الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 85486
تحميل: 3915


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85486 / تحميل: 3915
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تمّ الكلام عند قوله:( إِسْرائِيلَ ) ثمّ ابتدأ فقال: و ممّن هدينا و اجتبينا من الاُمم قوم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً و بكيّاً فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه، و الوجه منسوب إلى أبي مسلم المفسّر.

و فيه أنّه تقدير من غير دليل. على أنّ في ذلك إفساد غرض على ما يشهد به السياق إذ الغرض منها بيان طريقة اُولئك العباد المنعم عليهم و أنّهم كانوا خاضعين لله خاشعين له و أنّ أخلافهم أعرضوا عن طريقتهم و أضاعوا الصلاة و اتّبعوا الشهوات و هذا لا يتأتّى إلّا بكون قوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) إلخ خبراً لقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) و أخذ قوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا ) إلى آخر الآية استئنافاً مقطوعاً عمّا قبله إفساد للغرض المذكور من رأس.

و قوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا ) السجّد جمع ساجد و البكيّ على فعول جمع باكي و الجملة خبر للّذين في صدر الآية و يحتمل أن يكون الخرور سجّداً و بكيّاً كناية عن كمال الخضوع و الخشوع فإنّ السجدة ممثّل لكمال الخضوع و البكاء لكمال الخشوع و الأنسب على هذا أن يكون المراد بالآيات و تلاوتها ذكر مطلق ما يحكي شأناً من شؤونه تعالى.

و أمّا قول القائل إنّ المراد بتلاوة الآيات قراءة الكتب السماويّة مطلقاً أو خصوص ما يشتمل على عذاب الكفّار و المجرمين، أو أنّ المراد بالسجود الصلاة أو سجدة التلاوة أو أنّ المراد بالبكاء البكاء عند استماع الآيات أو تلاوتها فكما ترى.

فمعنى الآية - و الله أعلم - اُولئك المنعم عليهم الّذين بعضهم من النبيّين من ذرّيّة آدم و ممّن حملنا مع نوح و من ذرّيّة إبراهيم و إسرائيل و بعضهم من أهل الهداية و الاجتباء خاضعون للرحمن خاشعون إذا ذكر عندهم و تليت آياته عليهم.

و لم يقل: كانوا إذا تتلى عليهم إلخ لأنّ العناية في المقام متعلّقه ببيان حال النوع من غير نظر إلى ماضي الزمان و مستقبله بل بتقسيمه إلى سلف صالح و خلف طالح و ثالث تاب و آمن و عمل صالحاً و هو ظاهر.

قوله تعالى: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ

٨١

يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قالوا: الخلف بسكون اللام البدل السيّئ و بفتح اللام ضدّه و ربّما يعكس على ندرة، و ضياع الشي‏ء فساده أو افتقاده بسبب ما كان ينبغي أن يتسلّط عليه يقال: أضاع المال إذا أفسده بسوء تدبيره أو أخرجه من يده بصرفه فيما لا ينبغي صرفه فيه، و الغيّ خلاف الرشد و هو إصابة الواقع و هو قريب المعنى من الضلال خلاف الهدى و هو ركوب الطريق الموصل إلى الغاية المقصودة.

فقوله:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ) إلخ أي قام مقام اُولئك الّذين أنعم الله عليهم و كانت طريقتهم الخضوع و الخشوع لله تعالى بالتوجّه إليه بالعبادة قوم سوء أضاعوا ما أخذوه منهم من الصلاة و التوجّه العبادي إلى الله سبحانه بالتهاون فيه و الإعراض عنه، و اتّبعوا الشهوات الصارفة لهم عن المجاهدة في الله و التوجّه إليه.

و من هنا يظهر أنّ المراد بإضاعة الصلاة إفسادها بالتهاون فيها و الاستهانة بها حتّى ينتهي إلى أمثال اللعب بها و التغيير فيها و الترك لها بعد الأخذ و القبول فما قيل: إنّ المراد بإضاعة الصلاة تركها ليس بسديد إذ لا يسمّى ترك الشي‏ء من رأس إضاعة له و العناية في الآية متعلّقه بأنّ الدين الإلهيّ انتقل من اُولئك السلف الصالح بعدهم إلى هؤلاء الخلف الطالح فلم يحسنوا الخلافة و أضاعوا ما ورثوه من الصلاة الّتي هي الركن الوحيد في العبوديّة و اتّبعوا الشهوات الصارفة عن الحقّ.

و قوله:( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) أي جزاء غيّهم على ما قيل فهو كقوله:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ) .

و من الممكن أن يكون المراد به نفس الغيّ بفرض الغيّ غاية للطريق الّتي يسلكونها و هي طريق إضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات فإذ كانوا يسلكون طريقاً غايتها الغيّ فسيلقونه إذا قطعوها إمّا بانكشاف غيّهم لهم يوم القيامة حيث ينكشف لهم الحقائق أو برسوخ الغيّ في قلوبهم و صيرورتهم من أولياء الشيطان كما قال:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢، و كيف كان فهو استعارة بالكناية لطيفة.

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ

٨٢

شَيْئاً ) استثناء من الآية السابقة فهؤلاء الراجعون إلى الله سبحانه ملحقون باُولئك الّذين أنعم الله عليهم و هم معهم لا منهم كما قال تعالى:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ) النساء: ٦٩.

و قوله:( فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ) من وضع المسبّب موضع السبب و الأصل فاُولئك يوفّون أجرهم، و الدليل على ذلك قوله بعده:( وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ) فإنّه من لوازم توفية الأجر لا من لوازم دخول الجنّة.

قوله تعالى: ( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) العدن الإقامة ففي تسميتها به إشارة إلى خلودها لداخليها، و الوعد بالغيب هو الوعد بما ليس تحت إدراك الموعود له، و كون الوعد مأتيّا عدم تخلّفه، قال في المجمع: و المفعول هنا بمعنى الفاعل لأنّ ما أتيته فقد أتاك و ما أتاك فقد أتيته يقال: أتيت خمسين سنة و أتت عليّ خمسون سنة، و قيل: إنّ الموعود الجنّة و الجنّة يأتيها المؤمنون انتهى.

قوله تعالى: ( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) عدم سمع اللغو من أخصّ صفات الجنّة و قد ذكره الله سبحانه و امتنّ به في مواضع من كلامه و سنفصّل القول فيه إن شاء الله في موضع يناسبه، و استثناء السلام منه استثناء منفصل، و السلام قريب المعنى من الأمن - و قد تقدّم الفرق بينهما - فقولك: أنت منّي في أمن معناه لا تلقى منّي ما يسوؤك، و قولك: سلام منّي عليك معناه كلّ ما تلقاه منّي لا يسوؤك. و إنّما يسمعون السلام من الملائكة و من رفقائهم في الجنّة، قال تعالى حكاية عن الملائكة:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ) الزمر: ٧٣، و قال:( فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ) الواقعة: ٩١.

و قوله:( وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) الظاهر أنّ إتيان الرزق بكرة و عشيّاً كناية عن تواليه من غير انقطاع.

قوله تعالى: ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ) الإرث

٨٣

و الوراثة هو أن ينتقل مال أو ما يشبهه من شخص إلى آخر بعد ترك الأوّل له بموت أو جلاء أو نحوهما، و إذ كانت الجنّة في معرض العطاء لكلّ إنسان بحسب الوعد الإلهيّ المشروط بالإيمان و العمل الصالح فاختصاص المتّقين بها بعد حرمان غيرهم عنها بإضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات وراثة المتّقين، و نظير هذه العناية ما في قوله تعالى:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ: ) الأنبياء: ١٠٥، و قوله:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) الزمر: ٧٤، و الآية كما ترى جمعت بين الإيراث و الأجر.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) الآية، و روي عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال: نحن عنينا بها.

أقول: و عن مناقب ابن شهرآشوب، عنه (عليه السلام) مثله‏، و قد اتّضح معنى الحديث بما قدّمناه في تفسير الآية فإنّ المراد بالجملة أهل الهداية و الاجتباء من غير النبيّين و هم (عليهم السلام) منهم كما ذكر الله سبحانه مريم منهم و ليست بنبيّة.

قال في روح المعاني: و روى بعض الإماميّة عن عليّ بن الحسين رضي الله عنهما أنّه قال: نحن عنينا بهؤلاء القوم. و لا يخفى أنّ هذا خلاف الظاهر جدّاً و حال روايات الإماميّة لا يخفى على أرباب التميز. انتهى. و قد تبيّن خطؤه ممّا تقدّم و الّذي أوقعه في ذلك أخذه قوله تعالى:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) معطوفاً على قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) و قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) بيانا لقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ ) إلخ، فانحصر( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) في النبيّين فاضطرّ إلى القول بأنّ الآية لا تشمل غير النبيّين و هو يرى أنّ الله ذكر فيمن ذكر مريم بنت عمران و ليست بنبيّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبّان و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و تلا هذه الآية:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ) فقال: يكون خلف من بعد ستّين

٨٤

سنة أضاعوا الصلاة و اتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً، ثمّ يكون خلف يقرؤن القرآن لا يعدو تراقيهم، و يقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن و منافق و فاجر.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَضاعُوا الصَّلاةَ ) و قيل: أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن تركوها أصلاً و هو المرويّ عن أبي عبدالله (عليه السلام).

أقول: و روى في الكافي، ما في معناه بإسناده عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام)، و روي ذلك من طرق أهل السنّة عن ابن مسعود و عدّة من التابعين.

و عن جوامع الجامع، و في روح المعاني في قوله:( وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ ) عن عليّ (عليه السلام) من بنى الشديد و ركب المنظور و لبس المشهور.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق نهشل عن الضحّاك عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: الغيّ واد في جهنّم.

أقول: و في روايات اُخرى أنّ الغيّ و أثام نهران في جهنّم، و هذا على تقدير صحّة الحديث ليس بتفسير آخر كما زعمه أكثر المفسّرين بل بيان لما سيؤل إليه الغيّ بحسب الجزاء، و نظيره ما ورد أنّ الويل بئر في جهنّم و أنّ طوبى شجرة في الجنّة، إلى غير ذلك من الروايات.

٨٥

( سورة مريم الآيات ٦٤ - ٦٥)

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ( ٦٤ ) رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ( ٦٥ )

( بيان)

الآيتان معترضتان بين آيات السورة و سياقهما يشهد بأنّهما من كلام ملك الوحي بوحي قرآني من الله سبحانه فإنّ النظم نظم قرآنيّ بلا ريب. و بذلك يتأيّد ما ورد بطرق مختلفة من طرق أهل السنّة و رواه في مجمع البيان، أيضاً عن ابن عبّاس: أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) استبطأ نزول جبريل فسأله عن ذلك فأجابه بوحي من الله تعالى:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآيتين.

و قد تكلّف جمع في بيان اتّصال الآيتين بالآيات السابقة فقال بعضهم: إنّ التقدير: هذا و قال جبريل: و ما نتنزّل إلّا بأمر ربّك إلخ، و قال آخرون: إنّهما متّصلتان بقول جبريل لمريم المنقول سابقاً:( إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ) الآية، و ذكر قوم أنّ قوله:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية من كلام المتّقين حين يدخلون الجنّة فالتقدير و قال المتّقون و ما نتنزّل الجنّة إلّا بأمر ربّك إلخ و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً وجوه ظاهرة السخافة يأباها السياق و لا يقبلها النظم البليغ لا حاجة إلى الاشتغال ببيان وجوه فسادها. و سيأتي في ذيل البحث في الآية الثانية وجه آخر للاتّصال.

٨٦

قوله تعالى: ( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية، التنزّل هو النزول على مهل و تؤدة فإنّ تنزّل مطاوع نزّل يقال: نزّله فتنزّل و النفي و الاستثناء يفيدان الحصر فلا يتنزّل الملائكة إلّا بأمر من الله كما قال:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦.

و قوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) يقال: كذا قدّامه و أمامه و بين يديه و المعنى واحد غير أنّ قولنا: بين يديه إنّما يطلق فيما كان بقرب منه و هو مشرف عليه له فيه نوع من التصرّف و التسلّط فظاهر قوله:( ما بَيْنَ أَيْدِينا ) أنّ المراد به ما نشرف عليه ممّا هو مكشوف علينا مشهود لنا: و ظاهر قوله:( وَ ما خَلْفَنا ) بالمقابلة ما هو غائب عنّا مستور علينا.

و على هذا فلو اُريد بقوله:( ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) المكان شمل بعض المكان الّذي أمامهم و المكان الّذي هم فيه و جميع المكان الّذي خلفهم و لم يشمل كل مكان، و كذا لو اُريد به الزمان شمل الماضي كلّه و الحال و المستقبل القريب فقط و سياق قوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) ، ينادي بالإحاطة و لا يلائم التبعيض.

فالوجه حمل( ما بَيْنَ أَيْدِينا ) على الأعمال و الآثار المتفرّعة على وجودهم الّتي هم قائمون بها متسلّطون عليها، و حمل( ما خَلْفَنا ) على ما هو من أسباب وجودهم ممّا تقدّمهم و تحقّق قبلهم، و حمل( ما بَيْنَ ذلِكَ ) على وجودهم أنفسهم و هو من أبدع التعبير و ألطفه و بذلك تتمّ الإحاطة الإلهيّة بهم من كلّ جهة لرجوع المعنى إلى أنّ الله تعالى هو المالك لوجودنا و ما يتعلّق به وجودنا من قبل و من بعد.

و لقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة فقيل: المراد بما بين أيدينا ما هو قدّامنا من الزمان المستقبل و بما خلفنا الماضي و بما بين ذلك الحال، و قيل: ما بين أيدينا ما قبل الإيجاد من الزمان. و ما خلفنا ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة و ما بين ذلك هو مدّة الحياة و قيل: ما بين الأيدي الدنيا إلى النفخة الاُولى و ما خلفهم هو ما بعد النفخة الثانية و ما بين ذلك ما بين النفختين و هو أربعون سنة، و قيل:

٨٧

ما بين أيديهم الآخرة و ما خلفهم الدنيا، و قيل: ما بين أيديهم ما قبل الخلق و ما خلفهم ما بعد الفناء و ما بين ذلك ما بين الدنيا و الآخرة، و قيل: ما بين أيديهم ما بقي من أمر الدنيا و ما خلفهم ما مضى منه و ما بين ذلك ما هم فيه و قيل: المعنى ابتداء خلقنا و منتهى آجالنا و مدّة حياتنا.

و قيل: ما بين أيديهم السماء و ما خلفهم الأرض و ما بين ذلك ما بينهما، و قيل: بعكس ذلك، و قيل: ما بين أيديهم المكان الّذي ينتقلون إليه و ما خلفهم المكان الّذي ينتقلون منه و ما بين ذلك المكان الّذي هم فيه.

و تشترك الأقوال الثلاثة الأخيرة في أنّ الماءآت عليها مكانيّة كما يشترك السبعة في أنّ الماءآت عليها زمانيّة و هناك قول بكون الآية تعمّ الزمان و المكان فهذه أحد عشر قولاً و لا دليل على شي‏ء منها مع ما فيها من قياس الملك على الإنسان و الوجه ما قدّمناه.

فقوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) يفيد إحاطة ملكه تعالى بهم ملكا حقيقيّاً لا يجري فيه تصرّف غيره و لا إرادة من سواه إلّا عن إذن منه و مشيّة و إذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلاً إلّا عن أمره و من بعد إذنه و لا تريد إلّا ما أراده الله فلا يتنزّل ملك إلّا بأمر ربّه.

و قد تقرّر بهذا البيان أنّ قوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) في مقام التعليل لقوله:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) و أنّ قوله:( وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) - و النسيّ فعول من النسيان - من تمام التعليل أي إنّه تعالى لا ينسى شيئاً من ملكه حتّى يختلّ بإهماله أمر التدبير فلا يأمر بالنزول حينما يجب فيه النزول أو يأمر به حينما لا يجب و هكذا و كأنّ هذا هو وجه العدول في الآية عن إثبات العلم أو الذكر إلى نفي النسيان.

و قيل المعنى و ما كان ربّك نسيّاً أي تاركاً لأنبيائه أي ما كان عدم النزول إلّا لعدم الأمر به و لم تكن عن تركه تعالى لك و توديعه إيّاك.

و فيه أنّه و إن وافق ما تقدّم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل

٨٨

بقوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا ) إلخ، ناقصاً و ينقطع قوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ) عمّا تقدّمه كما سيتضّح.

قوله تعالى: ( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) صدر الآية أعني قوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ) تعليل لقوله في الآية السابقة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا ) إلى آخر الآية أي كيف لا يملك ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و كيف يكون نسيّاً و هو تعالى ربّ السماوات و الأرض و ما بينهما؟ و ربّ الشي‏ء هو مالكه، المدبّر لأمره، فملكه و عدم نسيانه مقتضى ربوبيّته.

و قوله:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) تفريع على صدر الآية و المعنى إذا كنّا لا نتنزّل إلّا بأمر ربّك و قد نزّلنا عليك هذا الكلام المتضمّن للدعوة إلى عبادته فالكلام كلامه و الدعوة دعوته فاعبده وحده و اصطبر لعبادته فليس هناك من يسمّى ربّاً غير ربّك حتّى لا تصطبر على عبادة ربّك و تنتقل إلى عبادة ذلك الغير الّذي يسمّى ربّاً فتكتفي بعبادته عن عبادة ربّك أو تشرك به و ربّما قيل: إنّ الجملة تفريع على قوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أو على قوله:( وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) أي لم ينسك ربّك فاعبده إلخ و الوجهان كما ترى.

و قد بان بهذا التقرير اُمور:

أحدها أنّ قوله:( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) من تمام البيان المقصود بقوله:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) و هو في مقام التعليل له.

و الثاني أنّ المراد بالسميّ المشارك في الاسم و المراد بالاسم هو الربّ لأنّ مقتضى بيان الآية ثبوت الربوبيّة المطلقة له تعالى على كلّ شي‏ء فهو يقول: هل تعلم من اتّصف بالربوبيّة فسمّي لذلك ربّاً حتّى تعدل عنه إليه فتعبده دونه.

و بذلك يظهر عدم استقامة عامّة ما قيل في معنى السميّ في الآية فقد قيل: إنّ المراد بالسميّ المماثل مجازاً، و قيل: السميّ بمعنى الولد و قيل: هو بمعناه

٨٩

الحقيقيّ غير أنّ المراد بالاسم الّذي لا مشاركة فيه هو ربّ السماوات و الأرض و قيل: هو اسم الجلالة، و قيل: هو الإله، و قيل: هو الرحمن، و قيل: هو الإله الخالق الرازق المحيي المميت القادر على الثواب و العقاب.

و الثالث: أنّ النكتة في إضافة الربّ إلى ضمير الخطاب و تكراره في الآية الاُولى إذ قال: بأمر ربّك و قال: و ما كان ربّك و لم يقل: ربّنا هي التوطئة لما في ذيل الكلام من توحيد الربّ ففي قوله:( رَبِّكَ ) إشارة إلى أنّ ربّنا الّذي نتنزّل عن أمره هو ربّك فالدعوة دعوته فاعبده، و يمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في مفتتح السورة إذ قال:( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ) إلخ لأنّ الآيات كما نبّهنا عليه ذات سياق واحد لغرض واحد.

و الرابع: أنّ قوله:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) مسوق لتوحيد العبادة و ليس أمراً بالعبادة و أمراً بالثبات عليها و إدامتها إلّا من جهة الملازمة فافهم ذلك.

و يمكن أن يستفاد من التفريع أنّه تأكيد للبيان الّذي يتضمّنه السياق السابق على هاتين الآيتين و بذلك يظهر اتّصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذاً معترضتين من كلّ جهة.

فكأنّ ملك الوحي لمّا تنزّل عليه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بالسورة و أوحى إليه الآيات الثلاث و الستّين منها و هي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بأنّه لم يتنزّل و ليس يتنزّل بما تنزّل به من عند نفسه بل عن أمر من ربّه و برسالة من عنده فالكلام كلامه و الدعوة دعوته و هو ربّ النبيّ و ربّ كلّ شي‏ء فليعبده وحده فليس هناك ربّ آخر يعدل عنه إليه فالآيتان ممّا اُوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) تثبيتاً له و تأكيداً للآيات السابقة.

و هذا نظير أن يرسل ملك رسولاً بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عمّاله فيأتيه الرسول ثمّ إذا قرأ الكتاب أو أدّى الرسالة قال للعامل: إنّي ما جئتك من عند نفسي بل بأمر من الملك و إشارة منه و الكتاب كتابه و الرسالة قوله و حكمه و هو

٩٠

مليكك و مليك عامّة من في المملكة فاسمع له و أطع و أقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتّى تعدل عنه إليه.

فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك و إذا فرض أنّ الملك، هو الّذي أمره أن يعقّب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاماً للرسول و رسالة أيضاً عن قبل الملك و كلامه.

و غير خفيّ عليك أنّ هذا الوجه أوفق بالآيتين و أوضح انطباقاً عليهما ممّا تذكره روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف و الوهن.

٩١

( سورة مريم الآيات ٦٦ - ٧٢)

وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ( ٦٦ ) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ( ٦٧ ) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ( ٦٨ ) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَٰنِ عِتِيًّا ( ٦٩ ) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا ( ٧٠ ) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ( ٧١ ) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ( ٧٢ )

( بيان)

عود إلى ما قبل قوله:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) الآيتين و مضىّ في الحديث السابق و هو كالتذنيب لقوله:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) بذكر بعض ما تفوّهوا به عن غيّهم و قد خصّ بالذكر قول لهم في المعاد و آخر في النبوّة و آخر في المبدإ.

ففي هذه الآيات أعني قوله:( وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ - إلى قوله -وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) و هي سبع آيات ذكر استبعادهم للبعث و الجواب عنه و ذكر الإشارة إلى ما لقولهم هذا من التبعة و الوبال.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) إنكار للبعث في صورة الاستبعاد، و هو قول الكفّار من الوثنيّين و من يلحق بهم من منكري الصانع

٩٢

بل ممّا يميل إليه طبع الإنسان قبل الرجوع إلى الدليل، قيل: و لذلك نسب القول إلى الإنسان حينما كان مقتضى طبع الكلام أن يقال: و يقول الكافر، أو: و يقول الّذين كفروا إلخ، و فيه أنّه لا يلائم قوله الآتي:( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ إلى قوله صِلِيًّا ) .

و ليس ببعيد أن يكون المراد بالإنسان القائل ذلك هو الكافر المنكر للبعث و إنّما عبّر بالإنسان لكونه لا يترقّب منه ذلك و قد جهّزه الله تعالى بالإدراك العقليّ و هو يذكر أنّ الله خلقه من قبل و لم يك شيئاً، فليس من البعيد أن يعيده ثانياً فاستبعاده مستبعد منه، و لذا كرّر لفظ الإنسان حيث أخذ في الجواب قائلاً:( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ) أي إنّه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع ما شاهد وقوع مثله و هو غير ناسية.

و لعلّ التعبير بالمضارع في قوله:( وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ ) للإشارة إلى استمرار هذا الاستبعاد بين المنكرين للمعاد و المرتابين فيه.

قوله تعالى: ( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ) الاستفهام للتعجيب و الاستبعاد و معنى الآية ظاهر و قد أخذ فيها برفع الاستبعاد بذكر وقوع المثل ليثبت به الإمكان، فالآية نظيرة قوله تعالى في موضع آخر:( وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ - إلى أن قال -أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) يس: ٨١.

فإن قيل: الاحتجاج بوقوع المثل إنّما ينتج إمكان المثل و المطلوب في إثبات المعاد هو رجوع الإنسان بشخصه و عينه لا بمثله فإنّ مثل الشي‏ء غيره، قيل: إنّ هذه الآيات بصدد إثبات رجوع الأجساد و المخلوق منها ثانياً مثل المخلوق أوّلاً و شخصيّة الشخص الإنسانيّ بنفسه لا ببدنه فإذا خلق البدن ثانياً و تعلّقت به النفس كان شخص الإنسان الدنيويّ بعينه و إن كان البدن و هو جزء الإنسان بالقياس إلى البدن الدنيويّ مثلاً لا عيناً و هذا كما أنّ شخصيّة الإنسان و وحدته محفوظة في الدنيا مدى عمره مع

٩٣

تغيّر البدن و تبدّله بتغيّر أجزائه و تبدّلها حالاً بعد حال و البدن في الحال الثاني غيره في الحال الأوّل لكنّ الإنسان باق في الحالين على وحدته الشخصيّة لبقاء نفسه بشخصها.

و إلى هذا يشير قوله تعالى:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ - إلى أن قال -قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١ أي إنّكم مأخوذون من أبدانكم محفوظون لا تضلّون و لا تفتقدون.

قوله تعالى: ( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) الجثيّ في أصله على فعول جمع جاثي و هو البارك على ركبتيه، و نسب إلى ابن عبّاس أنّه جمع جثوة و هو المجتمع من التراب و الحجارة، و المراد أنّهم يحضرون زمراً و جماعات متراكماً بعضهم على بعض، و هذا المعنى أنسب للسياق.

و ضمير الجمع في( لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) و( لَنُحْضِرَنَّهُمْ ) للكفّار، و الآية إلى تمام ثلاث آيات متعرّضة لحالهم يوم القيامة و هو ظاهر و ربّما قيل: إنّ الضميرين للناس أعمّ من المؤمن و الكافر كما أنّ ضمير الخطاب في قوله الآتي:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) كذلك و فيه أنّ لحن الآيات الثلاث و هو لحن السخط و العذاب يأبى ذلك.

و المراد بقوله:( لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ) جمعهم خارج القبور مع أوليائهم من الشياطين لأنّهم لعدم إيمانهم غاوون كما قال:( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) و الشياطين أولياؤهم قال تعالى:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ: ) الحجر: ٤٢، و قال:( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ٢٧، أو المراد حشرهم مع قرنائهم من الشياطين كما قال:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) الزخرف: ٣٩.

و المعنى: فاُقسم بربّك لنجمعنّهم - يوم القيامة - و أولياءهم أو قرناءهم من الشياطين ثمّ لنحضرنّهم حول جهنّم لإذاقة العذاب و هم باركون على ركبهم من الذلّة أو و هم جماعات و زمرة زمرة.

٩٤

و في قوله:( فَوَ رَبِّكَ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و لعلّ النكتة فيه ما تقدّم في قوله:( بِأَمْرِ رَبِّكَ ) و نظيره قوله الآتي:( كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً ) .

قوله تعالى: ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) النزع هو الاستخراج، و الشيعة الجماعة المتعاونون على أمر أو التابعون لعقيدة و العتيّ على فعول مصدر بمعنى التمرّد في العصيان و الظاهر أنّ قوله:( أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) جملة استفهاميّة وضع موضع مفعول لننزعنّ للدلالة على العناية بالتعيين و التمييز فهو نظير قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى‏ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) الإسراء: ٥٧.

و المعنى: ثمّ لنستخرجنّ من كلّ جماعة متشكّلة أشدّهم تمرّداً على الرحمن و هم الرؤساء و أئمّة الضلال، و قيل المعنى لنستخرجنّ الأشدّ ثمّ الأشدّ حتّى يحاط بهم.

و في قوله:( عَلَى الرَّحْمنِ ) التفات و النكتة تلويح أنّ تمرّدهم عظيم لكونه تمرّداً على من شملت رحمته كلّ شي‏ء و هم لم يلقوا منه إلّا الرحمة و التمرّد على من هذا شأنه عظيم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى‏ بِها صِلِيًّا ) الصليّ في الأصل على فعول مصدر يقال صلي النار يصلاها صليا و صليّا إذا قاسى حرّها فالمعنى ثمّ اُقسم لنحن أعلم بمن أولى بالنار مقاساة لحرّها أي إنّ الأمر في دركات عذابهم و مراتب استحقاقهم لا يشتبه علينا.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) الخطاب للناس عامّة مؤمنيهم و كافريهم بدليل قوله في الآية التالية:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) و الضمير في( وارِدُها ) للنار، و ربّما قيل: إنّ الخطاب للكفّار المذكورين في الآيات الثلاث الماضية و في الكلام التفات من الغيبة إلى الحضور و فيه أنّ سياق الآية التالية يأبى ذلك.

و الورود خلاف الصدور و هو قصد الماء على ما يظهر من كتب اللغة قال الراغب

٩٥

في المفردات،: الورود أصله قصد الماء ثمّ يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرده، ورودا فأنا وارد و الماء مورود، و قد أوردت الإبل الماء قال تعالى:( وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) و الورد الماء المرشّح للورود، و الورد خلاف الصدر، و الورد يوم الحمّى إذا وردت، و استعمل في النار على سبيل الفظاعة قال تعالى:( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) ( وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) ( إِلى‏ جَهَنَّمَ وِرْداً ) ( أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) ( ما وَرَدُوها ) و الوارد الّذي يتقدّم القوم فيسقي لهم قال تعالى:( فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ ) أي ساقيهم من الماء المورود انتهى موضع الحاجة.

و إلى ذلك استند من قال من المفسّرين إن الناس إنّما يحضرون النار و يشرفون عليها من غير أن يدخلوها و استدلّوا عليه بقوله تعالى:( وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) القصص: ٢٣، و قوله:( فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى‏ دَلْوَهُ ) يوسف: ١٩، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) الأنبياء: ١٠٢.

و فيه أنّ استعماله في مثل قوله:( وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) و قوله:( فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ ) في الحضور بعلاقة الإشراف لا ينافي استعماله في الدخول على نحو الحقيقة كما ادّعي في آيات اُخرى، و أمّا قوله:( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فمن الجائز أن يكون الإبعاد بعد الدخول كما يستظهر من قوله:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) ، و أن يحجب الله بينهم و بين أن يسمعوا حسيسها إكراماً لهم كما حجب بين إبراهيم و بين حرارة النار إذ قال للنار:( كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى‏ إِبْراهِيمَ ) .

و قال آخرون و لعلّهم أكثر المفسّرين بدلالة الآية على دخولهم النار استناداً إلى مثل قوله تعالى:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) الأنبياء: ٩٩، و قوله في فرعون:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) هود: ٩٨، و يدلّ عليه قوله في الآية التالية:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) أي نتركهم باركين على ركبهم و إنّما يقال

٩٦

نذر و نترك فيما إذا كان داخلاً مستقرّاً في المحلّ قبل الترك ثمّ اُبقي على ما هو عليه و لعدّة من الروايات الواردة في تفسير الآية.

و هؤلاء بين من يقول بدخول عامّة الناس فيها و من يقول بدخول غير المتّقين مدّعيا أنّ قوله:( مِنْكُمْ ) بمعنى منهم على حدّ قوله:( وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً، إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً ) الدهر: ٢٢، هذا و لكن لا يلائمه سياق قوله:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) الآية.

و فيه أنّ كون الورود في مثل قوله:( لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) بمعنى الدخول ممنوع بل الأنسب كونه بمعنى الحضور و الإشراف فإنّه أبلغ كما هو ظاهر و كذا في قوله:( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) فإنّ شأن فرعون و هو من أئمّة الضلال هو أن يهدي قومه إلى النار و أمّا إدخالهم فيها فليس إليه.

و أمّا قوله:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) فالآية دالّة على كونهم داخلين فيها بدليل قوله:( نَذَرُ ) لكن دلالتها على كونهم داخلين غير كون قوله:( وارِدُها ) مستعملاً في معنى الدخول و كذا تنجية المتّقين لا تستلزم كونهم داخلين فيها فإنّ التنجية كما تصدق مع إنقاذ من دخل المهلكة تصدق مع إبعاد من أشرف على الهلاك و حضر المهلكة من ذلك.

و أمّا الروايات فإنّما وردت في شرح الواقعة لا في تشخيص ما استعمل فيه لفظ( وارِدُها ) في الآية فالاستدلال بها على كون الورود بمعنى الدخول ساقط.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد شأنيّة الدخول و المعنى: ما من أحد منكم إلّا من شأنه أن يدخل النار و إنّما ينجو من ينجو بإنجاء الله على حدّ قوله:( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) النور: ٢١.

قلت: معناه كون الورود مقتضى طبع الإنسان من جهة أنّ ما يناله من خير و سعادة فمن الله و لا يبقى له من نفسه إلّا الشرّ و الشقاء لكن ينافيه ما في ذيل الآية من قوله:( كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فإنّه صريح في أنّ هذا الورود بإيراد من الله و بقضائه المحتوم لا باقتضاء من طبع الأشياء.

٩٧

و الحقّ أنّ الورود لا يدلّ على أزيد من الحضور و الإشراف عن قصد - على ما يستفاد من كتب اللّغة - فقوله:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) إنّما يدلّ على القصد و الحضور و الإشراف، و لا ينافي دلالة قوله في الآية التالية:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) على دخولهم جميعاً أو دخول الظالمين خاصّة فيها بعد ما وردوها.

و قوله:( كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) ضمير كان للورود أو للجملة السابقة باعتبار أنّه حكم، و الحتم و الجزم و القطع بمعنى واحد أي هذا الورود أو الحكم كان واجباً عليه تعالى مقضيّاً في حقّه و إنّما قضى ذلك نفسه على نفسه إذ لا حاكم يحكم عليه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ قوله:( وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) يدلّ على كون الظالمين داخلين فيها ثمّ يتركون على ما كانوا عليه، و أمّا تنجية الّذين اتّقوا فلا تدلّ بلفظها على كونهم داخلين إذ التنجية ربّما تحقّقت بدونه اللّهمّ إلّا أن يستظهر ذلك من ورود اللفظين مقترنين في سياق واحد.

و في التعبير بلفظ الظالمين إشارة إلى علّيّة الوصف للحكم.

و معنى الآيتين: ما من أحد منكم - متّق أو ظالم - إلّا و هو سيرد النار كان هذا الإيراد واجباً مقضيّاً على ربّك ثمّ ننجّي الّذين اتّقوا منها و نترك الظالمين فيها لظلمهم باركين على ركبهم.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن مالك الجهنيّ قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ) قال: فقال: لا مقدّراً و لا مكتوباً.

و في المحاسن، بإسناده عن حمران قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قوله:( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ ) الآية، قال: لم يكن في كتاب و لا علم.

٩٨

أقول: المراد بالحديثين أنّه لم يكن في كتاب و لا علم من كتب المحو و الإثبات ثمّ أثبته الله حين أراد كونه و أمّا اللوح المحفوظ فلا يعزب عنه شي‏ء بنصّ القرآن.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) قال: قال: على ركبهم.

و فيه، بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله عزّوجلّ:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) قال: أ ما تسمع الرجل يقول: وردنا بني فلان فهو الورود و لم يدخله.

و في المجمع، عن السدّيّ قال: سألت مرّة الهمدانيّ عن هذه الآية فحدّثني أنّ عبدالله بن مسعود حدّثهم عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: يرد الناس النار ثمّ يصدرون بأعمالهم فأوّلهم كلمع البرق ثمّ كمر الريح ثمّ كحضر الفرس ثمّ كالراكب ثمّ كشدّ الرجل ثمّ كمشيه.

و فيه، و روى أبوصالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سميّة قال: اختلفنا في الورود فقال قوم: لا يدخلها مؤمن و قال آخرون: يدخلونها جميعاً ثم ينجّي الله الّذين اتّقوا فلقيت جابر بن عبدالله فسألته فأومي بإصبعيه إلى اُذنيه و قال: صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يقول: الورود الدخول لا يبقى برّ و لا فاجر حتّى يدخلها فتكون على المؤمنين برداً و سلاماً كما كانت على إبراهيم حتّى أنّ للنار - أو قال: لجهنّم - ضجيجاً من بردها ثمّ ينجّي الله الّذين اتّقوا و يذر الظالمين فيها جثيّاً.

أقول: و الرواية من التفسير غير أنّ سندها ضعيف بالجهالة.

و فيه، و روي مرفوعاً عن يعلى بن منبّه عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.

و فيه، و روي عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّه سئل عن المعنى فقال: إنّ الله يجعل النّار كالسمن الجامد و يجمع عليها الخلق ثمّ ينادي المنادي أن خذي أصحابك و ذري أصحابي فو الّذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.

٩٩

أقول: و الروايات الأربع الأخيرة رواها في الدرّ المنثور، عن عدّة من أرباب الكتب و الجوامع،، غير أنّه لم يذكر في الرواية الثانية - فيما عندنا من نسخة الدرّ المنثور - قوله: الورود الدخول.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبونعيم في الحلية، عن عروة بن الزبير قال: لمّا أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام أتاه المسلمون يودّعونه فبكى فقال: أما و الله ما بي حبّ الدنيا و لا صبابة لكم و لكنّي سمعت رسول الله قرأ هذه الآية( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فقد علمت أنّي وارد النار و لا أدري كيف الصدور بعد الورود؟.

و اعلم أنّ ظاهر بعض الروايات السابقة أنّ ورود الناس النار هو جوازهم منها فينطبق على روايات الصراط و فيها أنّه جسر ممدود على النار يؤمر بالعبور عليها البرّ و الفاجر فيجوزه الأبرار و يسقط فيها الفجّار، و عن الصدوق في الاعتقاد، أنّه حمل الآية عليه.

و قال في مجمع البيان: و قيل: إنّ الفائدة في ذلك يعني ورود النار ما روي في بعض الأخبار: أنّ الله تعالى لا يدخل أحداً الجنّة حتّى يطلعه على النار و ما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه و كمال فضله و إحسانه إليه فيزداد لذلك فرحاً و سروراً بالجنّة و نعيمها، و لا يدخل أحداً النار حتّى يطلعه على الجنّة و ما فيها من أنواع النعيم و الثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له و حسرة على ما فاته من الجنّة و نعيمها. انتهى.

( كلام في معنى وجوب الفعل و جوازه)

( و عدم جوازه على الله سبحانه)

قد تقدّم في الجزء الأوّل من الكتاب في ذيل قوله تعالى:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ في بحث قرآنيّ تقريباً أنّ له تعالى الملك المطلق على الأشياء بمعنى أنّه يملك كلّ شي‏ء ملكاً مطلقاً غير مقيّد بحال أو زمان أو أيّ شرط مفروض

١٠٠