الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 85474
تحميل: 3915


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85474 / تحميل: 3915
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كورود ضوء الصباح على ظلمة اللّيل كشي‏ء يلج في شي‏ء ثمّ اتّساعه و إشغال النهار من الفضاء ما أشغله الليل، و ورود ظلمة المساء على نور النهار كشي‏ء يلج في شي‏ء ثمّ اتّساعها و شمول الليل.

و المشار إليه بذلك - بناء على ما تقدّم من معنى النصر - ظهور المظلوم بعقابه على الظالم الباغي عليه، و المعنى أنّ ذلك النصر بسبب أنّ من سنّة الله أن يظهر أحد المضادّين و المتزاحمين على الآخر كما يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و إنّ الله سميع لأقوالهم بصير بأعمالهم فينصر المظلوم و هو مهضوم الحقّ بعينه و ما يسأله بلسان حاله في سمعه.

و ذكر في معنى الآية وجوه اُخر غير منطبقة على السياق رأينا الصفح عن ذكرها أولى.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) الإشارة بذلك إلى النصر أو إليه و إلى ما ذكر من سببه.

و الحصران في قوله:( بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ) و قوله:( وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ ) إمّا بمعنى أنّه تعالى حقّ لا يشوبه باطل و أنّ ما يدعون من دونه و هي الأصنام باطل لا يشوبه حقّ فهو قادر على أن يتصرّف في تكوين الأشياء و أن يحكم لها و عليها بما شاء.

و إمّا بمعنى أنّه تعالى حقّ بحقيقة معنى الكلمة مستقلّاً بذلك لا حقّ غيره إلّا ما حقّقه هو، و أنّ ما يدعون من دونه و هي الأصنام بل كلّ ما يركن إليه و يدعى للحاجة من دون الله هو الباطل لا غيره إذ مصداق غيره هو الله سبحانه فافهم ذلك، و إنّما كان باطلاً إذ كان لا حقّيّة له باستقلاله.

و المعنى - على أيّ تقدير - أنّ ذلك التصرّف في التكوين و التشريع من الله سبحانه بسبب أنّه تعالى حقّ يتحقّق بمشيّته كلّ حقّ غيره، و أنّ آلهتهم من دون الله و كلّ ما يركن إليه ظالم باغ من دونه باطل لا يقدر على شي‏ء.

٤٤١

و قوله:( وَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) علوّه تعالى بحيث يعلو و لا يعلى عليه و كبره بحيث لا يصغر لشي‏ء بالهوان و المذلّة من فروع كونه حقّاً أي ثابتاً لا يعرضه زوال و موجوداً لا يمسّه عدم.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) استشهاد على عموم القدرة المشار إليها آنفاً بإنزال الماء من السماء - و المراد بها جهة العلو - و صيرورة الأرض بذلك مخضرّة.

و قوله:( إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) تعليل لجعل الأرض مخضرّة بإنزال الماء من السماء فتكون نتيجة هذا التعليل و ذاك الاستشهاد كأنّه قيل: إنّ الله ينزل كذا فيكون كذا لأنّه لطيف خبير و هو يشهد بعموم قدرته.

قوله تعالى: ( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) ظاهره أنّه خبر بعد خبر لأنّ فهو تتمّة التعليل في الآية السابقة كأنّه قيل: إنّ الله لطيف خبير مالك لما في السماوات و ما في الأرض يتصرّف في ملكه كما يشاء بلطف و خبرة، و يمكن أن يكون استئنافاً يفيد تعليلاً باستقلاله.

و قوله:( وَ إِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) يفيد عدم حاجته إلى شي‏ء من تصرّفاته بما هو غنيّ على الإطلاق و هي مع ذلك جميلة نافعة يحمد عليها بما هو حميد على الإطلاق فمفاد الاسمين معا أنّه تعالى لا يفعل إلّا ما هو نافع لكن لا يعود نفعه إليه بل إلى الخلق أنفسهم.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) إلخ، استشهاد آخر على عموم القدرة، و المقابلة بين تسخير ما في الأرض و تسخير الفلك في البحر يؤيّد أنّ المراد بالأرض البرّ مقابل البحر، و على هذا فتعقيب الجملتين بقوله:( وَ يُمْسِكُ السَّماءَ ) إلخ، يعطي أنّ محصّل المراد أنّ الله سخّر لكم ما في السماء و الأرض برّها و بحرها.

و المراد بالسماء جهة العلو و ما فيها فالله يمسكها أن تقع على الأرض إلّا بإذنه ممّا يسقط من الأحجار السماويّة و الصواعق و نحوها.

٤٤٢

و قد ختم الآية بصفتي الرأفة و الرحمة تتميما للنعمة و امتناناً على الناس.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ ) سياق الماضي في( أَحْياكُمْ ) يدلّ على أنّ المراد به الحياة الدنيا و أهميّة المعاد بالذكر تستدعي أن يكون المراد من قوله:( ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) الحياة الآخرة يوم البعث دون الحياة البرزخيّة.

و هذه الحياة ثمّ الموت ثمّ الحياة من النعم الإلهيّة العظمى ختم بها الامتنان و لذا عقّبها بقوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ ) .

( بحث روائي)

في جامع الجوامع في قوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا - إلى قوله -لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ) روي أنّهم قالوا: يا رسول الله هؤلاء الّذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير و نحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ) الآية روي أنّ الآية نزلت في قوم من مشركي مكّة لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم فقالوا: إنّ أصحاب محمّد لا يقاتلون في هذا الشهر فحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا فأظفر الله المسلمين بهم.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن مقاتل‏ و أثر الضعف ظاهر عليه فإنّ المشركين كانوا يحرّمون الأشهر الحرم، و قد تقدّم في قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) الآية البقرة: ٢١٧، في الجزء الثاني من الكتاب من الروايات في قصّة عبدالله بن جحش و أصحابه ما يزيد في ضعف هذه الرواية.

٤٤٣

( سورة الحجّ الآيات ٦٧ - ٧٨)

لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ( ٦٧ ) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ٦٨ ) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٦٩ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ( ٧٠ ) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ( ٧١ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٧٢ ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ( ٧٣ ) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ٧٤ ) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( ٧٥ ) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( ٧٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٧٧ ) وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ

٤٤٤

الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( ٧٨ )

( بيان)

الآيات تأمره (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بالدعوة و تبيّن اُموراً من حقائق الدعوة و أباطيل الشرك ثمّ تأمر المؤمنين بإجمال الشريعة و هو عبادة الله و فعل الخير و تختم بالأمر بحقّ الجهاد في الله و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ) إلى آخر الآية. المنسك مصدر ميميّ بمعنى النسك و هو العبادة و يؤيّده قوله:( هُمْ ناسِكُوهُ ) أي يعبدون تلك العبادة، و ليس اسم مكان كما احتمله بعضهم.

و المراد بكلّ اُمّة هي الاُمّة بعد الاُمّة من الاُمم الماضين حتّى تنتهي إلى هذه الاُمّة دون الاُمم المختلفة الموجودة في زمانه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كالعرب و العجم و الروم لوحدة الشريعة و عموم النبوّة.

و قوله:( فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ) نهي للكافرين بدعوة النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عن منازعته في المناسك الّتي أتى بها و هم و إن كانوا لا يؤمنون بدعوته و لا يرون لما أتى به من الأوامر و النواهي وقعا يسلّمون له و لا أثر لنهي من لا يسلّم للناهي طاعة و لا مولويّة لكنّ هذا النهي لمّا كان معتمداً على الحجّة لم يصر لغواً لا أثر له و هي صدر الآية.

فكأنّ الكفّار من أهل الكتاب أو المشركين لمّا رأوا من عبادات الإسلام ما لا عهد لهم به في الشرائع السابقة كشريعة اليهود مثلاً نازعوه في ذلك من أين جئت به و لا عهد به في الشرائع السابقة و لو كان من شرائع النبوّة لعرفه المؤمنين من اُمم

٤٤٥

الأنبياء الماضين؟ فأجاب الله سبحانه عن منازعتهم بما في الآية.

و معناها أنّ كلّا من الاُمم كان لهم منسك هم ناسكوه و عبادة يعبدونها و لا يتعدّاهم إلى غيرهم لما أنّ الله سبحانه بدّل منسك السابقين ممّا هو أحسن منه في حقّ اللاحقين لتقدّمهم في الرقيّ الفكريّ و استعدادهم في اللاحق لما هو أكمل و أفضل من السابق فالمناسك السابقة منسوخة في حقّ اللاحقين فلا معنى لمنازعة النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فيما جاء به من المنسك المغاير لمناسك الأمم الماضين.

و لمّا كان نهيهم عن منازعته (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في معنى أمره بطيب النفس من قبل نزاعهم و نهيه عن الاعتناء به عطف عليه قوله:( وَ ادْعُ إِلى‏ رَبِّكَ ) كأنّه قيل: طب نفساً و لا تعبأ بمنازعتهم و اشتغل بما اُمرت به و هو الدعوة إلى ربّك.

و علّل ذلك بقوله:( إِنَّكَ لَعَلى‏ هُدىً مُسْتَقِيمٍ ) و توصيف الهدى بالاستقامة و هي وصف الصراط الّذي إليه الهداية من المجاز العقليّ.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ ) سياق الآية السابقة يؤيّد أنّ المراد بهذا الجدال المجادلة و المراء في أمر اختلاف منسكه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) مع الشرائع السابقة بعد الاحتجاج عليه بنسخ الشرائع، و قد اُمر (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بإرجاعهم إلى حكم الله من غير أن يشتغل بالمجادلة معهم بمثل ما يجادلون.

و قيل: المراد بقوله:( إِنْ جادَلُوكَ ) مطلق الجدال في أمر الدين، و قيل: الجدال في أمر الذبيحة و السياق السابق لا يساعد عليه.

و قوله:( فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ ) توطئة و تمهيد إلى إرجاعهم إلى حكم الله أي الله أعلم بعملكم و يحكم حكم من يعلم بحقيقة الحال، و إنّما يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون و تخالفون الحقّ و أهله - و الاختلاف و التخالف بمعنى كالاستباق و التسابق -.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) تعليل لعلمه تعالى بما يعملون أي إنّ ما يعملون بعض ما في السماء و الأرض و هو يعلم جميع ما فيهما فهو يعلم بعملهم.

٤٤٦

و قوله:( إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ ) تأكيد لما تقدّمه أي إنّ ما علمه من شي‏ء مثبت في كتاب فلا يزول و لا ينسى و لا يسهو فهو محفوظ على ما هو عليه حين يحكم بينهم، و قوله:( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) أي ثبت ما يعلمه في كتاب محفوظ هيّن عليه.

قوله تعالى: ( وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) إلخ الباء في( بِهِ ) بمعنى مع، و السلطان البرهان و الحجّة و المعنى و يعبد المشركون من دون الله شيئاً - و هو ما اتّخذوه شريكاً له تعالى - لم ينزّل الله معه حجّة حتّى يأخذوها و يحتجّوا بها و لا أنّ لهم به علماً.

قيل: إنّما أضاف قوله:( وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) على قوله:( ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) لأنّ الإنسان قد يعلم أشياء من غير حجّة و دليل كالضروريات.

و ربّما فسّر نزول السلطان بالدليل السمعيّ و وجود العلم بالدليل العقليّ أي يعبدون من دون الله ما لم يقم عليه دليل من ناحية الشرع و لا العقل، و فيه أنّه لا دليل عليه و تنزيل السلطان كما يصدق على تنزيل الوحي على النبيّ كذلك يصدق على تنزيل البرهان على القلوب.

و قوله:( وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) قيل: هو تهديد للمشركين و المراد أنّه ليس لهم ناصر ينصرهم فيمنعهم من العذاب.

و الظاهر - على ما يعطيه السياق - أنّه في محلّ الاحتجاج على أن ليس لهم برهان على شركائهم و لا علم، بأنّه لو كان لهم حجّة أو علم لكان لهم نصير ينصرهم إذ البرهان نصير لمن يحتجّ به و العلم نصير للعالم لكنّهم ظالمون و ما للظالمين من نصير فليس لهم برهان و لا علم، و هذا من ألطف الاحتجاجات القرآنيّة.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ ) إلخ المنكر مصدر ميميّ بمعنى الإنكار، و المراد بمعرفة الإنكار في وجوههم معرفة أثر الإنكار و الكراهة، و( يَسْطُونَ ) من السطوة و هي على ما في مجمع البيان: إظهار الحال الهائلة للإخافة يقال سطا عليه يسطو سطوة و سطاعة

٤٤٧

و الإنسان مسطوّ عليه، و السطوة و البطشة بمعنى. انتهى.

و المعنى: و إذا تتلى عليهم آياتنا و الحال أنّها واضحات الدلالة تعرف و تشهد في وجوه الّذين كفروا أثر الإنكار يقربون من أن يبطشوا على الّذين يتلون و يقرؤن عليهم آياتنا لما يأخذهم من الغيظ.

و قوله:( قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ ) تفريع على إنكارهم و تحرّزهم من استماع القرآن أي قل: أ فاُخبركم بما هو شرّ من هذا الّذي تعدّونه شرّاً تحترزون منه و تتّقون أن تسمعوه أ فاُخبركم به لتتّقوه إن كنتم تتّقون.

و قوله:( النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) بيان للشرّ أي ذلكم الّذي هو شرّ من هذا هي النار، و قوله:( وَعَدَهَا اللهُ ) إلخ بيان لكونه شرّاً.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) إلى آخر الآية خطاب للناس جميعاً و العناية بالمشركين منهم.

و قوله:( ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) المثل هو الوصف الّذي يمثّل الشي‏ء في حالة سواء كان وصفاً محقّقاً واقعاً أو مقدّراً متخيّلاً كالأمثال الّتي تشتمل على محاورات الحيوانات و الجمادات و مشافهاتها، و ضرب المثل نصبه ليتفكّر فيه كضرب الخيمة ليسكن فيها.

و هذا المثل هو قوله:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) و المعنى أنّه لو فرض أنّ آلهتهم شاؤا أن يخلقوا ذباباً و هو أضعف الحيوانات عندهم لم يقدروا عليه أبداً و إن يسلبهم الذباب شيئاً ممّا عليهم لا يستنقذوه بالانتزاع منه.

فهذا الوصف يمثّل حال آلهتهم من دون الله في قدرتهم على الإيجاد و على تدبير الأمر حيث لا يقدرون على خلق ذباب و على تدبير أهون الاُمور و هو استرداد ما أخذه الذباب منهم و أضرّهم بذلك و كيف يستحقّ الدعوة و العبادة من كان هذا شأنه؟.

و قوله:( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ ) مقتضى المقام أن يكون المراد بالطالب الآلهة

٤٤٨

و هي الأصنام المدعوّة فإنّ المفروض أنّهم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون و استنقاذ ما سلبه إيّاهم فلا يقدرون، و المطلوب الذباب حيث يطلب ليخلق و يطلب ليستنقذ منه.

و في هذه الجملة بيان غاية ضعفهم فإنّهم أضعف من أضعف ما يستضعفه الناس من الحيوانات الّتي فيها شي‏ء من الشعور و القدرة.

قوله تعالى: ( ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) قدر الشي‏ء هندسته و تعيين كمّيّته و يكنى به عن منزلة الشي‏ء الّتي تقتضيها أوصافه و نعوته يقال: قدر الشي‏ء حقّ قدره أي نزّله المنزلة الّتي يستحقّها و عامله بما يليق به.

و قدره تعالى حقّ القدر أن يلتزم بما يقتضيه صفاته العليا و يعامل كما يستحقّه بأن يتّخذ ربّاً لا ربّ غيره و يعبد وحده لا معبود سواه لكنّ المشركين ما قدروه حقّ قدره إذ لم يتّخذوه ربّاً و لم يعبدوه بل اتّخذوا الأصنام أرباباً من دونه و عبدوها دونه و هم يرون أنّها لا تقدر على خلق ذباب و يمكن أن يستذلّها ذباب فهي من الضعف و الذلّة في نهايتهما، و الله سبحانه هو القويّ العزيز الّذي إليه ينتهي الخلق و الأمر و هو القائم بالإيجاد و التدبير.

فقوله:( ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) إشارة إلى عدم التزامهم بربوبيّته تعالى و إعراضهم عن عبادته ثمّ اتّخاذهم الأصنام أرباباً من دونه يعبدونها خوفاً و طمعاً دونه تعالى.

و قوله:( إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) تعليل للنفي السابق و قد أطلق القوّة و العزّة فأفاد أنّه قويّ لا يعرضه ضعف و عزيز لا تعتريه ذلّة كما قال:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥، و قال:( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) النساء: ١٣٩، و إنّما خصّ الاسمين بالذكر لمقابلتهما ما في المثل المضروب من صفة آلهتهم و هو الضعف و الذلّة فهؤلاء استهانوا أمر ربّهم إذ عدلوا بينه تعالى و هو القويّ الّذي يخلق ما يشاء و العزيز الّذي لا يغلبه شي‏ء و لا يستذلّه من سواه و بين الأصنام و الآلهة الّذين يضعفون من خلق ذباب و يستذلّهم ذباب ثمّ لم يرضوا بذلك حتّى قدّموهم عليه تعالى فاتّخذوهم

٤٤٩

أرباباً يعبدونهم دونه تعالى.

قوله تعالى: ( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) الاصطفاء أخذ صفوة الشي‏ء و خالصته، قال الراغب: الاصطفاء تناول صفو الشي‏ء كما أنّ الاختيار تناول خيره و الاجتباء تناول جبايته. انتهى.

فاصطفاء الله تعالى من الملائكة رسلاً و من الناس اختياره من بينهم من يصفو لذلك و يصلح.

و هذه الآية و الّتي بعدها تبيّنان وجوب جعل الرسالة و صفتها و صفة الرسل و هي العصمة، و للكلام فيها بعض الاتّصال بقوله السابق:( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ) لإنبائه عن الرسالة.

تبيّن الآية أوّلاً أنّ لله رسلاً من الملائكة و من الناس، و ثانياً أنّ هذه الرسالة ليست كيفما اتّفقت و ممّن اتّفق بل هي بالاصطفاء و تعيين من هو صالح لذلك.

و قوله:( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) تعليل لأصل الإرسال فإنّ الناس أعني النوع الإنسانيّ يحتاج حاجة فطريّة إلى أن يهديهم الله سبحانه نحو سعادتهم و كمالهم المطلوب من خلقهم كسائر الأنواع الكونيّة فالحاجة نحو الهداية عامّة، و ظهور الحاجة فيهم و إن شئت فقل: إظهارهم الحاجة من أنفسهم سؤال منهم و استدعاء لما ترتفع به حاجتهم و الله سبحانه سميع بصير يرى ببصره ما هم عليه من الحاجة الفطريّة إلى الهداية و يسمع بسمعه سؤالهم ذلك.

فمقتضى سمعه و بصره تعالى أن يرسل إليهم رسولاً و يهديهم به إلى سعادتهم الّتي خلقوا لنيلها و التلبّس بها فما كلّ الناس بصالحين للاتّصال بعالم القدس و فيهم الخبيث و الطيّب و الطالح و الصالح، و الرسول رسولان رسول ملكيّ يأخذ الوحي منه تعالى و يؤدّيه إلى الرسول الإنسانيّ و رسول إنسانيّ يأخذ الوحي من الرسول الملكيّ و يلقيه إلى الناس و بالجملة قوله:( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) يتضمّن الحجّة على لزوم أصل الإرسال، و أمّا معنى الاصطفاء و الحجّة على لزومه فهو ما يشير إليه قوله:( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ) .

٤٥٠

قوله تعالى: ( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) ظاهر السياق أنّ ضمير الجمع في الموضعين للرسل من الملائكة و الناس، و يشهد وقوع هذا التعبير فيهم في غير هذا الموضع كقوله تعالى حكاية عن ملائكة الوحي:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا ) الآية: مريم: ٦٤، و قوله:( فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) الجنّ: ٢٨.

و الآية - كما ترى - تنادي بأنّ ذكر علمه بما بين أيديهم و ما خلفهم لدلالة على أنّه تعالى مراقب للطريق الّذي يسلكه الوحي فيما بينه و بين الناس حافظ له أن يختلّ في نفسه بنسيان أو تغيير أو يفسد بشي‏ء من مكائد الشياطين و تسويلاتهم كلّ ذلك لأنّ حملة الوحي من الرسل بعينه و بمشهد منه يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و هو بالمرصاد.

و من هنا يظهر أنّ المراد بما بين أيديهم هو ما بينهم و بين من يؤدّون إليه فما بين أيدي الرسول الملكيّ هو ما بينه و بين الرسول الإنسانيّ و ما بين يدي الرسول الإنسانيّ هو ما بينه و بين الناس، و المراد بما خلفهم هو ما بينهم و بين الله سبحانه و الجميع سائرون من جانب الله إلى الناس.

فالوحي في مأمن إلهيّ منذ يصدر من ساحة العظمة و الكبرياء إلى أن يبلغ الناس و لازمه أنّ الرسل معصومون في تلقّي الوحي و معصومون في حفظه و معصومون في إبلاغه للناس.

و قوله:( وَ إِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) في مقام التعليل لعلمه بما بين أيديهم و ما خلفهم أي كيف يخفى عليه شي‏ء من ذلك؟ و إليه يرجع جميع الاُمور و إذ ليس هذا الرجوع رجوعاً زمانياً حتّى يجوز معه خفاء حاله قبل الرجوع و إنّما هو مملوكيّة ذاته له تعالى فلا استقلال له منه و لا خفاء فيه له فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) الأمر بالركوع و السجود أمر بالصلاة و مقتضى

٤٥١

المقابلة أن يكون المراد بقوله:( وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ ) الأمر بسائر العبادات المشرّعة في الدين كالحجّ و الصوم و يبقى لقوله:( وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ ) سائر الأحكام و القوانين المشرّعة فإنّ في إقامتها و العمل بها خير المجتمع و سعادة الأفراد و حياتهم كما قال:( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) الأنفال: ٢٤.

و في الآية أمر بإجماع الشرائع الإسلاميّة من عبادات و غيرها.

قوله تعالى: ( وَ جاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) إلى آخر الآية. الجهاد بذل الجهد و استفراغ الوسع في مدافعة العدوّ، و يطلق في الأكثر على المدافعة بالقتال لكن ربّما يتوسّع في معنى العدوّ حتّى يشمل كلّ ما يتوقّع منه الشرّ كالشيطان الّذي يضلّ الإنسان و النفس الأمّارة بالسوء و غير ذلك فيطلق اللفظ على مخالفة النفس في هواها و الاجتناب عن طاعة الشيطان في وسوسته، و قد سمّى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) مخالفة النفس جهاداً أكبر.

و الظاهر أنّ المراد بالجهاد في الآية هو المعنى الأعمّ و خاصّة بالنظر إلى تقييده بقوله:( فِي اللهِ ) و هو كلّ ما يرجع إليه تعالى، و يؤيّده أيضاً قوله:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) العنكبوت: ٦٩.

و على ذلك فمعنى كون الجهاد فيه حقّ جهاده أن يكون متمحّضاً في معنى الجهاد و يكون خالصاً لوجهه الكريم لا يشاركه فيه غيره نظير تقوى الله حقّ تقواه في قوله:( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) آل عمران: ١٢٤.

و قوله:( هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امتنان منه تعالى على المؤمنين بأنّهم ما كانوا لينالوا سعادة الدّين من عند أنفسهم و بحولهم غير أنّ الله منّ عليهم إذ وفّقهم فاجتباهم و جمعهم للدين، و رفع عنهم كلّ حرج في الدين امتناناً سواء كان حرجاً في أصل الحكم أو حرجاً طارئاً عليه اتّفاقاً فهي شريعة سهلة سمحة ملّة أبيهم إبراهيم الحنيف الّذي أسلم لربّه.

و إنّما سمّي إبراهيم أبا المسلمين لأنّه (عليه السلام) أوّل من أسلم لله كما قال تعالى:( إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) البقرة: ١٣١، و قال حاكياً عنه (عليه السلام):

٤٥٢

( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) إبراهيم: ٣٦ فنسب أتباعه إلى نفسه، و قال أيضاً:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) إبراهيم: ٣٥، و مراده ببنيه المسلمون دون المشركين قطعاً و قال:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) آل عمران: ٦٨.

و قوله:( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا ) امتنان ثان منه تعالى على المؤمنين بعد الامتنان بقوله:( هُوَ اجْتَباكُمْ) فالضمير له تعالى و قوله:( مِنْ قَبْلُ ) أي من قبل نزول القرآن و قوله:( وَ فِي هذا ) أي و في هذا الكتاب و في امتنانه عليهم بذكر أنّه سمّاهم المسلمين دلالة على قبوله تعالى إسلامهم.

و قوله:( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) المراد به شهادة الأعمال و قد تقدّم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة الآية ١٤٣ و غيرها و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث الاجتباء و نفي الحرج و تسميتهم مسلمين.

و قوله:( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللهِ ) تفريع على جميع ما تقدّم ممّا امتنّ به عليهم أي فعلى هذا يجب عليكم أن تقيموا الصلاة و تؤتوا الزكاة - و هو إشارة إلى العمل بالأحكام العباديّة و الماليّة - و تعتصموا بالله في جميع الأحوال فأتمروا بكلّ ما أمر به و تنتهوا عن جميع ما نهى عنه و لا تنقطعوا عنه في حال لأنّه مولاكم و ليس للعبد أن ينقطع عن مولاه في حال و لا للإنسان الضعيف أن ينقطع عن ناصره بوجه - على الاحتمالين في معنى المولى -.

فقوله:( هُوَ مَوْلاكُمْ ) في مقام التعليل لما قبله من الحكم، و قوله:( فَنِعْمَ الْمَوْلى‏ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ ) كلمة مدح له تعالى و تطييب لنفوس المؤمنين و تقوية لقلوبهم بأنّ مولاهم و نصيرهم هو الله الّذي لا مولى غيره و لا نصير سواه.

و اعلم أنّ الّذي أوردناه من معنى الاجتباء و كذا الإسلام و غيره في الآية هو الّذي ذكره جلّ المفسّرين بالبناء على ظاهر الخطاب بيا أيّها الّذين آمنوا في صدر الكلام و شموله عامّة المؤمنين و جميع الاُمّة.

و قد بيّنّا غير مرّة أنّ الاجتباء بحقيقة معناه يساوق جعل العبد مخلصاً - بفتح

٤٥٣

اللام - مخصوصاً بالله لا نصيب لغيره تعالى فيه، و هذه صفة لا توجد إلّا في آحاد معدودين من الاُمّة دون الجميع قطعاً، و كذا الكلام في معنى الإسلام و الاعتصام، و المعنى بحقيقته مراد في الكلام قطعاً.

و على هذا فنسبة الاجتباء و الإسلام و الشهادة إلى جميع الاُمّة توسّع من جهة اشتمالهم على من يتّصف بهذه الصفات بحقيقتها نظير قوله في بني إسرائيل:( وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) المائدة: ٢٠، و قوله فيهم:( وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) الجاثية: ١٦ و نظائره كثيرة في القرآن.

( بحث روائي)

عن جوامع الجامع في قوله تعالى:( فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ) روي أنّ بديل بن ورقاء و غيره من كفّار خزاعة قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل الله يعنون الميتة.

أقول: سياق الآية لا يساعد عليه.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بيّاع الأنماط عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كانت قريش تلطخ الأصنام الّتي كانت حول الكعبة بالمسك و العنبر، و كان يغوث قبال الباب و يعوق عن يمين الكعبة، و كان نسر عن يسارها، و كانوا إذا دخلوا خرّوا سجدّا ليغوث و لا ينحنون ثمّ يستديرون بحيالهم إلى يعوق ثمّ يستديرون عن يسارها بحيالهم إلى نسر ثمّ يلبّون فيقولون: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك.

قال: فبعث الله ذبابا أخضر له أربعة أجنحة فلم يبق من ذلك المسك و العنبر شيئاً إلّا أكله، و أنزل الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) الآية.

و فيه، بإسناده عن بريد العجليّ قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام):( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ جاهِدُوا فِي

٤٥٤

اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) قال: إيّانا عنى و نحن المجتبون و لم يجعل الله تبارك و تعالى لنا في الدين من حرج فالحرج أشدّ من الضيق.

( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) إيّانا عنى خاصّة( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) الله عزّوجلّ سمّانا المسلمين( مِنْ قَبْلُ ) في الكتب الّتي مضت( وَ فِي هذا ) القرآن( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) فرسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) الشهيد علينا بما بلّغنا عن الله تبارك و تعالى و نحن الشهداء على الناس يوم القيامة فمن صدّق يوم القيامة صدّقناه و من كذب كذّبناه.

أقول: و الروايات من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المعنى كثيرة، و قد تقدّم في ذيل الآية ما يتّضح به معنى هذه الروايات.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه عن عائشة: أنّها سألت النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عن هذه الآية:( وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) قال: الضيق.

و في التهذيب، بإسناده عن عبدالأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة كيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب الله عزّوجلّ قال الله:( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امسح عليه.

أقول: و في معناها روايات اُخر تستشهد بالآية في رفع الحكم الحرجيّ و في التمسّك بالآية في الحكم دلالة على صحّة ما قدّمناه في معنى الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و إسحاق بن راهويه في مسنده عن مكحول أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: تسمّي الله باسمين سمّى بهما اُمّتي هو السلام و سمّى اُمّتي المسلمين، و هو المؤمن و سمّى اُمّتي المؤمنين‏

تم و الحمد لله.

٤٥٥

الفهرس

( سورة مريم مكّيّة و هي ثمان و تسعون آية )   ٢

( سورة مريم الآيات ١ - ١٥ ). ٢

( بيان ). ٣

( قصّة زكريّا في القرآن ). ٢٥

( قصّة يحيى (عليه السلام) في القرآن ). ٢٦

( سورة مريم الآيات ١٦ - ٤٠ ). ٣٢

( بيان ). ٣٣

( كلام في معنى التمثّل ). ٣٥

( بحث روائي ). ٥٢

( سورة مريم الآيات ٤١ - ٥٠ ). ٥٧

( بيان ). ٥٧

( سورة مريم الآيات ٥١ - ٥٧ ). ٦٥

( بيان ). ٦٥

( قصّة إسماعيل صادق الوعد ). ٦٧

( قصّة إدريس النبيّ (عليه السلام) ). ٦٨

( سورة مريم الآيات ٥٨ - ٦٣ ). ٧٧

( بيان ). ٧٧

( بحث روائي ). ٨٤

( سورة مريم الآيات ٦٤ - ٦٥ ). ٨٦

( بيان ). ٨٦

( سورة مريم الآيات ٦٦ - ٧٢ ). ٩٢

( بيان ). ٩٢

( بحث روائي ). ٩٨

( كلام في معنى وجوب الفعل و جوازه ). ١٠٠

( و عدم جوازه على الله سبحانه ). ١٠٠

٤٥٦

( سورة مريم الآيات ٧٣ - ٨٠ ). ١٠٦

( بيان ). ١٠٦

( بحث روائي ). ١١٣

( سورة مريم الآيات ٨١ - ٩٦ ). ١١٥

( بيان ). ١١٥

( بحث روائي ). ١٢١

( سورة مريم الآيات ٩٧ - ٩٨ ). ١٢٦

( بيان ). ١٢٦

( سورة طه مكّيّة و هي مائة و خمس و ثلاثون آية )   ١٢٨

( سورة طه الآيات ١ - ٨ ). ١٢٨

( بيان ). ١٢٨

( بحث روائي ). ١٣٦

( سورة طه الآيات ٩ - ٤٨ ). ١٤٦

( بيان ). ١٤٧

( بحث روائي ). ١٧١

( سورة طه الآيات ٤٩ - ٧٩ ). ١٧٥

( بيان ). ١٧٧

( بحث روائي ). ١٩٩

( سورة طه الآيات ٨٠ - ٩٨ ). ٢٠٠

( بيان ). ٢٠١

( بحث روائي ). ٢١٤

( سورة طه الآيات ٩٩ - ١١٤ ). ٢٢٤

( بيان ). ٢٢٥

( بحث روائي ). ٢٣٢

( سورة طه الآيات ١١٥ - ١٢٦ ). ٢٣٥

( بيان ). ٢٣٥

( بحث روائي ). ٢٤٦

٤٥٧

( سورة طه الآيات ١٢٧ - ١٣٥ ). ٢٥١

( بيان ). ٢٥٢

( بحث روائي ). ٢٦١

( سورة الأنبياء مكّيّة و هي مائة و اثنتا عشرة آية )   ٢٦٤

( سورة الأنبياء الآيات ١ - ١٥ ). ٢٦٤

( بيان ). ٢٦٥

( كلام في معنى حدوث الكلام و قدمه في فصول ). ٢٦٩

١- ما معنى حدوث الكلام و بقائه؟ ٢٦٩

٢- هل الكلام بما هو كلام فعل أو صفة ذاتيّة؟ ٢٧٠

٣- تحليل معنى الكلام: ٢٧٠

٤- محصّل البحث‏: ٢٧١

( بحث روائي ). ٢٧٨

( سورة الأنبياء الآيات ١٦ - ٣٣ ). ٢٨٠

( بيان ). ٢٨١

( بحث في حكمته تعالى ). ٢٩٥

( و معنى كون فعله مقارناً للمصلحة ). ٢٩٥

( و هو بحث فلسفي و قرآني‏ ). ٢٩٥

( بحث روائي ). ٣٠٦

( سورة الأنبياء الآيات ٣٤ - ٤٧ ). ٣١٠

( بيان ). ٣١١

( بحث روائي ). ٣٢٠

( سورة الأنبياء الآيات ٤٨ - ٧٧ ). ٣٢٢

( بيان ). ٣٢٣

( بحث روائي‏ ). ٣٣٦

( سورة الأنبياء الآيات ٧٨ - ٩١ ). ٣٣٩

( بيان ). ٣٤٠

( بحث روائي ). ٣٤٧

٤٥٨

( سورة الأنبياء الآيات ٩٢ - ١١٢ ). ٣٥١

( بيان ). ٣٥٢

( بحث روائي ). ٣٦٥

( سورة الحجّ مدنيّة و هي ثمان و سبعون آية )   ٣٧٠

( سورة الحجّ الآيات ١ - ٢ ). ٣٧٠

( بيان ). ٣٧٠

( بحث روائي ). ٣٧٢

( سورة الحجّ الآيات ٣ - ١٦ ). ٣٧٤

( بيان ). ٣٧٥

( بحث روائي ). ٣٨٧

( سورة الحجّ الآيات ١٧ - ٢٤ ). ٣٩١

( بيان ). ٣٩١

( بحث روائي ). ٣٩٦

( سورة الحجّ الآيات ٢٥ - ٣٧ ). ٤٠٠

( بيان ). ٤٠١

( بحث روائي ). ٤١٣

( سورة الحجّ الآيات ٣٨ - ٥٧ ). ٤١٨

( بيان ). ٤١٩

( بحث روائي ). ٤٣٤

( سورة الحجّ الآيات ٥٨ - ٦٦ ). ٤٣٧

( بيان ). ٤٣٧

( بحث روائي ). ٤٤٣

( سورة الحجّ الآيات ٦٧ - ٧٨ ). ٤٤٤

( بيان ). ٤٤٥

( بحث روائي ). ٤٥٤

٤٥٩