الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 85480
تحميل: 3915


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85480 / تحميل: 3915
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مكان واحد ثمّ تاب عليه و رجع إليه و هداه و سلك به إلى نفسه.

و إنّما فسّرنا قوله:( هَدى) و هو مطلق بهدايته إلى نفسه بقرينة الاجتباء، و لا ينافي مع ذلك إطلاق الهداية لأنّ الهداية إليه تعالى أصل كلّ هداية و محتدها، نعم يجب تقييد الهداية بما يكون في أمر الدين من اعتقاد حقّ و عمل صالح، و الدليل عليه تفريع الهداية في الآية على الاجتباء، فافهم ذلك.

و على هذا فلا يرد على ما قدّمنا أنّ ظاهر وقوع هذه الهداية بعد ذكر تلك الغواية أن يكون نوع تلك الغواية مرفوعاً عنه و إذ كانت غواية في أمر إرشاديّ فالآية تدلّ على إعطاء العصمة له في موارد الأمر المولويّة و الإرشادية جميعاً و صونه عن الخطاء في أمر الدين و الدنيا معاً.

و وجه عدم الورود أنّ ظاهر تفرّع الهداية على الاجتباء كونه مهديّاً إلى ما كان الاجتباء له و الاجتباء إنّما يتعلّق بما فيه السعادة الدينيّة و هو قصر العبوديّة في الله سبحانه فالهداية أيضاً متعلّقة بذلك و هي الهداية الّتي لا واسطة فيها بينه تعالى و بين العبد المهدي و لا تتخلّف أصلاً كما قال:( فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) النحل: ٣٧، و الهداية إلى منافع الحياة أيضاً و إن كانت راجعة إليه تعالى لكنّها ممّا تتخلّل الأسباب فيها بينها و بينه تعالى و الأسباب ربّما تخلّفت، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) تقدّم تفسير مثله في سورتي البقرة و الأعراف.

و في قوله:( قالَ اهْبِطا ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و الإفراد و لعلّ الوجه فيه اشتمال الآية على القضاء و الحكم و هو ممّا يختصّ به تعالى قال:( وَ اللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) المؤمن: ٢٠، و قال:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) يوسف: ٦٧.

قوله تعالى: ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى) في الآية قضاء منه تعالى متفرّع على الهبوط و لذا عطف بفاء التفريع، و أصل قوله:( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ) فإن يأتكم زيد عليه ما و نون التأكيد للإشارة إلى وقوع الشرط كأنّه قيل: إن يأتكم منّي هدى - و هو لا محالة آت - فمن اتّبع إلخ.

٢٤١

و في قوله:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ ) نسبة الاتّباع إلى الهدى على طريق الاستعارة بالكناية، و أصله: من اتّبع الهادي الّذي يهدي بهداي.

و قوله:( فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى) أي لا يضلّ في طريقه و لا يشقى في غايته الّتي هي عاقبة أمره، و إطلاق الضلال و الشقاء يقضي بنفي الضلال و الشقاء عنه في الدنيا و الآخرة جميعاً و هو كذلك فإنّ الهدى الإلهيّ هو الدين الفطريّ الّذي دعا إليه بلسان أنبيائه، و دين الفطرة هو مجموع الاعتقادات و الأعمال الّتي تدعو إليها فطرة الإنسان و خلقته بحسب ما جهّز به من الجهازات، و من المعلوم أنّ سعادة كلّ شي‏ء هو ما تستدعيه خلقته بما لها من التجهيز لا سعادة له وراءه، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) قال الراغب: العيش الحياة المختصّة بالحيوان و هو أخصّ من الحياة لأنّ الحياة يقال في الحيوان و في الباري تعالى و في الملك و يشتقّ منه المعيشة لما يتعيّش منه، قال تعالى:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) ( مَعِيشَةً ضَنْكاً ) انتهى، و الضنك هو الضيق من كلّ شي‏ء و يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، يقال: مكان ضنك و معيشة ضنك و هو في الأصل مصدر ضنك يضنك من باب شرف يشرف أي ضاق.

و قوله:( وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) يقابل قوله في الآية السابقة:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ ) و كان مقتضى المقابلة أن يقال:( و من لم يتبع هداي) و إنّما عدل عنه إلى ذكر الإعراض عن الذكر ليشير به إلى علّة الحكم لأنّ نسيانه تعالى و الإعراض عن ذكره هو السبب لضنك العيش و العمى يوم القيامة، و ليكون توطئة و تمهيداً لما سيذكر من نسيانه تعالى يوم القيامة من نسيه في الدنيا.

و المراد بذكره تعالى أمّا المعنى المصدري فقوله:( ذِكْرِي ) من إضافة المصدر إلى مفعوله أو القرآن أو مطلق الكتب السماويّة كما يؤيّده قوله الآتي:

٢٤٢

( أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها ) أو الدعوة الحقّة و تسميتها ذكراً لأنّ لازم اتّباعها و الأخذ بها ذكره تعالى.

و قوله:( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) أي ضيّقة و ذلك أنّ من نسي ربّه و انقطع عن ذكره لم يبق له إلّا أن يتعلّق بالدنيا و يجعلها مطلوبه الوحيد الّذي يسعى له و يهتمّ بإصلاح معيشته و التوسّع فيها و التمتّع منها، و المعيشة الّتي اُوتيها لا تسعه سواء كانت قليلة أو كثيرة لأنّه كلّما حصل منها و اقتناها لم يرض نفسه بها و انتزعت إلى تحصيل ما هو أزيد و أوسع من غير أن يقف منها على حدّ فهو دائماً في ضيق صدر و حنق ممّا وجد متعلّق القلب بما وراءه مع ما يهجم عليه من الهمّ و الغمّ و الحزن و القلق و الاضطراب و الخوف بنزول النوازل و عروض العوارض من موت و مرض و عاهة و حسد حاسد و كيد كائد و خيبة سعي و فراق حبيب.

و لو أنّه عرف مقام ربّه ذاكراً غير ناس أيقن أنّ له حياة عند ربّه لا يخالطها موت و ملكاً لا يعتريه زوال و عزّة لا يشوبها ذلّة و فرحاً و سروراً و رفعة و كرامة لا تقدّر بقدر و لا تنتهي إلى أمد و أنّ الدنيا دار مجاز و ما حياتها في الآخرة إلّا متاع فلو عرف ذلك قنعت نفسه بما قدّر له من الدنيا و وسعه ما اُوتيه من المعيشة من غير ضيق و ضنك.

و قيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر و شقاء الحياة البرزخيّة بناء على أنّ كثيراً من المعرضين عن ذكر الله ربّما نالوا من المعيشة أوسعها و ألقت إليهم اُمور الدنيا بأزمّتها فهم في عيشة وسيعة سعيدة.

و فيه أنّه مبنيّ على مقايسة معيشة الغنيّ من معيشة الفقير بالنظر إلى نفس المعيشتين و الإمكانات الّتي فيهما و لا يتعلّق نظر القرآن بهما من هذه الجهة البتّة، و إنّما تبحث الآيات فيهما بمقايسة المعيشة المضافة إلى المؤمن و هو مسلّح بذكر الله و الإيمان به من المعيشة المضافة إلى الكافر الناسي لربّه المتعلّق النفس بالحياة الدنيا الأعزل من الإيمان و لا ريب أنّ للمؤمن حياة حرّة سعيدة يسعه ما أكرمه ربّه به من معيشة و إن كانت بالعفاف و الكفاف أو دون ذلك، و ليس للمعرض عن ذكر

٢٤٣

ربّه إلّا عدم الرضا بما وجد و التعلّق بما وراءه.

نعم عذاب القبر من مصاديق المعيشة الضنك بناء على كون قوله:( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) متعرّضاً لبيان حالهم في الدنيا و قوله:( وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) لبيان حالهم في الآخرة و البرزخ من أذناب الدنيا.

و قيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب النار يوم القيامة، و بقوله:( وَ نَحْشُرُهُ ) إلخ، ما قبل دخول النار.

و فيه أنّ إطلاق قوله:( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) ثمّ تقييد قوله:( وَ نَحْشُرُهُ ) بيوم القيامة لا يلائمه و هو ظاهر.

نعم لو أخذ أوّل الآية مطلقاً يشمل معيشة الدنيا و الآخرة جميعاً و آخرها لتقيّده بيوم القيامة مختصّاً بالآخرة كان له وجه.

و قوله:( وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) أي بحيث لا يهتدي إلى ما فيه سعادته و هو الجنّة و الدليل على ذلك ما يأتي في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى‏ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً ) يسبق إلى الذهن أنّ عمى يوم القيامة يتعلّق ببصر الحسّ فإنّ الّذي يسأل عنه هو ذهاب البصر الّذي كان له في الدنيا و هو بصر الحسّ دون بصر القلب الّذي هو البصيرة، فيشكل عليه ظاهر ما دلّ على أنّ المجرمين يبصرون يوم القيامة أهوال اليوم و آيات العظمة و القهر كقوله تعالى:( إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا ) الم السجدة: ١٢، و قوله:( اقْرَأْ كِتابَكَ ) الإسراء: ١٤، و لذلك ذكر بعضهم أنّهم يحشرون أوّلاً مبصرين ثمّ يعمون، و بعضهم أنّهم يحشرون مبصرين ثمّ عمياً ثمّ مبصرين.

و هذا قياس اُمور الآخرة و أحوالها بما لها من نظير في الدنيا و هو قياس مع الفارق فإنّ من الظاهر المسلّم من الكتاب و السنّة أنّ النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا الّذي نألفه من الطبيعة و كون البصير مبصراً لكلّ مبصر و الأعمى غير مدرك لكلّ ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيويّ

٢٤٤

لا دليل على عمومه للنظام الاُخرويّ فمن الجائز أن يتبعّض الأمر هناك فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته و فلاحه و فوزه بالكرامة و هو يشاهد ما يتمّ به الحجّة عليه و ما يفزعه من أهوال القيامة و ما يشتدّ به العذاب عليه من النار و غيرها، قال تعالى:( إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: ١٥.

قوله تعالى: ( قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) الآية جواب سؤال السائل:( رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى‏ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً ) ؟ و الإشارة في قوله:( كَذلِكَ أَتَتْكَ ) إلى حشره أعمى المذكور في السؤال، و في قوله:( وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ ) إلى معنى قوله:( أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها ) و المعنى قال: كما حشرناك أعمى أتتك آياتنا فنسيتها و كما أتتك آياتنا فنسيتها ننساك اليوم أي إنّ حشرك اليوم أعمى و تركك لا تبصر شيئاً مثل تركك آياتنا في الدنيا كما يترك الشي‏ء المنسيّ و عدم اهتدائك بها مثل تركنا لك اليوم و عدم هدايتك بجعلك بصيراً تهتدي إلى النجاة، و بعبارة اُخرى إنّما جازيناك في هذا اليوم بمثل ما فعلت في الدنيا كما قال تعالى:( وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) الشورى: ٤٠.

و قد سمّى الله سبحانه معصية المجرمين و هم المعرضون عن ذكره التاركون لهداه نسياناً لآياته، و مجازاتهم بالإعماء يوم القيامة نسياناً منه لهم و انعطف بذلك آخر الكلام إلى أوّله و هو معصية آدم الّتي سمّاها نسياناً لعهده إذ قال:( وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ) فكأنّ قصّة جنّة آدم بما لها من الخصوصيّات كانت مثالاً من قبل يمثّل به ما سيجري على بنيه من بعده إلى يوم القيامة فيمثّل بنهيه عن اقتراب الشجرة الدعوة الدينيّة و الهدى الإلهيّ بعده، و بمعصيته الّتي كانت نسياناً للعهد معاصي بنيه الّتي هي نسيان لذكره تعالى و آياته المذكّرة، و إنّما الفرق أنّ ابتلاء آدم كان قبل تشريع الشرائع فكان النهي المتوجّه إليه إرشاديّاً و ما ابتلي به من المخالفة من قبيل ترك الأولى بخلاف الأمر في بنيه.

٢٤٥

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) قال: فيما نهاه عنه من أكل الشجرة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليها السلام) قال: سألته كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنّه لم ينس و كيف ينسى و هو يذكره و يقول له إبليس:( ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ ) ؟

أقول: و هذا قول من قال في الآية بأنّ النسيان بمعناه الحقيقيّ و أنّ آدم نسي النهي عند الأكل حقيقة و لم يكن له عزم على المعصية أصلاً، ردّ (عليه السلام) ذلك بمخالفة الكتاب، و به يظهر ضعف‏ ما رواه في روضة الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنّ الله تبارك و تعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة، فلمّا بلغ الوقت الّذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها، و هو قول الله تعالى:( وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) .

و هذا القول منسوب إلى ابن عبّاس و الأصل فيه‏ ما رواه في الدرّ المنثور، عن الزبير بن بكّار في الموفّقيّات عن ابن عبّاس قال: سألت عمر بن الخطّاب عن قول الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) قال: كان رجال من المهاجرين في أنسابهم شي‏ء فقالوا يوماً: و الله لوددنا أنّ الله أنزل قرآناً في نسبنا فأنزل الله ما قرأت.

ثمّ قال لي: إنّ صاحبكم هذا يعني عليّ بن أبي طالب إن ولّي زهد و لكنّي أخشى عجب نفسه أن يذهب به. قلت: يا أميرالمؤمنين إنّ صاحبنا من قد علمت و الله ما نقول: إنّه غيّر و لا عدل و لا أسخط رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أيّام صحبته. فقال: و لا في بنت أبي جهل و هو يريد أن يخطبها على فاطمة؟ قلت: قال الله في معصية آدم (عليه السلام):( وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) و صاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و لكنّ

٢٤٦

الخواطر الّتي لم يقدر أحد على دفعها عن نفسه، و ربّما كانت من الفقيه في دين الله العالم بأمر الله فإذا نبّه عليها رجع و أناب فقال: يا بن عبّاس من ظنّ أنّه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتّى يبلغ قعرها فقد ظنّ عجزاً.

فقد بنى حجّته على كون المراد بالعزم العزم على المعصية و لازمه كون المراد بالنسيان معناه الحقيقيّ، فآدم لم يذكر العهد حين الأكل و لا عزم على المعصية فلم يعص ربّه، و قد تقدّم أنّه مخالف لقوله:( قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ ) على أنّ الآية بالمعنى الّذي ذكره لا تناسب سياق الآيات السابقة عليها و لا اللاحقة، و من الحريّ أن يجلّ ابن عبّاس و هو هو عن أن ينسب إليه هذا القول.

و أمّا ما وقع في الحديث من سخط رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) على عليّ (عليه السلام) في إرادته خطبة بنت أبي جهل على فاطمة (عليها السلام) فإشارة إلى ما في صحيح البخاري، و صحيح مسلم، بعدّة طرق عن المسوّر بن مخرمة و لفظ بعضها: أنّ عليّ بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل و عنده فاطمة بنت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فلمّا سمعت بذلك فاطمة أتت النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فقالت له: إنّ قومك يتحدّثون أنّك لا تغضب لبناتك و هذا عليّ ناكحا ابنة أبي جهل، قال المسوّر: فقام النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فسمعته حين تشهّد ثمّ قال: أمّا بعد فإنّي أنكحت أباالعاص بن الربيع فحدّثني فصدقني(١) و إنّ فاطمة مضغة منّي و إنّما أكره أن يفتنوها و إنّها و الله لا تجتمع بنت رسول الله و بنت عدوّ الله عند رجل واحد أبداً. قال: فترك عليّ الخطبة.

و الإمعان في التأمّل فيما يتضمّنه الحديث يوجب سوء الظنّ به فإنّ فيه طعناً صريحاً في النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فلو كان ما يتضمّنه حقّاً كانت السخطة منه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) نزعة جاهليّة من غير مجوّز يجوّزها له فبما ذا كان يسخط عليه؟ أ بقوله تعالى:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) الآية، و هو عامّ لم ينسخ و لم يخصّص بآية اُخرى خاصّة بها؟ أم بشي‏ء من السنّة يخصّص الآية بفاطمة (عليها السلام) و يشرّع

____________________

(١) ثناء لصهره أبي العاص زوج بنته زينب.

٢٤٧

فيها خاصّة حكماً شخصيّاً بالتحريم فلم يثبت و لم يبلّغ قبل ذلك، و في لفظ(١) الحديث دلالة على ذلك أم أنّ نفس هذا القول بيان و تبليغ فلم يبيّن و لم يبلّغ قبل ذلك و لا بأس بمخالفة الحكم قبل بلوغه و لا معصية فيها، فما معنى سخطه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) على من لم يأت بمعصية و لا عزم عليها، و ساحته (صلّي الله عليه وآله وسلّم) منزّهة من هذه الشيم الجاهليّة، و كأنّ بعض رواة الحديث أراد به الطعن في عليّ (عليه السلام) فطعن في النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من حيث لا يشعر.

على أنّه يناقض الروايات القطعيّة الدالّة على نزاهة ساحة عليّ (عليه السلام) من المعصية كخبر الثقلين و خبر المنزلة و خبر عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ، إلى غير ذلك.

و في الكافي، و العلل، مسنداً عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله‏ تعالى:( وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) قال: عهد إليه في محمّد و الأئمّة من ولده فترك و لم يكن له عزم فيهم أنّه هكذا، و إنّما سمّوا اُولي العزم لأنّهم عهد إليهم في محمّد و الأوصياء من بعده و المهديّ و سيرته فأجمع عزمهم أنّ ذلك كذلك و الإقرار به.

أقول: و الرواية ملخّصة من حديث مفصّل رواه في الكافي، عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن داود العجليّ عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) يذكر فيه بدء خلق الإنسان ثمّ إشهاد الناس على أنفسهم في عالم الذرّ و أخذ الميثاق من آدم (عليه السلام) و من اُولي العزم من الرسل بالربوبيّة و النبوّة و الولاية و إقرار اُولي العزم على ذلك و توقّف آدم (عليه السلام) و عدم عزمه على الإقرار و إن لم يجحد ثمّ تطبيق قوله تعالى:( وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ ) الآية، عليه.

و المعنى المذكور في الرواية من بطن القرآن اُرجع فيه الأحكام إلى حقيقتها

____________________

(١) و فيما روى المسور من طريق اُخرى: إنّي لست أحرم حلالاً و اُحلّ حراماً و لكن و الله لا تجتمع بنت رسول الله و بنت عدوّ الله مكاناً واحداً أبداً.

٢٤٨

و العهود إلى تأويلها و هو الولاية الإلهيّة، و ليس من تفسير لفظ الآية في شي‏ء، و الدليل على أنّه ليس بتفسير أنّ الآيات - و هي اثنتا عشرة آية - تقصّ قصّة واحدة و لو حملت الآية الاُولى على هذا المعنى تفسيراً لم يبق في الآيات ما يدلّ على النهي عن أكل الشجرة و هو ركن القصّة عليه يعتمد الباقي، و لا يغني عنه قوله:( فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ ) ، و هو ظاهر، و لم يذكر النهي المذكور في سورة متقدّمة نزولاً على هذه السورة حتّى يحال إليه و سورتا الأعراف و البقرة المذكور فيهما النهي المذكور متأخّرتان نزولاً عن هذه السورة كما سيجي‏ء الإشارة إليه إن شاء الله.

و بالجملة فهو من البطن دون التفسير و إن ورد في بعض الروايات في صورة التفسير كرواية جابر السابقة و لعلّه ممّا اشتبه على بعض رواة الحديث فأورده على هذه الصورة و قد بلغ الأمر في بعض الروايات إلى أن جعل ما ذكره الإمام من المعنى جزء من الآية فصارت من أخبار التحريف‏ كما في المناقب، عن الباقر (عليه السلام):( وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ كلمات في محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهم) كذا نزلت على محمّد (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

و نظير هذه الروايات روايات اُخر وقع فيها تطبيق قوله تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ ) و قوله:( عَنْ ذِكْرِي ) على ولاية أهل البيت (عليهم السلام) و هي من روايات الجري دون التفسير كما توهّم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الطبرانيّ و أبونعيم في الحلية و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): من اتّبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا و وقاه سوء الحساب يوم القيامة، و ذلك أنّ الله يقول:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى ]‏.

أقول: الحديث ينزّل قوله تعالى:( فَلا يَضِلُّ ) على الدنيا و قوله:( وَ لا يَشْقى‏ ) على الآخرة فيؤيّد ما تقدّم في تفسير الآية.

و في المجمع في قوله تعالى:( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) و قيل: هو عذاب

٢٤٩

القبر: عن ابن مسعود و أبي سعيد الخدريّ و السدّيّ، و رواه أبوهريرة مرفوعاً.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: من مات و هو صحيح موسر لم يحجّ فهو ممّن قال الله عزّوجلّ:( وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ) ‏ قال: قلت: سبحان الله أعمى؟ قال: نعم أعماه الله عن طريق الحقّ.

أقول: و روى مثله القمّيّ في تفسيره مسنداً عن معاوية بن عمّار و الصدوق في من لا يحضره الفقيه، مرسلاً عنه عن أبي عبدالله (عليه السلام). و الرواية في تخصيصها عمى يوم القيامة بطريق الحقّ و هو طريق النجاة و السعادة تؤيّد ما تقدّم في تفسير الآية.

٢٥٠

( سورة طه الآيات ١٢٧ - ١٣٥)

وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ ( ١٢٧ ) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ ( ١٢٨ ) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى ( ١٢٩ ) فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ ( ١٣٠ ) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ( ١٣١ ) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ( ١٣٢ ) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ ( ١٣٣ ) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ ( ١٣٤ ) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ ( ١٣٥ )

٢٥١

( بيان)

متفرّقات من وعيد و وعد و حجّة و حكم و تسلية للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) متفرّعة على ما تقدّم في السورة.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى‏ ) الإسراف التجاوز عن الحدّ و الظاهر أنّ الواو في قوله:( وَ كَذلِكَ ) للاستيناف، و الإشارة إلى ما تقدّم من مؤاخذة من أعرض عن ذكر الله و نسي آيات ربّه فإنّه تجاوز منه عن حدّ العبوديّة و كفر بآيات ربّه فجزاؤه جزاء من نسي آيات ربّه و تركها بعد ما عهد إليه معرضاً عن ذكره.

و قوله:( وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى‏ ) أي من عذاب الدنيا و ذلك لكونه محيطاً بباطن الإنسان كظاهره و لكونه دائماً لا يزول.

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ) إلخ، الظاهر أنّ( يَهْدِ ) مضمّن معنى يبيّن، و المعنى أ فلم يبيّن لهم طريق الاعتبار و الإيمان بالآيات كثرة إهلاكنا القرون الّتي كانوا قبلهم و هم يمشون في مساكنهم كما كانت تمرّ أهل مكّة في أسفارهم بمساكن عاد بأحقاف اليمن و مساكن ثمود و أصحاب الأيكة بالشام و مساكن قوم لوط بفلسطين( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى‏ ) أي أرباب العقول.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى ) مقتضى السياق السابق أن يكون( لِزاماً ) بمعنى الملازمة و هما مصدراً لازم يلازم، و المراد بالمصدر معنى اسم الفاعل و على هذا فاسم كان هو الضمير الراجع إلى الهلاك المذكور في الآية السابقة، و أنّ قوله:( وَ أَجَلٌ مُسَمًّى ) معطوف على( كَلِمَةٌ سَبَقَتْ ) و التقدير و لو لا كلمة سبقت من ربّك و أجل مسمّى لكان الهلاك ملازما لهم إذ أسرفوا و لم يؤمنوا بآيات ربّهم.

و احتمل بعضهم أن يكون لزام اسم آلة كحزام و ركاب و آخرون أن يكون

٢٥٢

جمع لازم كقيام جمع قائم و المعنيان لا يلائمان السياق كثيراً.

و قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) تكرّرت هذه الكلمة منه سبحانه في حقّ بني إسرائيل و غيرهم في مواضع من كلامه كقوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) يونس: ١٩ هود: ١١٠ حم السجدة: ٤٥، و قد غيّاها بالأجل المسمّى في قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى: ١٤، و قد تقدّم في تفسير سورتي يونس و هود أنّ المراد بها الكلمة الّتي قضي بها عند إهباط آدم إلى الأرض بمثل قوله:( وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) الأعراف: ٢٤.

فالناس آمنون من الهلاك و عذاب الاستئصال على إسرافهم و كفرهم ما بين استقرارهم في الأرض و أجلهم المسمّى إلّا أن يجيئهم رسول فيقضي بينهم، قال تعالى:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧ و إليه يرجع عذاب الاستئصال عن الآيات المقترحة إذا لم يؤمن بها بعد ما جاءت و هذه الاُمّة حالهم حال سائر الأمم في الأمن من عذاب الاستئصال بوعد سابق من الله، و أمّا القضاء بينهم و بين النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فقد أخّره الله إلى أمد كما تقدّم استفادته من قوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ) الآية من سورة يونس.

و احتمل بعضهم أن يكون المراد بالكلمة وعداً خاصّاً بهذه الاُمّة بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة و قد مرّ في تفسير سورة يونس أنّ ظاهر الآيات خلافه نعم يدلّ كلامه تعالى على تأخيره إلى أمد كما تقدّم.

و نظيره في الفساد قول الآخرين إنّ المراد بالكلمة قضاء عذاب أهل بدر منهم بالسيف و الأجل المسمّى لباقي كفّار مكّة و هو كما ترى.

و قوله:( وَ أَجَلٌ مُسَمًّى ) قد تقدّم في تفسير أوّل سورة الأنعام أنّ الأجل المسمّى هو الأجل المعيّن بالتسمية الّذي لا يتخطّا و لا يتخلّف كما قال تعالى:( ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ ) الحجر: ٥، و ذكر بعضهم أنّ المراد بالأجل المسمّى يوم القيامة، و قال آخرون إنّ الأجل المسمّى هو الكلمة الّتي سبقت

٢٥٣

من الله فيكون عطف الأجل على الكلمة من عطف التفسير، و لا معوّل على القولين لعدم الدليل.

فمحصّل معنى الآية أنّه لو لا أنّ الكلمة الّتي سبقت من ربّك - و في إضافة الربّ إلى ضمير الخطاب إعزاز و تأييد للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) تقضي بتأخير عذابهم و الأجل المسمّى يعيّن وقته في ظرف التأخير لكان الهلاك ملازماً لهم بمجرّد الإسراف و الكفر.

و من هنا يظهر أنّ مجموع الكلمة الّتي سبقت و الأجل المسمّى سبب واحد تامّ لتأخير العذاب عنهم لا أنّ كلّ واحد منهما سبب مستقلّ في ذلك كما اختاره كثير منهم.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها ) إلخ، يأمره بالصبر على ما يقولون و يفرّعه على ما تقدّم كأنّه قيل: إذا كان من قضاء الله أن يؤخّر عذابهم و لا يعاجلهم بالانتقام على ما يقولون فلا يبقى لك إلّا أن تصبر راضياً على ما قضاه الله من الأمر و تنزّهه عمّا يقولونه من كلمة الشرك و يواجهونك به من السوء، و تحمده على ما تواجهه من آثار قضائه فليس إلّا الجميل فاصبر على ما يقولون و سبّح بحمد ربّك لعلّك ترضى.

و قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) أي نزّهه متلبّساً بحمده و الثناء عليه فإنّ هذه الحوادث الّتي يشقّ تحمّلها و الصبر عليها لها نسبة إلى فواعلها و ليست إلّا سيّئة يجب تنزيهه تعالى عنها و لها نسبة بالإذن إليه تعالى و هي بهذه النسبة جميلة لا يترتّب عليها إلّا مصالح عامّة يصلح بها النظام الكونيّ ينبغي أن يحمد الله و يثني عليه بها.

و قوله:( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها ) ظرفان متعلّقان بقوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) .

و قوله:( وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ) الجملة نظيرة قوله:( وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) البقرة: ٤٠، و الآناء على أفعال جمع إنّي أو إنو بكسر الهمزة بمعنى الوقت و( مِنْ )

٢٥٤

للتبعيض و الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( فَسَبِّحْ ) دالّ على ظرف في معناه متعلّق بالفعل و التقدير و بعض آناء الليل سبّح فيها.

و قوله:( وَ أَطْرافَ النَّهارِ ) منصوب بنزع الخافض على ما ذكروا معطوف على قوله:( وَ مِنْ آناءِ ) و التقدير و سبّح في أطراف النهار و هل المراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها، أو غير ذلك؟ اختلفت فيه كلمات المفسّرين و سنشير إليه.

و ما ذكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أنّ المراد به الفرائض اليوميّة من الصلوات و إليه مال بعض المفسّرين لكن أصرّ أكثرهم على أنّ المراد بالتسبيح الصلاة تبعا لما روي عن بعض القدماء كقتادة و غيره.

قالوا: إنّ مجموع الآية يدلّ على الأمر بالصلوات الخمس اليومية فقوله:( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) صلاة الصبح، و قوله:( وَ قَبْلَ غُرُوبِها ) صلاة العصر و قوله:( وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ ) صلاتا المغرب و العشاء، و قوله:( وَ أَطْرافَ النَّهارِ ) صلاة الظهر.

و معنى كونها في أطراف النهار مع أنّها في منتصفه بعد الزوال أنّه لو نصّف النهار حصل نصفان: الأوّل و الأخير و صلاة الظهر في الجزء الأوّل من النصف الثاني فهي في طرف النصف الأوّل لأنّ آخر النصف الأوّل ينتهي إلى جزء يتّصل بوقتها، و في طرف النصف الثاني لأنّه يبتدئ من جزء هو وقتها فوقتها على وحدته طرف للنصف الأوّل باعتبار و طرف للنصف الثاني باعتبار فهو طرفان اثنان اعتباراً.

و أمّا إطلاق الأطراف - بصيغة الجمع - على وقتها و إنّما هو طرفان اعتباراً فباعتبار أنّ الجمع قد يطلق على الاثنين و إن كان الأشهر الأعرف كون أقلّ الجمع في اللغة العربية ثلاثة. و قيل: المراد بالنهار الجنس فهو في نُهُر لكلّ فرد منها طرفان فيكون أطرافاً، و قد طال البحث بينهم حول التوجيه اعتراضاً و جواباً.

لكنّ الإنصاف أنّ أصل التوجيه تعسّف بعيد من الفهم فالذوق السليم - بعد اللّتيّا و الّتي - يأبى أن يسمّي وسط النهار أطراف النهار بفروض و اعتبارات

٢٥٥

وهميّة لا موجب لها في مقام التخاطب من أصلها و لا أمراً يرتضيه الذوق و لا يستبشعه.

و أمّا من قال: إنّ المراد بالتسبيح و التحميد غير الفرائض من مطلق التسبيح و الحمد إمّا بتذكّر تنزيهه و الثناء عليه تعالى قلباً و إمّا بقول مثل سبحان الله و الحمد لله لساناً أو الأعمّ من القلب و اللسان فقالوا: المراد بما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها و آناء الليل الصبح و العصر و أوقات اللّيل و أطراف النهار الصبح و العصر.

و أمّا لزوم إطلاق الأطراف و هو جمع على الصبح و العصر و هما اثنان فقد أجابوا عنه بمثل ما تقدّم في القول السابق من اعتبار أقلّ الجمع اثنين. و أمّا لزوم التكرار بذكر تسبيح الصبح و العصر مرّتين فقد التزم به بعضهم قائلاً أنّ ذلك للتأكيد و إظهار مزيد العناية بالتسبيح في الوقتين، و يظهر من بعضهم أنّ المراد بالأطراف الصبح و العصر و وسط النهار.

و أنت خبير بأنّه يرد عليه نظير ما يرد على الوجه السابق بتفاوت يسير، و الإشكال كلّه ناش من ناحية قوله:( وَ أَطْرافَ النَّهارِ ) من جهة انطباقه على وسط النهار أو الصبح و العصر.

و الّذي يمكن أن يقال إنّ قوله:( وَ أَطْرافَ النَّهارِ ) مفعول معه و ليس بظرف بتقدير في و إن لم يذكره المفسّرون على ما أذكر، و المراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها بالنظر إلى كونهما وقتين ذوي سعة لكلّ منهما أجزاء كلّ جزء منها طرف بالنسبة إلى وسط النهار فيصحّ أن يسمّياً أطراف النهار كما يصحّ أن يسمّياً طرفي النهار و ذلك كما يسمّى ما قبل طلوع الشمس أوّل النهار باعتبار وحدته و أوائل النهار باعتبار تجزّيه إلى أجزاء، و يسمّى ما قبل غروبها آخر النهار، و أواخر النهار.

فيؤول معنى الآية إلى مثل قولنا: و سبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و هي أطراف النهار، و بعض أوقات الليل سبّح فيها مع أطراف النهار الّتي اُمرت بالتسبيح فيها.

فإن قلت: كيف يستقيم كون( أَطْرافَ النَّهارِ ) مفعولاً معه و هو ظرف للتسبيح

٢٥٦

بتقدير في نظير ظرفيّة( آناءِ اللَّيْلِ ) له؟.

قلت: آناء الليل ليس ظرفاً بلفظه كيف؟ و هو مدخول من و لا معنى لتقدير في معه و إنّما يدلّ به على الظرف، و معنى( وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ) و بعض آناء الليل سبّح فيه، فليكن( وَ أَطْرافَ النَّهارِ ) كذلك، و المعنى مع أطراف النهار الّتي تسبّح فيها و الظرف في كلا الجانبين مدلول عليه مقدّر. هذا.

فلو قلنا: إنّ المراد بالتسبيح في الآية غير الصلوات المفروضة كان المراد التسبيح في أجزاء من أوّل النهار و أجزاء من آخره و أجزاء من الليل بمعية أجزاء أوّل النهار و آخره و لم يلزم محذور التكرار و لا محذور إطلاق لفظ الجمع على ما دون الثلاثة، و هو ظاهر.

و لو قلنا إنّ المراد بالتسبيح في الآية الفرائض اليوميّة كانت الآية متضمّنة للأمر بصلاة الصبح و صلاة العصر و صلاتي المغرب و العشاء فحسب نظير الأمر في قوله تعالى:( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) هود: ١١٤، و لعلّ التعبير عن الوقتين في الآية المبحوث عنها بأطراف النهار للإشارة إلى سعة الوقتين.

و لا ضير في اشتمال الآية على أربع من الصلوات الخمس اليوميّة فإنّ السورة - كما سنشير إليه - من أوائل السور النازلة بمكّة و قد دلّت الأخبار المستفيضة الّتي رواها العامّة و الخاصّة أنّ الفرائض اليوميّة إنّما شرّعت خمساً في المعراج كما ذكرت في سورة الإسراء النازلة بعد المعراج خمساً في قوله:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) الإسراء: ٧٨، فلعلّ الّتي شرّعت من الفرائض اليوميّة حين نزول سورة طه و كذا سورة هود - و هما قبل سورة الإسراء نزولاً - كانت هي الأربع و لم تكن شرّعت صلاة الظهر بعد بل هو ظاهر الآيتين: آية طه و آية هود.

و معلوم أنّه لا يرد على هذا الوجه ما كان يرد على القول بكون المراد بالتسبيح الصلوات الخمس و انطباق أطراف النهار على وقت صلاة الظهر و هو وسط النهار. هذا.

٢٥٧

و قوله:( لَعَلَّكَ تَرْضى) السياق السابق و قد ذكر فيه إعراضهم عن ذكر ربّهم و نسيانهم آياته و إسرافهم في أمرهم و عدم إيمانهم ثمّ ذكر تأخير الانتقام منهم و أمره بالصبر و التسبيح و التحميد يقضي أن يكون المراد بالرضا الرضا بقضاء الله و قدره، و المعنى: فاصبر و سبّح بحمد ربّك ليحصل لك الرضا بما قضى الله سبحانه فيعود إلى مثل معنى قوله:( وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) .

و الوجه فيه أنّ تكرار ذكره تعالى بتنزيه فعله عن النقص و الشين و ذكره بالثناء الجميل و المداومة على ذلك يوجب اُنس النفس به و زيادته و زيادة الاُنس بجمال فعله و نزاهته توجب رسوخه فيها و ظهوره في نظرها و زوال الخطورات المشوّشة للإدراك و الفكر، و النفس مجبولة على الرضا بما تحبّه و لا تحبّ غير الجميل المنزّه عن القبح و الشين فإدامة ذكره بالتسبيح و التحميد تورث الرضا بقضائه.

و قيل: المراد لعلّك ترضى بالشفاعة و الدرجة الرفيعة عند الله. و قيل: لعلّك ترضى بجميع ما وعدك الله به من النصر و إعزاز الدين في الدنيا و الشفاعة و الجنّة في الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) إلخ، مدّ العين مدّ نظرها و إطالته ففيه مجاز عقليّ ثمّ مدّ النظر و إطالته إلى شي‏ء كناية عن التعلّق به و حبّه و المراد بالأزواج - كما قيل - الأصناف من الكفّار أو الأزواج من النساء و الرجال منهم و يرجع إلى البيوتات و تنكير الأزواج للتقليل و إظهار أنّهم لا يعبأ بهم.

و قوله:( زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) بمنزلة التفسير لقوله:( ما مَتَّعْنا بِهِ ) و هو منصوب بفعل مقدّر و التقدير نعني به - أو جعلنا لهم - زهرة الحياة الدنيا و هي زينتها و بهجتها، و الفتنة الامتحان و الاختبار، و قيل: المراد بها العذاب لأنّ كثرة الأموال و الأولاد نوع عذاب من الله لهم كما قال:( وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ ) التوبة: ٨٥.

و قوله:( وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى) المراد به بقرينة مقابلته لما متّعوا به من

٢٥٨

زهرة الحياة الدنيا هو رزق الآخرة و هو خير و أبقى.

و المعنى: لا تطل النظر إلى زينة الحياة الدنيا و بهجتها الّتي متّعنا بها أصنافاً أو أزواجاً معدودة منهم لنمتحنهم فيما متّعنا به، و الّذي سيرزقك ربّك في الآخرة خير و أبقى.

قوله تعالى: ( وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى‏ ) الآية ذات سياق يلتئم بسياق سائر آيات السورة فهي مكّيّة كسائرها على أنّا لم نظفر بمن يستثنيها و يعدّها مدنيّة، و على هذا فالمراد بقوله:( أَهْلَكَ ) بحسب انطباقه على وقت النزول خديجة زوج النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و عليّ (عليه السلام) و كان من أهله و في بيته أو هما و بعض بنات النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

فقول بعضهم: إنّ المراد به أزواجه و بناته و صهره عليّ، و قول آخرين: المراد به أزواجه و بناته و أقرباؤه من بني هاشم و المطّلب، و قول آخرين: جميع متّبعيه من اُمّته غير سديد، نعم لا بأس بالقول الأوّل من حيث جري الآية و انطباقها لا من حيث مورد النزول فإنّ الآية مكّيّة و لم يكن له (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بمكّة من الأزواج غير خديجة (عليه السلام).

و قوله:( لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) ظاهر المقابلة بين الجملتين أنّ المراد سؤاله تعالى الرزق لنفسه و هو كناية عن أنّا في غنى منك و أنت المحتاج المفتقر إلينا فيكون في معنى قوله:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) الذاريات: ٥٦ - ٥٨، و أيضاً هو من جهة تذييله بقوله:( وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) في معنى قوله:( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: ٣٧، فتفسيرهم سؤال الرزق بسؤال الرزق للخلق أو لنفس النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ليس بسديد.

و قوله:( وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) تقدّم البحث فيه كراراً.

و لا يبعد أن يستفاد من الآية من جهة قصر الأمر بالصلاة في أهله مع ما في الآيتين السابقتين من أمره (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في نفسه بالصلوات الأربع اليوميّة و الصبر و النهي

٢٥٩

عن أن يمدّ عينيه فيما متّع به الكفّار أنّ السورة نزلت في أوائل البعثة أو خصوص الآية. و فيما(١) روي عن ابن مسعود أنّ سورة طه من العتاق الاُول.

قوله تعالي: ( وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) حكاية قول مشركي مكّة و إنّما قالوا هذا تعريضاً للقرآن أنّه ليس بآية دالّة على النبوّة فليأتنا بآية كما اُرسل الأوّلون و البيّنة الشاهد المبيّن أو البيّن و قيل هو البيان.

و كيف كان فقولهم:( لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) تحضيض بداعي إهانة القرآن و تعجيز النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) باقتراح آية معجزة اُخرى، و قوله:( أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ) إلخ، جواب عنه و معناه على الوجه الأوّل من معنيي البيّنة أ و لم تأتهم بيّنة و شاهد يشهد على ما في الصحف الاُولى - و هي التوراة و الإنجيل و سائر الكتب السماويّة - من حقائق المعارف و الشرائع و يبيّنها و هو القرآن و قد أتى به رجل لا عهد له بمعلّم يعلّمه و لا ملقّن يلقّنه ذلك.

و على الوجه الثاني: أ و لم يأتهم بيان ما في الصحف الاُولى من أخبار الاُمم الماضين الّذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات المعجزة فأتوا بها و كان إتيانها سبباً لهلاكهم و استئصالهم لمّا لم يؤمنوا بها بعد إذ جاءتهم فلم لا ينتهون عن اقتراح آية بعد القرآن؟ و لكلّ من المعنيين نظير في كلامه تعالى.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى‏ ) الظاهر أنّ ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) للبيّنة - في الآية السابقة - باعتبار أنّها القرآن، و المعنى: و لو أنّا أهلكناهم لإسرافهم و كفرهم بعذاب من قبل أن تأتيهم البيّنة لم تتمّ عليهم الحجّة و لكانت الحجّة لهم علينا و لقالوا ربّنا لو لا أرسلت إلينا رسولاً فنتّبع آياتك و هي الّتي تدلّ عليها البيّنة من قبل أن نذلّ بعذاب الاستئصال و نخزى.

____________________

(١) رواه السيوطي في الدرّ المنثور عن البخاريّ و ابن الضريس عن ابن مسعود، و العتاق جمع عتيق و الأوّل جمع اُولى و المراد قدم نزولها.

٢٦٠