه وامكانياته، عند ذلك يستطيع أن يستعمل قدرته الابداعية ويأتي بأشياء جديدة. في الآن ذاته، فإنّ الحياة الجماعية تتطلّب منه أن ينسجم مع الآخرين، ويستعذب الحياة معهم.

إنّ المسائل المشتركة، والحاجات الاجتماعية الأساسية، ومواصلة الحياة الجماعية، أمور تقتضي الوحدة والانسجام بين الفرد والجماعة. وقد ورد التأكيد في الإسلام على وحدة المسلمين، حيث جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:

٦٢

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا.. ) ، (آل عمران: ١٠٣).

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.. ) ، (الحجرات: ١٠).

( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ.. ) ، (التوبة: ٧١).

( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.. ) ، (الحجرات: ١٣).

التعاون

إنّ أحد التيارات الأساسية في الحياة الإنسانية هو التعاون، وهودعامة جوهرية فيها، وشرط أصلي من شروط الحياة الجماعية مهما كانت الظروف والأحوال، قال تعالى:

( .. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى‏.. ) ، (المائدة: ٢).

وتشكّل وحدة الهدف، وتقسيم العمل، وتقبّل المسؤولية، والتنسيق بين النشاطات، وتمتع الناس كافّة بالعمل الجماعي، العناصر الأصلية للتعاون. بكلمة بديلة، يجب أن يكون هناك هدف مشترك للأشخاص الذين يعيشون مع الجماعة. وليس ثمّة شك في أنّ الحاجات المشتركة تتمحّض أهدافاً متماثلة. ففي الحياة الجماعية، ينبغي لكل أحد أن يضطلع بالمسؤولية وفقاً لاستعداده. وإنّ تقسيم الأعمال، والاضطلاع بالمسؤولية شرطان لمواصلة الحياة الجماعية مبدئيّاً. في الآن ذاته يجب أن تكون ممارسات ونشاطات الأفراد، والشرائح الاجتماعية متناسقة في تيّار التعاون - بعامّة - وفي الحياة الجماعية. وإذا شيّد أفرادُ مجتمع من المجتمعات أساس حياتهم على التعاون، فإنّ الجميع سيقطفون ثمار الممارسات والنشاطات الجماعية.

وقد عَدَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الالتزام الاجتماعي والقيام بالمسؤولية، من شروط الإسلام، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

٦٣

«من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم».

عادة، ثمّة فريق من الناس لا يهتم بالحياة الجماعية، ويتنصّل عن رسالته أمام المجتمع. ويتصوّر هؤلاء أن الاهتمام بالحياة الخاصّة وتنظيمها، وعلاج المشاكل الشخصية من واجباتهم الأصلية، كما يرون أنّ الحياة الجماعية مجموعة من الحياة الخصوصية للأفراد، لذلك إذا قام كل فرد ببذل جهده في تنظيم عمله، وبادر إلى علاج مشاكله بنفسه، فلا تعد هناك مشكلة تذكر في المجتمع.

بيد أنّ للحياة الجماعية أيضاً حالتها الخاصّة بها، إذ أنها - بمعزل عن الحياة الفردية - تحمل معها مشاكل ومصاعب تخصّها. فكلّ وحدة اجتماعية - مهما كانت ضئيلة الحجم - تطرح مسائل وقضايا متميّزة عن مسائل الأفراد وقضاياهم. وفي واقعنا المعاصر يثار سؤال مفاده: من الذي يأخذ على عاتقه علاج المشاكل الاجتماعية؟ فلو قام جميع الأشخاص بعلاج مشاكلهم الخاصّة بهم فقط، فإنّ المشاكل الاجتماعية العامّة ستظلّ مستعصية، كما أنّهم سيحدثون خللاً في الحياة الجماعية.

وبسبب الأهميّة التي يحظى بها هذا البعد من حياة الإنسان، ورد التأكيد في الإسلام على أمور، نحو: التعاون، والصفح، والعدالة، والأخوّة، والمساواة أمام القانون، وأمور مماثلة.

المعارضة

ثمّة تيّار آخر من التيارات الاجتماعية هو اختلاف الأفراد - أو المعارضة المبدئية - فيما بينهم في المجتمع. وكما نعلم، فإنّ أفراد النوع الإنساني يتفاوتون فيما بينهم من حيث الخصائص النفسية، والتجارب الاجتماعية، والإمكانيات والاختصاصات. وهذا الاختلاف يفضي إلى حلول متنوّعة يقدّمها الأشخاص لعلاج مختلف المشاكل. وتتحقق تلبية الحاجات الاجتماعية بطرق متنوعة، فينبغي

٦٤

أن تُتْرك الحرية للأشخاص كي يتسنى لهم تقديم الأسلوب الكفيل بتلبية الحاجات. وعلى هذا النمط يطرحون آراء متباينة حول مختلف الأمور، علماً بأنّ الاختلاف في وجهات النظر - من جهة - أمر طبيعي، إذ يتيح الفرصة للأشخاص أن يتناموا حسب استعداداتهم ليؤدّوا دورهم في الحياة الجماعية. مضافاً إلى ذلك، فإنّ ترك الأشخاص أحراراً في طرح عقائدهم المتنوّعة يمهّد السبيل لتقديم آراء ونظرات جوهرية. بكلمة بديلة، عندما يكون الأشخاص أحراراً، ويستعملون عقولهم، فإنّهم يستطيعون أن يقدّموا حلولاً متنوّعة لاجتثاث جذور المشاكل القائمة، ومن بين هذه الحلول يمكن العثور - غالباً - على الأساليب الجوهرية للتعامل مع المشاكل.

ولابدّ من التفريق هنا بين المعارضة المبدئية، وبين المشاكسة، وتتبّع العثرات، والتعييب، والتهجّم على الآخرين، وإثارة العداء والتفرقة.

عندما تُطرح مشكلة في المجتمع، فيمكن أن يتصدّى المسؤولون أو ذووالعلاقة - ممّن لهم تماس مباشر مع المشكلة - إلى تقديم علاج معيّن لحلّها. وقد لا يتّفق المرء مع هذا العلاج، ولديه دليل مخالفته. فالانفتاح على مثل هذا الأمر، وإتاحة الفرصة لتقديم خطط متنوّعة، وتبادل وجهات النظر ومناقشتها بحريّة، كل ذلك يمهّد الطريق للظفر بأفكار ونظريات جديدة. وما على الأشخاص إلاّ مناقشة النظريات المتنوّعة ودراستها، ومن ثمّ قبول ما هو منطقي منها. قال تعالى:

( فَبَشّرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.. ) ، (الزمر: ١٧ - ١٨).

ويجب أن يكون أسلوب المعارضة، وتبادل وجهات النظر ومناقشتها، منطقيّاً وإنسانيّاً. في هذا المجال، فإنّ في الآية التالية توجيهات جمّة. قال تعالى:

( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) ، (النحل: ١٢٥).

٦٥

الوفاق

وهو تيّار اجتماعي يطمح أشخاصه إلى تقليص تضادّهم أو اختلافاتهم. ومن الصعوبة بمكان - أحياناً - أن يقبل الأشخاص آراء بعضهم البعض، ففي مثل هذه الحالة يعزم الطرفان المتباحثان أو المتنازعان على إحلال الوفاق بينهما محل الاختلاف. وقد أكّد الشارع المقدّس على الإصلاح بين إخوة الدين، قال تعالى:

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ.. ) ، (الحجرات:١٠).

العلاقات مع الآخرين

حثّ الإسلام - بعامّة - أتْباعَه على التعايش، وحسن المعاشرة. جاء في الآية الثامنة من سورة الممتحنة، قوله تعالى:

( لَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ ) .

فقد ورد التأكيد بصراحة على التعايش مع الآخرين. وعندما أوصى الإمام عليعليه‌السلام مالك الأشتر (رضي الله عنه) بالإحسان إلى الآخرين، أكّد عليه أن لا يفرّق بين الأخ في الدين والنظير في الخَلْق. وتقدّم لنا الآية الكريمة التالية، مسألة التفاهم والانسجام بين الشعوب، فتقول:

( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.. ) ، (الحجرات: ١٣).

التربية البدنية

بالرغم من أنّ الإسلام أكّد على وجوب تأمين كل ما هو ضروري لمواصلة الحياة الطبيعية، بيد أنّه أوصى أيضاً بالمحافظة على سلامة البدن، وله تعليماته المبثوثة في القرآن الكريم، والأخبار الواردة في هذا المجال.

٦٦

كما تقدّم الكلام فيما مضى، فإنّ للسمع والبصر دوراً أساسياً، كدور العقل في دراسة الكون، والتعرف على الأمور المختلفة. بكلمة بديلة، يتحقق النشاط البدني (الجوارح) بنفس الشكل الذي يتحقق فيه النشاط العقلي، وذلك من خلال التعرف على الكون ودراسته.

وقد أوصى الإسلام بمزاولة رياضات تخصّ تربية البدن، من نحو: الرماية، وركوب الخيل.

الثالثة: البُعد الحركي

تتمتع مفردة الحركية باعتبار خاص من بين المفردات الكثيرة، وتستعمل هذه المفردة في علم الاجتماع بكثرة، فالمجتمعات الحركية هي المجتمعات التي تعيش في تبدل وتطور دائبين، أمّا المجتمعات التي تفقد صفة الحركية، ولا تحدث فيها تبدّلات وتطوّرات أساسية، فهي مجتمعات ساكنة أو متوقفّة.

تستعمل هذه المفردة - أحياناً - فيما يخصّ المدارس الفكرية، أو أساليب نظام من الإنظمة، فالمدرسة القابلة للتبدّل والتطور أو المرنة، تعتبر مدرسة متطوّرة أو حركية. وتتّصل حركية أُسلوب من الأساليب بمرونته.

تنبثق المدرسة أو النظام من مبادئ أو أُسس، وأهداف، وأساليب، ومحتوى خاص. وفي مدرسة من المدارس أو نظام فكري من النظم، تأخذ المبادئ، والأهداف، والأساليب، والمحتوى مكانها في خطّة واحدة بشكل منطقي. وعلاقة هذه الأمور بعضها مع البعض، ومع النظام كلّه علاقة ذات جوانب متعدّدة. وتتأثّر أجزاء نظام من النظم بعضها ببعض: فكلّ جزء يؤثّر على الجزء الآخر، وهو نفسه يقع تحت تأثير الأجزاء الأخرى. وهذا التأثير المتبادل أو ذو الجوانب المتعدّدة قائم بين النظام بمجموعه وبين كلّ جزء من أجزائه.

يعبّرون عن هذه العلاقة - أحياناً - بأنّها علاقة عضوية أو حيوية. وكلّما كان

٦٧

هناك تنسيق أكثر بين أجزاء النظام الواحد، وكذلك بين كل جزء وبين النظام بمجموعه، فإنّ تماسك ذلك النظام سوف يكون أكثر. وحركية نظام من الأنظمة جديرة بالملاحظة لسببين: أحدهما: داخلي، والآخر: خارجي. ففيما يخصّ السبب الداخلي، لا نعبّر عن نظام بأنّه نظام حركي إلاّ إذا كانت لمبادئه وأهدافه وأساليبه ميزات خاصّة. على سبيل المثال، ينبغي أن تكون المبادئ شاملة، أو أنّها تستوعب جوانب مختلفة، وكذلك تكون الأهداف موسّعة ومنميّة، والأساليب مرنة وقابلة للتطبيق في حالات متنوّعة.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ الحركية الداخلية لنظام من النظم ترتبط بكيفيّة اتّصال أجزائه أو أركانه أيضاً. فإذا كانت المبادئ، والأهداف، والأساليب متناسقة فيما بينها، ويكمّل أحدها دور الآخر في تطبيق النظام، فإنّ حركية النظام سوف تزداد في هذه الحالة.

وتتجلّى حركية كل نظام من الناحية الخارجية من خلال تأثير هذا النظام ودوره في الأمور الأخرى. وعندما نتحدث عن نظام فكري أو تربوي، فعلينا أن نلحظ كيف يكون موقفه من الإنسان؟ على سبيل المثال، هل إنّ هذا النظام مؤثّر في تطوّر الإنسان؟ هل يعزّز علاقات الأفراد والمجتمعات الإنسانية؟ هل هو قادر على علاج مشاكل بني الإنسان؟ هل ينظّم علاقة الإنسان والكون بشكل منطقي؟ هل يجعل علاقات الأفراد والمجتمعات الإنسانية بشكل لا تكون فيه صالحة للاستمرار والبقاء فحسب، بل لها دورها في تحسين وضع الفرد والمجتمع وتطوّرهما أيضاً؟

فالحركية الداخلية، والحركية الخارجية لنظام من النظم غير منفصلتين عن بعضهما، ويستطيع النظام أن يؤدّي دوره بالنسبة إلى الإنسان في وقت تكون فيه مبادؤه وأسسه ذات شمولية كافية، وأهدافه موسّعة ومنميّة، وأساليبه صالحة للتطبيق في حالات متنوّعة.

إنّ حركية كل نظام ترتبط بالبعد العقلي لذلك النظام إلى حدّ بعيد. والقصد

٦٨

من البعد العقلي هو قابليّة النظام للمناقشة والدراسة المنطقية، ومجاراته للتفكير الصحيح. وكلّما كانت أُسس نظام من الأنظمة قابلة للتسويغ والتبرير من الناحية العقلية أو المنطقية، فإنّ ذلك النظام يتّسم بالحركية بنفس ذلك الحجم.

وكما نعلم، أنّ النظام الفكري للإسلام نظام توحيدي يشكّل الاعتقاد بالله ركيزته ودعامته. وما يلحظ بخصوص قضية الله في تاريخ الحياة الفكرية للإنسان هو طرح هذا الاعتقاد من قبل مختلف الفئات. ففي تاريخ الفلسفة، نلتقي نماذج لها نزعات متنوّعة، بيد أنّها تطرح ضرورة وجود الله في تفسير قضيّة الخلق، وتطوّر الكائنات، وعلاقة هذه الكائنات فيما بينها، وعلاقة الإنسان بالكون. مضافاً إلى الفلاسفة، فإنّ كثيراً من العلماء آمنوا بوجود الله من باب تفسير قضية خلق الكون، وتسويغ النظام المسيطر عليه أيضاً. ومن توخّى دراسةً أكثر لهذا الموضوع، فله مراجعة كتابي (نقد الفلسفة الماديّة الديالكتيكيّة وخصائص النظام التوحيدي).

ليس الاعتقاد بالله ذا بعد عقلي فحسب، بل هو العامل الموحّد بين الكائنات. وكذلك يربط بين الإنسان والكون، والإنسان وأخيه الإنسان. والله - تعالى - بوصفه الوجود المطلق، هو مظهر العلم والحكمة، والقائم بالقسط، ومصدر القدرة، وإليه تصير الأُمور. والإنسان يعيش في حركة نحو الله، وفي مسيرته هذه، يشكّل الكمال المعنوي، والتقوى، والدعوة إلى العدالة، وحب الناس، أهدافه الجوهرية.

إنّ الكمال المعنوي في مجال معرفة خالق الكون أكثر فأكثر، والتقوى في مجال تطوّر شخصيّة الإنسان وتحكمّه بنفسه، والدعوة إلى العدالة في مجال اجتثاث جذور الظلم والاستغلال، وحبّ الناس في قالب الإيثار ونكران الذات، وتعزيز العلاقات الإنسانية، كل تلك الأشياء توجّه ممارسات المسلمين وأعمالهم على امتداد حياتهم.

إنّ تنوّع الأساليب في الإسلام يمنح نظامه الفكري مرونة خاصّة. وإنّ التزام المنهج العقلي في كافّة الجوانب الدينيّة، والتأكيد على استعماله في جميع ميادين الحياة مشفوعاً بأساليب من نحو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثواب

٦٩

والعقاب، والترغيب في دراسة مصير الماضين، والموعظة والنصيحة، كل ذلك يُظهر البعد الحركي للنظام الإسلامي.

كما قلنا - فيما مضى - فإنّ الاعتقاد بالله ينبع من التأمل والتفكر في الخلق. والكمال المعنوي، والتقوى، والدعوة إلى العدالة، ونكران الذات، أهداف موسعة لاتحدّ من نموّ الإنسان فحسب، بل توفّرله متطلّبات تكامله وتطوّره.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ الاعتقاد بالله، بوصفه ركيزة منطقيّة قويّة، يوجّه الإنسان نحو الأهداف المذكورة باطمئنان بالغ.

إنّ النظام التوحيدي يطبع حياة الإنسان بطابع سرمدي، من خلال ربطه بالله، وينير في قلبه جذوة الأمل، ويضمن تحرّكه صوب الكمال.

الرابعة: البُعد العقلي

إنّ الإسلام - وهو يتحدّث حول المحبّة، والأُخوّة، والعدالة، والمساواة، ونكران الذات، والتقوى، والكفاح والجهاد في سبيل الحق، والتضامن مع المستضعفين - يهتمّ بالبعد العقلي للنظام الفكري أكثر من المدارس الفكرية الأخرى. ومع أنّ حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام تمثّل الإيمان، ونكران الذات، والتقوى، والدعوة إلى العدالة، وحب الناس، ورفض الفساد والظلم. بيد أنّهم يُعدّون في قائمة كبار حكماء العالم وعقلائه، حيث يبرز الاتّجاه العقلي في اعتقاداتهم، ووصاياهم، وجهادهم، وكذلك في تعاليمهم بكلّ وضوح.

إنّ التوكّؤ على العقل، ودعم الاتّجاه العقلي من خصائص التربية الإسلامية. ونحن نعلم بأنّ على المسلم ان يذعن لمبادئ اعتقاداته وأُسسها عن طريق العقل. وكلّما نلتقي بمدرسة من المدارس الاجتماعية الموجودة نجدها تؤكّد على أتباعها بصراحة أن يذعنوا لأُسسها وتعليماتها عن طريق الدراسة العقلية. وهذا الاتّجاه هو

٧٠

أحد أمارات الحسّ الحركي في الإسلام، فما يدفع الفكر إلى الجدّ والسعي، ويشيد الأساس على التفكير، فهو ذو بعد حركي. وقد وضّحنا - فيما مضى - أهميّة العقل والتعقل في الإسلام عند حديثنا حول البعد العقلي في شخصية الإنسان، وذلك في موضوع البعد الإرشادي للإسلام. أمّا حديثنا هذا فهو لأجل توضيح الحقيقة القائلة بأنّ المدرسة الإسلامية مرتكزة على أُسسٍ عقلية، وأنّها تنادي بأهميّة العقل في المجالات المتنوّعة.

جاء في الجزء الأول من الكافي، (ص٢٠) كلام للإمام موسى الكاظمعليه‌السلام يخاطب به هشام بن الحكم قائلاً:

«يا هشام إنّ الله - تبارك وتعالى - أكملَ للناسِ الحُججَ بالعقول، ونصرَ النبيّينَ بالبيان، ودَلّهم على ربوبيّته بالأدلّة، فقال:( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمنُ الرّحِيمُ * إِنّ فِي خَلْقِ السّموات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السّماءِ مِن مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَابّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّماءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ، (البقرة: ١٦٣ - ١٦٤).

وفي الصفحة الرابعة والعشرين منه، يخاطب الإمامعليه‌السلام هشاماً قائلاً:

«إنّ الله - تعالى - يقول في كتابه:( إنّ في ذلكَ لَذِكْرى لِمَن كان لَهُ قَلْبٌ ) ، (ق: ٣٧)، يعني: العقل. وقال:( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ.. ) ، (لقمان: ١٢)، قال: الفهم والعقل».

والالتفات إلى آيات قرآنية اُخرى مفيد في هذا المجال أيضاً، نحو:

( كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، (البقرة: ٢٤٢).

( إِنّ فِي خَلْقِ السَّموَات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لآيَاتٍ لَأُوْلِي الْأَلْبَابِ * الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى‏ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خلق

٧١

السّموَات وَالْأَرْضِ رَبّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ ) ، (آل عمران: ١٩٠ - ١٩١).

( أَمِ اتّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ.. ) ، (الأنبياء: ٢٤).

( أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ، (الأنبياء: ٦٧).

( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ ) ، (الحج: ٧١).

( وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) ، (المؤمنون: ١١٧).

وجاء في القسم الأخير من الآية التاسعة والتسعين من سورة يونس قوله جلّ من قائل:

( .. وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) .

وقال تعالى:

( هذا بَلاَغٌ لِلنّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذّكّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ ) ، (ابراهيم: ٥٢).

( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) ، (النحل: ١٢٥).( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ الْسّمْعَ وَالْبَصَرَ كُلّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) ، (الإسراء: ٣٦).

( وَسَخّرَ لَكُم مَا فِي السَّموَات وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْم يَتَفَكَّرون ) ، (الجاثية: ١٣).

( وَقَالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنّا فِي أَصْحَابِ السّعِيرِ ) ، (المُلْك: ١٠).

وجاء في الجزء الأول من كتاب الكافي، (ص٢٥) كلام للإمام الكاظمعليه‌السلام يخاطب به هشام بن الحكم:

٧٢

«يا هشام، ما بعثَ اللهُ أنبياءَهُ ورسُلَه إلى عبادهِ إلاّ ليعقلوا عنِ الله، فأحسنهم استجابةً أحسنُهم معرفة، وأعلمهم بأمر اللهِ أحسنُهم عقلاً، وأكملهُم عقلاً أرفعهُم درجةً في الدنيا والآخرة».

«يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين: حجّةً ظاهرة، وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ، وأمّا الباطنةُ: فالعقول».

وجاء في الجزء الثالث منه (ص٩٠) كلام للإمام الرضاعليه‌السلام يقول فيه:

«ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّ وجلّ».

يقول الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة (ص١١٠٢):

«لاغنى كالعقل».

ويقول في مكان آخر منه (ص١٠٩٤):

«إنّ أغنى الغنى العقل».

وفي (ص١٢٧٤) جاء عنه،عليه‌السلام :

«كفاك من عقلك ما أوضح لك سبل غيّك من رشدك».

ويقول في (ص١٢٧٥):

«والعقل حسام قاطع».

إنّ إنسانيّة الإنسان مرتبطة بقدرته العقلية، ويتعرّف الإنسان على الأمور عن طريق العقل، فيشخّص مشاكله، ويحدّد المثل والقيم، ويحسّن علاقاته مع الآخرين، ويمّهد السبيل لنموّه وتطوّره. لذلك فكلّ نظام يتوّكأ على قوّة العقل أكثر، فإنّه يستطيع أن يخطو خطوات أفضل على طريق رقيّ الإنسان وتطوّره. وعظمة شخصيّة الفرد منوطة بقدرته العقلية، كما إنّ عظمة مجتمع من المجتمعات منوطة بانتهاجه المذهب العقلي، وتأثير عقلائه ونفوذهم فيه.

٧٣

إنّ النقطة المهمّة التي هي مثار البحث هنا، هي العلاقة القائمة بين الدين والعقل، فالدين ركيزة أمينة للعقل، وهو الذي يحدّ من انحرافاته، ويوجّهه في طريق خير المجتمع وصلاحه. ولعلّ هناك من يقول بأنّ العقل لا يسخَّر دائماً في طريق الخير والصلاح. وبالرغم من أنّ تصوّر هذا الأمر - بعامّة - شيء عسير، بيد أنّ طبيعة العقل والإيمان تدفعه وترفضه. بكلمة بديلة، إنّ العاقل المؤمن يسير قدماً نحو تطوّره وتطوّر مجتمعه بكلّ ثقة واطمئنان.

إنّ أغلب المذاهب والمناهج الاجتماعية تتوكّأ على الجانب العاطفي أو الشعور، وبواسطته تكسب الناس إلى مصافّها. ويخشى رجال هذه المذاهب والمناهج الاجتماعية من بروز الاتّجاه العقلي لدى أتْباعهم، لأنّهم غير واثقين من صمود أُسس مدارسهم وعقائدهم أمام القوّة العقلية أو الدراسة العقلية.

أمّا الإسلام، فمع دعوته إلى العقل وتوكّؤ فكره على التعقّل، فإنّه لا يغفل الجوانب العاطفية. وفي حديثه عن مكافحة الظلم والفساد، ومناداته بالأُخوّة والمساواة، والتعايش السلمي، ودعم المستضعفين، يحرّك الإيمان والقوّة العاطفية، ويوصي بمراعاة العقل والمنطق أيضاً.

الأحكام الإسلامية

تنبثق الأحكام الإسلامية - كما تعلم - من القرآن الكريم والسنّة الشريفة المعصومة. مضافاً إلى ذلك، فإنّ هناك مواضيع متنوّعة لم يرد فيها نص صريح في المصدرين المتقدّمين، لذلك فإنّ الأئمّة المعصومين(*) ونوّابهم من العلماء يستعينون بالعقل أو بقوّة استنباطهم؛ لإصدار حكم معيّن بحقّها. وعندما طلبوا من الإمام عليعليه‌السلام

____________________

(*) هذا العمل مقصور فقط على نواب الأئمّة، وهم العلماء المجتهدون الجامعون للشرائط. أمّا الأئمّة فإنّ قولهم وفعلهم وتقريرهم سنّة كسنّة جدّهم الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله حسب اعتقاد الإمامية.

٧٤

أن يعمل بالقرآن والسنّة وسيرة أبي بكر وعمر، رفض قائلاً: « أنا أعمل بالقرآن والسنّة ورأيي». إنّ الاجتهاد في الإسلام ولا سيّما في المذهب الإمامي يدلّ على حركيّة الإسلام واتّجاهه العقلي.

تنقسم الأحكام الإسلامية إلى خمسة أقسام هي: الوجوب، والاستحباب، والكراهة، والإباحة، والحرمة. والمناط في هذه الأحكام، وارتباطها بأفعال العباد هو المصلحة أو المفسدة التي تستتلي تلك الأفعال. فمفسدة تلك الأفعال ومصلحتها هما الموجبتان لاستحسانها أو استقباحها. والعمل المحرّم والقبيح في الآن ذاته هو الذي يتضمن فعله مفسدة، ويستحق فاعله الذمّ والتوبيخ. ويتمّ تشخيص المصلحة والمفسدة، أو استحسان الأفعال واستقباحها بواسطة العقل السليم. لذلك فإنّ الأحكام الدينية في الإسلام ولا سيّما في مذهب الإمامية تتحدد على أساس المصالح والمفاسد الواقعية. جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:

( قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّيَ الْفَوَاحِشَ مَاظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.. ) ، (الاعراف: ٣٣).

فالمبدأ المهم الذي يقرّه علماء الشيعة هو: كلُّ ما حكم به العقل، حكم به الشرع. وقد تحدّث العلاّمة الحلّي (قدس سره) في كتابه (كشف المراد) عن رأي الخواجة نصير الدين الطوسي القائل بأنّ حسن الأشياء وقُبَحها منوطان بتشخيص العقل، وذلك ضمن شرحه لنظريات الطوسي حول الأحكام الخمسة.

إنّ مصادر الأحكام الإسلامية هي:

١- القرآن الكريم.

٢- السنّة الشريفة، وهي عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره.

٣- الإجماع او اتّفاق رأي الفقهاء.

٤- العقل وله دور أساس مهم في استنباط الأحكام الإسلامية.

القيم الأخلاقية

لقد طرحت آراء متنوّعة حول حسن المدارس الاجتماعية وقبحها، أو حول قيمها الأخلاقية. فصفة الحسن والقبح - من منظور تلك المدارس - تُطلَقُ على أمور

٧٥

تقرُّ بها تلك المدارس أو ترفضها. وتموّن المدارس الاجتماعية أتباعها بتعليمات محدّدة، تطلب فيها منهم قبول كل ما تراه حسناً، دون نقاش، وتطبيقه، كما تدعوهم إلى رفض كل ما تراه قبيحاً، فالحسن والقبيح هو ما تمليه تلك المدارس على أتباعها.

إنّ الحسن والقبح - هنا - ليسا مثارَ بحثٍ ونقاش. بكلمة بديلة، لا يدور الكلام حول العمل أنّه بذاته أو في الحقل الاجتماعي حسن أو قبيح، بل - كما قيل - إنّ ما تقرّ به هذه المدرسة أو تلك، وتمليه على أتباعها حسن، وما لا تقرّ به، وتمنع أتباعها منه قبيح. وكما ذكرنا بشأن الأحكام الخمسة، فإنّ الأحكام المثالية أو التعليمات الأخلاقية مرتكزة في الإسلام على أساس المصلحة أو المفسدة، ويُحدّد الحسن والقبح على هذا الأساس نفسه.

لقد ظهرت إلى الوجود آراء متنوّعة حول الحسن والقبح، والقيم التي تتكفّل بتبيان مفهومهما. فمن منظار أتباع مدرسة التحليل المنطقي، ومدرسة الفلسفة الوضعية المنطقية (positivism)(*) ، نرى أنّ الحسن والقبح أمران شخصيّان يعكسان رغبة الأفراد. فعندما يعتبر أحد شيئاً أو عملاً ما حسناً، فإنّما يعبّر عن شعوره ويبدي رغبته في هذا المجال. بكلمة جديدة، ما يرغب به المرء، فهو صالح، وما يرغب عنه، فهو قبيح.

فمن منظور أصحاب هاتين المدرستين، فإنّ القضايا المثالية ليست قضايا واقعية، بل هي تحمل صفة (شبه القضية). والقصد هنا هو أنّ القضايا المثالية لا تماثل القضايا العلمية، فما تبيّنه القضيّة العلمية أمر يمكن أن يحدث في زمان ومكان معيّنين، بيد أنّ ما تبيّنه القضية المثالية هو شعور الفرد ورغبته. وتموّننا

____________________

(*) وهي فلسفة (أوغوست كونْت) التي تُعنى بالظواهر والوقائع اليقينية فحسب، مهمِلة كل تفكير تجريدي في الأسباب المطلقة. المعرّب.

٧٦

القضيّة العلمية بمعلومات ذات معرفة، فيما تُظهر القضية المثالية شعور الفرد ورغبته فقط، ولا تمّوننا بمعلومات حول الأمور الخارجية قط.

هذا التباين يثير سؤالاً آخر هو: هل إنّ القضايا المثالية تخضع للمناقشة العقلية؟ وهنا أيضاً يختلف رأي أتْباع مدرسة التحليل المنطقي أو المدرسة الوضعية المنطقية، عن رأي الآخرين. فأتْباع هاتين المدرستين يعتقدون بأنّ القضيّة المثالية لا تخضع للمناقشة العلمية والعقلية؛ لأنّها لا تمدّنا بمعرفة حول الأمور الخارجية. من جهة أُخرى، وكما ذكرنا فيما سبق، فإنّ هذه القضية تعكس شعور الأفراد ورغبتهم، ومثل هذه الأُمور لا يخضع للمناقشة العقلية.

ويرى (كانت) و(ديوي) وفلاسفة آخرون بأنّ القضايا الأخلاقية كسائر القضايا من حيث إنّها تخضع للمناقشة العقلية. ولقد تعرّضنا إلى هذا البحث بالتفصيل في كتاب (الفلسفة) مبحث علم المُثُل، لذلك نحجم عن تكرار ما ورد فيه من مواضيع.

فالحسن والقبح، كالفكر الصحيح والسقيم، يتجليّان من خلال تجربة الإنسان، ولابدّ أن يكونا منسجمين مع الفطرة أو الطبيعة البشرية. وكما أنّ الإنسان - بمرور الزمن ونتيجة لتعامله مع شتى المسائل والمشاكل - يعتبر بعض الأساليب في التفكير أسمى من أساليب اُخرى، كذلك في المجال الأخلاقي، فإنّه يعتبر بعض الأمورحسناً، وبعضها الآخر قبيحاً. فالأساليب المؤثّرة في التفكير عند علاج مشكلة الإنسان تصبح أساليب أساسية تدريجاً، وما لم يظفر الإنسان بأساليب أكثر تأثيراً، فإنّه يظلّ يفيد منها في تعامله مع مختلف المسائل والمشاكل. وفي الحياة الجماعية أيضاً، فإنّ هناك أعمالا أكثر تأثيراً من أعمال أُخرى في تحسين العلاقات الإنسانية. على سبيل المثال، إنّ العدالة والإيثار مؤثّران في رقيّ الحياة الاجتماعية، وتحسين علاقات الناس فيما بينهم، ويلحظ الإنسان هذا التأثير عملياً، لذلك يحكم على العدالة والإيثار بأنّهما حسَنان، وعلى الظلم والأثرة بأنّهما قبيحان منطلقاً من

٧٧

مشاهداته وملاحظاته. وكما يستعين الإنسان بالتجربة عند تبنّي أُسلوب من الأساليب أو رأي من الآراء مطعّماً ذلك بالدليل، كذلك يفعل في تبنّي المثل وتحديدها. وكما تمّ انتقاء قواعد المنطق وتثبيتها من المناهج المتوفّرة والمؤثّرة عملياً، بحيث أصبحت بمثابة تعليمات لسير العمل (اتّخذ البعد الوصفي طابع البعد المعياري (Normative) أو تحوّل الوصف إلى قاعدة عمل)، كذلك الإنسان، فإنّه انتقى ما هو حسن، أو بكلمة بديلة، انتقى المُثُل من بين ما هو مؤثّر في حياته، فصاغها على شكل تعليمات أخلاقية.

ينبغي التنبيه هنا على نقطتين: الأُولى: إنّ الكمال المطلوب في كيفية التفكير منسجم مع فطرة الإنسان، كالكمال المطلوب في السلوك الأخلاقي، وسعي الإنسان طيلة حياته هو أن يقترب من هذا الكمال كلّما استطاع اليه سبيلا. ولا جرم فإنّ الإنسان يحقّق في هذا الطريق هدفين في آن واحد، فهو يستفيد من تعاليم الأنبياء، وكذلك يكتشف ما ينسجم مع فطرته من خلال تجاربه. الثانية: إنّ الإدراك التدريجي للقيم الأخلاقية، والالتفات إلى تأثيرها في حياة الإنسان لا يتنافى مع صفة الإطلاق التي عليها بعض القيم. بعامّة، فإنّ الأديان السماوية بادرت إلى بثّ هذه القيم وإشاعتها في مجتمعات متنوّعة. فتعرّف الإنسان على بعض هذه القيم بواسطة ذلك العمل. أمّا مستوى توسّع التجربة البشرية، وتأثير العوامل الثقافية لكلّ مجتمع في تفسير القيم وتأويلها، فقد حدّا من تأثير القيم نوعاً ما.

عندما توصف بعض الأُمور بأنّها حسنة أو محمودة - مثل: التقوى، والإيثار، وسيادة الناس على شؤونهم ومصائرهم، والحريّة، والجهاد في سبيل الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومكافحة الظلم، فبغضّ النظر عن البعد الديني الذي يشكّل الركيزة الأساسية للسلوك الأخلاقي، فإنّها أُمور آتتْ أُكُلها، وأثبتتْ حُسَنها وجودتها من خلال معطياتها وقيمتها في حياة الإنسان. ولا غرو فهي منسجمة مع فطرته، لذلك تعتبر حسنة ومحمودة في قاموس جميع أفراد النوع الإنساني.

٧٨

إنّ الإسلام منسجم مع فطرة الإنسان لأنّه حافل بمفاهيم وأفكار في المجال الأخلاقي والتربوي - كما لحظنا فيما تقدّم - قدّمها على أنّها مبادئ وقواعد ووصايا ثابتة، لا ينكر تأثيرها الإيجابي على المجتمع من حيث تحسين العلاقات الإنسانية بين أفراده. والآن لابدّ أن نلحظ، هل إنّ القضايا المثالية خالية من بعد المعرفة العلمية؟ فالتقوى أو الإيثار مفهومان جوهريان، وتبيان معناهما في قضية من القضايا ذو بعد عقلي ومنطقي تماماً. إنّ التقوى صفة محمودة تعرّفنا على حقائق تبدو آثارها في علاقات الناس. بكلمة بديلة، إنّ الحديث عن التقوى ليس حديثاً عن الشعور أو الرغبة الفردية، بل هو حديث عن مفهوم يشكّل ركيزة تربية الإنسان.

على هذا الأساس، فإنّ التقوى صفة محمودة تخضع للمناقشة العقلية، لذلك فهي لا تختلف عن أيّ قضيّة علمية. ولا ريب فإنّ القضايا العلمية تختلف عن القضايا الأخلاقية، لكن لا علاقة لهذا الاختلاف بالخضوع للمناقشة العقلية. إنّ ما يفصل القضية الأخلاقية عن القضية العلمية هو موضوعها، حيث إنّ موضوع القضية العلمية هو الظاهرة الطبيعية. أمّا موضوع القضية الأخلاقية فهو سلوك الإنسان وعلاقاته بالآخرين. إنّ الظاهرة العلمية التي تشكّل موضوع العلوم أقلّ تعقيداً من الظاهرة البشرية، بيد أنّ تكوين المفاهيم، وتدوين النظريات، وعرض المبادئ في كلا الفرعين، كل ذلك يتطلّب نشاطاً عقليّاً.

إنّ الإسلام - وهو يقدّم المبادئ الأساسية للأخلاق وإرشاد الناس في علاقاتهم مع الآخرين - يقرّ بحكم العقل في الأُمور الأخلاقية. بكلمة بديلة، كما قيل بشأن الأحكام الخمسة سالفاً، فإنّه يعتبر تحديد الحسن والقبح أمراً عقلياً. علماً بأنّ هذا الموضوع قد ذُكر في كتاب (شرح التجريد)..

٧٩

٨٠

التعليم في الإسلام

٨١

٨٢

التعليم في الإسلام

اتجاهان رئيسان في التّربية والتّعليم

الدراسة والتدريب

يجب أن نفصل بين اتّجاهين في أمر التربية والتعليم. ويُعرّف هذان الاتّجاهان في الأوساط التربوية بالدراسة، والتدريب، علماً بأنّ بعض المربِّين ينظر إليهما على أنّهما اتّجاه واحد، معتبرين الدراسة هي التدريب نفسه.

طريقة تعلّم الإنسان

يتعلّم الإنسان في حياته كثيراً من الأشياء، ويُمارس أفراد النوع الإنساني عادات متنوّعة خلال المراحل المختلفة للنمو. ويمكن القول بأنّ رغبات الإنسان تعلّمية أيضاً، لأسباب متنوّعة وتمثّل بعض رغباته حاجاته الأساسية التي كانت تعتبر في الماضي غرائز. وهذه الرغبات نفسها من حيث الشكل يتمّ تعلّمها بأشكال متباينة في الحضارات المتنوّعة. فالرغبة في الاستطلاع والرغبة في الحياة مع الآخرين، والرغبة في الطعام، والرغبة في الحركة والنشاط، والرغبة في الاستراحة، هي من الرغبات الجوهرية للإنسان. بيد أنّ ظهورها وإشباعها يختلفان تبعاً للحضارات المتنوّعة، والشرائح الاجتماعية المعيّنة. فبعض الرغبات من نحو الرغبات المتعلّقة بالنشاطات العلمية، ومطالعة الكتب، والنشاطات النفنيّة،

٨٣

والرياضة، والنشاطات الاجتماعية، والنشاطات الدينيّة على صعيد واسع هي رغبات تعلّميّة. ولابدّ للإنسان أن يكتسب مهارات معيّنة في تعامله مع الطبيعة، ومع بني جنسه، وكذلك في تعامله مع مختلف المسائل والمشاكل. تبدأ هذه المهارات من أشكال بسيطة، نحو: قطف الثمار، وفصل الحبوب، وتنتهي بمهارات معقّدة من نحو: تصليح السيّارة والباخرة، وكذلك المهارات الفكرية في التعامل مع مختلف المسائل، فهذه المهارات يتمّ تعلّمها أيضاً.

مضافاً إلى العادات والرغبات والمهارات، فإنّ الإنسان - تدريجاً وفي ظلّ دراسة الظواهر المتنوّعة - يقوم بتدوين العلم والفلسفة والفن والأخلاق، ويأتي بمعلومات متنوّعة في هذه الحقول. ومن أجل أن يتعرف الأشخاص على الظواهر، لابدّ لهم من الحصول على المعلومات الضرورية، وعلى نفس النسق، فإنّ فهم الأفراد للأُمور المختلفة، وكذلك طريقة حياتهم، من الأشياء التي يتعلّمونها.

إنّ الحديث يدور حول كيفية تعلّم الإنسان لهذه الأشياء. مضافاً إلى ذلك، فإنّ القضية الأساسية تتمثّل في الشكل الذي تتحقق فيه طريقة التعلّم، والظروف التي تكون فيها مفيدة للإنسان، بحيث تحدث تطوّرات جذرية في سلوكه. وبالنظر إلى أنّ الدراسة ترتبط بعملية التعلّم، لذلك يجب أن نلحظ كيف يتّخذ هذا الاتّجاه طابعاً تربوياً.

اتجاهان في التعلّم

الأول: التدريب(*)

إنّ مدرسة السلوك هي واضعة الحجر الأساس لهذا الاتّجاه، فلقد طُرح التعلّم

____________________

(*) ويطلق عليه الترويض، والترابط، ويعبّر عنه بعض العلماء بقولهم: النظرية الترابطية لوجود الترابط بين المثير والاستجابة. المعرِّب.

٨٤

عن طريق التدريب، أو بتعبير علمي أدق عن الطّريق الترابطي أو الشرطي من قِبَل العالم الروسي (بافلوف)، حيث تنبّه هذا العالِم إلى البعد الشرطي في السلوك من خلال دراسته لسلوك الكلب وردّ الفعل الذي أبداه حيال المثير. ولحظ في تجاربه أنّ مجاورة شيء - من طبيعته أنّه يدفع الحيوان إلى إبداء ردّ فعل معيّن - يؤدّي إلى انتقال ردّ فعل الحيوان إلى ذلك الشيء. وكان (بافلوف) يعلم بأنّ الكلب عندما تقع عينه على قطعة من اللحم، يسيل لعابه ذاتياً، فالقطعة هي المثير أو العامل الطبيعي، والحيوان يبدي ردّ فعل حياله لا إرادياً، وسيل اللعاب في فم الكلب هو ردّ فعل أيضاً إزاء مشاهدة اللحم. فعَلِم (بافلوف) بأنّه لو تمّ قرع الجرس، متزامناً مع تقديم قطعة اللحم أمام الكلب، وتكرر هذا الأمر في ظرف خاص، فإنّ صوت الجرس - بوصفه مثيراً شرطيّاً أو غير طبيعي - هو الذي يحدث ردّ الفعل الطبيعي أو سيل اللعاب. بكلمة بديلة، يتدرّب الكلب على إبداء ردّ الفعل الطبيعي بمجرّد سماع صوت الجرس، وذلك بسبب مجاورة صوت الجرس لقطعة اللحم. وفي المعسكرات تتدرّب الخيول على النوم تدريجاً بمجرّد سماع صوت الصفّارة، علماً أنّه في بادئ الأمر كان الجنود يجبرون الخيول على النوم بمجرّد سماع صوت الصفّارة، بيد أنّ صوت الصفّارة ذاتياً أحدث ردّ الفعل هذا عند الخيول تدريجاً.

يتعلم الإنسان كثيراً من الأشياء عن هذا الطريق أيضاً. على سبيل المثال، يتعلم الأطفال أسماء الأشياء عن هذا الطريق، ففي البداية يسمع الأطفال كلمات ليس لها معنى عندهم، بيد أنّ مجاورة هذه الكلمات للأشياء أو الحركات المعيّنة تفضي إلى تعلّمها من قبلهم.

وهنا يصرّ أتْباعُ مدرسة السلوك أن يفسّروا جميع نشاطات الإنسان في ضوء هذا الاتّجاه، حتى أنّهم يرون أنّ الإدراك البسيط للأشياء، وكذلك الممارسات المعقدة كالتفكير والاستدلال، تخضع للتفسير وفقاً لهذا الاتّجاه.

وكما تقدّم، فإنّ الإنسان لا يتعلم أسماء الأشياء بهذا المنحى فحسب، بل

٨٥

يمكنه أن يحصل على معلوماته بواسطته أيضاً. على سبيل المثال، نجد الطفل الموهوب يقوم بما يسمّى تعلّم القصيدة وعنوانها أو حفظها. ففي بادئ الأمر، نرى أنّه لا يتبادر إلى ذهن الطفل أيّ موضوع من وراء عنوان القصيدة، بيد أنّ تكرار العنوان ومجاورته لأبيات معيّنة يجعلان الطفل يقرأ تلك الأبيات بمجرّد ذكر العنوان. كما يلحظ أنّ الفهم والتعقّل غير ضروريين في مثل هذه الحالة. وفي الأعمّ الأغلب، فإنّ الطلاّب يتعلمون مواضيع درس ما على نفس النسق، حيث يطرح المعلّم عنوان الموضوع، ثم تستتليه مباشرة ما يتعلّق به من آراء أو مواضيع.

إنّ مجاورة العنوان للمواضيع تُحدِثُ علاقةً ميكانيكية في ذهن الطالب، فبمجرّد طرح العنوان، تأتي المواضيع في ذهنه تباعاً. ويصادف أحياناً أن تكون ذاكرة الطلاّب جيّدة، فيستطيعون أن يستعيدوا شريط المواضيع المسموعة أو المقروءة بسهولة، وأحياناً يعتريهم خلل عند تذكّر المواضيع. وعندما تكون هناك حلول معيّنة للمسائل المتنوّعة، وتطرح كلّ مسألة مع حلولها، فإنّ هذه الحلول تباشر ذهن الطالب اوتوماتيكيّاً بمجرّد طرح المسألة.

بيد أنّ الإنسان يمكن أن يتعلّم حتى أسماء الأشياء عن طريق الفهم والتعقل. لقد أصبحت نظرية بافلوف في الإتّحاد السوفيتي (سابقاً) أساس الدراسات الخاصّة بعلم النفس والطبّ النفساني. ويفاد من هذه النظرية أيضاً في الدراسة، ثم أصبحت هذه النظرية - كما ذكرنا - أساس مدرسة السلوك في الولايات المتّحدة.

لقد جاء بعد واتسون، عالم النفس الأميركي: (سكينر)، فواصَلَ أبحاثَه حول ردّ الفعل الشرطي، وبادر إلى طرح النظرية الشرطية - العملية. وفي ضوء هذه النظرية، فإنّ الكائن الحي يقوم بنشاط معيّن إرادياً، ولو كان هذا النشاط مقروناً بالمكافأة، فإنّ الكائن الحي سيقوم بنفس النشاط في ظروف خاصّة مستقبلاً. وعلى هذا الأساس، فإنّ المكافأة ترسّخ سلوكاً معيّناً فيه. والعقوبة أيضاً تردع الكائن الحي - بنفس الشكل - عن القيام بذلك النشاط. فلا ريب أنّ المكافأة والعقوبة

٨٦

مؤثّرتان في ترسيخ سلوك معيّن أو تركه، ويخضع أفراد النوع الإنساني لتأثير هذين العاملين أيضاً.

كان لآراء (سكينر) تأثير بالغ في نظام التربية والتعليم في أميركا، حتى قامت بعض المدارس التربوية بجعل آرائه أساساً لبرامجها التعليميّة.

وهنا لا ننوي أن نتحدث حول النظرية الشرطية، علماً بأنّ ثمّة شبهاً واختلافاً بين النظرية الشرطية الكلاسيكية المتوكّئة على تجارب (بافلوف)، وبين النظرية الشرطية - العملية. فيجب الرجوع إلى كتب علم النفس، للحصول على معلومات أكثر في هذا المجال.

بيد أنّ المقطوع به هو تأثّر النظام التربوي في أميركا بتعاليم (واتسون) و(سكينر) وبقيّة رجال مدرسة السلوك. وبالرغم من أنّ (ديوي) وعدداً من المتخصّصين في حقل التربية والتعليم لم يثمّنوا مدرسة السلوك أو الاتّجاه الشرطي من الناحية التربوية، بيد أنّ كثيراً من المربّين تأثّروا بأُسس هذه المدرسة. من جهة أُخرى، بما أنّ الأبحاث التجريبيّة في هذا المجال تجري بشكل أيسر، وأنّ الباحثين يقدّمون نتائج تجاربهم بالإفادة من التقنيات الإحصائية غالباً، لذلك توجّهت أنظار الأوساط التربوية إلى هذه المدرسة أكثر. وسوف نلحظ أنّ البحث التجريبي فيما يخصّ الفهم والتعقّل لا يتحقّق بسهولة، لذلك فإنّ كثيراً من علماء النفس يبدون اهتماماً أقل بمثل هذه الأمور. وسوف نلحظ في البحوث القادمة بأنّ الفهم والتعقل يشكّلان أساس الدراسة.

الثاني: الدراسة

تخرج عملية التعليم من شكلها الميكانيكي في هذا الاتّجاه، وقد رأينا في حديثنا عن التدريب أنّ مجرّد المجاورة أو التضاد أو الشبه، يكفي بعقد صلة بين أمرين، فينتقل ذهن الإنسان من أمرٍ إلى آخر ذاتياً، أو ينتقل ردّ فعله من أحدهما

٨٧

الى الآخر.

وللتفكير دورٌ أساس في هذا الاتّجاه. فما يريد الإنسان أن يتعرّف عليه أو يتعلّمه، يجب أن يتّخذ طابع المشكلة ليثير تفكيره، وعندها ينبري للتعرّف على الموضوع أو تعلّمه.

إنّ تعلّم اسم الأشياء - حتى في هذا الاتّجاه - بالفهم والتعقّل أيضاً. يقوم الإنسان بتحليل الظرف المحيط به حتى يتسنّى له تحديد المشكلة ذات العلاقة أو الموضوع المراد معرفته. في الآن ذاته، تدخل عناصر ظرف ما، أو إدراك الصلة بين المشكلة ذات العلاقة مع المشاكل الأُخرى، ضمن النشاطات الأساسية في هذا الاتّجاه. وعندما تتحقّق المعرفة أو التعلّم عن طريق طرح المشكلة، فإنّ الشخص يتوفّر على تشخيص تلك المشكلة، ويكون مرغماً على تحديد عناصر أو أجزاء المشكلة، وإدراك صلتها مع بعضها، ثمّ الأخذ بنظر الاعتبار كيفيّة التعامل مع مثل هذه المشاكل ضمن الإفادة من تجاربه، وعند ذلك يبادر إلى حلّ المشكلة. فنشاطه - بعامّة - يشكّل أساس العمل، والمعلّم - هنا - يؤدّي دور المرشد والموجّه، وعلى الشخص نفسه تبيان المشكلة.

ولابدّ له أن ينظّم تجاربه الشخصيّة فيما يخصّ المشكلة المعنيّة، ويستفيد من تجارب الآخرين، ويجعل تجاربه مع تجارب الآخرين في خطّة منطقيّة، ويحاول - عن هذا الطريق - أن يدوّن العلاج الأساس، ووجهة النظر التي ساعدته على معرفة الموضوع. بعامّة، فهو يدرس ويقوّم الأُمور المختلفة عن طريق التفكير والتعقّل، ويبادر هو بنفسه إلى معرفة الموضوع المعنيّ أو علاج المشكل بالإفادة من توجيهات الآخرين.

الاتّجاه التربوي في عصرنا

إنّ الاتّجاه التربوي في عصرنا متوكّئ على التدريب أو الترابط الشرطي، لعدّة

٨٨

أسباب: الأوّل: إنّ مدرسة السلوك في علم النفس تعزّز هذا الإتّجاه.

فكما تقدّم، أنّ العالم الفسلجي الروسي (بافلوف) يعتبر الترابط الشرطي أساس السلوك الاعتيادي وغير الاعتيادي، ويجري النظام التعليمي في الاتّحاد السوفيتي وفقاً لهذه النظرية.

الثاني: إنّ بعض الأبحاث في حقل علم النفس تدعم النظرية الشرطية في تعلّم الأمور المتنوّعة. كما قلنا - فيما سبق - فإنّ قياس التعلّم عن الطريق الشرطي، وتوقّع نتائجه يخضع للبحث والدراسة بشكل أيسر. بكلمة بديلة، يمكن قياس ما يتعلّمه المرء نتيجة مجاورة شيئين، وهذا قابل للتوقّع في حالات مماثلة. فالتعلّم عن هذا الطريق أيسر. يطرح المعلّم موضوعاً، ويكرّره، وبعد التكرار يمكنه أن يتوقّع بأنّ الطالب قد تعلّم ذلك الموضوع. وكذلك على الصعيد العملي. وعند تعلّم كثير من الأُمور، فإنّ للمكافأة دوراً حاسماً. وعالم النفس يستطيع أن يحدّد هذا الدور أثناء التجربة، ويتوقع أثره. لذلك يبدو أنّ للإتكاء على النظرية الشرطية بعداً علمياً. ومن هذا المنطلق، فهي تقنع المربّي. والتعلّم عن هذا الطريق ينسجم أكثر مع التفسير الماديّ لنشاطات الإنسان.

الثالث: إنّ الإنسان - كما ذكرنا آنفاً - يقبل كثيراً من الأُمور عن الطريق الشرطي. عندما شاركت في المؤتمر العالمي للتربية والتعليم في بلجيكا، كان أحد المتخصّصين في التربية والتعليم يتحدث عن (التأهيل الاجتماعي) و(الإعداد الثقافي) للأشخاص، وكان موضوع المؤتمر: التربية والتعليم عن طريق نموّ الشخصية. فتحدّثتُ مع أخصائي ألماني حول التأهيل الاجتماعي والإعداد الثقافي ودورهما في نموّ شخصية الفرد، فقلت له: إنّ التأهيل والإعداد عمليتان شرطيتان، فإذا وضعوا الإنسان في وسط اجتماعي معين، فإنّه يتعلم التقاليد والآداب الاجتماعية ذاتياً، كما إنّ ولادة فرد من الأفراد ونشأته في مجتمع معين، تفضيان إلى أن يتعلّم ذلك الفرد لغة ذلك المجتمع. كذلك فإنّ لتأهيل الفرد اجتماعياً - بالشكل الذي يجعلونه في

٨٩

وسط اجتماعي معين، ويتعلّم التقاليد والآداب ذاتياً - بعداً شرطياً لا ينسجم مع اتجاه الدراسة.

إنّ حضور الفرد في شريحة اجتماعية، وتعامله المكرر مع ذلك الموقع يؤدي إلى أن يتعلّم أشياء معيّنة ذاتياً، وكما قلنا سالفاً، فإنّ هذه الطريقة من التعلّم لا تقترن بالفهم والتعقّل، وفي هذه العملية يؤهّلون الفرد اجتماعياً أو يعرّفونه على تقاليد وآداب معيّنة، وبواسطة هذا العمل يهيّئون مستلزمات انسجامه مع المجتمع.

الرابع: إن ما هو قائم في المجتمعات الغربية من نظام مثالي تقرّه الحضارة الغربية نفسها، وعليه طابع ديني وإنساني شكلياً، بيد أنّه - في الحقيقة - ضد الدين والأخلاق والإنسانية - يُملى على الطلاب ويُلَقَّنونه. وكما نعلم، فإنّ الاستعمار والاستغلال من سمات الحضارة الغربية، حيث إنَّ خلفيات دول مثل: إنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والولايات المتّحدة، في علاقاتها مع الدول النامية تدلّ على الطابع الاستعماري والاستغلالي الذي تَتَسم به توجّهات تلك الدول. وقد خرج الدين - بشكل عام - عن شكله الحقيقي فيها، حيث تمّ حصره في ما يسمّى بقوالب ومبادئ لا تخضع للبحث والدراسة.

لقد سلبت المنظّمات الدينية - مع رعاية تسلسلها الهرمي - الفرصة من الأفراد لإبداء وجهات نظرهم. والنشاطات الدينية ذات بعد رسمي غالباً، أو أنّها تأخذ طابع ما يسمّى بالأعمال الخيرية. يسيطر النظام الرأسمالي على الحضارة الغربية. والدين أيضاً يخضع لنفوذ هذا النظام. وبالرغم من وجود توجّهات اشتراكية وديموقراطية في بعض المجتمعات الغربية، بيد أنّ هذه التوجّهات تخضع أيضاً لنفوذ الحضارة الغربية والاتّجاه الاستعماري والاستغلالي لها بكلّ قوّة.

فعندما يؤخذ أربعة مستشارين كرهائن في مكان ما، أو يقع (جومبو) أو (محمد رضا بهلوي) في مأزق، فإنّ جميع الأوساط السياسية والدينية والاجتماعية الغربية ترفع أصواتها بالاحتجاج. ولكن عندما يُذبح مائة شخص بريء من الناس

٩٠

العُزّل، فلا أحد ينبس ببنت شفة، إلاّ بعض وكالات الأنباء، إذ قد تذكُر خبرهم بشكل عابر. والقصد هو أنّ الاشتراكية، والدين، والديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان تطرح في إطار معيّن، وتفقد هذه المفاهيم معناها الحقيقي في علاقات الدول الغربية مع دول العالم الثالث أو الدول النامية، وتطرح بشكل مشوّه، وما أبدته الأوساط المتنوّعة حول السفارة الأميركية في طهران، يدعم وجهة نظرنا حول الموضوع.

يصرّح (كارتر) بأنّه يمتنع عن تسليم (محمد رضا بهلوي) التزاماً بالمبادئ التي يؤمن بها على حدّ زعمه، ولا يبالي بأيّ تهديد في هذا الشأن، ثمّ يصدر أوامره بتجميد الأموال الإيرانية الموجودة في الولايات المتحدّة، وكذلك يأمر بمنع استيراد النفط من إيران. وثمّة سياسيّون آخرون في أميركا من أمثال: (إدوارد كيندي)، و(مك غاورن)، يعلنون عن دعمهم للإجراءات التي اتّخذها (كارتر). وعلى أثر الدعايات التي تبثّها الحكومة الأميركية، يقوم أفراد من الشعب الأميركي بمهاجمة الإيرانيين المقيمين في أميركا، وتنشر الإذاعة والتلفزيون وبعض الصحف والمجلاّت ما تطلبه الحكومة الأميركية منها.

وتَعتبر بعض وكالات الأنباء وبعض الإذاعات، مثل: الإذاعة البريطانية - نقلاً عن معلّقيها - مسألة حجز بعض الأميركيين كرهائن مخالفاً للعهود والمواثيق الدولية، وبعيداً عمّا يتوقّع من شعب متحضّر. ويرسل البابا ممثّلاً عنه للتوسّط في قضية إطلاق سراحهم، ويطالب مجلس الأمن بالإفراج عنهم أيضاً.

إنّ أكثر هذه الأوساط تدين إيران على أساس المعايير الإنسانية، بزعمها، وبذريعة عدم مراعاة العهود والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان، ولا أحد يثير السؤال التالي: هل إنّ السفارة الأجنبية مركز للتفاهم، وتبادل وجهات النظر، وتوطيد العلاقات الوديّة بين البلدين، أو هي مركز للتآمر والتجسّس والتحريض ضدّ الشعب؟ ولا أحد يسأل: لماذا سمحتْ أميركا للشاه أن يدخل أراضيها؟ ولماذا دعمته؟ فهل هذا العمل هو

٩١

كما تزمّر الأبواق الإعلامية بأنّه عمل إنساني منبثق عن حب الإنسان؟ ولو كان كذلك، فلماذا لا تسمح أميركا لبعض الناس غير الرسميّين أن يسافروا إليها للعلاج؟ هل إنّ دعم الولايات المتّحدة للشاه من أجل مراعاة حقوق الإنسان؟ أمْ هو إيواء لرجل دموي فاسد محتال وعميل لها؟ هل إنّ اقتراح الطلبة الجامعيّين الذين احتجزوا الرهائن، هو شيء آخر غير محاكمة مجرم دولي؟ ألا يجب على الأوساط المسمّاة بالأوساط الحضارية أو التقدمية أن تدعم قضية تسليم مثل هذا المجرم؟ إنّ دعاء (كارتر) للرهائن في الكنيسة يدلّ على إدراكه لقضية الدين. وما يتّضح من هذه الحادثة الصغيرة هو أنّ الأوساط الغربية لا تنادي بالديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، والأخلاق، والدين، والعلاقات الدولية، ومُثُل إنسانية أُخرى إلاّ على أساس المصالح الاستعمارية. طبيعياً، أنّ هذه الحالة وحدها ليست دليلاً على هذا التقويم والحكم، بيد أنّ ما يُلحَظ في التاريخ المعاصر للمجتمع البشري من علاقات الدول الغربية مع الدول الضعيفة يدعم هذه الحقيقة، ولو كان هناك متكلّم أو كاتب يدافع عن المثل الإنسانية، فإنّه لايصمد أمام أجهزة الدعاية الإعلامية في الغرب، ولا يصل صوته إلى مكان.

إنّ الأجهزة التربوية في الدول الغربية - سواء كانت واعية أو غير واعية - تقع تحت تأثير النُظُم الموجودة فيها. وبالرغم من أنّ الحديث في بعض الأوساط التربوية الغربية يدور حول حريّة الفكر والديمقراطية، بيد أنّ المعلّمين يلقّنون الطلاّب أفكاراً وآراء ونزعات معيّنة بصورة غير مباشرة. وفي المجال التاريخي والاجتماعي، تقدّم الحقائق الملموسة إلى الطلاّب غالباً بشكل مشوّه، وعندما يلتقي الأجانب بطلاّب المدارس والجامعات في المجتمعات الغربية، يشعرون إلى أيّ مدى يعيش هؤلاء الطلاّب بمنأى عن الحقائق الواقعية. أما وسائل الإعلام فهي ناطقة باسم هذه النظم إلى حدّ بعيد، وهي تملي على الشعب آراء خاصّة، وحقائق معيّنة، وأساليب استنباط محدودة، ونزعات خاصّة. ويبدو أنّ الأشخاص أحرار في اختيار

٩٢

الدين، واتّخاذ نهج معيّن، وإيجاد نزعات اجتماعية، والمناقشة والتعبير عن آرائهم حول مختلف المسائل، بيد أنّ الدعايات الإذاعية، والمقالات الصادرة في الصحف والمجلاّت، تؤثّر على أُسلوب التفكير الذي ينهجه الناس، وتقوم الشركات التجارية الكبرى - عادة - والفئات المتنفّذة، ومنظّرو الأحزاب بجعل أفكار الناس حسب الشكل الذي يريدونه، وذلك عن طريق الصحف، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية.

بإيجاز، إنَّ هناك آراء وتصوّرات معروفة سابقاً، تُلقى على الناس، سواء في الأجهزة التربوية، أو في وسائل الإعلام، حتى عندما يدور الحديث حول المسائل الاجتماعية والسياسية.

في الأقطار الشيوعية، تسيطر الإيديولوجية الماركسية - من خلال نظام فكري معيّن - على الشؤون الفكرية والتربوية للمجتمع، وفي مثل هذه الأقطار، فإنّ الفرضية تقضي بأنّ هذه الإيديولوجية حدّدت معالم الحركة الفكرية للإنسان في المجالات المتنوّعة، ولا سيّما في: علم الاجتماع، علم النفس، الفلسفة، التاريخ، وفي بعض الفروع العلمية، وهذا الفهم يسيطر على المؤسّسات التربوية والعلمية، وعلى وسائل الإعلام أيضاً.

إنّ عمل التربية والتعليم هو - إلى حدّ بعيد - تقديم الإيديولوجية المتبناة والتعريف بها. وينبغي الالتفات إلى أنّ هذه الإيديولوجية تأخذ طابعاً رسمياً. بكلمة بديلة، فإنّ تفسير الإيديولوجية من شأن العلماء الثقاة، والممثّلين الرسميين للحزب. وجميع الأفراد لا يستطيعون مناقشة الإيديولوجية، وإبداء انطباعاتهم عنها بحريّة. في المؤتمر العالمي آنف الذكر، وبعد أن ألقى ممثّل ألمانيا الشرقية كلمته، وجهّت إليه سؤالاً، فقلت له: أَنتم تعلمون بأنّ الاستقلال الفكري هو روح التربية والتعليم، وعمل المربّي هو إعداد الأفراد الذين يمارسون أعمالَهم مستقلّين في عملية التفكير، وأنتم في مدارسكم تفرضون إيديولوجيّتكم، وتريدون من الطلاّب قبولها، فهنا يثار سؤال هو: كيف ينسجم فرض إيديولوجية معيّنة مع الاستقلال الفكري؟

٩٣

ومن هذا المنطق، فلا يمكن الحديث عن التربية والتعليم في مثل هذه الحالة.

لذلك فإنّ الاتّجاه التربوي الأساس في الظروف المعاصرة - سواء بين الغربيّين أو الشرقيّين - ينسجم مع التدريب أكثر من انسجامه مع الدراسة الصحيحة.

إنّ الفهم ذا البعد الواحد لماهيّة الإنسان - الإنسان كالحيوان ويفترق عنه في بعض الأمور - والإصرار على أنّ الإنسان يتعلّم الأمور المختلفة كالحيوان، والسعي لتفسير عملية التعلّم، والتفكّر، وإبداع الإنسان عن الطريق الشرطي والبعد العلمي، ومحاولة فرض نظام خاص في المجتمعات الغربية، وفرض إيديولوجية معيّنة في المجتمعات الشيوعية، كل ذلك يخرج العملية التربوية عن صورة الدراسة الحقيقيّة، ويجعلها في صورة التدريب. وقبل أن نقوم بدراسة التربية والتعليم في الإسلام، نذكر سمات هاتين العمليتين.

التدريب

التيار الشرطي: ذكرنا فيما سبق أنّ أساس التدريب هو إحداث ردّ فعل شَرْطيّ عند الفرد. ومن خلال ذكر عنوان ما، وطرح مواضيع معيّنة، وتكرار هذا الأمر، تتكون علاقة بين ذينك الشيئين في ذهن الفرد، وينقل الفرد المواضيع المطروحة إلى ذهنه ذاتياً بمجرّد طرح العنوان. لذلك فإنّ الشرط الأساس في مثل هذا اللون من التعلّم هو وجود المجاورة والتكرار والتمرين. فكما يسمع الطفل اسم الشيء مقروناً معه مرّات عديدة، فيتعلّم اسم ذلك الشيء ذاتياً، كذلك يتعلّم مختلف الأمور عن طريق وسائل الإعلام أو في الصف.

يذكر المعلّم عنوان بحث ما، تتلوه مواضيع خاصّة تتعلّق به، يكرّر ذلك العمل، نلحظ هنا أنّ التكرار يفضي إلى أنّ المواضيع المطروحة ترتبط مع عنوان البحث، عند ذلك يتذكّر الطالب الموضوع المطلوب من خلال طرح العنوان.

وعندما يكون عمل المعلّم طرح مواضيع معيّنة، سواء كانت نظريات علمية، أو

٩٤

نظاماً مثاليّاً خاصّاً أو أفكاراً وعقائدَ معيّنة، ففي مثل هذه الحالة تنتقل المواضيع إلى ذهن الطالب عن طريق التكرار، ويتّخذ الامتحان طابع عرض المعلومات المخزونة في الذهن. يذكر الطالب عنوان بحثٍ لنفسه، فيقرأ المواضيع المتعلّقة به في كتاب أو كرّاس، وبتكرار هذا العمل، يودع أشياء في ذهنه، تنساب إلى الورق عند الامتحان.

كما ذكرنا آنفاً، لو تمّ عرض المواضيع العلمية، وطرح المبادئ الأخلاقية، وانتقال أُسس إيديولوجية ما بهذا الشكل، فإنّ الطالب يستطيع أن يتعلم المواضيع عن طريق التكرار والتمرين. وكما أنّ اللاعبين في السيرك يعلّمون الحيوانات القيام ببعض الأعمال. ومن خلال المجاورة بين قرع الجرس أو تحريك الخشبة، أوأيّ نشاط خاص، يدفعون الحيوان إلى القيام بالفعل، بنفس الشكل ينقل المعلّمون أو وسائل الإعلام موضوعاً ما إلى ذهن الأشخاص.

التلقين: في عملية التدريب يتقبّل الطالب ما يُعرض عليه، فعندما يُلقي المعلّم موضوعاً، ويستمع إليه الطالب، وتتكرر هذه العملية مرّات، ففي هذه الحالة، يتقبل الطالب ما يعرض ذاتياً، وبدون وعي وإرادة. وما ينشر في الصحف أو المجلاّت، أو ما يبث من الإذاعة أو التلفزيون، يلقى قبولاً لدى الناس دون نقاش.

إذا بادر الطالب إلى قراءة موضوع ما، وتفاعل مع ما هو مكتوب دون نقاش، فقد تأثّر بكاتب ذلك الموضوع، وشمله تلقينه أيضاً. والذين يتعلّمون مواضيع متنوّعة دون نقاش، وينقلونها إلى الآخرين، فقد خضعوا لعملية تلقين الكتّاب، وأخضعوا الآخرين لتلقين ما حفظوه.

ليس مهمّا في التحصيل الدراسي سعة محفوظات الفرد أو معلوماته، بل المهم هو كيف يقبل الفرد المواضيع المعيّنة. بكلمة بديلة، إنّ مَن عمل على تصعيد معلوماته أو محفوظاته، واستطاع أن يتحدث حول موضوع معيّن لساعات، بيد أنّه - شخصيّاً - لم يدقّق فيما حصل عليه من علم، ولم يناقش ذلك، فقد شمله تلقين

٩٥

الآخرين.

الخضوع للتوقّع

إنّ نتيجة التعلّم - في عملية التدريب - خاضعة للتوقّع، فما يُلقى على الحيوان، يمكن توقّع القيام به من قبل الحيوان في ظروف خاصّة. وفي المعسكرات تنام الخيول بإطلاق صوت الصفّارة، فيمكن توقّع رقود الخيول في الليلة الخامسة مثلاً، بمجرّد إطلاق صوت الصفّارة.

وعندما يقرأ تلميذ في الابتدائية قصيدة عدّة مرات، أو يحفظ جدول الضرب، فيمكن التوقّع بسهولة أن يقرأ القصيدة بمجرّد سماع عنوانها، أو عندما يُسأل عن ناتج ضرب العدد (5) في نفسه، يجيب: خمسة وعشرون.

بعامّة، عندما يُلقَّن أحد عقيدةً، أو فكراً، أو رأياً، أو أُسلوباً، أو طريقة عمل، أو اموراً من هذا القبيل، يمكن أن نتوقّع منه عرضَ ما تلقّاه بنفس الشكل، أو بشكل ناقص في الوقت المعيّن. كما أنّ قيام الحيوان بنشاط معيّن، خاضع للتوقّع في ظروف خاصّة، فكذلك نتيجة هذا الضرب من التعلّم، إذ هي بيّنة جليّة. والفرد كجهاز التسجيل - وهو أقّل بطبيعة الحال - يخزن في ذهنه ما يسمعه، ثمّ ينقل ذلك بنفس الشكل أو بشكل ناقص، وفي مثل هذه الحالة، يمكن أن يتعلم الفرد مواضيع متناقضة، ثم لا يدرك تناقضها. إنّ مثل هذا اللون من التعلّم لا يؤثّر في تغيير شخصيّة الفرد وأعماله، ولو كان له أثر، فهو أثر طفيف، عابر، مؤقت.

إنّ مؤاخذة الناس العاديّين طلاّبَ المدارس تعكس هذا الأمر ذاته، فالوالدان الأُميّان يلحظان ولدهما يذهب إلى المدرسة وقد تعلّم بعض الأشياء، بيد أنّ تغييراً ملحوظاً لم يطرأ على سلوكه.

ففرق الطالب عن غيره يكمن في حجم معلوماته. بكلمة بديلة، إنّ ما يميّز الطالب عن غيره ليس أسلوب التفكير، والعادات، والرغبات، وطريقة التعامل، بل

٩٦

المعلومات التي حصل عليها الطالب خلال مرحلة الدراسة.

الدراسة

الفهم: يحلّ الفهم محلّ المجاورة والتكرار في عملية الدراسة. والفهم يعني أن يقوم الطالب بالتدقيق في كلّ ما يشاهده أو يسمعه. على سبيل المثال، ثمّة عنوان ما واضح لديه، وهو يستطيع أن يتمثّل صورة في ذهنه عن ذلك العنوان.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ صلة العنوان بالمواضيع التي هي مدار البحث واضحة عنده أيضاً. على سبيل المثال، هو يدرك جيّداً معنى كلمة الحرارة، وصلة هذه الكلمة بالمباحث ذات العلاقة. ويعلم ماذا يدرس، وخطّة البحث أو كيفية طرح المواضيع واضحة بالنسبة إليه.

فالتكرار والتمرين ليسا شرطين ضرورين للتعلّم في هذه العملية، فأحياناً يمكن أن يتعلّم الطالب ما يُلقى عليه من خلال طرح عنوان ما وتقديم موضوع معيّن. عندما تطرح معادلة في الرياضيات، ويتّضح مفهومها بالنسبة إلى الطالب، يمكن أن يبادر إلى حلِّها أيضاً قبل أن يقوم المعلّم بذلك. ودليل هذا الأمر هو إدراك معنى عنوان المعادلة وصلتها بطريقة الحل.

إنّ عنوان قصيدة من الشعر وأبياتها واضح بالنسبة إلى الطالب من ناحية المعنى والترابط الموجود فيها، وفي جدول الضرب يستطيع الطالب أن يتصوّر معنى ضرب العدد (4) في العدد (5)، ويلحظ - عن هذا الطريق - لماذا يكون ناتج ضرب العددين عشريناً.

التعقل: إنّ العامل الأساس الثاني في عملية الدراسة هو التعقّل أو التفكير، فلا يدرك الطالب ما يطرح فحسب، بل يقوم بتقويمه، ويحكم عليه بالصواب أو الخطأ أيضاً.

٩٧

ولو سألتَ الطالبَ: ماذا تعلّم؟، فإنّه يستطيع أن يبيّن - بوضوح - ما تعلّمه، ويفهم مغزى بيانه. وكذلك لو سألته عن موضوع ما، هل هو صحيح أم لا؟ فسيقوم بتقويم الآراء، والنظريات، والأساليب، وينتقي ما هو منطقي ومبرهَن ليقدّمه ويقرّبَه.

بعامّة، في عملية الدراسة، فإنّ تربية القابلية على تقديم الحكم الصحيح المتوكّئ على الدليل، تشكّل أساس العمل. وفي الدراسة الحقيقية يقوم المعلّم أو المربّي بمساعدة الطالب في كلّ مرحلة من النمو أو التحصيل الدراسي، لينبري إلى تحليل ما يريده أو يسمعه. يدرس أدلّة وشواهد رأي أو فرضية، أو تصميم، وبعد ذلك يحكم على الموضوع الذي هو موضع البحث والنقاش.

يدور الحديث - في روضة الأطفال - حول اللعب أو القصص. وفي هذا المركز التربوي، إذا كان المربّي واعياً ومدركاً لمفهوم الدراسة الصحيحة، فإنّه سيقوم - عند طرحه للقضية - بذكر دليل جودتها أو انتخابها. وعندما يوصي الأطفال بممارسة لعبة من الألعاب، فإنّه يشفع ذلك بالدليل. وفي المقابل، هو - أيضاً - يطلب من الأطفال أن يذكروا دليل انتخابهم لعبةً معيّنة أو استحسانهم قصّةً من القصص، وكلّما ازداد نموّ الفرد، وتمرّس على المسائل العلمية والاجتماعية أكثر، فإنّه يظفر بفرصة أكبر للتقويم الصحيح.

إنّ دراسة قيمة شعر، أو نصيحة، أو كلام قصير، أو نظرية علمية، أو رأي تاريخي، أو أُسلوب، أو مهارة، أو نظام فكري، وأمثال ذلك، تجري في جميع المراحل التربوية بشكل منطقي، فيقوم المربوّن بمساعدة الفرد ليأخذ بما هو مبرهَن ضمن دراسة الأُمور المختلفة، وينبذ ما هو غير مبرهن. إنّ توظيف الفكر والعقل هو المطلوب في قبول شتى الأُمور أو رفضها، وفي طرح المواضيع.

وينبغي انتهاج هذا الأسلوب نفسه في وسائل الإعلام، إذ على الكاتب أن يأتي بالدليل على ما يطرحه من مواضيع، وعليه أن يفيد من الأسلوب العلمي في

٩٨

الدراسات الاجتماعية، وأن يكون ما يعرضه مدعوماً بالدليل. كذلك ينبغي على العاملين في الحقل الإذاعي والتلفزيوني، وبعامّة، كلّ الذين لهم برامج في مثل هذه الوسائل الإعلامية، عليهم الاهتمام بمنطقيّة مقالاتهم، وأن يحاولوا بأن تكون كتاباتهم وكلماتهم مشفوعة بالدليل.

النتيجة غير خاضعة للتوقّع: عندما تكون عملية الدراسة مرتكزة على الفكر، فإنّ النتيجة غير خاضعة للتوقّع مسبقاً، ولا يقبل في عملية التفكير أو الاستدلال إلاّ ما هو منطقي، لا ما يخزنه المربّي أو المتكلّم في ذاكرته منذ البداية. بكلمة بديلة، إنّ الفرد - في هذه العملية - لا يقرّ بأمر مقتَرح من البداية ما لم يكن مدعوماً بالدليل، وإذا كان ما يطرحه المتكلّم أو الكاتب أو العالم منطقيّاً، فإنّ الفرد يقبله.

ويصادف أحياناً أن يُبدي عالِمٌ من العلماء وجهةَ نظرٍ معيّنة، بيدَ أنّه يلتفت إلى ضعفها أثناء حديثه، فيغيّرها. أو أنّ عالماً آخر يأتي بالدليل على ضعفها، فيقرّ ذلك العالم بضعف وجهة نظره. من هذا المنطلق يقال بأنّ النتيجة على شكل أمر معيّن غير معروفة سابقاً في عملية الدراسة.

إنّ عملية الدراسة الصحيحة تترك آثاراً متألّقة، فينمو الطالب خلالها من الناحية الفكرية بشكل ملحوظ، فهو لا يتعلّم مواضيع جديدة فحسب، بل يُقرن تعلّمه بالفهم، ويبدي رأيه حول صوابها أو خطأها. لذلك فإنّه يتعلّم مواضيع علمية وأدبية، وكذلك يتعلّم كيفية التقويم، والتفكير، والحكم، والتفريق بين الرأي المبرهن من غير المبرهن. هذا النحو من التعلّم - كما قيل - يحدث تغييراً في شخصية الفرد وسلوكه، كما يوفر مستلزمات تطوّره وتكامله.

إنّ الطالب - بحضوره في الصف، أو استماعه لمحاضرة، أو مطالعته لمقالة - لا يتعرّف على مفاهيم، ونظريات، ومبادئ، وقواعد جديدة فحسب، بل يتطوّر أُسلوبُ تفكيره أيضاً ضمن تعلّمه لمثل هذه الأُمور، فهو يُعنى بالمسائل المتنوّعة بصورة

٩٩

مبدئية، ويتجنّب إصدار الأحكام السطحية الساذجة، ولا يقبل شيئاً ما لم يقم عليه الدليل، كما لا يرفض شيئاً على نفس النسق، ويبادر إلى تربية قوّته الفكرية أيضاً مقرونة بتصعيد مستواه العلمي.

وكما لحظنا، فإنّ الفهم والتعقل هما الركنان الأصليان في عملية الدراسة. وفيما يلي نقوم بدراسة الأُسس التربوية في الإسلام:

الأُسس التربوية في الإسلام

إنّ القرّاء على علم بأنّ بحثنا يدور حول خصائص النظام الفكري أو النظام التربوي في الإسلام، وفي هذا القسم، ندرس البعد العقلي في النظام الإسلامي. وبما أنّ للتربية والتعليم في الإسلام بعداً عقلياً إلى حدّ بعيد، فإنّنا نقوم بدراسة الأُسس التربوية في الإسلام. وسنذكر بعض الأُسس التربوية في طيّات حديثنا عن الأهداف، والأساليب. والنظام التعليمي في المدارس الدينية. ونناقش - هنا - الملاحظة القائلة بأنّ الإسلام، ضمن تأكيده على الفهم والعقل، لا يرى في نظامه التربوي بأنّ التدريب من شأن الإنسان، ويطرح الدراسة الحقيقيّة. جاء في الجزء الأوّل من الكافي، (ص20) أنّ هشام بن الحكم روى عن الإمام الكاظمعليه‌السلام قوله:

قال لي أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام : «يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهلَ العقل والفهم في كتابه، فقال:( فَبَشّرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولئِكَ الّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ ) ».

«يا هشام: إنّ الله - تبارك وتعالى - أكملَ للناس الحُجج بالعقول، ونصرَ النبيّين بالبيان، ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة، فقال:( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمنُ الرّحِيمُ * إِنّ فِي خَلْقِ السّموَات... لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ».

لقد ورد في هذا الكلام - وما تضمّنه من آيات قرآنية - عددٌ من النقاط

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221