الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 128809
تحميل: 4267


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128809 / تحميل: 4267
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومن طريق ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه في امرأة المفقود قال: إن جاء زوجها وقد تزوّجت خيّر بين امرأته وبين صداقها، فإن اختار الصداق كان على زوجها الآخر، وإن اختار امرأته اعتدّت حتّى تحلّ، ثمَّ ترجع إلى زوجها الأوَّل وكان لها من زوجها الآخر مهرها بما استحلَّ من فرجها. قال ابن شهاب: وقضى بذلك عثمان بعد عمر رضي الله عنهما.

وفي لفظ الشافعي: إذا تزوَّجت فقدم زوجها قبل أن يدخل بها زوجها الآخر كان أحقّ بها فإن دخل بها زوجها الآخر فالأوَّل المفقود بالخيار بين امرأته والمهر.(١)

قال الأميني: من لي بمتفقِّه في المسألة؟ يخبرني عن علّة تريُّث المفقود عنها زوجها أربع سنين، أهو مأخوذٌ من كتاب الله؟ فأين هو؟ أم أُخذ من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله فمن ذا الذي رواها ونقلها؟ والصحاح والمسانيد للقوم خالية عنها، نعم ربما يُتشبَّث للتقدير بأنّها نهاية مدَّة الحمل قال البقاعي في فيض الإله المالك ٢: ٢٦٣: وسبب التقدير بأربع سنين إنَّها نهاية مدَّة الحمل وقد أخبر بوقوعه لنفسه الإمام الشافعي وكذا الإمام مالك وحكي عنه أيضاً أنَّه قال: جارتنا امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كلَّ بطن أربع سنين، وورد هذا عن غير تلك المرأة أيضاً. ا هـ.

وهذا التعليل حكاه ابن رشد في مقدّمات المدوَّنة الكبرى ٢: ١٠١ عن أبي بكر الأبهري ثمَّ عقَّبه بقوله: وهو تعليلٌ ضعيف لأنَّ العلّة لو كانت في ذلك هذا لوجب أن يستوي فيه الحرُّ والعبد(٢) لاستوائهما في مدَّة لحوق النسب. ولوجب أن يسقط جملةً في الصغيرة التي لا يوطأ مثلها إذا فقد عنها زوجها فقام عنها أبوها في ذلك فقد قال: إنَّها لو أقامت عشرين سنة ثمَّ رفعت أمرها لضرب لها أجل أربعة أعوام وهذا يبطل تعليله إبطالاً ظاهراً. اهـ

وليت هذا المتشبِّث أدلى في حجَّته بذكر أناس تريّثوا في الأرحام النزيهة

____________________

١ - موطأ مالك ٢: ٢٨، كتاب الأم للشافعي ٧: ٢١٩، سنن البيهقي ٧: ٤٤٥، ٤٤٦

٢ - التفصيل بين الحر والعبد بأنّ امرأة الحرّ يضرب لها الأجل أربعة أعوام ولامرأة العبد تربّص عامين كما نصّ عليه ابن رشد رأي مجرّد لا دليل عليه.

٢٠١

عن الخنا أربعاً قبل فتيا الخليفتين وإلّا فما غناء قصَّة وقعت بعدهما بردح طويل من الزمن ولا يُدرى أصحيحةٌ هي أم مكذوبةٌ؟ وعلى فرض الصحَّة فهل كان الخليفتان يعلمان الغيب؟ وإنَّه سينتج المستقبل الكشّاف رجلاً يكون حجَّة لما قدَّراه من مدَّة التربُّص؟ أو كان ما قدَّراه فتوى مجرَّدة؟ فنحتت لها الأيّام علّةً بعد الوقوع.

على أنَّ أقصى مدَّة الحمل محلُّ خلاف بين الفقهاء، ذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أنّه عامان، ومذهب الشافعي أنّه أربعة أعوام، وأختار ابن القاسم أن أكثره خمسة أعوام(١) وروى أشهب عن مالك سبعة أعوام على ما روى: إنَّ امرأة إبن عجلان ولدت ولداً مرَّة لسبعة أعوام(٢)

ولعلَّ أبناء عجلان آخرين في أرجاء العالم لا يُرفع أمر حلائلهم إلى مالك والشافعي وقد ولدن أولاداً لثمانية أو تسعة أو عشرة أعوام، دع العقل والطبيعة والبرهنة تستحيل ذلك كلّه، ما هي وما قيمتها تجاه ما جاءت به امرأة عجلان وحكم به مالك؟ أو وِجاه ما أتت به أمُّ الإمام الشافعي فأفتى به.

نقل ابن رشد في سبب التقدير بأربعة أعوام عللاً غير هذا وإن ردَّها وفنّدها، منها إنّها المدَّة التي تبلغها المكاتبة في بلد الاسلام مسيراً ورجوعاً، ومنها: إنّه جهل إلى أيِّ جهة سار من الأربع جهات، فلكلِّ جهة تربُّص سنة فهي أربع سنين. هذا مبلغ علمهم بفلسفة آراء جاء بها عمر وعثمان فأين يقع هو من حِكَم ما صدع به النبيُّ الأقدس؟.

ثمَّ يخبرني هذا المتفقّه عن هذه العدَّة التي أثبتها الخليفتان لماذا هي؟ فإن كانت عدَّة الوفاة؟ فإنّها غير جازمة بها، ولا تثبت بمجرَّد مرور أربع سنين أو أكثر وفي رواية عن عمر كما سمعت إنّه قضى في المفقود تربُّص امرأته أربع سنين ثمَّ يطلّقها وليُّ روجها ثمَّ تربّص بعد ذلك أربعة أشهر وعشراً ثمَّ تزوَّج(٣) . فعلى هذا إنّها عدَّة الطلاق فيجب أن تكون ثلاثة قروء، فما هذا أربعة أشهر وعشراً؟ وعلى فرض ثبوت هذه العدَّة ولو بعد الطلاق من باب الأخذ بالحائطة فما علاقة الزوج بها؟ حتّى إنّه إذا جاء

____________________

١ - في الفقه على المذاهب الأربعة ٤: ٥٣٥: إنه خمس سنين على الراجح.

٢ - راجع مقدمات المدوّنة الكبرى للقاضي ابن رشد ٢: ١٠٢.

٣ - سنن البيهقي ٧: ٤٤٥.

٢٠٢

بعد النكاح خُيِّر بين امرأته وبين صداقها، وقد قطع الشرع أيَّ صلة بينهما ورخّص في تزويجها، فنكحت على الوجه المشروع، قال ابن رشد(١) : ألا ترى إنّها لو ماتت بعد العدَّة لم يوقف له ميراث منها، وإن كان لو أتى في هذه الحالة كان أحقَّ بها، ولو بلغ هو من الأجل ما لا يجئ إلى مثله من السنين وهي حيّة لم تورث منه، وإنَّما يكون لها الرضا بالمقام على العصمة ما لم ينقض الأجل المفروض، وأمّا إذا انقضى واعتدَّت فليس ذلك لها وكذلك إن مضت بعد العدَّة.

ثمَّ ما وجه أخذ الصداق من الزوج الثاني عند اختيار الأوَّل الصداق ولم يأت بمأثم وإنّما تزوَّج بامرأة أباحها له الشريعة.

وأعجب من كلِّ هذه أنَّ هذه الروايات بمشهد من الفقهاء كلّهم ولم يفتِ بمقتضاها أئمَّة المذاهب في باب الخيار، قال مالك في الموطأ ٢: ٢٨: إن تزوَّجت بعد انقضاء عدَّتها فدخل بها زوجها أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأوَّل إليها. وقال: وذلك الأمر عندنا، وإن أدركها زوجها قبل أن تتزوَّج فهو أحقُّ بها.

وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: لا تحلُّ امرأة المفقود حتّى يصحَّ موته. قاله القاضي إبن رشد في بداية المجتهد ٢: ٥٢ فقال: وقولهم مرويٌّ عن عليّ وابن مسعود.

وقال الحنفيّة: يُشترط لوجوب النفقة على الزوج شروطٌ: أحدها أن يكون العقد صحيحاً فلو عقد عليها عقداً فاسداً أو باطلاً وأنفق عليها ثمَّ ظهر فساد العقد أو بطلانه فإنَّ له الحقُّ في الرجوع عليها بما أنفقه.

ومن ذلك ما إذا غاب عنها زوجها فتزوَّجت بزوج آخر ودخل بها ثمَّ حضر زوجها الغائب فإنَّ نكاحها الثاني يكون فاسداً، ويفرِّق القاضي بينهما، وتجب عليها العدَّة بالوطئ الفاسد، ولا نفقة لها على الزوج الأوَّل ولا على الزوج الثاني(٢) .

قال الشافعي في كتاب «الأُمّ» ٥: ٢٢١: لم أعلم مخالفاً في أنَّ الرجل أو المرأة لو غابا أو أحدهما برّاً أو بحراً عُلم مغيبهما أو لم يُعلم فماتا أو أحدهما فلم يُسمع لهما بخبر

____________________

١ - مقدمات المدوّنة الكبرى ٢: ١٠٤.

٢ - الفقه على المذاهب الأربعة ٣: ٥٦٥.

٢٠٣

أو أسرهما العدوّ فصيّروهما إلى حيث لا خبر عنهما لم نورِّث وحداً منهما من صاحبه إلّا بيقين وفاته قبل صاحبه، فكذلك عندي امرأة الغائب أيّ غيبة كانت ممّا وصفتُ أو لم أصف بأسار عدوّ أو بخروج الزوج ثمَّ خفي مسلكه أو بهيامٍ من ذهاب عقل أو خروج فلم يُسمع له ذكرٌ أو بمركب في بحر فلم يأتي له خبرٌ أو جاء خبر أن غرق كان يرون إنَّه قد كان فيه ولا يستيقنون إنَّه فيه، لا تعتدُّ إمرأته ولا تنكح أبداً حتّى يأتيها بيقين وفاته، ثمَّ تعتدُّ من يوم استيقنت وفاته وترثه، ولا تعتدُّ امرأة من وفاة ومثلها يرث إلّا ورثت زوجها الذي اعتدّت من وفاته، ولو طلّقها وهو خفيُّ الغيبة بعد أيِّ هذه الأحوال كانت، أو آلى منها، أو تظاهر، أو قذفها، لزم ما يلزم الزوج الحاضر في ذلك كله، وإذا كان هذا هكذا لم يجز أن تكون امرأة رجل يقع عليها ما يقع على الزوجة تعتدُّ لا من طلاق ولا وفاة، كما لو ظننت أنّه طلّقها أو مات عنها لم تعتدّ من طلاق إلّا بيقين، وهكذا لو تربَّصت سنين كثيرة بأمر حاكم واعتدَّت وتزوَّجت فطلّقها الزوج الأوَّل المفقود لزمها الطلاق، وكذا إن آلى منها، أو تظاهر، أو قذفها، لزمه ما يلزم الزوج، وهكذا لو تربَّصت بأمر حاكم أربع سنين ثمَّ اعتدَّت فأكملت أربعة أشهر وعشراً ونكحت ودخل بها أو نكحت ولم يدخل بها أو لم تنكح وطلّقها الزوج الأوَّل المفقود في هذه الحالات لزمها الطلاق لأنّه زوجٌ، وهكذا لو تظاهر منها أو قذفها أو آلى منها لزمه ما يلزم المولى غير إنّه ممنوعٌ من فَرجها بشبهة بنكاح غيره فلا يقال له فئ حتّى تعتدَّ من الآخر إذا كانت دخلت عليه، فإذا أكملت عدَّتها أجّل من يوم تكمل عدَّتها أربعة أشهر، وذلك حين حلَّ له فرْجها وإن أصابها فقد خرج من طلاق الايلاء وكفر وإن لم يصبها قيل له: أصبها أو طلّق.

قال: وينفق عليها من مال زوجها المفقود من حين يُفقد حتّى يعلم يقين موته، وإن أجَّلها حاكمٌ أربع سنين أنفق عليها فيها وكذلك في الأربعة الأشهر والعشر من مال زوجها، فإذا نكحت لم ينفق عليها من مال الزوج المفقود لأنَّها مانعةٌ له نفسها، وكذلك لا ينفق عليها وهي في عدَّة منه لو طلّقها أو مات عنها ولو بعد ذلك، ولم أمنعها النفقة من قِبَل إنَّها زوجة الآخر، ولا إنَّ عليها منه عدَّة، ولا إنَّ بينهما ميراثاً، ولا إنّه يلزمها طلاقه، ولا شيء من الأحكام بين الزوجين إلّا لحوق الولد به إن أصابها وإنّما

٢٠٤

منعتها النفقة من الأوَّل لأنّها مخرجة نفسها من يديه ومن الوقوف عليه، كما تقف المرأة على زوجها الغائب بشبهة، فمنعتها نفقتها في الحال التي كانت فيها مانعة له نفسها بالنكاح والعدَّة، وهي لو كانت في المصر مع زوج فمنعته نفسها منعتها نفقتها بعصيانها، ومنعتها نفقتها بعد عدَّتها من زوجها الآخر بتركها حقِّها من الأوَّل وإباحتها نفسها لغيره، على معنى إنَّها خارجةٌ من الأوَّل، ولو أنفق عليها في غيبته ثمَّ ثبتت البيِّنة على موته في وقت ردَّت كلَّ ما أخذت من النفقة من حين مات فكان لها الميراث.

ولو حكم لها حاكمٌ بأن تزوَّج فتزوَّجت فسخ نكاحها وإن لم يدخل بها فلا مهر لها، وإن دخل بها فأصابها فلها مهر مثلها لا ما سمِّي لها وفسخ النكاح وإن لم يفسخ حتّى مات أو ماتت فلا ميراث لها منه ولا له منها.

قال: ومتى طلّقها الأوَّل وقع عليها طلاقه، ولو طلّقها زوجها الأوَّل أو مات عنها وهي عند الزوج الآخر كانت عند غير زوج فكانت عليها عدَّة الوفاة والطلاق ولها الميراث في الوفاة والسكنى في العدَّة في الطلاق وفيمن رآه لها بالوفاة، ولو مات الزوج الآخر لم ترثه وكذلك لا يرثها لو ماتت.. الخ.

فأنت بعد هذه كلها جِدُّ عليم بأنَّه لو كان على ما أفتى به الخليفتان مسحةٌ من أصول الحكم والفتيا لَما عدل عنه هؤلاء الأئمَّة، ولَما خالفهما قبلهم مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، ولَما قال عليه السلام في أمرأة المفقود إذا قدم وقد تزوَّجت امرأته: هي امرأته إن شاء طلّق وإن شاء أمسك ولا تخيّر.

ولَما قال عليه السلام: إذا فقدت المرأة زوجها لم تتزوَّج حتّى تعلم أمره.

ولَما قال عليه السلام: إنَّها لا تتزوَّج.

ولَما قال عليه السلام: ليس الذي قال عمر رضي الله عنه بشيء، هي امرأة الغائب حتّى يأتيها يقين موته أو طلاقها، ولها الصداق من هذا بما استحلَّ من فَرْجها ونكاحه باطلٌ

ولَما قال عليه السلام: هي امرأة الأوَّل دخل بها الآخر أو لم يدخل بها.

ولَما قال عليه السلام: امرأةٌ ابتليت فلتصبر لا تنكح حتّى يأتيها يقين موته(١) . قال

____________________

١ - كتاب الأم للشافعي ٥: ٢٢٣، البيهقي ٧: ٤ ٤٤، ٤٤٦، مقدّمات المدوّنة الكبرى ٢: ١٠٣.

٢٠٥

الشافعي بعد ذكر الحديث: وبهذا نقول.

وأمير المؤمنين كما تعلم أفقه الصحابة على الإطلاق؛ وأعلم الأُمَّة بأسرها، وباب مدينة العلم النبويِّ، ووارث علم النبيِّ الأقدس على ما جاء عنه صلى الله عليه وآله، فليتهما رجعا إليه صلوات الله عليه في حكم المسألة ولم يستبدَّا بالرأي المجرَّد كما استعلماه في كثير ممّا أربكهما من المشكلات، وأنَّى لهما باقتحام المعضلات وهما هما؟ وأيَّ رأي هذا ضربت عنه الأمَّة صفحا؟ وكم له من نظير؟ وكيف أوصى النبيُّ الأعظم باتِّباع أُناس هذه مقاييس آرائهم في دين الله، وهذا مبلغهم من العلم، بقوله فيهم: عليكم بسنّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين فتمسَّكوا بها؟(١)

خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحقِّ (سورة ص: ٢٢).

- ١٩ -

الخليفة يأخذ حكم الله من أُبيّ

أخرج البيهقي في السنن الكبرى،: ٤١٧ بالإسناد عن أبي عبيد قال: أرسل عثمان رضي الله عنه إلى أُبيّ يسأل عن رجل طلّق امرأته ثمَّ راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة. قال أُبيّ: إنِّي أرى إنَّه أحقّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، وتحلُّ لها الصَّلاة. قال: لا أعلم عثمان رضي الله عنه إلّا أخذ بذلك.

قال الأميني: صريح الرواية إنَّ الخليفة كان جاهلاً بهذا الحكم حتّى تعلّمه من أُبيّ؟ وأخذ بفتياه، ولا شكَّ إنَّ الذي علّمه هو خيرٌ منه، فهلّا ترك المقام له أو لمن هو فوقه؟ وفوق كلِّ ذي علم عليم، ولو ترك الأمر لمن لا يسأل غيره في أيِّ من مسائل الشريعة لدخل مدينة العلم من بابها.

وحسبك في مبلغ علم الخليفة قول العيني في عمدة القاري ٢: ٧٣٣: إنَّ عمر كان أعلم وأفقه من عثمان. وقد أوقفناك على علم عمر في الجزء السادس وذكرنا نوادر الأثر في علمه، فانظر ماذا ترى؟.

- ٢٠ -

الخليفة يأخذ السنَّة من امرأة

أخرج الإمامان: الشافعي ومالك وغيرهما بالإسناد عن فريعة بنت مالك بن سنان

____________________

١ - أسلفنا الحديث في الجزء السادس ص ٣٣٠ ط ٢ وبينا المعنى الصحيح المراد منه.

٢٠٦

أخبرت: إنَّها جاءت النبيَّ صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرَة وإنَّ زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتّى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فانصرفت حتّى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له قال: فكيف قلت: فرددت عليه القصَّة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال: امكثي في بيتك حتّى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً فلمّا كان عثمان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتَّبعه وقضى به.

قال الشافعي في (الرسالة): وعثمان في إمامته وفضله وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار.

قال في اختلاف الحديث: أخبرت الفريعة بنت مالك عثمان بن عفان إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرها أن تمكث بيتها وهي متوفّى عنها حتّى يَبلغ الكتاب أجله فأتَّبعه وقضى به.

قال ابن القيِّم في زاد المعاد: حديثٌ صحيحٌ مشهورٌ في الحجاز والعراق وأدخله مالك في موطَّأه، واحتجَّ به وبنى عليه مذهبه، ثمَّ ذكر تضعيف ابن حزم إيَّاه وفنَّده وقال: ما قاله أبو محمّد فغير صحيح. وذكر قول ابن عبد البرِّ في شهرته، وإنَّه معروفٌ عند علماء الحجاز والعراق.

راجع الرسالة للشافعي ص ١١٦، كتاب الأُمّ له ٥: ٢٠٨، اختلاف الحديث له: هامش كتابه الأُمّ ٧: ٢٢، موطأ مالك ٢: ٣٦، سنن أبي داود ١: ٣٦٢، سنن البيهقي ٧: ٤٣٤، أحكام القرآن للجصّاص ١: ٤٩٦، زاد المعاد ٢: ٤٠٤، الإصابة ٤: ٣٨٦، نيل الأوطار ٧: ١٠٠ فقال: رواه الخمسة وصحَّحه الترمذي ولم يذكر النسائي وإبن ماجة إرسال عثمان.

قال الأميني: هذه كسابقتها تكشف عن قصور علم الخليفة عمّا توصَّلت إليه المرأة المذكورة، وهاهنا نعيد ما قلناه هنالك، فارجع البصر كرَّتين، وأعجب من خليفة يأخذ معالم دينه من نساء أمَّته وهو المرجع الوحيد للأمَّة جمعا، يومئذ في كلِّ ما جاء به الاسلام المقدَّس كتاباً وسنَّة، وبه سُدَّ فراغ النبيِّ الأعظم، وعليه يُعوَّل في مشكلات الأحكام وعويصات المسائل فضلاً عن مثل هذه المسألة البسيطة.

٢٠٧

ثمَّ اعجب من ابن عمر أنَّه يرى مَن هذا مبلغ علمه أعلم الصحابة في يومه، ما عشت أراك الدهر عجباً.

- ٢١ -

رأي الخليفة في الاحرام قبل الميقات

أخرج البيهقي في السنن الكبرى ٥: ٣١ بالإسناد عن داود بن أبي هند إنَّ عبد الله(١) بن عامر بن كريز حين فتح خراسان قال: لأجعلنَّ شكري لله أن أخرج من موضعي محرماً فأحرم من نيسابور فلمّا قدم على عثمان لامه على ما صنع قال: ليتك تضبط من الوقت الذي يحرم منه الناس.

لفظ آخر من طريق محمَّد بن إسحاق قال: خرج عبد الله بن عامر من نيسابور معتمراً قد أحرم منها، وخلف على خراسان الأحنف بن قيس، فلمّا قضى عمرته أتى عثمان ابن عفان رضي الله عنه وذلك في السنة التي قتل فيها عثمان رضي الله عنه فقال له عثمان رضي الله عنه: لقد غررت بعمرتك حين أحرمت من نيسابور.

وقال ابن حزم في المحلّى ٧: ٧٧: روينا من طريق عبد الرزاق نامعمر عن أيوب السختياني عن محمّد بن سيرين قال: أحرم عبد الله بن عامر من حيرب(٢) فقدم عثمان بن عفان فلامه فقال له: غررت وهان عليك نسكك. وفي لفظ ابن حجر: غررت بنفسك.

فقال ابن حزم: قال أبو محمَّد (يعني نفسه): وعثمان لا يعيب عملاً صالحاً عنده ولا مباحاً وإنَّما يعيب ما لا يجوز عنده لا سيَّما وقد بيَّن إنَّه هوان بالنسك والهوان بالنسك لا يحلُّ وقد أمر الله تعالى بتعظيم شعائر الحجِّ.

وذكره ابن حجر في الإصابة ٣: ٦١ وقال: أحرم ابن عامر من نيسابور شكراً لله تعالى وقدم على عثمان فلامه على تغريره بالنسك. فقال: كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان، ثمَّ ذكر الحديث من طريق سعيد بن منصور وأبي بكر ابن أبي شيبة وفيه: أنَّ ابن عامر أحرم من خراسان. فذكره من طريق محمَّد بن سيرين والبيهقي فقال: قال البيهقي: هو عن عثمان مشهورٌ(٣)

____________________

١ - هو ابن خال عثمان بن عفان. كما في الإصابة راجع ج ٣: ٦١.

٢ - وفي نسخة: جيرب. ولم أجدهما في المعاجم.

٣ - توجد كلمة البيهقي هذه في سننه الكبرى ٥: ٣١.

٢٠٨

وذكر هذه كلها في تهذيب التهذيب ٥: ٢٧٣ غير كلمة البيهقي في شهرة الحديث وفي تيسير الوصول ١: ٢٦٥: عن عثمان رضي الله عنه: إنَّه كره أن يحرم الرجل من خراسان وكرمان. أخرجه البخاري في ترجمته.

قال الأميني: إنَّ الذي ثبت في الإحرام بالحجِّ أو العمرة إنَّ هذه المواقيت حدٌّ للأقلِّ من مدى الاحرام بمعنى إنَّه لا يعدوها الحاجُّ وهو غير محرم، وأمّا الإحرام قبلها من أيِّ البلاد شيء أو من دويرة أهل المحرم، فإن عقده باتخاذ ذلك المحلِّ ميقاتاً فلا شك إنَّه بدعةٌ محرَّمة كتأخيره عن المواقيت، وأمّا إذا جئ به للأستزادة من العبادة عملاً بإطلاقات الخير والبرّ، أو شكراً على نعمة، أو لنذر عقده المحرم فهو كالصَّلاة والصوم وبقيَّة القرب للشكر أو بالنذر أو لمطلق البرّ، تشمله كلٌّ من أدلَّة هذه العناوين ولم يرد عنه نهي من الشارع الأقدس، وإنَّما المأثور عنه وعن أصحابه ما يلي:

١ - أخرج أئمَّة الحديث بإسناد صحيح من طريق الأخنسي عن أمِّ حكيم عن أمِّ سلمة مرفوعاً: مَن أهلَّ من المسجد الأقصى لعمرة أو بحجَّة غفر الله ما تقدَّم من ذنبه. قال الأخنسي: فركبت أُمُّ حكيم عند ذلك الحديث إلى بيت المقدس حتّى أهلّت منه بعمرة.

وفي لفظ أبي داود والبيهقي والبغوي: من أهلَّ بحجَّة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر. أو: وجبت له الجنَّة. وفي لفظ: ووجبت له الجنَّة.

وفي لفظ ابن ماجة: من أهلَّ بعمرة من بيت المقدس غُفر له.

وفي لفظ له أيضاً: من أهلّ بعمرة من بيت المقدس كانت له كفّارة لِما قبلها من الذنوب. قالت: فخرجت أُمِّي من بيت المقدس بعمرة.

وقال أبو داود بعد الحديث: يرحم الله وكيعاً أحرم من بيت المقدس يعني إلى مكّة.

راجع مسند أحمد ٦: ٢٩٩، سنن أبي داود ١: ٢٧٥، سنن إبن ماجة ٢: ٢٣٥ سنن البيهقي ٥: ٣٠، مصابيح السنَّة للبغوي ١: ١٧٠، والترغيب والترهيب للمنذري ٢: ٦١ ذكره بالألفاظ المذكورة وصحَّحه من طريق ابن ماجة وقال: ورواه ابن حبّان في صحيحه.

٢٠٩

٢ - أخرج ابن عدي والبيهقي من طريق أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) (١) : إنّ من تمام الحجِّ أن تحرم من دُويرة أهلك.

سنن البيهقي ٥: ٣٠، الدرّ المنثور ١: ٢٠٨، نيل الأوطار ٥: ٢٦ قال: ثبت ذلك مرفوعاً من حديث أبي هريرة.

٣ - أخرج الحفّاظ من طريق عليّ أمير المؤمنين أنَّه قال في قوله تعالى:( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) : إتمامها أن تحرم بهما من دُويرة أهلك.

أخرجه وكيع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحّاس في ناسخه ص ٣٤، وابن جرير في تفسيره ٢: ١٢٠، والحاكم في المستدرك ٢: ٢٧٦، وصحَّحه وأقرّه الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى ٦: ٣٠، والجصّاص في أحكام القرآن ١: ٣٣٧، ٣٥٤، تفسير ابن جزي ١: ٧٤، تفسير الرازي ٢: ١٦٢ تفسير القرطبي ٢: ٣٤٣، تفسير ابن كثير ١: ٢٣٠، الدرّ المنثور ١: ٢٠٨، نيل الأوطار ٥: ٢٦.

٤ - قال الجصّاص في أحكام القرآن ١: ٣١٠: رُوي عن عليّ وعمر وسعيد بن جبير وطاوس قالوا: إتمامها أن تحرم بهما من دُويرة أهلك.

وقال في ص ٣٣٧: أمّا الإحرام بالعمرة قبل الميقات فلا خلاف بين الفقهاء فيه. وروي عن الأسود بن يزيد قال: خرجنا عُمّاراً، فلمّا انصرفنا مررنا بأبي ذر فقال: أحلقتم الشعث وقضيتم التفث؟ أما إنّ العمرة من مدركم. وإنَّما أراد أبو ذر: أنّ الأفضل إنشاء العمرة من أهلك، كما رُوي عن عليّ: تمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك.

وقال الرازي في تفسيره ٢: ١٦٢: روي عن عليّ وابن مسعود: إنّ إتمامهما أن يحرم من دُويرة أهله. وقال في ص ١٧٢: إشتهر عن أكابر الصحابة إنَّهم قالوا: من إتمام الحجِّ أن يحرم المرء من دُويرة أهله.

وقال القرطبي في تفسيره ٢: ٣٤٣ بعد ذكره حديث عليّ عليه السلام: وروي ذلك عن عمر وسعد بن أبي وقاص وفعله عمران بن حصين. ثمّ قال: أمّا ما روي عن عليّ وما فعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقَّتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبد الله

____________________

١ - سورة البقرة: ١٩٥.

٢١٠

ابن مسعود وجماعة من السلف، وثبت أنّ عمر أهلّ من إيلياء(١) وكان الأسود وعلقمة وعبد الرّحمن وأبو إسحاق يُحرمون من بيوتهم، ورخَّص فيه الشافعي. ثمَّ ذكر حديث أُم سلمة المذكورة.

وقال ابن كثير في تفسيره ١: ٢٣٠ بعد حديث عليّ عليه السلام: وكذا قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير وطاوس وسفيان الثوري.

٥ - أخرج البيهقي في السنن الكبرى ٥: ٣٠ من طريق نافع عن ابن عمر: إنَّه أحرم من إيلياء عام حكم الحكمين.

وأخرج مالك في الموطأ ١: ٢٤٢: إنّ ابن عمر أهلّ بحجَّة من إيلياء. وذكره ابن الديبع في تيسير الوصول ١: ٢٦٤، وسيوافيك عن ابن المنذر في كلام أبي زرعة: إنَّه ثابتٌ.

قال الشافعي في كتاب «الأُمِّ» ٢: ١١٨: أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن ديناد عن طاوس قال: «ولم يسمِّ عمرو القائل إلّا إنّا نراه ابن عبّاس» الرّجل يهلّ من أهله ومن بعد ما يجاوز أين شاء ولا يجاوز الميقات إلّا محرماً. إلى أن قال:

قلت: إنَّه لا يضيق عليه أن يبتدئ الإحرام قبل الميقات كمالا يضيق عليه لو أحرم من أهله، فلم يأت الميقات إلّا وقد تقدَّم بإحرامه لأنَّه قد أتى بما أُمر به من أن يكون محرماً من الميقات. اهـ

قال ملك العلماء في بدايع الصنايع ٢: ١٦٤: كلّما قدَّم الإحرام على المواقيت هو أفضل وروي عن أبي حنيفة: إنَّ ذلك أفضل إذا كان يملك نفسه أن يمنعها ما يمنع منه الإحرام، وقال الشافعي: الإحرام من الميقات أفضل بناء على أصله أنَّ الإحرام ركنٌ فيكون من أفعال الحجِّ، ولو كان كما زعم لَما جاز تقديمه على الميقات لأنَّ أفعال الحجِّ لا يجوز تقديمها على أوقاتها(٢) وتقديم الاحرام على الميقات جايزٌ بالاجماع إذا كان في أشهر الحجِّ، والخلاف في الأفضليَّة دون الجواز، ولنا قوله تعالى:( وَأَتِمّوا

____________________

١ - إيلياء بالمد وتقصر: اسم مدينة بيت المقدس.

٢ - لا صلة بين ركنية الاحرام وكونه من افعال الحج وبين عدم جواز تقديمه على المواقيت كما زعمه ملك العلماء، بل هو ركن يجوز تقديمه عليها لما مرَّ من الأدلة.

٢١١

الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) ، وروي عن عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما إنَّهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك. وروي عن أمِّ سلمة. الخ.

وقال القرطبي في تفسيره ٢: ٣٤٥: أجمع أهل العلم على أنَّ من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنَّه محرمٌ، وإنَّما منع من ذلك مَن رأى الإحرام عند الميقات أفضل كراهية أن يضيّق المرأ على نفسه ما وسَّع الله عليه، وأن يتعرَّض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وكلّهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك، لأنَّه زاد ولم ينقص.

وقال الحافظ أبو زرعة في طرح التثريب ٥: ٥ قد بيّنا إنَّ معنى التوقيت بهذه المواقيت منع مجاوزتها بلا إحرام إذا كان مريداً للنسك، أمّا الاحرام قبل الوصول إليها فلا مانع منه عند الجمهور، ونقل غير واحد الإجماع عليه، بل ذهب طائفةٌ من العلماء إلى ترجيح الإحرام من دُويرة أهله على التأخير إلى الميقات وهو أحد قولي الشافعي، ورجَّحه من أصحابه القاضي أبو الطيب والروياني والغزالي والرافعي وهو مذهب أبي حنيفة، وروي عن عمر وعلي إنّهما قالا في قوله تعالى:( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) : إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك، وقال ابن المنذر: ثبت إنَّ ابن عمر أهلَّ من إيلياء يعني بيت المقدس، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم. إنتهى. لكن الأصحَّ عند النووي من قولي الشافعي: إنَّ الاحرام من الميقات أفضل، ونقل تصحيحه عن الأكثرين والمحقِّقين، وبه قال أحمد وإسحاق، وحكى ابن المنذر فعله عن عوام أهل العلم بل زاد مالك عن ذلك فكره تقدُّم الاحرام على الميقات، وقال ابن المنذر: وروينا عن عمر إنَّه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وكره الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومالك الاحرام من المكان البعيد. إنتهى.

وعن أبي حنيفة رواية أنّه إن كان يملك نفسه عن الوقوع في محظور فالإحرام من دويرة أهله أفضل، وإلّا فمن الميقات، وبه قال بعض الشافعيَّة.

وشذَّ ابن حزم الظاهري فقال: إن أحرم قبل هذه المواقيت وهو يمرُّ عليها فلا إحرام له أن ينوي إذا صار الميقات تجديد إحرام، وحكاه عن داود وأصحابه وهو قولٌ مردودٌ بالاجماع قبله على خلافه قاله النووي، وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ مَن أحرم قبل أن يأتي الميقات فهو محرمٌ، وكذا نقل الإجماع في ذلك الخطابي وغيره.

٢١٢

وذكر الشوكاني في نيل الأوطار ٥: ٢٦ جواز تقديم الإحرام على الميقات مستدلّاً عليه بما مرَّ في قوله تعالى:( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) . ثمَّ قال:

وأمّا قول صاحب المنار: إنَّه لو كان أفضل لَما تركه جميع الصحابة. فكلامٌ على غير قانون الاستدلال، وقد حكى في التلخيص إنَّه فسَّره ابن عيينة فيما حكاه عنه أحمد بأن ينشئ لهما سفراً من أهله. لكن لا يناسب لفظ الإهلال الواقع في حديث الباب ولفظ الإحرام الواقع في حديث أبي هريرة. اهـ

والإمعان في هذه المأثورات من الأحاديث والكلم يُعطي حصول الإجماع على جواز تقديم الإحرام على الميقات، وإنَّ الخلاف في الأفضل من التقديم والاحرام من الميقات، لكن الخليفة لم يعطي النظر حقَّه، ولم يُوف للاجتهاد نصيبه، أو أنَّه عزبت عنه السنّة المأثورة، فطفق يلوم عبد الله بن عامر، أو أنّه أحبَّ أن يكون له في المسألة رأيٌ خاصٌّ، وقد قال شمس الدين أبو عبد الله الذهبي:

العلم قال الله قال رسوله

إن صحَّ والإجماع فاجهد فيهِ

وحذار من نصب الخلاف جهالةً

بين الرّسول وبين رأي فقيهِ

وهلمَّ معي واعطف النظرة فيما ذكرناه عن ابن حزم من أنَّ عثمان لا يعيب عملا صالحاً. الخ. فإنَّه غير مدعوم بالحجَّة غير حسن الظنِّ بعثمان، وهذا يجري في أعمال المسلمين كافّة ما لم يزع عنه وازعٌ، وسيرة الرجل تأبي عن الظنِّ الحسن به، وأمّا مسألتنا هذه فقد عرفنا فيها السنَّة الثابتة وإنَّ نهي عثمان مخالفٌ لها، وليس من الهيّن الفَتُّ في عضد السنَّة لتعظيم إنسان وتبرير عمله، فإنَّ المتَّبع في كافّة القُرَب ما ثبت من الشرع، ومن خالفه عيب عليه كائناً من كان.

وأمّا تشبّثه بالهوان بالنسك فتافهٌ جدّاً، وأيّ هوان بها في التأهّب لها قبل ميقاتها بقربةٍ مطلقة إن لم يكن تعظيماً لشعائر الله، وإنَّما الهوان المحرَّم بالنسك إدخال الآراء فيها على الميول والشهوات، ولا تقولوا لِما تصف ألسنتكم الكذِب هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذِب،( إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ) . «النحل ١١٦».

٢١٣

- ٢٢ -

لولا عليٌّ لهلك عثمان

أخرج الحافظ العاصميُّ في كتابه «زين الفتى في شرح سورة هل أتى» من طريق شيخه أبي بكر محمّد بن إسحاق بن محمشاد يرفعه: أنَّ رجلاً أتى عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميِّت فقال: إنَّكم تزعمون النار يعرض على هذا وإنّه يعذَّب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسُّ منها حرارة النار. فسكت عنه عثمان وأرسل إلى عليِّ بن أبي طالب المرتضى يستحضره، فلمّا أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل: أعد المسألة. فأعادها، ثمَّ قال عثمان بن عفان: أجب الرَّجل عنها يا أبا الحسن! فقال عليٌّ: ايتوني بزند وحجر. والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأُتي بهما فأخذهما وقدَّح منهما النار، ثمَّ قال للرجل: ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه ثمَّ قال: ضع يدك على الزند. فوضعها عليه فقال: هل أحسست منهما حرارة النار فبهت الرجل فقال عثمان: لولا عليٌّ لهلك عثمان.

قال الأميني: نحن لا نرقب من عثمان وليد بيت أُميَّة الحيطة بأمثال هذه العلوم التي هي من أسرار الكون، وقد تقاعست عنها معرفة من هو أرقي منه في العلم، فكيف به؟ وإنَّما تُقلّها عيبة العلوم الإلهيَّة المتلقّاة مِن المبدأ الأعلى منشئ الكون ومُلقي أسراره فيه، وهو الذي أفحم السائل هاهنا وفي كلِّ معضلة أعوز القوم عرفانها.

وإنَّما كان المترقّب من عثمان - بعد ما تسنَّم عرش الخلافة - الحيطة بما كان يسمعه ويراه ويفهم ويعقل من السنّة المفاضة على أفراد الصحابة، لئلّا يرتبك في موارد السؤال، فيرتكب العظائم ويفتي بخلاف الوارد، أو يرتأي رأياً عدت عنه المراشد لكن ويا للأسف..

- ٢٣ -

رأي الخليفة في الجمع بين الأُختين بالملك

أخرج مالك في الموطأ ٢: ١٠ عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أنَّ رجلاً سأل عثمان بن عفان عن الأُختين من ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلّتهما

٢١٤

آيةٌ وحرَّمتهما آيةٌ، فأمّا أنا فلا أحبُّ أن أصنع ذلك. قال: فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال: لو كان لي من الأمر شيءٌ ثمَّ وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. قال ابن شهاب: أراه عليَّ بن أبي طالب.

*(لفظ آخر للبيهقي)* عن ابن شهاب قال أخبرني قبيصة بن ذؤيب: إنَّ نياراً الأسلمي سأل رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأُختين فيما ملكت اليمين فقال له: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية، ولم أكن لأفعل ذلك. قال: فخرج نيار مِن عِند ذلك الرجل فلقيه رجلٌ آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أفتاك به صاحبك الذي استفيته فأخبره فقال: إنِّي أنهاك عنهما ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطانٌ عاقبتك عقوبة منكلة.

قال ملك العلماء في البدايع: وروي عن عثمان رضي الله عنه أنَّه قال: كلُّ شيء حرَّمه الله تعالى من الحرائر حرَّمه الله تعالى من الإماء إلّا الجمع في الوطئ بملك اليمين.

وقال الجصّاص في أحكام القرآن: وروي عن عثمان وابن عبّاس إنّهما أباحا ذلك وقالا: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية. وقال: روي عن عثمان الإباحة، وروي عنه أنّه ذكر التحريم والتحليل وقال: لا آمر به ولا أنهى عنه. وهذا القول منه يدلُّ على أنَّه كان ناظراً فيه غير قاطع بالتحليل والتحريم فيه فجائزٌ أن يكون قال فيه بالإباحة ثمَّ وقف فيه، وقطع عليٌّ فيه بالتحريم.

وقال الزمخشري: أمَّا الجمع بينهما في ملك اليمين فعن عثمان وعليٍّ رضي الله عنهما أنَّهما قالا: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية. فرجَّح عليٌّ التحريم وعثمان التحليل.

قال الرازي: عن عثمان أنَّه قال: أحلّتهما آيةٌ وحرَّمتهما آيةٌ والتحليل أولى.

قال ابن عبد البرِّ في كتاب الاستذكار(١) : إنَّما كنّى قبيصة بن ذؤيب عن عليِّ بن أبي طالب لصحبته عبد الملك بن مروان، وكانوا يستثقلون ذكر عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

راجع السنن الكبرى للبيهقي ٧: ١٦٤، أحكام القرآن للجصّاص ٢: ١٥٨، المحلّى لابن حزم ٩: ٥٢٢، تفسير الزمخشري ١: ٣٥٩، تفسير القرطبي ٥: ١١٧، بدايع الصنايع

____________________

١ - في بيان حديث الموطأ المذكور في أول العنوان في قول قبيصة: فلقي رجلا.

٢١٥

للملك العلماء ٢: ٢٦٤، تفسير الخازن ١: ٣٥٦، الدر المنثور ٢: ١٣٦ نقلاً عن مالك والشافعي وعبد بن حميد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي، تفسير الشوكاني ١: ٤١٨ نقلاً عن الحفّاظ المذكورين.

قال الأميني: يقع البحث عن هذه المسئلة في موردين الأوَّل: في حكم الجمع بين الأُختين بملك اليمين ووطأهما جميعاً فهو محرَّمٌ على المشهور بين الفقهاء كما قاله الرازي في تفسيره ٣: ١٩٣.

وهو المشهور عن الجمهور والأئمَّة الأربعة وغيرهم وإن كان بعض السلف قد توقّف في ذلك كما قاله ابن كثير في تفسيره ١: ٤٧٢.

ولا يجوز الجمع عند عامَّة الصحابة كما في بدايع ٢: ٢٦٤.

كان فيه خلافٌ بين السلف ثمَّ زال وحصل الإجماع على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين. واتّفق فقهاء الأمصار عليه كما قاله الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ١٥٨.

وذهب كافَّة العلماء إلى عدم جوازه ولم يلتفت أحدٌ من أئمَّة الفتوى إلى خلافه (قول عثمان) لأنَّهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه ولا يجوز عليهم تحريف التأويل وممّن قال ذلك من الصحابة عمر وعليٌّ وابن عبّاس وعمّار وابن عمر وعائشة وابن الزبير وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله فمن خالفهم فهو متعسِّفٌ في التأويل. كذا قاله القرطبي في تفسيره ٥: ١١٦، ١١٧.

وقال أبو عمر في الاستذكار: روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عبّاس ولكن اختلف عَليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحدٌ من فقهاء الأمصار والحِجاز والعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام والمغرب إلّا من شذَّ عن جماعتهم باتّباع الظاهر ونفي القياس، وقد ترك من يعمل ذلك ظاهراً ما اجتمعنا عليه، وجماعة الفقهاء متَّفقون على أنَّه لا يحلُّ الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطئ كما لا يحلُّ ذلك في النكاح.(١)

وحكيت الحرمة المتسالم عليها بين الأُمَّة جمعاء عن عليٍّ وعمر والزبير وابن عبّاس وابن مسعود وعائشة وعمّار وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وابن منبة وإسحاق

____________________

١ - تفسير ابن كثير ١: ٤٧٣، تفسير الشوكاني ١: ٤١١.

٢١٦

ابن راهويه وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وحمّاد بن أبي سليمان والشعبي والحسن البصري وأشهب والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة ومالك(١) .

ومع المجمعين الكتاب والسنَّة فمن الكتاب إطلاق الذكر الحكيم في عدِّ المحرَّمات في قوله تعالى:( وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) (سورة النساء ٢٣) فقد حرّمت الجمع بينهما بأيِّ صورة من نكاح أو ملك يمين قال ابن كثير في تفسيره ١: ٤٧٣: وقد أجمع المسلمون على أنَّ معنى قوله:( حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ) . إلى آخر الآية(٢) : أنَّ النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهنَّ سواء وكذلك يجب أن يكون نظراً و قياساً الجمع بين الأُختين وأمّهات النساء والربائب، وكذلك هو عند جمهورهم وهم الحجَّة المحجوج بها «على» من خالفها وشذَّ عنها. ه‍.

وقد تمسّك بهذا الإطلاق الصحابة والتابعون والعلماء وأئمّة الفتوى والمفسِّرون وكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يشدّد النكير على مَن يفعل ذلك ويقول: لو كان لي من الأمر شيءٌ ثمَّ وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. أو يقول للسائل: إنِّي أنهاك عنهما ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطانٌ عاقبتك عقوبة منكلة.

وروي عن أياس بن عامر أنّه قال: سألت عليَّ بن أبي طالب فقلت: إنَّ لي أختين ممّا ملكت يميني إتّخذت إحداهما سريّة وولدت لي أولاداً ثمَّ رغبت في الأُخرى فما أصنع؟ قال: تعتق التي كنت تطأ ثمَّ تطأ الأُخرى ثمَّ قال: إنّه يحرم عليك ممّا ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلّا العدد. أو قال: إلّا الأربع ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب(٣) .

ولو لم يكن في هذا المورد غير كلام الإمام عليه السلام لنهض حجَّة للفتوى فإنّه أعرف الأمّة بمغازي الكتاب وموارد السنّة، وهو باب علم النبيِّ صلّى الله عليهما وآلهما

____________________

١ - راجع أحكام القرآن للجصّاص ٢: ١٥٨، المحلّى لابن حزم ٩: ٥٢٢، ٥٢٣، تفسير القرطبي ٥: ١١٧، ١١٨، تفسير أبي حيان ٣: ٢١٣، تفسير الرازي ٣: ١٩٣، الدر المنثور ٢، ١٣٧.

٢ - هي آية: وأن تجمعوا بين الأختين.

٣ - أخرجه الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ١٥٨، وأبو عمر في الاستذكار، وذكره ابن كثير في تفسيره ١: ٤٧٢، والسيوطي في الدر المنثور ٢: ١٣٧.

٢١٧

وهو الذي خلّفه صلى الله عليه وآله عدلاً للكتاب ليتمسّكوا بهما فلا يضلّوا.

وقد أصفق على ذلك أئمَّة أهل البيت عليهم السلام من ولده وهم عترته صلى الله عليه وآله أعدال الكتاب وأبوهم سيِّدهم وقولهم حجّةٌ في كلّ باب.

وبهذه تعرف مقدار ما قد يعزى إلى أمير المؤمنين عليه السلام من موافقته لعثمان في رأيه الشاذّ عن الكتاب والسنّة وقوله: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية. وحاشاه عليه السلام من أن يختلف رأيه في حكم من أحكام الله، غير إنَّ رماة القول على عواهنه راقهم أن يهوِّن على الأُمّة خطب عثمان فكذبوا عليه صلوات الله عليه واختلقوا عليه، قال الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ١٥٨: قد روى أياس بن عامر أنّه قال لعليّ: إنّهم يقولون: إنّك تقول: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية. فقال: كذبوا.

ومن السنّة للمجمعين ما استدَّل به على الحرمة ابن نجيم في البحر الرائق ٣: ٩٥، وملك العلماء في بدايع الصنايع ٢: ٢٦٤ وغيرهما من قوله صلى الله عليه وآله: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعنَّ ماءه في رحم أُختين.

*(المورد الثاني)*: وهل هناك ما يخصّص الحرمة المستفادة من القرآن بالنسبة إلى ملك اليمين؟ يدَّعي عثمان ذلك فقال: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية. ولم يعيّن الآية المحلّلة كما يعيّنها غيره من السلف، نعم: أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن حاتم والطبراني من طريق ابن مسعود إنّه سئل عن الرجل يجمع بين الأُختين الأمتين فكرهه، فقيل: يقول الله تعالى:( إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . فقال وبَعِيرك أيضاً ممّا ملكت يمينك. وفي لفظ ابن حزم: إنّ حملك ممّا ملكت يمينك(١)

وقال الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ١٥٨: يعنون بالمحلّل قوله تعالى:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . والقول بهذا بعيدٌ عن نطاق فهم القرآن وعرفان أسباب نزول الآيات، ولا تساعده الأحاديث الواردة في الآية الكريمة، وأنّى للقائل من ثبوت التعارض بين الآيتين بعد ورودهما في موضوعين مختلفين؟ ولأعلام القوم في المقام بيانات ضافية قيّمة نقتصر منها بكلام الجصّاص قال في «أحكام القرآن» ٢: ١٩٩: إنَّ

____________________

١ - المحلّى لابن حزم ٩: ٥٢٤، تفسير ابن كثير ١: ٤٧٢، الدر المنثور ٢: ١٣٧ نقلاً عن الحفاظ المذكورين.

٢١٨

الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم والتحليل وغير جائز الاعتراض بأحدهما على الأُخرى إذ كلُّ واحدة منهما ورود ها في سبب غير سبب الأُخرى وذلك: لأنَّ قوله تعالى:( وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) . واردٌ في حكم التحريم كقوله تعالى:( وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ. وَأُمّهَاتُ نِسَائِكُمْ ) . وسائر من ذكر في الآية تحريمها. وقوله تعالى:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . في إباحة المسبيَّة التي لها زوجٌ في دار الحرب، وأفاد وقوع الفرقة وقطع العصمة فيما بينهما، فهو مستعمل فيهما ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبيّة وبين زوجها وإباحتها لمالكها، فلا يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأُختين، إذ كلُّ واحدة من الآيتين واردة في سبب غير سبب الأُخرى، فيستعمل حكم كلِّ واحدة منهما في السبب الذي وردت فيه. قال:

ويدلُّ على ذلك إنّه لا خلاف بين المسلمين في أنَّها لم تعترض على حلائل الأبناء وأُمَّهات النساء وسائر من ذكر تحريمهنَّ في الآية، وإنّه لا يجوز وطء حليلة الإبن ولا أُمّ المرأة بملك اليمين ولم يكن قوله تعالى:( اِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) موجباً لتخصيصهنَّ لوروده في سبب غير سبب الآية الأُخرى، كذلك ينبغي أن يكون حكمه في اعتراضه على تحريم الجمع وامتناع عليّ رضي الله عنه ومَن تابعه في ذلك من الصحابة من الاعتراض بقوله تعالى:( اِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . على تحريم الجمع بين الأُختين يدلُّ على أنّ حكم الآيتين إذا وردتا في سببين إحداهما في التحليل والأخرى في التحريم إنّ كلّ واحدة منهما تجري على حكمهما في ذلك السبب ولا يعترض بها على الأُخرى، وكذلك ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا وردا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك. الخ.

ونحن نردف كلام الجصّاص بما ورد في سبب نزول قوله تعالى:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . وإنَّه كما سمعت من الجصّاص غير السبب الوارد فيه قوله تعالى:( وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) .

أخرج مسلم في صحيحه وغيره بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس ولهنّ أزواجٌ فكرهنا أن نقع عليهنّ ولهنّ أزواج فسألنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . فاستحللنا بها فروجهنّ

٢١٩

وفي لفظ أحمد: إنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أطاس لهنّ أزواج من أهل الشرك فكان أُناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفّوا وتأثّموا من من غشيانهنَّ قال: فنزلت هذه الآية في ذلك:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) .

وفي لفظ النسائي: إنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس فلقوا عدوّاً فقاتلوهم وظهروا عليهم فأصابوا لهم سبايا لهنّ أزواجٌ في المشركين فكان المسلمون تحرّجوا من غشيانهنَّ فأنزل الله عزوجل:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) .

راجع صحيح مسلم ١: ٤١٦، ٤١٧، صحيح الترمذي ١: ١٣٥، سنن أبي داود ١: ٣٣٦، سنن النسائي ٦: ١١٠، مسند أحمد ٣: ٧٢، ٨٤، أحكام القرآن للجصاص ٢: ١٦٥، سنن البيهقي ٧: ١٦٧، المحلّى لابن حزم ٩: ٤٤٧، مصابيح السنّة ٢: ٢٩، تفسير القرطبي ٥: ١٢١، تفسير البيضاوي ١: ٢٦٩، تفسير ابن كثير ١: ٣٧٢، تفسير الخازن ١: ٣٧٥، تفسير الشوكاني ١: ٤١٨.

وعلى ذلك تأوَّله عليٌّ وابن عبّاس وعمر وعبد الرَّحمن بن عوف وابن عمر وابن مسعود وسعيد بن المسيِّب وسعيد بن جبير وقالوا: إنَّ الآية وردت في ذوات الأزواج من السبايا أُبيح وطؤهنَّ بملك اليمين ووجب بحدوث السبي عليها دون زوجها وقوع الفرقة بينهما(١) .

وقال القرطبي في تفسيره ٥: ١٢١: قد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقال ابن عبّاس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: المراد بالمحصنات هنا المسبيّات ذوات الأزواج خاصَّة، أي هنَّ محرّمات إلّا ما مملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب، فإنَّ تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوجٌ. وهو قول الشافعي في أنَّ السباء يقطع العصمة، وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، و وقال به أشهب، يدلُّ عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري «وذكر الحديث فقال»: وهذا نصٌّ صريحٌ في أنّ الآية نزلت بسبب تحرّج أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن وطئ المسبيّات ذوات الأزواج، فأنزل الله تعالى في جوابهم: إلّا ما ملكت

____________________

١ - أحكام القرآن للجصاص ٢: ١٦٥، سنن البيهقي ٧: ١٦٧، تفسير الشوكاني ١: ٤١٨.

٢٢٠