الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 85506
تحميل: 3915


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85506 / تحميل: 3915
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فظاهر سياق الآيات أنّ المراد نبعث الخلق كما بدأناه فالكاف في قوله:( كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) للتشبيه و( كَما ) مصدريّة و( أَوَّلَ خَلْقٍ ) مفعول( بَدَأْنا ) و المراد أنّا نعيد الخلق كابتدائه في السهولة من غير أن يعزّ علينا.

و قوله:( وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) أي وعدناه وعدا ألزمنا ذلك و وجب علينا الوفاء به و إنّا كنّا فاعلين لما وعدنا و سنّتنا ذلك.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالزبور كتاب داود (عليه السلام) و قد سمّي بهذا الاسم في قوله:( وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) النساء: ١٦٣، أسري: ٥٥، و قيل: المراد به القرآن، و قيل: مطلق الكتب المنزّلة على الأنبياء أو على الأنبياء بعد موسى و لا دليل على شي‏ء من ذلك.

و المراد بالذكر قيل: هو التوراة و قد سمّاها الله به في موضعين من هذه السورة و هما قوله:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) الآية ٧ و قوله:( وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ) الآية ٤٨ منها، و قيل: هو القرآن و قد سمّاه الله ذكراً في مواضع من كلامه و كون الزبور بعد الذكر على هذا القول بعديّة رتبيّة لا زمانيّة و قيل: هو اللوح المحفوظ و هو كما ترى.

و قوله:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الوراثة و الإرث على ما ذكره الراغب انتقال قنية إليك من غير معاملة.

و المراد من وراثة الأرض انتقال التسلّط على منافعها إليهم و استقرار بركات الحياة بها فيهم، و هذه البركات إمّا دنيويّة راجعة إلى الحياة الدنيا كالتمتّع الصالح بأمتعتها و زيناتها فيكون مؤدّى الآية أنّ الأرض ستتطهّر من الشرك و المعصية و يسكنها مجتمع بشريّ صالح يعبدون الله و لا يشركون به شيئاً كما يشير إليه قوله تعالى:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ - إلى قوله -يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) النور: ٥٥.

و إمّا اُخرويّة و هي مقامات القرب الّتي اكتسبوها في حياتهم الدنيا فإنّها

٣٦١

من بركات الحياة الأرضيّة و هي نعيم الآخرة كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عن أهل الجنّة:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي (صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ) أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) الزمر: ٧٤ و قوله:( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ) المؤمنون: ١١.

و من هنا يظهر أنّ الآية مطلقة و لا موجب لتخصيصها بإحدى الوراثتين كما فعلوه فهم بين من يخصّها بالوراثة الاُخرويّة تمسّكاً بما يناسبها من الآيات، و ربّما استدلّوا لتعيّنه بأنّ الآية السابقة تذكر الإعادة و لا أرض بعد الإعادة حتّى يرثها الصالحون، و يردّه أنّ كون الآية معطوفة على سابقتها غير متعيّن فمن الممكن أن تكون معطوفة على قوله السابق:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ) كما سنشير إليه.

و بين من يخصّها بالوراثة الدنيويّة و يحملها على زمان ظهور الإسلام أو ظهور المهديّ (عليه السلام) الّذي أخبر به النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في الأخبار المتواترة المرويّة من طرق الفريقين، و يتمسّك لذلك بالآيات المناسبة له الّتي أومأنا إلى بعضها.

و بالجملة الآية مطلقة تعمّ الوراثتين جميعاً غير أنّ الّذي تقتضيه الاعتبار بالسياق أن تكون معطوفة على قوله السابق:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) إلخ. المشير إلى تفصيل حال المختلفين في أمر الدين من حيث الجزاء الاُخرويّ و تكون هذه الآية مشيرة إلى تفصيلها من حيث الجزاء الدنيويّ، و يكون المحصّل أنّا أمرناهم بدين واحد لكنّهم تقطّعوا و اختلفوا فاختلف مجازاتنا لهم أمّا في الآخرة فللمؤمنين سعي مشكور و عمل مكتوب و للكافرين خلاف ذلك، و أمّا في الدنيا فللصالحين وراثة الأرض بخلاف غيرهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ ) البلاغ هو الكفاية، و أيضاً ما به بلوغ البغية، و أيضاً نفس البلوغ، و معنى الآية مستقيم على كلّ من المعاني الثلاثة، و الإشارة بهذا إلى ما بيّن في السورة من المعارف.

و المعنى: أنّ فيما بيّنّاه في السورة - أنّ الربّ واحد لا ربّ غيره يجب أن يعبد من طريق النبوّة و يستعدّ بذلك ليوم الحساب، و أنّ جزاء المؤمنين كذا و كذا و جزاء الكافرين كيت و كيت - كفاية لقوم عابدين إن أخذوه و عملوا به كفاهم و بلغوا

٣٦٢

بذلك بغيتهم.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) أي إنّك رحمة مرسلة إلى الجماعات البشريّة كلّهم - و الدليل عليه الجمع المحلّى باللام - و ذلك مقتضى عموم الرسالة.

و هو (صلّي الله عليه وآله وسلّم) رحمة لأهل الدنيا من جهة إتيانه بدين في الأخذ به سعادة أهل الدنيا في دنياهم و اُخراهم.

و هو (صلّي الله عليه وآله وسلّم) رحمة لأهل الدنيا من حيث الآثار الحسنة الّتي سرت من قيامه بالدعوة الحقّة في مجتمعاتهم ممّا يظهر ظهوراً بالغاً بقياس الحياة العامّة البشريّة اليوم إلى ما قبل بعثته (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و تطبيق إحدى الحياتين على الاُخرى.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) أي إنّ الّذي يوحى إليّ من الدين ليس إلّا التوحيد و ما يتفرّع عليه و ينحلّ إليه سواء كان عقيدة أو حكماً و الدليل على هذا الّذي ذكرنا ورود الحصر على الحصر و ظهوره في الحصر الحقيقيّ.

قوله تعالى: ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‏ سَواءٍ ) الإيذان - كما قيل - إفعال من الإذن و هو العلم بالإجازة في شي‏ء و ترخيصه ثمّ تجوّز به عن مطلق العلم و اشتقّ منه الأفعال و كثيراً ما يتضمّن معنى التحذير و الإنذار.

و قوله:( عَلى‏ سَواءٍ ) الظاهر أنّه حال من مفعول( آذَنْتُكُمْ ) و المعنى فإن أعرضوا عن دعوتك و تولّوا عن الإسلام لله بالتوحيد فقل: أعلمتكم أنّكم على خطرها لكونكم مساوين في الاعلام أو في الخطر، و قيل: أعلمتكم بالحرب و هو بعيد في سورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ ) تتمّة قول النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) المأمور به.

و المراد بقوله:( ما تُوعَدُونَ ) ما يشير إليه قوله:( آذَنْتُكُمْ عَلى‏ سَواءٍ ) من العذاب المهدّد به اُمر (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أوّلاً أن يعلمهم الخطر إن تولّوا عن الإسلام، و ثانياً

٣٦٣

أن ينفي عن نفسه العلم بقرب وقوعه و بعده و يعلّله بقصر العلم بالجهر من قولهم - و هو طعنهم في الإسلام و استهزاؤهم علناً - و ما يكتمون من ذلك في الله سبحانه فهو العالم بحقيقة الأمر.

و منه يعلم أنّ منشأ توجّه العذاب إليهم هو ما كانوا يطعنون به في الإسلام في الظاهر و ما يبطنون من المكر كأنّه قيل: إنّهم يستحقّون العذاب بإظهارهم القول في هذه الدعوة الإلهيّة و إضمارهم المكر عليه فهدّدهم به لكن لمّا كنت لا تحيط بظاهر قولهم و باطن مكرهم و لا تقف على مقدار اقتضاء جرمهم العذاب من جهة قرب الأجل و بعده فأنف العلم بخصوصيّة قربه و بعده عن نفسك و أرجع العلم بذلك إلى الله سبحانه وحده.

و قد علم بذلك أنّ المراد بالجهر من القول ما أظهره المشركون من القول في الإسلام طعنا و استهزاء، و بما كانوا يكتمون ما أبطنوه عليه من المكر و الخدعة.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) من تتمّة قول النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) المأمور به و ضمير( لَعَلَّهُ ) على ما قيل كناية عن غير مذكور و لعلّه راجع إلى الإيذان المأمور به، و المعنى و ما أدري لعلّ هذا الإيذان الّذي اُمرت به أي مراده تعالى من أمره لي بإعلام الخطر امتحان لكم ليظهر به ما في باطنكم في أمر الدعوة فهو يريد به أن يمتحنكم و يمتّعكم إلى حين و أجل استدراجاً و إمهالاً.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ ) الضمير في( قالَ ) للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و الآية حكاية قول النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عن دعوتهم إلى الحقّ و ردّهم له و تولّيهم عنه فكأنّه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لمّا دعاهم و بلّغ إليهم ما أمر بتبليغه فأنكروا و شدّدوا فيه أعرض عنهم إلى ربّه منيبا إليه و قال:( رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ) و تقييد الحكم بالحقّ توضيحيّ لا احترازيّ فإنّ حكمه تعالى لا يكون إلّا حقّاً فكأنّه قيل: ربّ احكم بحكمك الحقّ و المراد ظهور الحقّ لمن كان و على من كان.

ثمّ التفت (صلّي الله عليه وآله وسلّم) إليهم و قال:( وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ ) و كأنّه يشير به إلى سبب إعراضه عنهم و رجوعه إلى الله سبحانه و سؤاله أن يحكم بالحقّ فهو

٣٦٤

سبحانه ربّه و ربّهم جميعاً فله أن يحكم بين مربوبيه، و هو كثير الرحمة لا يخيّب سائله المنيب إليه، و هو الّذي يحكم لا معقّب لحكمه و هو الّذي يحقّ الحقّ و يبطل الباطل بكلماته فهو (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في كلمته:( رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ) راجع الّذي هو ربّه و ربّهم و سأله برحمته أن يحكم بالحقّ و استعان به على ما يصفونه من الباطل و هو نعتهم دينهم بما ليس فيه و طعنهم في الدين الحقّ بما هو بري‏ء من ذلك.

و قد ظهر بما تقدّم بعض ما في مفردات الآية الكريمة من النكات كالالتفات من الخطاب إلى الغيبة في( قالَ ) و التعبير عنه تعالى أوّلاً بربّي و ثانياً بربّنا و توصيفه بالرحمن و المستعان إلى غير ذلك.

( بحث روائي)

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ حَرامٌ عَلى‏ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ) الآية: روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: كلّ قرية أهلكها الله بعذاب فإنّهم لا يرجعون.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية يعني قوله:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) وجد منها أهل مكّة وجداً شديداً فدخل عليهم عبد الله بن الزبعري و كفّار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعري: أ محمّد تكلّم بهذه الآية؟ فقالوا: نعم قال ابن الزبعري: لئن اعترف بها لأخصمنّه فجمع بينهما.

فقال: يا محمّد أ رأيت الآية الّتي قرأت آنفاً فينا و في آلهتنا خاصّة أم الاُمم و آلهتهم؟ فقال: بل فيكم و في آلهتكم و في الاُمم و في آلهتهم إلّا من استثنى الله فقال ابن الزبعري: خصمتك و الله أ لست تثني على عيسى خيراً؟ و قد عرفت أنّ النصارى يعبدون عيسى و اُمّه و أنّ طائفة من الناس يعبدون الملائكة أ فليس هؤلاء مع الآلهة في النار: فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): لا فضجّت قريش و ضحكوا قالت قريش: خصمك ابن الزبعري. فقال رسول الله: قلتم الباطل أ ما قلت: إلّا من استثنى الله؟ و هو قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ ) .

٣٦٥

أقول: و قد روي الحديث أيضاً من طرق أهل السنّة لكنّ المتن في هذا الطريق أمتن ممّا ورد من طريقهم و أسلم و هو ما عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) شقّ ذلك على أهل مكّة و قالوا شتم الآلهة فقال ابن الزبعري: أنا أخصم لكم محمّداً ادعوه لي فدعي فقال: يا محمّد هذا شي‏ء لآلهتنا خاصّة أم لكلّ من عبد من دون الله؟ قال: بل لكلّ من عبد من دون الله فقال ابن الزبعري: خصمت و ربّ هذه البنية يعني الكعبة. أ لست تزعم يا محمّد أنّ عيسى عبد صالح و أنّ عزير عبد صالح و أنّ الملائكة صالحون؟ قال: بلى قال: فهذه النصارى تعبد عيسى و هذه اليهود تعبد عزيراً و هذه بنو مُليح تعبد الملائكة فضجّ أهل مكّة و فرحوا.

فنزلت:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ - عزير و عيسى و الملائكة -أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) و نزلت( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) .

و في هذا المتن أوّلاً: ذكر اسم عزير و الواقعة في أوائل البعثة بمكّة و لم يذكر اسمه في شي‏ء من السور المكّيّة و إنّما ذكر في سورة التوبة و هي من أواخر ما نزلت بالمدينة.

و ثانياً قوله:( و هذه اليهود تعبد عزيراًئ ) و اليهود لا تعبد عزيراً و إنّما قالوا عزير ابن الله تشريفاً كما قالوا: نحن أبناء الله و أحبّاؤه.

و ثالثاً ما اشتمل عليه من نزول قوله:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) بعد اعتراف النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بعموم قوله:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ ) لكلّ معبود من دون الله، و نقض ابن الزبعري ذلك بعيسى و عزير و الملائكة و هذا من ورود البيان بعد وقت الحاجة و أشدّ تأييداً لوقوع التهمة.

و رابعا: اشتماله على نزول قوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) الآية في الواقعة و لا ارتباط لمضمونها بها أصلاً.

و نظيره ما شاع بينهم أنّ ابن الزبعري اعترض بذلك على النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فقال له: يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأنّي قلت: و ما تعبدون، و ما لم يعقل، و لم

٣٦٦

أقل: و من تعبدون.

و فيه من الخلل ما نسب إلى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من قوله: إنّي قلت كذا و لم أقل كذا و من الواجب أن يجلّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من أن يتلفّظ في آية قرآنيّة بمثل( قلت كذا و لم أقل كذا) و نقل عن الحافظ ابن حجر أنّ الحديث لا أصل له و لم يوجد في شي‏ء من كتب الحديث لا مسنداً و لا غير مسند.

و نظيره في الضعف ما ورد في حديث آخر يقصّ هذه القصّة أنّ ابن الزبعري قال: أ أنت قلت ذلك؟ قال: نعم قال: قد خصمتك و ربّ الكعبة أ ليس اليهود عبدوا عزيرا و النصارى عبدوا المسيح و بنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال (صلّي الله عليه وآله وسلّم): بل هم عبدوا الشياطين الّتي أمرتهم بذلك فأنزل الله:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ ) الحديث.

و ذلك أنّ الحجّة المنسوبة إليه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في الحديث تنفع ابن الزبعري أكثر ممّا تضرّه فإنّ الحجّة كما تخرج عزيرا و عيسى و الملائكة عن شمول الآية كذلك تخرج الآلهة الّتي هي أصنام فإنّها تشارك المذكورين في أنّها لا خبر لها عن عبادة عابديها و لا رضى منها بذلك إذ لا شعور لها فتختصّ الآية بالشياطين و لا تشمل الأصنام و هو خلاف ما نسب إليه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من دعوى شمول الآية لآلهتهم و تصديقه.

و نظيره في الضعف ما في الدرّ المنثور، عن البزّار عن ابن عبّاس قال: نزلت هذه الآية( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) ثمّ نسخها قوله:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) .

و وجه الضعف ظاهر و لو كان هناك شي‏ء فهو التخصيص.

و في أمالي الصدوق، عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في حديث: يا عليّ أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم و تمنعون من كرهتم و أنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظلّ العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و يحزن الناس و لا تحزنون فيكم نزلت هذه الآية:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) و فيكم نزلت:( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

٣٦٧

أقول: معنى نزولها فيهم جريها فيهم أو دخولهم فيمن نزلت فيه و قد وردت روايات كثيرة في جماعة من المؤمنين عدّواً ممّن تجري فيه الآيتان و خاصّة الثانية كمن قرأ القرآن محتسباً، و أم به قوماً محتسباً، و رجل أذن محتسباً و مملوك أدّى حقّ الله و حقّ مواليه‏ رواه في المجمع، عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، و المتحابّين في الله و المدلجين في الظلم و المهاجرين‏ روى في الدرّ المنثور، الأوّل عن أبي الدرداء، و الثاني عن أبي أمامة، و الثالث عن الخدريّ جميعاً عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و قد عدّ في أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ممّن تجري فيه الآية خلق كثير.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عليّ: في قوله:( كَطَيِّ السِّجِلِّ ) قال: ملك.

أقول: و رواه أيضاً عن ابن أبي حاتم و ابن عساكر عن الباقر (عليه السلام) في حديث.

و في تفسير القمّيّ: و أمّا قوله:( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) قال: السجلّ اسم الملك الّذي يطوي الكتب، و معنى يطويها يفنيها فتتحوّل دخاناً و الأرض نيراناً.

و في نهج البلاغة، في وصف الأموات: استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسعة ضيقاً، و بالأهل غربة، و بالنور ظلمة، فجاؤها كما فارقوها حفاة عراة قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة و الدار الباقية كما قال سبحانه:( كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) .

أقول: استشهاده (عليه السلام) بالآية يقبل الانطباق على كلّ من معنيي الإعادة أعني إعادة الخلق إلى ما بُدئوا منه و إعادة الخلق بمعنى إحيائهم بعد موتهم كما كانوا قبل موتهم، و قد تقدّم المعنيان في بيان الآية.

و في المجمع، و يروى عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: تحشرون يوم القيامة حفاة عراة عزلاً( كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) .

أقول: و روى مثله في نور الثقلين عن كتاب الدوريستيّ بإسناده عن ابن عبّاس عنه (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

٣٦٨

و في تفسير القمّيّ: و قوله:( وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال الكتب كلّها ذكر( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال: القائم و أصحابه قال: و الزبور فيه ملاحم و التحميد و التمجيد و الدعاء.

أقول: و الروايات في المهديّ (عليه السلام) و ظهوره و ملئه الأرض قسطاً و عدلاً بعد ما ملئت ظلماً و جوراً من طرق العامّة و الخاصّة عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بالغة حدّ التواتر، من أراد الوقوف عليها فليراجع مظانّها من كتب العامّة و الخاصّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج البيهقيّ في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إنّما أنا رحمة مهداة.

٣٦٩

( سورة الحجّ مدنيّة و هي ثمان و سبعون آية)

( سورة الحجّ الآيات ١ - ٢)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ( ١ ) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ( ٢ )

( بيان)

السورة تخاطب المشركين باُصول الدين إنذاراً و تخويفاً كما كانوا يخاطبون في السور النازلة قبل الهجرة في سياق يشهد بأنّ لهم بعد شوكة و قوّة، و تخاطب المؤمنين بمثل الصلاة و مسائل الحجّ و عمل الخير و الإذن في القتال و الجهاد في سياق يشهد بأنّ لهم مجتمعاً حديث العهد بالانعقاد قائماً على ساق لا يخلو من عدّة و عدّة و شوكة.

و يتعيّن بذلك أنّ السورة مدنيّة نزلت بالمدينة ما بين هجرة النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و غزوة بدر و غرضها بيان اُصول الدين بياناً تفصيليّاً ينتفع بها المشرك و الموحّد و فروعها بياناً إجماليّاً ينتفع بها الموحّدون من المؤمنين إذ لم يكن تفاصيل الأحكام الفرعيّة مشرّعة يومئذ إلّا مثل الصلاة و الحجّ كما في السورة.

و لكون دعوة المشركين إلى الاُصول من طريق الإنذار و كذا ندب المؤمنين إلى إجمال الفروع بلسان الأمر بالتقوى بسط الكلام في وصف يوم القيامة و افتتح السورة بالزلزلة الّتي هي من أشراطها و بها خراب الأرض و اندكاك الجبال.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ ) الزلزلة و الزلزال شدّة الحركة على الحال الهائلة و كأنّه مأخوذ بالاشتقاق الكبير من زلّ بمعنى زلق فكرّر للمبالغة و الإشارة إلى تكرّر الزلّة، و هو شائع في

٣٧٠

نظائره مثل ذبّ و ذبذب و دمّ و دمدم و كبّ و كبكب و دكّ و دكدك و رفّ و رفرف و غيرها.

الخطاب يشمل الناس جميعاً من مؤمن و كافر و ذكر و اُنثى و حاضر و غائب و موجود بالفعل و من سيوجد منهم، و ذلك بجعل بعضهم من الحاضرين وصلة إلى خطاب الكلّ لاتّحاد الجميع بالنوع.

و هو أمر الناس أن يتّقوا ربّهم فيتّقيه الكافر بالإيمان و المؤمن بالتجنّب عن مخالفة أوامره و نواهيه في الفروع، و قد علّل الأمر بعظم زلزلة الساعة فهو دعوة من طريق الإنذار.

و إضافة الزلزلة إلى الساعة لكونها من أشراطها و أماراتها، و قيل: المراد بزلزلة الساعة شدّتها و هولها، و لا يخلو من بعد من جهة اللفظ.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) الذهول الذهاب عن الشي‏ء مع دهشة، و الحمل بالفتح الثقل المحمول في الباطن كالولد في البطن و بالكسر الثقل المحمول في الظاهر كحمل بعير قاله الراغب. و قال في مجمع البيان: الحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس شجرة، و الحمل بكسر الحاء ما كان على ظهر أو على رأس.

قال في الكشّاف: إن قيل: لم قيل:( مُرْضِعَةٍ ) دون مرضع؟ قلت: المرضعة الّتي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبيّ، و المرضع الّتي شأنها أن ترضع و إن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقيل: مرضعة ليدلّ على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه و قد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة.

و قال: فإن قلت: لم قيل أوّلاً: ترون ثمّ قيل: ترى على الإفراد؟ قلت: لأنّ الرؤية أوّلاً علّقت بالزلزلة فجعل الناس جميعاً رائين لها، و هي معلّقة أخيراً بكون الناس على حال السكر فلا بدّ أن يجعل كلّ واحد منهم رائيا لسائرهم انتهى.

و قوله:( وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى‏ وَ ما هُمْ بِسُكارى‏ ) نفى السكر بعد إثباته للدلالة

٣٧١

على أنّ سكرهم و هو ذهاب العقول و سقوطها في مهبط الدهشة و البهت ليس معلولاً للخمر بل شدّة عذاب الله هي الّتي أوقعتها فيما وقعت و قد قال تعالى:( إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) هود: ١٠٢.

و ظاهر الآية أنّ هذه الزلزلة قبل النفخة الاُولى الّتي يخبر تعالى عنها بقوله:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‏ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ) الزمر: ٦٨ و ذلك لأنّ الآية تفرض الناس في حال عاديّة تفاجؤهم فيها زلزلة الساعة فتنقلب حالهم من مشاهدتها إلى ما وصف، و هذا قبل النفخة الّتي تموت بها الأحياء قطعاً.

و قيل: إنّها تمثيل شدّة العذاب أي لو كان هناك راء يراها لكانت الحال هي الحال، و وقوع الآية في مقام الإنذار و التخويف لا يناسبه تلك المناسبة إذ الإنذار بعذاب لا يعلم به لا وجه له.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج سعيد بن منصور و أحمد و عبد بن حميد و الترمذيّ و صحّحه و النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه من طرق عن الحسن و غيره عن عمران بن حصين قال: لمّا نزلت( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ - إلى قوله -وَ لكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) اُنزلت عليه هذه و هو في سفر فقال: أ تدرون أيّ يوم ذلك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم قال: ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. قال: يا ربّ و ما بعث النار؟ قال: من كلّ ألف تسعمائة و تسعة و تسعين إلى النار و واحداً إلى الجنّة.

فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): قاربوا و سدّدوا فإنّها لم تكن نبوّة قطّ إلّا كان بين يديها جاهليّة فتؤخذ العدّة من الجاهليّة فإن تمّت و إلّا اُكملت من المنافقين، و ما مثلكم إلّا كمثل الرقمة في ذراع الدابّة أو كالشامة في جنب البعير.

٣٧٢

ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة فكبّروا ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة فكبّروا، ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة فكبّروا. قال: فلا أدري قال: الثلثين، أم لا؟.

أقول: و هي مرويّة بطرق اُخرى كثيراً عن عمران و ابن عبّاس و أبي سعيد الخدريّ و أبي موسى و أنس مع اختلاف في المتون و أعدلها ما أوردناه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى) قال: يعني ذاهبة عقولهم من الحزن و الفزع متحيّرين‏.

٣٧٣

( سورة الحجّ الآيات ٣ - ١٦)

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ( ٣ ) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ ( ٤ ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( ٥ ) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٦ ) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ( ٧ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ( ٨ ) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ( ٩ ) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ( ١٠ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ( ١١ ) يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ( ١٢ ) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ( ١٣ )

٣٧٤

إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( ١٤ ) مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ( ١٥ ) وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ( ١٦ )

( بيان)

تذكر الآيات أصنافاً من الناس من مصرّ على الباطل مجادل في الحقّ أو متزلزل فيه و تصف حالهم و تبيّن ضلالهم و سوء مآلهم و تذكر المؤمنين و أنّهم مهتدون في الدنيا منعّمون في الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ) المريد الخبيث و قيل: المتجرّد للفساد و المعرّي من الخير و المجادلة في الله بغير علم التكلّم فيما يرجع إليه تعالى من صفاته و أفعاله بكلام مبنيّ على الجهل بالإصرار عليه.

و قوله:( وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ) بيان لمسلكه في الاعتقاد و العمل بعد بيان مسلكه في القول كأنّه قيل: إنّه يقول في الله بغير علم و يصرّ على جهله و يعتقد بكلّ باطل و يعمل به و إذ كان الشيطان هو الّذي يهدي الإنسان إلى الباطل و الإنسان إنّما يميل إليه بإغوائه فهو يتّبع في كلّ ما يعتقده و يعمل به الشيطان فقد وضع اتّباع الشيطان في الآية موضع الاعتقاد و العمل للدلالة على الكيفيّة و ليبيّن في الآية التالية أنّه ضالّ عن طريق الجنّة سألك إلى عذاب السعير.

و قد قال تعالى:( وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ ) و لم يقل: و يتّبع الشيطان المريد و هو إبليس للدلالة على تلبّسه بفنون الضلال و أنواعه فإنّ أبواب الباطل مختلفة و على كلّ باب شيطاناً من قبيل إبليس و ذرّيّته و هناك شياطين من الإنس يدعون

٣٧٥

إلى الضلال فيقلّدهم أولياؤهم الغاوون و يتّبعونهم و إن كان كلّ تسويل و وسوسة منتهياً إلى إبليس لعنه الله.

و الكلمة أعني قوله:( وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ ) مع ذلك كناية عن عدم انتهائه في اتّباع الباطل إلى حدّ يقف عليه لبطلان استعداده للحقّ و كون قلبه مطبوعاً عليه فهو في معنى قوله:( وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ) الأعراف: ١٤٦.

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى‏ عَذابِ السَّعِيرِ ) التولّي أخذه وليّاً متّبعاً، و قوله:( فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) إلخ. مبتدء محذوف الخبر، و المعنى و يتّبع كلّ شيطان مريد من صفته أنّه كتب عليه أنّ من اتّخذه ولياً و اتّبعه فإضلاله له و هدايته إيّاه إلى عذاب السعير ثابت لازم.

و المراد بكتابته عليه القضاء الإلهيّ في حقّه بإضلاله متّبعيه أوّلاً و إدخاله إيّاهم النار ثانياً، و هذان القضاءان هما اللّذان إشارة إليهما في قوله:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر: ٤٣ و قد تقدّم الكلام في توضيح ذلك في الجزء الثاني عشر من الكتاب.

و بما تقدّم يظهر ضعف ما قيل: إنّ المعنى من تولّى الشيطان فإنّ الله يضلّه إذ لا شاهد من كلامه تعالى على هذه الكتابة المدّعاة و إنّما المذكور في كلامه تعالى القضاء بتسليط إبليس على من تولّاه و اتّبعه كما تقدّم.

على أنّ لازمه اختلاف الضمائر و رجوع ضمير( فَأَنَّهُ ) إلى ما لم يتقدّم ذكره من غير موجب.

و أضعف منه قول من قال: إنّ المعنى كتب على هذا الّذي يجادل في الله بغير علم أنّه من تولّاه فإنّه يضلّه - بإرجاع الضمائر إلى الموصول في( مَنْ يُجادِلُ ) - و هو كما ترى.

و يظهر من الآية أنّ القضاء على إبليس قضاء على قبيله و ذرّيّته و أعوانه، و أنّ إضلالهم و هدايتهم إلى عذاب السعير و بالجملة فعلهم فعله، و لا يخفى ما في الجمع

٣٧٦

بين يضلّه و يهديه في الآية من اللطف.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ - إلى قوله -شَيْئاً ) المراد بالبعث إحياء الموتى و الرجوع إلى الله سبحانه و هو ظاهر، و العلقة القطعة من الدم الجامد، و المضغة القطعة من اللحم الممضوغة و المخلّقة على ما قيل - تامّة الخلقة و غير المخلّقة غير تامّتها و ينطبق على تصوير الجنين الملازم لنفخ الروح فيه، و عليه ينطبق القول بأنّ المراد بالتخليق التصوير.

و قوله:( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) ظاهر السياق أنّ المراد لنبيّن لكم أنّ البعث ممكن و نزيل الريب عنكم فإنّ مشاهدة الانتقال من التراب الميّت إلى النطفة ثمّ إلى العلقة ثمّ إلى المضغة ثمّ إلى الإنسان الحيّ لا تدع ريباً في إمكان تلبّس الميّت بالحياة و لذلك وضع قوله:( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) في هذا الموضع و لم يؤخّر إلى آخر الآية.

و قوله:( وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) و أي و نقرّ فيها ما نشاء من الأجنّة و لا نسقطه إلى تمام مدّة الحمل( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ) ، قال في المجمع: أي نخرجكم من بطون اُمّهاتكم و أنتم أطفال، و الطفل الصغير من النّاس، و إنّما وحّد و المراد به الجمع لأنّه مصدر كقولهم: رجل عدل و رجال عدل، و قيل: أراد ثمّ نخرج كلّ واحد منكم طفلاً. انتهى، و المراد ببلوغ الأشدّ حال اشتداد الأعضاء و القوى.

و قوله:( وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) المقابلة بين الجملتين تدلّ على تقيّد الاُولى بما يميّزها من الثانية و التقدير و منكم من يتوفّى من قبل أن يردّ إلى أرذل العمر، و المراد بأرذل العمر أحقره و أهونه و ينطبق على حال الهرم فإنّه أرذل الحياة إذا قيس إلى ما قبله.

و قوله:( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ) أي شيئاً يعتدّ به أرباب الحياة و يبنون عليه حياتهم، و اللّام للغاية أي ينتهي أمره إلى ضعف القوى و المشاعر بحيث لا يبقى له من العلم الّذي هو أنفس محصول للحياة شي‏ء يعتدّ به لها.

قوله تعالى: ( وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ

٣٧٧

وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) قال الراغب: يقال: همدت النار طفئت، و منه أرض هامدة لا نبات فيها، و نبات هامد يابس، قال تعالى:( وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ) انتهى و يقرب منه تفسيرها بالأرض الهالكة.

و قال أيضاً: الهزّ التحريك الشديد يقال: هززت الرمح فاهتزّ و اهتزّ النبات إذا تحرّك لنضارته، و قال أيضاً: ربّاً إذا زاد و علا قال تعالى:( فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ ) أي زادت زيادة المتربّى. انتهى بتلخيص مّا.

و قوله:( وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) أي و أنبتت الأرض من كلّ صنف من النبات متّصف بالبهجة و هي حسن اللون و ظهور السرور فيه، أو المراد بالزوج ما يقابل الفرد فإنّ كلامه يثبت للنبات ازدواجاً كما يثبت له حياة، و قد وافقته العلوم التجربيّة اليوم.

و المحصّل أنّ للأرض في إنباتها النبات و إنمائها له شأناً يماثل شأن الرحم في إنباته الحيويّ للتراب الصائر نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة إلى أن يصير إنساناً حيّاً.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى‏ وَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) ذلك إشارة إلى ما ذكر في الآية السابقة من خلق الإنسان و النبات و تدبير أمرهما حدوثاً و بقاء خلقاً و تدبيراً واقعيّين لا ريب فيهما.

و الّذي يعطيه السياق أنّ المراد بالحقّ نفس الحقّ - أعني أنّه ليس وصفاً قائماً مقام موصوف محذوف هو الخبر - فهو تعالى نفس الحقّ الّذي يحقّق كلّ شي‏ء حقّ و يجري في الأشياء النظام الحقّ فكونه تعالى حقّاً يتحقّق به كلّ شي‏ء حقّ هو السبب لهذه الموجودات الحقّة و النظامات الحقّة الجارية فيها، و هي جميعاً تكشف عن كونه تعالى هو الحقّ.

و قوله:( وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) معطوف على ما قبله أي المذكور في الآية السابقة من صيرورة التراب الميّت بالانتقال من حال إلى حال إنساناً حيّاً و كذا صيرورة الأرض الميتة بنزول الماء نباتاً حيّاً و استمرار هذا الأمر بسبب أنّ الله يحيي

٣٧٨

الموتى و يستمرّ منه ذلك.

و قوله:( وَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) معطوف على سابقه كسابقه و المراد أنّ ما ذكرناه بسبب أنّ الله على كلّ شي‏ء قدير و ذلك أنّ إيجاد الإنسان و النبات و تدبير أمرهما في الحدوث و البقاء مرتبط بما في الكون من وجود أو نظام جار في الوجود و كما أنّ إيجادهما و تدبير أمرهما لا يتمّ إلّا مع القدرة عليهما كذلك القدرة عليهما لا تتمّ إلّا مع القدرة على كلّ شي‏ء فخلقهما و تدبير أمرهما بسبب عموم القدرة و إن شئت فقل: ذلك يكشف عن عموم القدرة.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) الجملتان معطوفتان على( أن ) في قوله:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ ) .

و أمّا الوجه في اختصاص هذه النتائج الخمس المذكورة في الآيتين بالذكر مع أنّ بيان السابقة ينتج نتائج اُخرى مهمّة في أبواب التوحيد كربوبيّته تعالى و نفي شركاء العبادة و كونه تعالى عليماً و منعماً و جواداً و غير ذلك.

فالّذي يعطيه السياق - و المقام مقام إثبات البعث - و عرض هذه الآيات على سائر الآيات المثبتة للبعث أنّ الآية تؤمّ إثبات البعث من طريق إثبات كونه تعالى حقّاً على الإطلاق فإنّ الحقّ المحض لا يصدر عنه إلّا الفعل الحقّ دون الباطل، و لو لم يكن هناك نشاة اُخرى يعيش فيها الإنسان بما له من سعادة أو شقاء و اقتصر في الخلقة على الإيجاد ثمّ الإعدام ثمّ الإيجاد ثمّ الإعدام و هكذا كان لعباً باطلاً فكونه تعالى حقّاً لا يفعل إلّا الحقّ يستلزم نشأة البعث استلزاماً بيّنا فإنّ هذه الحياة الدنيا تنقطع بالموت فبعدها حياة اُخرى باقية لا محالة.

فالآية أعني قوله:( فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ - إلى قوله -ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ) في مجرى قوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ) الدخان: ٣٩ و قوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ص: ٢٧ و غيرهما من الآيات المتعرّضة لإثبات المعاد، و إنّما الفرق أنّها تثبته من طريق حقّيّة فعله تعالى و الآية المبحوث عنها تثبته من طريق

٣٧٩

حقّيّته تعالى في نفسه المستلزمة لحقّيّة فعله.

ثمّ لمّا كان من الممكن أن يتوهّم استحالة إحياء الموتى فلا ينفع البرهان حينئذ دفعه بقوله:( وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى‏ ) فإحياؤه تعالى الموتى بجعل التراب الميت إنساناً حيّاً و جعل الأرض الميّتة نباتاً حيّاً واقع مستمرّ مشهود فلا ريب في إمكانه و هذه الجملة أيضاً في مجرى قوله تعالى:( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يس: ٧٩ و سائر الآيات المثبتة لإمكان البعث و الإحياء ثانياً من طريق ثبوت مثله أوّلاً.

ثمّ لمّا أمكن أن يتوهّم أن جواز الإحياء الثاني لا يستلزم الوقوع بتعلّق القدرة به استبعاداً له و استصعاباً دفعه بقوله:( وَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) فإنّ القدرة لمّا كانت غير متناهية كانت نسبتها إلى الإحياء الأوّل و الثاني و ما كان سهلاً في نفسه أو صعباً على حدّ سواء فلا يخالطها عجز و لا يطرأ عليها عيّ و تعب.

و هذه الجملة أيضاً في مجرى قوله تعالى:( أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ) ق: ١٥ و قوله:( إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى‏ إِنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) حم السجدة: ٣٩ و سائر الآيات المثبتة للبعث بعموم القدرة و عدم تناهيها.

فهذه أعني ما في قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ ) إلى آخر الآية نتائج ثلاث مستخرجة من الآية السابقة عليها مسوقة جميعاً لغرض واحد و هو ذكر ما يثبت به البعث و هو الّذي تتضمّنه الآية الأخيرة( وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) .

و لم تتضمّن الآية إلّا بعث الأموات و الظرف الّذي يبعثون فيه فأمّا الظرف و هو الساعة فذكره في قوله:( وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ) و لم ينسب إتيانها إلى نفسه بأن يقال مثلاً: و أنّ الله يأتي بالساعة أو ما في معناه و لعلّ الوجه في ذلك اعتبار كونها لا تأتي إلّا بغتة لا يتعلّق به علم قطّ كما قال:( لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) .

و قال:( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ ) الأعراف: ١٨٧ و قال:( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها ) طه: ١٥ فكان عدم نسبتها إلى فاعل كعدم ذكر وقتها و كتمان

٣٨٠