الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 85465
تحميل: 3914


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85465 / تحميل: 3914
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ( ٩٢ ) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ( ٩٣ ) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ( ٩٤ ) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ( ٩٥ ) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ( ٩٦ ) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ( ٩٧ ) إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ( ٩٨ )

( بيان)

الفصل الأخير من قصّة موسى (عليه السلام) الموردة في السورة يعدّ سبحانه فيه جملاً من مننه على بني إسرائيل كإنجائهم من عدوّهم و مواعدتهم جانب الطور الأيمن و إنزال المنّ و السلوى عليهم، و يختمه بذكر قصّة السامريّ و إضلاله القوم بعبادة العجل و للقصّة اتّصال بمواعدة الطور.

و هذا الجزء من الفصل - و فيه بيان تعرّض بني إسرائيل لغضبه تعالى - هو المقصود بالأصالة من هذا الفصل و لذا فصّل فيه القول و لم يبيّن غيره إلّا بإشارة و إجمال.

قوله تعالى: ( يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ) إلى آخر الآية كأنّ الكلام بتقدير القول أي قلنا يا بني إسرائيل و قوله:( قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ) المراد به فرعون أغرقه الله و أنجى بني إسرائيل منه بعد طول المحنة.

٢٠١

و قوله:( وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ) بنصب أيمن على أنّه صفة جانب و لعلّ المراد بهذه المواعدة مواعدة موسى أربعين ليلة لإنزال التوراة و قد مرّت القصّة في سورة البقرة و غيرها و كذا قصّة إنزال المنّ و السلوى.

و قوله:( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) إباحة في صورة الأمر و إضافة الطيّبات إلى( ما رَزَقْناكُمْ ) من إضافة الصفة إلى الموصوف إذ لا معنى لأن ينسب الرزق إلى نفسه ثمّ يقسّمه إلى طيّب و غيره كما يؤيّده قوله في موضع آخر:( وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) الجاثية: ١٦.

قوله:( وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ) ضمير فيه راجع إلى الأكل المتعلّق بالطيّبات و ذلك بكفران النعمة و عدم أداء شكره كما قالوا:( يا مُوسى‏ لَنْ نَصْبِرَ عَلى‏ طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها ) البقرة: ٦١.

و قوله:( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ) أي يجب غضبي و يلزم من حلّ الدين يحلّ من باب ضرب إذا وجب أداؤه، و الغضب من صفاته تعالى الفعليّة مصداقه إرادته تعالى إصابة المكروه للعبد بتهيئة الأسباب لذلك عن معصية عصاها.

و قوله:( وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى‏ ) أي سقط من الهويّ بمعنى السقوط و فسّر بالهلاك.

قوله تعالى: ( وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى‏ ) وعد بالرحمة المؤكّدة عقيب الوعيد الشديد و لذا وصف نفسه بكثرة المغفرة فقال:( وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ ) و لم يقل: و أنا غافر أو سأغفر.

و التوبة و هي الرجوع كما تكون عن المعصية إلى الطاعة كذلك تكون من الشرك إلى التوحيد، و الإيمان أيضاً كما يكون بالله كذلك يكون بآيات الله من أنبيائه و رسله و كلّ حكم جاؤا به من عندالله تعالى، و قد كثر استعمال الإيمان في القرآن في كلّ من المعنيين كما كثر استعمال التوبة في كلّ من المعنيين المذكورين و بنو إسرائيل كما تلبّسوا بمعاصي فسقوا بها كذلك تلبّسوا بالشرك كعبادة العجل

٢٠٢

و على هذا فلا موجب لصرف الكلام عن ظاهر إطلاقه في التوبة عن الشرك و المعصية جميعاً و الإيمان بالله و آياته و كذلك إطلاقه بالنسبة إلى التائبين و المؤمنين من بني إسرائيل و غيرهم و إن كان بنوإسرائيل مورد الخطاب فإنّ الصفات الإلهيّة كالمغفرة لا تختصّ بقوم دون قوم.

فمعنى الآية - و الله أعلم - و إنّي لكثير المغفرة لكلّ إنسان تاب و آمن سواء تاب عن شرك أو عن معصية و سواء آمن بي أو بآياتي من رسلي، أو ما جاؤا به من أحكامي بأن يندم على ما فعل و يعمل عملاً صالحاً بتبديل المخالفة و التمرّد فيما عصى فيه بالطاعة فيه و هو المحقّق لأصل معنى الرجوع من شي‏ء و قد مرّ تفصيل القول فيه في تفسير قوله تعالى:( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ ) النساء: ١٧، في الجزء الرابع من الكتاب.

و أمّا قوله:( ثُمَّ اهْتَدى‏ ) فالاهتداء يقابل الضلال كما يشهد به قوله تعالى:( مَنِ اهْتَدى‏ فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) الإسراء: ١٥، و قوله:( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) المائدة: ١٠٥، فهل المراد أن لا يضلّ في نفس ما تاب فيه بأن يعود إلى المعصية ثانياً فيفيد أنّ التوبة عن ذنب إنّما تنفع بالنسبة إلى ما اقترفه قبل التوبة و لا تكفي عنه لو عاد إليه ثانياً أو المراد أن لا يضلّ في غيره فيفيد أنّ المغفرة إنّما تنفعه بالنسبة إلى المعصية الّتي تاب عنها و بعبارة اُخرى إنّما تنفعه نفعاً تامّاً إذا لم يضلّ في غيره من الأعمال، أو المراد ما يعمّ المعنيين؟.

ظاهر العطف بثمّ أن يكون المراد هو المعنى الأوّل فيفيد معنى الثبات و الاستقامة على التوبة فيعود إلى اشتراط الإصلاح الّذي هو مذكور في عدّة من الآيات كقوله:( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) آل عمران: ٨٩، النور ٥.

لكن يبقى على الآية بهذا المعنى أمران: أحدهما نكتة التعبير بالغفّار بصيغة المبالغة الدالّة على الكثرة فما معنى كثرة مغفرته تعالى لمن اقترف ذنباً واحداً ثمّ

٢٠٣

تاب؟ و ثانيهما أنّ لازمها أن يكون من خالف حكماً من أحكامه كافراً به و إن اعترف بأنّه من عندالله و إنّما يعصيه اتّباعاً للهوى لا ردّاً للحكم اللّهمّ إلّا أن يقال إنّ الآية لاشتمالها على قوله:( تابَ وَ آمَنَ ) إنّما تشمل المشرك أو الرادّ لحكم من أحكام الله و هو كما ترى.

فيمكن أن يقال: إنّ المراد بالتوبة و الإيمان التوبة من الشرك و الإيمان بالله كما أنّ المعنيين هما المرادان في أغلب المواضع من كلامه الّتي ذكر التوبة و الإيمان فيها معاً، و على هذا كان المراد من قوله:( وَ عَمِلَ صالِحاً ) الطاعة لأحكامه تعالى بالائتمار لأوامره و الانتهاء عن نواهيه، و يكون معنى الآية أنّ من تاب من الشرك و آمن بالله و أتى بما كلّف به من أحكامه فإنّي كثير المغفرة لسيّئاته أغفر له زلّة بعد زلّة فتكثر المغفرة لكثرة مواردها.

و قد ذكر تعالى نظير المعنى و هو مغفرة السيّئات في قوله:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) النساء: ٣١.

فقوله:( وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ) ينطبق على آية النساء و يبقى فيه شرط زائد يقيّد حكم المغفرة و هو مدلول قوله:( ثُمَّ اهْتَدى) و هو الاهتداء إلى الطريق و يظهر أنّ المغفرة إنّما يسمح بها للمؤمن العامل بالصالحات إذا قصد ذلك من طريقه و دخل عليه من بابه.

و لا نجد في كلامه تعالى ما يقيّد الإيمان بالله و العمل الصالح في تأثيره و قبوله عند الله إلّا الإيمان بالرسول بمعنى التسليم له و طاعته في خطير الاُمور و يسيرها و أخذ الدين عنه و سلوك الطريق الّتي يخطّها و اتّباعه من غير استبداد و ابتداع يؤول إلى اتّباع خطوات الشيطان و بالجملة ولايته على المؤمنين في دينهم و دنياهم فقد شرع الله تعالى ولايته و فرض طاعته و أوجب الأخذ عنه و التأسّي به في آيات كثيرة جدّاً لا حاجة إلى إيرادها و لا مجال لاستقصائها فالنبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

و كان جلّ بني إسرائيل على إيمانهم بالله سبحانه و تصديقهم رسالة موسى و هارون متوقّفين في ولايتهما أو كالمتوقّف كما هو صريح عامّة قصصهم في كتاب الله و لعلّ

٢٠٤

هذا هو الوجه في وقوع الآية( وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) ‏ بعد نهيهم عن الطغيان و تخويفهم من غضب الله.

فقد تبيّن أنّ المراد بالاهتداء في الآية على ما يهدي إليه سائر الآيات هو الإيمان بالرسول باتّباعه في أمر الدين و الدنيا و بعبارة اُخرى هو الاهتداء إلى ولايته.

و بذلك يظهر حال ما قيل في تفسير قوله:( ثُمَّ اهْتَدى‏ ) فقد قيل: الاهتداء لزوم الإيمان و الاستمرار عليه ما دامت الحياة، و قيل: أن لا يشكّ ثانياً في إيمانه، و قيل: الأخذ بسنّة النبيّ و عدم سلوك سبيل البدعة، و قيل: الاهتداء هو أن يعلم أنّ لعمله ثواباً يجزى عليه، و قيل: هو تطهير القلب من الأخلاق الذميمة، و قيل: هو حفظ العقيدة من أن تخالف الحقّ في شي‏ء فإنّ الاهتداء بهذا الوجه غير الإيمان و غير العمل، و المطلوب على جميع هذه الأقوال تفسير الاهتداء بمعنى لا يرجع إلى الإيمان و العمل الصالح غير أنّ الّذي ذكروه لا دليل على شي‏ء من ذلك.

قوله تعالى: ( وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى -‏ إلى قوله -لِتَرْضى) حكاية مكالمة وقعت بينه تعالى و بين موسى (عليه السلام) في ميعاد الطور الّذي نزلت عليه فيه التوراة كما قصّ في سورة الأعراف تفصيلاً.

و ظاهر السياق أنّه سؤال عن السبب الّذي أوجب لموسى أن يستعجل عن قومه فيحضر ميعاد الطور قبلهم كأنّه كان المترقّب أن يحضروا الطور جميعاً فتقدّم عليهم موسى في الحضور و خلّفهم فقيل له:( وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى‏ ) فقال:( هُمْ أُولاءِ عَلى‏ أَثَرِي ) أي إنّهم لسائرون على أثري و سيلحقون بي عن قريب( وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أي و السبب في عجلي هو أن اُحصّل رضاك يا ربّ.

و الظاهر أنّ المراد بالقوم و قد ذكر أنّهم على أثره هم السبعون رجلاً الّذين اختارهم لميقات ربّه، فإنّ ظاهر تخليفه هارون على قومه بعده و سائر جهات القصّة و قوله بعد:( أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ) أنّه لم يكن من القصد أن يحضر بنوإسرائيل كلّهم الطور.

٢٠٥

و هذا الخطاب يمكن أن يخاطب به موسى (عليه السلام) في بدء حضوره في ميعاد الطور كما يمكن أن يخاطب في أواخر عهده به فإنّ السؤال عن العجل غير نفس العجل الّذي يقارن المسير و اللقاء و إذا لم يكن السؤال في بدء الورود و الحضور استقام قوله بعد:( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ ) إلخ، بناءً على أنّ الفتنة كانت بعد استبطائهم غيبة موسى على ما في الآثار و لا حاجة إلى تمحّلاتهم في توجيه الآيات.

قوله تعالى: ( قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) الفتنة الامتحان و الاختبار و نسبة الإضلال إلى السامريّ - و هو الّذي سبك العجل و أخرجه لهم فعبدوه و ضلّوا - لأنّه أحد أسبابه العاملة فيه.

و الفاء في قوله:( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ ) للتعليل يعلّل به ما يفهم من سابق الكلام فإنّ المفهوم من قول موسى:( هُمْ أُولاءِ عَلى‏ أَثَرِي ) أنّ قومه على حسن حال لم يحدث فيهم ما يوجب قلقا فكأنّه قيل: لا تكن واثقاً على ما خلّفتهم فيه فإنّا قد فتنّاهم فضلّوا.

و قوله:( قَوْمِكَ ) من وضع الظاهر موضع المضمر و لعلّ المراد غير المراد به في الآية السابقة بأن يكون ما ههنا عامّة القوم و ما هناك السبعون رجلاً الّذين اختارهم موسى للميقات.

قوله تعالى: ( فَرَجَعَ مُوسى‏ إِلى‏ قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً - إلى قوله -فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ) الغضبان صفة مشبهة من الغضب، و كذا الأسف من الأسف بفتحتين و هو الحزن و شدّة الغضب، و الموعد الوعد، و إخلافهم موعده هو تركهم ما وعدوه من حسن الخلافة بعده حتّى يرجع إليهم، و يؤيّده قوله في موضع آخر:( بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ) .

و المعنى: فرجع موسى إلى قومه و الحال أنّه غضبان شديد الغضب - أو حزين - و أخذ يلومهم على ما فعلوا، قال يا قوم أ لم يعدكم ربّك وعداً حسناً - و هو أن ينزل عليهم التوراة فيها حكم الله و في الأخذ بها سعادة دنياهم و اُخراهم أو وعده تعالى أن ينجيهم من عدوّهم و يمكّنهم في الأرض و يخصّهم بنعمه العظام( أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ )

٢٠٦

و هو مدّة مفارقة موسى إيّاهم حتّى يكونوا آيسين من رجوعه فيختلّ النظم بينهم( أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) فطغوتم بالكفر به بعد الإيمان و عبدتم العجل( فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ) و تركتم ما وعدتموني من حسن الخلافة بعدي.

و ربّما قيل في معنى قوله:( فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ) بعض معان اُخر:

كقول بعضهم إنّ إخلافهم موعده أنّه أمرهم أن يلحقوا به فتركوا المسير على أثره، و قول بعضهم هو أنّه أمرهم بطاعة هارون بعده إلى أن يرجع إليهم فخالفوه إلى غير ذلك.

قوله تعالى: ( قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ) إلى آخر الآية الملك بالفتح فالسكون مصدر ملك يملك و كأنّ المراد بقولهم:( ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ) ما خالفناك و نحن نملك من أمرنا شيئاً - كما قيل - و من الممكن أن يكون المراد أنّا لم نصرف في صوغ العجل شيئاً من أموالنا حتّى نكون قاصدين لهذا الأمر متعمّدين فيه و لكن كنّا حاملين لأثقال من حليّ القوم فطرحناها فأخذها السامري و ألقاها في النار فأخرج العجل.

و الأوزار جمع وزر و هو الثقل، و الزينة الحليّ كالعقد و القرط و السوار و القذف و الإلقاء و النبذ متقاربة معناها الطرح و الرمي.

و معنى قوله:( وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً ) إلخ لكن كانت معنا أثقال من زينة القوم و لعلّ المراد به قوم فرعون - فطرحناها فكذلك ألقى السامريّ - ألقى ما طرحناها في النار أو ألقى ما عنده كما ألقينا ما عندنا ممّا حمّلنا - فأخرج العجل.

قوله تعالى: ( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى‏ فَنَسِيَ ) في لفظ الإخراج دلالة على أنّ كيفيّة صنع العجل كانت خفيّة على الناس في غير مرئى منهم حتّى فاجأهم بإظهاره و إراءته، و الجسد هو الجثّة الّتي لا روح فيه فلا يطلق الجسد على ذي الروح البتّة، و فيه دليل على أنّ العجل لم يكن له روح و لا فيه شي‏ء من الحياة، و الخوار بضمّ الخاء صوت العجل.

و ربّما اُخذ قوله:( فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ ) إلخ كلاماً مستقلّاً

٢٠٧

إمّا من كلام الله سبحانه باختتام كلام القوم في قولهم:( فَقَذَفْناها ) و إمّا من كلام القوم و على هذا فضمير( قالُوا ) لبعض القوم و ضمير( فَأَخْرَجَ لَهُمْ ) لبعض آخر كما هو ظاهر.

و ضمير( فَنَسِيَ ) قيل: لموسى و المعنى قالوا هذا إلهكم و إله موسى فنسي موسى إلهه هذا و هو هنا و ذهب يطلبه في الطور و قيل: الضمير للسامري و المراد به نسيانه تعالى بعد ذكره و الإيمان به أي نسي السامريّ ربّه فأتى بما أتى و أضلّ القوم.

و ظاهر قوله:( فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى‏) حيث نسب القول إلى الجمع أنّه كان مع السامريّ في هذا الأمر من يساعده.

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ) توبيخ لهم حيث عبدوه و هم يرون أنّه لا يرجع قولا بأن يستجيب لمن يدعوه، و لا يملك لهم ضرّاً فيدفعه عنهم و لا نفعاً بأن يجلبه و يوصله إليهم، و من ضروريّات عقولهم أنّ الربّ يجب أن يستجيب لمن دعاه لدفع ضرّ أو لجلب نفع و أن يملك الضرّ و النفع لمربوبه.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي ) تأكيد لتوبيخهم و زيادة تقرير لجرمهم، و المعنى: أنّهم مضافاً إلى عدم تذكّرهم بما تذكّرهم به ضرورة عقولهم و عدم انتهائهم عن عبادة العجل إلى البصر و العقل لم يعتنوا بما قرعهم من طريق السمع أيضاً، فلقد قال لهم نبيّهم هارون إنّه فتنة فتنوا به و إنّ ربّهم الرحمن عزّ اسمه و إنّ من الواجب عليهم أن يتّبعوه و يطيعوا أمره.

فردّوا على هارون قائلين: لن نبرح و لن نزال عليه عاكفين أي ملازمين لعبادته حتّى يرجع إلينا موسى فنرى ما ذا يقول فيه و ما ذا يأمرنا به.

قوله تعالى: ( قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي ) رجع (عليه السلام) بعد تكليم القوم في أمر العجل إلى تكليم أخيه هارون إذ هو أحد المسؤلين الثلاثة في هذه المحنة استخلفه عليهم و أوصاه حين كان يوادعه قائلا:( اخْلُفْنِي

٢٠٨

فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) .

و كأنّ قوله:( مَنَعَكَ ) مضمّن معنى دعاك أي ما دعاك، إلى أن لا تتّبعن مانعاً لك عن الاتّباع أو ما منعك داعياً لك إلى عدم اتّباعي فهو نظير قوله:( قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) الأعراف: ١٢.

و المعنى: قال موسى معاتبا لهارون: ما منعك عن اتّباع طريقتي و هو منعهم عن الضلال و الشدّة في جنب الله أ فعصيت أمري أن تتّبعني و لا تتّبع سبيل المفسدين؟.

قوله تعالى: ( قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي ) إلخ،( يا بْنَ أُمَّ ) أصله يا بن اُمّي و هي كلمة استرحام و استرآف قالها لإسكات غضب موسى، و يظهر من قوله:( لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي ) أنّه أخذ بلحيته و رأسه غضباً ليضربه كما أخبر به في موضع آخر:( وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ) الأعراف: ١٥٠.

و قوله:( إنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) تعليل لمحذوف يدلّ عليه اللفظ و محصّله لو كنت مانعتهم عن عبادة العجل و قاومتهم بالغة ما بلغت لم يطعني إلّا بعض القوم و أدّى ذلك إلى تفرّقهم فرقتين: مؤمن مطيع، و مشرك عاص، و كان في ذلك إفساد حال القوم بتبديل اتّحادهم و اتّفاقهم الظاهر تفرّقاً و اختلافاً و ربّما انجرّ إلى قتال و قد كنت أمرتني بالإصلاح إذ قلت لي:( أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) فخشيت أن تقول حين رجعت و شاهدت ما فيه القوم من التفرّق و التحزّب: فرّقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي. هذا ما اعتذر به هارون و قد عذره موسى و دعا له و لنفسه كما في سورة الأعراف بقوله:( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الأعراف: ١٥١.

قوله تعالى: ( قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ ) رجوع منه (عليه السلام) بعد الفراغ من تكليم أخيه إلى تكليم السامريّ و هو أحد المسؤلين الثلاثة و هو الّذي أضلّ القوم.

و الخطب: الأمر الخطير الّذي يهمّك، يقول: ما هذا الأمر العظيم الّذي جئت به؟.

قوله تعالى: ( قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ

٢٠٩

فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) قال الراغب في المفردات: البصر يقال للجارحة الناظرة نحو قوله:( كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) ( وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ ) و للقوّة الّتي فيها، و يقال لقوّة القلب المدركة بصيرة و بصر نحو قوله:( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) و قال:( ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى‏ ) و جمع البصر أبصار و جمع البصيرة بصائر، قال تعالى:( فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ ) و لا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، و يقال من الأوّل: أبصرت، و من الثاني: أبصرته و بصرت به، و قلّما يقال في الحاسّة بصرت إذا لم تضامّه رؤية القلب. انتهى.

و قوله:( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً ) قيل: إنّ القبضة مصدر بمعنى اسم المفعول و اُورد عليه أن المصدر إذا استعمل كذلك لم تلحق به التاء، يقال: هذه حلّة نسج اليمن، و لا يقال: نسجه اليمن، فالمتعيّن حمله في الآية على أنّه مفعول مطلق. و ردّ بأنّ الممنوع لحوق التاء الدالّة على التحديد و المرّة لا على مجرّد التأنيث كما هنا، و فيه أنّ كون التاء هنا للتأنيث لا دليل عليه فهو مصادرة.

و قوله:( مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) الأثر شكل قدم المارّة على الطريق بعد المرور، و الأصل في معناه ما بقي من الشي‏ء بعده بوجه بحيث يدلّ عليه كالبناء أثر الباني و المصنوع أثر الصانع و العلم أثر العالم و هكذا، و من هذا القبيل أثر الأقدام على الأرض من المارّة.

و الرسول هو الّذي يحمل رسالة و قد اُطلق في القرآن على الرسول البشريّ الّذي يحمل رسالة الله تعالى إلى الناس و اُطلق بهذه اللفظة على جبريل ملك الوحي، قال تعالى:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) التكوير: ١٩، و كذا اُطلق لجمع من الملائكة الرسل كقوله:( بَلى‏ وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) الزخرف: ٨٠، و قال أيضاً في الملائكة:( جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ ) فاطر: ١.

و الآية تتضمّن جواب السامريّ عمّا سأله موسى (عليه السلام) بقوله:( فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ ) و هو سؤال عن حقيقة ذاك الأمر العظيم الّذي أتى به و ما حمله على ذلك، و السياق يشهد على أنّ قوله:( وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) جوابه عن

٢١٠

السبب الّذي دعاه إليه و حمله عليه و أنّ تسويل نفسه هو الباعث له إلى فعل ما فعل و أمّا بيان حقيقة ما صنع فهو الّذي يشير إليه بقوله:( بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) و لا نجد في كلامه تعالى في هذه القصّة و لا فيما يرتبط بها في الجملة ما يوضح المراد منه و لذا اختلفوا في تفسيره.

ففسّره الجمهور وفاقا لبعض الروايات الواردة في القصّة أنّ السامريّ رأى جبريل و قد نزل على موسى للوحي أو رآه و قد نزل راكباً على فرس من الجنّة قدّام فرعون و جنوده حين دخلوا البحر فاُغرقوا فأخذ قبضة من تراب أثر قدمه أو أثر حافر فرسه و من خاصّة هذا التراب أنّه لا يلقى على شي‏ء إلّا حلّت فيه الحياة و دخلت فيه الروح فحفظ التراب حتّى إذا صنع العجل ألقى فيه من التراب فحيّ و تحرّك و خار.

فالمراد بقوله:( بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) إبصاره جبريل حين نزل راجلاً أو راكباً رآه و عرفه و لم يره غيره من بني إسرائيل، و بقوله:( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها ) فقبضت قبضة من تراب أثر جبريل أو من تراب أثر فرس جبريل - و المراد بالرسول جبريل - فنبذتها أي ألقيت القبضة على الحليّ المذاب فحيّ العجل فكان له خوار!.

و أعظم ما يرد عليه مخالفة هذه الروايات - و ستوافيك في البحث الروائيّ التالي - للكتاب فإنّ كلامه تعالى ينصّ على أنّ العجل كان جسداً له خوار و الجسد هو الجثّة الّتي لا روح لها و لا حياة فيها، و لا يطلق على الجسم ذي الروح و الحياة البتّة.

مضافاً إلى ما أوردوه من وجوه الإشكال على الروايات ممّا سيجي‏ء نقله في البحث الروائيّ الآتي.

و نقل عن أبي مسلم في تفسير الآية أنّه قال ليس في القرآن تصريح بهذا الّذي ذكروه، و هنا وجه آخر و هو أن يكون المراد بالرسول موسى (عليه السلام) و أثره سنّته و رسمه الّذي أمر به و درج عليه فقد يقول الرجل فلان يقفو أثر فلان و يقتصّ

٢١١

أثره إذا كان يمتثل رسمه.

و تقرير الآية على ذلك أنّ موسى (عليه السلام) لمّا أقبل على السامريّ باللوم و المسألة عن الأمر الّذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال:( بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) أي عرفت أنّ الّذي عليه القوم ليس بحقّ و قد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئاً من دينك فنبذتها أي طرحتها و لم أتمسّك بها و تعبيره عن موسى بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الأمير: ما قول الأمير في كذا؟ و يكون إطلاق الرسول منه عليه نوعاً من التهكّم حيث كان كافراً مكذّباً به على حدّ قوله تعالى حكاية عن الكفرة:( يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) انتهى و من المعلوم أنّ خوار العجل على هذا الوجه كان لسبب صناعيّ بخلاف الوجه السابق.

و فيه أنّ سياق الآية يشهد على تفرّع النبذ على القبض و القبض على البصر و لازم ما ذكره تفرّع النبذ على البصر و البصر على القبض فلو كان ما ذكره حقّاً كان من الواجب أن يقال: بصرت بما لم يبصروا به فنبذت ما قبضته من أثر الرسول أو يقال: قبضت قبضة من أثر الرسول فبصرت بما لم يبصروا به فنبذتها.

و ثانياً: أنّ لازم توجيهه أن يكون قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) إشارة إلى سبب عمل العجل و جواباً عن مسألة موسى( فَما خَطْبُكَ ) ؟ و محصّله أنّه إنّما سوّاه لتسويل من نفسه أن يضلّ الناس فيكون مدلول صدر الآية أنّه لم يكن موحّداً و مدلول ذيلها أنّه لم يكن وثنيّاً فلا موحّد و لا وثنيّ مع أنّ المحكيّ من قول موسى بعد:( وَ انْظُرْ إِلى‏ إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ) إلخ إنّه كان وثنيّاً.

و ثالثاً أنّ التعبير عن موسى و هو مخاطب بلفظ الغائب بعيد.

و يمكن أن يتصوّر للآية معنى آخر بناء على ما ذكره بعضهم أن أوزار الزينة الّتي حمّلوها كانت حليّ ذهب من القبط أمرهم موسى أن يحملوها و كانت لموسى أو منسوبة إليه و هو المراد بأثر الرسول فالسامريّ يصف ما صنعه بأنّه كان ذا بصيرة في أمر الصباغة و التقليب يحسن من صنعة التماثيل ما لا علم للقوم به فسوّلت له نفسه أن يعمل لهم تمثال عجل من ذهب فأخذ و قبض قبضة من أثر الرسول و هو الحليّ من الذهب فنبذها

٢١٢

و طرحها في النار و أخرج لهم عجلاً جسداً له خوار، و كان خواره لدخول الهواء في فراغ جوفه و خروجه من فيه على ضغطة بتعبئة صناعيّة. هذا.

و يبقى الكلام على التعبير عن موسى و هو يخاطبه بالرسول، و على تسمية حليّ القوم أثر الرسول، و على تسمية عمل العجل و كان يعبده تسويلاً نفسانيّاً.

قوله تعالى: ( قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ ) هذه مجازاة له من موسى (عليه السلام) بعد ثبوت الجرم.

فقوله:( قالَ فَاذْهَبْ ) قضاء بطرده عن المجتمع بحيث لا يخالط القوم و لا يمسّ أحداً و لا يمسّه أحد بأخذ أو عطاء أو إيواء أو صحبة أو تكليم و غير ذلك من مظاهر الاجتماع الإنسانيّ و هو من أشقّ أنواع العذاب، و قوله:( فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ ) - و محصّله أنّه تقرّر و حقّ عليك أن تعيش فرداً ما دمت حيّاً - كناية عن تحسّره المداوم من الوحدة و الوحشة.

و قيل: إنّه دعاء من موسى عليه و أنّه ابتلي إثر دعائه بمرض عقام لا يقترب منه أحد إلّا حمي حمّى شديدة فكان يقول لمن اقترب منه: لا مساس لا مساس، و قيل: ابتلي بوسواس فكان يتوحّش و يفرّ من كلّ من يلقاه و ينادي لا مساس و هو وجه حسن لو صحّ الخبر.

و قوله:( وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ ) ظاهره أنّه إخبار عن هلاكه في وقت عيّنه الله و قضاه قضاء محتوماً و يحتمل الدعاء عليه، و قيل: المراد به عذاب الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ انْظُرْ إِلى‏ إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ) قال في المجمع: يقال: نسف فلان الطعام إذا ذرأه بالمنسف ليطير عنه قشوره. انتهى.

و قوله:( وَ انْظُرْ إِلى‏ إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً ) أي ظللت و دمت عليه عاكفاً لازماً، و فيه دلالة على أنّه كان اتّخذه إلهاً له يعبده.

و قوله:( لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ) أي اُقسم لنحرقنّه بالنار ثمّ لنذرينّه في البحر ذروّا، و قد استدلّ بحديث إحراقه على أنّه كان حيواناً ذا لحم

٢١٣

و دم و لو كان ذهباً لم يكن لإحراقه معنى، و هذا يؤيّد تفسير الجمهور السابق أنّه صار حيواناً ذا روح بإلقاء التراب المأخوذ من أثر جبريل عليه. لكنّ الحقّ أنّه إنّما يدلّ على أنّه لم يكن ذهباً خالصاً لا غير.

و قد احتمل بعضهم أن يكون لنحرقنّه من حرق الحديد إذا برده بالمبرد، و المعنى: لنبردنّه بالمبرد ثمّ لنذرينّ برادته في البحر و هذا أنسب.

قوله تعالى: ( إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ) الظاهر أنّه من تمام كلام موسى (عليه السلام) يخاطب به السامريّ و بني إسرائيل و قد قرّر بكلامه هذا توحّده تعالى في اُلوهيّته فلا يشاركه فيها غيره من عجل أو أيّ شريك مفروض، و هو بسياقه من لطيف الاستدلال فقد استدلّ فيه بأنّه تعالى هو الله على أنّه لا إله إلّا هو و بذلك على أنّه لا غير إلههم.

قيل: و في قوله:( وَسِعَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ) دلالة على أنّ المعدوم يسمّى شيئاً لكونه معلوماً و فيه مغالطة فإنّ مدلول الآية أنّ كلّ ما يسمّى شيئاً فقد وسعه علمه لا أنّ كلّ ما وسعه علمه فهو يسمّى شيئاً و الّذي ينفع المستدلّ هو الثاني دون الأوّل.

( بحث روائي)

في التوحيد، بإسناده إلى حمزة بن الربيع عمّن ذكره قال: كنت في مجلس أبي جعفر (عليه السلام) إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تبارك و تعالى:( وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) ما ذلك الغضب؟ فقال أبوجعفر (عليه السلام): هو العقاب يا عمرو إنّه من زعم أنّ الله عزّوجلّ زال من شي‏ء إلى شي‏ء فقد وصفه صفة مخلوق، إنّ الله عزّوجلّ لا يستفزّه شي‏ء و لا يغيره.

أقول: و روى ما في معناه الطبرسيّ في الاحتجاج مرسلاً.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال: إنّ الله تبارك و تعالى لا يقبل إلّا العمل الصالح و لا يقبل الله إلّا الوفاء بالشروط

٢١٤

و العهود فمن وفى لله بشرطه و استعمل ما وصف في عهده نال ما عنده و استكمل وعده إنّ الله تبارك و تعالى أخبر العباد بطرق الهدى، و شرع لهم فيها المنار، و أخبرهم كيف يسلكون؟ فقال:( وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى‏ ) و قال:( إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) فمن اتّقى الله فيما أمره لقي الله مؤمناً بما جاء به محمّد (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

و في المجمع: قال أبوجعفر (عليه السلام):( ثُمَّ اهْتَدى) إلى ولايتنا أهل البيت فو الله لو أنّ رجلاً عبدالله عمره ما بين الركن و المقام ثمّ مات و لم يجي‏ء بولايتنا لأكبّه الله في النار على وجهه، رواه الحاكم أبوالقاسم الحسكانيّ بإسناده و أورده العيّاشيّ في تفسيره، بعدّة طرق.

أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن سدير عنه (عليه السلام) و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن الحارث بن عمر عنه (ع‏ليه السلام) و في مناقب ابن شهرآشوب، عن أبي الجارود و أبي الصباح الكناسيّ عن الصادق (عليه السلام) و عن أبي حمزة عن السجّاد (عليه السلام): مثله و لفظه: إلينا أهل البيت.

و المراد بالولاية في الحديث ولاية أمر الناس في دينهم و دنياهم و هي المرجعيّة في أخذ معارف الدين و شرائعه و في إدارة اُمور المجتمع، و قد كانت للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كما ينصّ عليه الكتاب في أمثال قوله:( النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) ثمّ جعلت لعترته أهل بيته بعده في الكتاب بمثل آية الولاية و بما تواتر عنه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من حديث الثقلين و حديث المنزلة و نظائرهما.

و الآية و إن وقعت بين آيات خوطب بها بنو إسرائيل و ظاهرها ذلك لكنّها غير مقيّدة بشي‏ء يخصّها بهم و يمنع جريانها في غيرهم فهي جارية في غيرهم كما تجري فيهم أمّا جريانها فيهم فلأنّ لموسى بما كان إماماً في اُمّته كان له من سنخ هذه الولاية ما لغيره من الأنبياء فعلى اُمّته أن يهتدوا به و يدخلوا تحت ولايته، و أمّا جريانها في غيرهم فلأنّ الآية عامّة غير خاصّة بقوم دون قوم فهي تهدي الناس في زمن الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) إلى ولايته و بعده إلى ولاية الأئمّة من أهل بيته (عليهم السلام) فالولاية سنخ

٢١٥

واحد لها معناها إلى أيّ من نسبت.

إذ عرفت ما تقدّم ظهر لك سقوط ما ذكره الآلوسي في تفسير روح المعاني، فإنّه بعد ما نقل رواية مجمع البيان، السابقة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و أنت تعلم أنّ ولايتهم و حبّهم رضي الله عنهم ممّا لا كلام عندنا في وجوبه لكنّ حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى (عليه السلام) ممّا يستدعي القول بأنّه عزّوجلّ أعلم بني إسرائيل بأهل البيت و أوجب عليهم ولايتهم إذ ذاك و لم يثبت ذلك في صحيح الأخبار انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و الّذي أوقعه فيما وقع فيه تفسيره الولاية بمعنى المحبّة ثمّ أخذه الآية خاصّة ببني إسرائيل حتّى استنتج المعنى الّذي ذكره و ليست الولاية في آياتها و أخبارها بمعنى المحبّة و إنّما هي ملك التدبير و التصرّف في الاُمور الّذي من شؤونه لزوم الاتّباع و افتراض الطاعة و هو الّذي يدّعيه أئمّة أهل البيت لأنفسهم و أمّا المحبّة فهي معنى توسّعيّ للولاية بمعناها الحقيقيّ و من لوازمها العاديّة و هي الّتي تدلّ عليه بالمطابقة أدلّة مودّة ذي القربى من آية أو رواية.

و لولاية أهل البيت (عليهم السلام) معنى آخر ثالث و هو أن يلي الله أمر عبده فيكون هو المدبّر لاُموره و المتصرّف في شؤونه لإخلاصه في العبوديّة و هذه الولاية هي لله بالأصالة فهو الوليّ لا وليّ غيره و إنّما تنسب إلى أهل البيت (عليهم السلام) لأنّهم السابقون الأوّلون من الاُمّة في فتح هذا الباب و هي أيضاً من التوسّع في النسبة كما ينسب الصراط المستقيم في كلامه تعالى إليه بالأصالة و إلى الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين بنوع من التوسّع.

فتلخّص أنّ الولاية في حديث المجمع، بمعنى ملك التدبير و أنّ الآية الكريمة عامّة جارية في غير بني إسرائيل كما فيهم و أنّه (عليه السلام) إنّما فسّر الاهتداء إلى الولاية من جهة الآية في هذه الاُمّة و هو المعنى المتعيّن.

و في تفسير القمّيّ، و قوله:( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ ) قال اختبرناهم بعدك( وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) قال: بالعجل الّذي عبدوه.

٢١٦

و كان سبب ذلك أنّ موسى لمّا وعده الله أن ينزل عليه التوراة و الألواح إلى ثلاثين يوماً أخبر بني إسرائيل بذلك و ذهب إلى الميقات و خلّف أخاه على قومه، فلمّا جاء الثلاثون يوماً و لم يرجع موسى إليهم عصوا و أرادوا أن يقتلوا هارون و قالوا: إنّ موسى كذب و هرب منّا، فجاءهم إبليس في صورة رجل فقال لهم: إنّ موسى قد هرب منكم و لا يرجع إليكم أبداً فاجمعوا لي حليّكم حتّى أتّخذ لكم إلهاً تعبدونه.

و كان السامريّ على مقدّمة قوم موسى يوم أغرق الله فرعون و أصحابه فنظر إلى جبرئيل و كان على حيوان في صورة رمكة(١) و كانت كلّما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرّك ذلك الموضع فنظر إليه السامريّ و كان من خيار أصحاب موسى فأخذ التراب من حافر رمكة جبرئيل و كان يتحرّك فصرّه في صرّة فكان عنده يفتخر به على بني إسرائيل فلمّا جاءهم إبليس و اتّخذوا العجل قال للسامريّ: هات التراب الّذي معك، فجاء به السامريّ فألقاه في جوف العجل فلمّا وقع التراب في جوفه تحرّك و خار و نبت عليه الوبر و الشعر فسجد له بنوإسرائيل و كان عدد الّذين سجدوا له سبعين ألفاً من بني إسرائيل فقال لهم هارون كما حكى الله:( يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي، قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) فهموا بهارون فهرب منهم و بقوا في ذلك حتّى تمّ ميقات موسى أربعين ليلة.

فلمّا كان يوم عشرة من ذي الحجّة أنزل الله علم الألواح فيها التوراة و ما يحتاج إليه من أحكام السير و القصص فأوحى الله إلى موسى أنّا فتنّا قومك من بعدك و أضلّهم السامريّ و عبدوا العجل و له خوار، فقال: يا ربّ العجل من السامريّ فالخوار ممّن؟ فقال: منّي يا موسى، إنّي لمّا رأيتهم قد ولّوا عنّي إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة.

( فَرَجَعَ مُوسى -‏ كما حكى الله -إِلى‏ قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ

____________________

(١) الكرمة: الفرس تتّخذ للنسل.

٢١٧

فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ) ، ثمّ رمى بالألواح و أخذ بلحية أخيه و رأسه يجرّه إليه فقال:( ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي ؟) فقال هارون - كما حكى الله -:( يا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) .

فقال له بنوإسرائيل:( ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ) قال: ما خالفناك( وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) يعني من حليّهم( فَقَذَفْناها ) قال: التراب الّذي جاء به السامريّ طرحناه في جوفه. ثمّ أخرج السامريّ العجل و له خوار فقال له موسى:( فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ ؟) قال السامريّ:( بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) يعني من تحت حافر رمكة جبرئيل في البحر( فَنَبَذْتُها ) أي أمسكتها( وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) أي زيّنت.

فأخرج موسى العجل فأحرقه بالنار و ألقاه في البحر، ثمّ قال موسى للسامريّ:( فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ ) يعني ما دمت حيّاً و عقبك هذه العلامة فيكم قائمة: أن تقول: لا مساس حتّى يعرفوا أنّكم سامريّة فلا يغترّ بكم الناس فهم إلى الساعة بمصر و الشام معروفين لا مساس، ثمّ همّ موسى بقتل السامريّ فأوحى الله إليه: لا تقتله يا موسى فإنّه سخيّ، فقال له موسى:( انْظُرْ إِلى‏ إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً، إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ) .

أقول: ظاهر هذا الّذي نقلناه أنّ قوله:( و السبب في ذلك) إلخ، ليس ذيلاً للرواية الّتي في أوّل الكلام( قال بالعجل الّذي عبدوه) بل هو من كلام القمّيّ اقتبسه من أخبار آخرين كما هو دأبه في أغلب ما أورده في تفسيره من أسباب نزول الآيات و على ذلك شواهد في خلال القصّة الّتي ذكرها، نعم قوله في أثناء القصّة:( قال ما خالفناك) رواية، و كذا قوله:( قال التراب الّذي جاء به السامريّ طرحناه في جوفه) رواية، و كذا قوله:( ثمّ همّ موسى ) إلخ، مضمون رواية مرويّة عن الصادق (عليه السلام).

٢١٨

ثمّ على تقدير كونه رواية و تتمّة للرواية السابقة هي رواية مرسلة مضمرة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه عن عليّ (عليه السلام) قال: لمّا تعجّل موسى إلى ربّه عمد السامريّ فجمع ما قدر عليه من حليّ بني إسرائيل فضربه عجلاً ثمّ ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار فقال لهم السامريّ: هذا إلهكم و إله موسى فقال لهم هارون: يا قوم أ لم يعدكم ربّكم وعداً حسناً. الحديث.

أقول: و ما نسب فيه من القول إلى هارون حكاه القرآن عن موسى (عليهما السلام).

و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي عبّاس قال: لمّا هجم فرعون على البحر هو و أصحابه و كان فرعون على فرس أدهم حصان هاب الحصان أن يقتحم البحر فمثّل له جبريل على فرس اُنثى فلمّا رآها الحصان هجم خلفها و عرف السامريّ جبريل لأنّ اُمّه حين خافت أن يذبح خلّفته في غار و أطبقت عليه فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه في واحدة لبناً و في الاُخرى عسلاً و في الاُخرى سمنا فلم يزل يغذوه حتّى نشأ فلمّا عاينه في البحر عرفه فقبض قبضة من أثر فرسه قال: أخذ من تحت الحافر قبضة و اُلقي في روع السامريّ أنّك لا تلقيها على شي‏ء فتقول: كن كذا إلّا كان.

فلم تزل القبضة معه في يده حتّى جاوز البحر فلمّا جاوز موسى و بنوإسرائيل البحر أغرق الله آل فرعون قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح و لا تتّبع سبيل المفسدين و مضى موسى لموعد ربّه، و كان مع بني إسرائيل حليّ من حليّ آل فرعون فكأنّهم تأثّموا منه فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلمّا جمعوه قال السامريّ بالقبضة هكذا فقذفها فيه فقال: كن عجلاً جسداً له خوار فصار عجلاً جسداً له خوار فكان يدخل الريح من دبره و يخرج من فيه يسمع له صوت فقال: هذا إلهكم و إله موسى فعكفوا على العجل يعبدونه فقال هارون: يا قوم إنّما فتنتم به و إنّ ربّكم الرحمن فاتّبعوني و أطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى.

٢١٩

أقول: و الخبر - كما ترى - لا يتضمّن كون تراب الحافر ذا خاصيّة الإحياء لكنّه مشتمل على أعظم منه و هو كونه ذا خاصيّة كلمة التكوين فالسامري على هذا إنّما استعمله ليخرج الحليّ من النار في صورة عجل جسد له خوار فخرج كما أراد من غير سبب طبيعيّ عاديّ و أمّا الحياة فلا ذكر لها فيه بل ظاهر قوله بدخول الريح في جوفه و خروجه بصوت عدم اتّصافه بالحياة.

على أنّ ما فيه من إخفاء اُمّ السامريّ إيّاه لمّا ولدته في غار خوفاً من أن يذبحه فرعون و أنّ جبريل كان يأتيه فيغذوه بأصابعه حتّى نشأ ممّا لا يعتمد عليه و كون السامريّ من بني إسرائيل غير معلوم بل أنكره ابن عبّاس نفسه في خبر سعيد بن جُبير المفصّل في القصّة و روى عن ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس أنّه كان من أهل كرمان.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: انطلق موسى إلى ربّه فكلمه فلمّا كلّمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم اُولاء على أثري و عجلت إليك ربّ لترضى قال فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك و أضلّهم السامري فلمّا خبّره خبرهم قال: يا ربّ هذا السامريّ أمرهم أن يتّخذوا العجل أ رأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الربّ: أنا، قال يا ربّ فأنت إذا أضللتهم.

ثمّ رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال: حزيناً قال:( يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً - إلى قوله -ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ) يقول: بطاقتنا و لكنّا حمّلنا أوزاراً من زينة القوم يقول: من حليّ القبط فقذفناها فكذلك ألقى السامريّ فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فعكفوا عليه يعبدونه و كان يخور و يمشي فقال لهم هارون يا قوم إنّما فتنتم به يقول: ابتليتم بالعجل قال: فما خطبك يا سامريّ ما بالك - إلى قوله - و انظر إلى إلهك الّذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنّه.

قال: فأخذه و ذبحه ثمّ حرقة بالمبرد يعني سحكه ثمّ ذرأه في اليمّ فلم يبق نهر يجري يومئذ إلّا وقع فيه منه شي‏ء ثمّ قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا فمن كان يحبّه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول: و اُشربوا في قلوبهم العجل

٢٢٠