الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٩

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 403

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 114262
تحميل: 6810


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114262 / تحميل: 6810
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 9

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اجلس فلا تخرج. فعصاه مروان فقال: والله لا تُقتل ولا يُخلص إليك وأنا أسمع الصوت ثمَّ خرج إلى الناس فقلت: ما لمولاي مُترَّك. فخرجت معه أذبُّ عنه ونحن قليل فأسمع مروان يقول:

قد علمت ذات القرون الميلِ

والكفّ والأنامل الطفولِ

أنِّي أروع أوَّل الرعيلِ

بفارهٍ مثل قطا الشليلِ

وقال أبو بكر بن الحارث: كأنِّي أنظر إلى عبد الرَّحمن بن عديس البلوي وهو مسندٌ ظهره إلى مسجد نبيِّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعثمان محصورٌ فخرج مروان فقال: مَن يبارز؟ فقال عبد الرّحمن بن عديس لفلان بن عروة(١) : قم إلى هذا الرجل. فقام إليه غلامٌ شابٌّ طوال فأخذ رفيف الدرع فغرزه في منطقته فأعوَر له عن ساقه فأهوى له مروان وضربه ابن عروة على عنقه، فكأنِّي أنظر إليه حين استدار وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليدفف عليه (إلى آخر ما مرَّ عن ابن سعد).

ومن طريق حسين بن عيسى عن أبيه قال: لَمّا مضتِ أيّام التشريق أطافوا بدار عثمان رضي الله عنه، وأبى إلاّ الإقامة على أمره، وأرسل إلىَ حَشَمه وخاصّته فجمعهم فقام رجلٌ من أصحاب النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له: نيار بن عياض وكان شيخاً كبيراً فنادى: يا عثمان! فأشرف عليه من أعلى داره فناشده الله وذكره الله لما اعتزلهم، فبينا هو يراجعه الكلام إذا رماه رجلٌ من أصحاب عثمان فقتله بسهم، وزعموا أنَّ الذي رماه كثير بن الصلت الكندي، فقالوا لعثمان عند ذلك: إدفع الينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله به. فقال: لم أكن لأقتل رجلاً نصرني وأنتم تريدون قتلي، فلمّا رأوا ذلك ثاروا إلى بابه فأحرقوه، وخرج عليهم مروان بن الحكم من دار عثمان في عصابة، وخرج سعيد بن العاص في عصابة، وخرج المغيرة بن الأخنس الثقفي في عصابة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان الذي حداهم على القتال انَّه بلغهم انَّ مدداً من أهل البصرة قد نزلوا صِراراً وهي من المدينة على ليلة، وأنَّ أهل الشام قد توجَّهوا مقبلين فقاتلوهم قتالاً شديداً على باب الدار فحمل المغيرة بن الأخنس الثقفي على القوم وهو يقول مرتجزاً:

____________________

١ - لعل الصحيح: عروة بن شييم البياع الليثى كما جاء فى رواية الطبرى فى تاريخه ٥، ١٣٣ ومرّ فى ص ١٩٨ من رواية ابن سعد فى طبقاته.

٢٠١

قد علمت جاريةٌ عُطبولُ

لها وشاحٌ ولها حُجولُ

أنّي بنصل السيف خَنشليلُ

فحمل عليه عبد الله بن بُديل بن ورقاء الخزاعي وهو يقول:

إن تكُ بالسيف كما تقولُ

فاثبتِ لقِرنٍ ماجدٍ يصولُ

بمشرفيٍّ حدُّهُ مصقولُ

فضربه عبد الله فقتله، وحمل رفاعة بن رافع الأنصاري ثمَّ الزُّرقي على مروان ابن الحكم فضربه فصرعه فنزع عنه وهو يرى انَّه قد قتله، وجرح عبد الله بن الزبير جراحات وانهزم القوم حتى لجأوا إلى القصر فاعتصموا ببابه فاقتلوا عليه قتالاً شديداً فقتل في المعركة على الباب زياد بن نعيم الفهري(١) في ناس من أصحاب عثمان فلم يزل الناس يقتتلون حتَّى فتح عمرو بن حزم الأنصاري باب داره وهو إلى جنب دار عثمان بن عفان ثمَّ نادى الناس، فأقبلوا عليهم من داره فقاتلوهم في جوف الدار حتَّى انهزموا وخلّي لهم عن باب الدار فخرجوا هُرّاباً في طريق المدينة، وبقي عثمان في اُناس من اهل بيته وأصحابه فقتلوا معه وقتل عثمان رضي الله عنه(٢) .

وفرَّ خالد بن عقبة بن أبي معيط أخو الوليد يوم الدار، وإليه أشار عبد الرَّحمن ابن سيحان(٣) بقوله:

يلومونني إن جلت في الدار حاسراً

وقد فرَّ منها خالدٌ وهو دارعُ(٤)

فإن كان نادى دعوةً فسمعتها

فشلّت يدي واستكَّ منِّي المسامعُ

فقال خالد:

لعمري لقد أبصرتَهم فتركتهم

بعينك إذ ممشاك في الدار واسعُ(٥)

وقال أبو عمر: قتل المغيرة بن الأخنس يوم الدار مع عثمان رحمه الله وله يوم

____________________

١ - عدّه من قتلى يوم الدار ابو عمر في الاستيعاب وابن حجر فى الاصابة.

٢ - تاريخ الطبرى ٥: ١٢٢ - ١٢٥ الكامل لابن الاثير ٣: ٧٣، ٧٤.

٣ - كذا فى الانساب وفى الاستيعاب والاصابة: أزهر بن سحبان.

٤ - فى الانساب للبلاذرى:

يلوموننى فى الدار إن غبت عنهم

وقد فرّ عنهم خالد وهو دارع

٥ - الانساب ٥: ١١٧، الاستيعاب ١: ١٥٥، الاصابة ١: ١٠٣، ٤١٠.

٢٠٢

الدار أخبارٌ كثيرة، ومنها: انّه قال لعثمان حين أحرقوا بابه: والله لا قال الناس عنّا إنّا خذلناك وخرج بسيفه وهو يقول:

لمـّا تهدَّمت الأبواب واحترقت

يمَّمت منهنَّ باباً غير محترقِ

حقّاً أقول لعبد الله آمره

إن لم تقاتل لدى عثمان فانطلقِ

والله لا أتركه ما دام بي رمقٌ

حتّى يزايل بين الراس والعنقِ

هو الإمام فلست اليوم خاذله

إنَّ الفرار عليَّ اليوم كالسرقِ

وحمل على النّاس فضربه رجلٌ على ساقه فقطعها ثمَّ قتله. فقال رجلٌ من بني زهرة لطلحة بن عبيد الله: قُتل المغيرة بن الأخنس فقال: قُتل سيِّد حلفاء قريش. راجع « الإستيعاب » ترجمة المغيرة.

وقال ابن كثير في تاريخه ٧: ١٨٨: ومن أعيان من قُتل من أصحاب عثمان زياد ابن نعيم الفهري، والمغيرة بن الأخنس بن شريق، ونيار بن عبد الله الأسلمي، في اُناس وقت المعركة.

قال الأميني: لقد حدتني إلى سرد هذه الأحاديث الدلالة بها منضمَّة إلى ما سبقها من الأخبار على أنّه لم يكن مع عثمان من يدافع عنه غير الأمويِّين ومواليهم وحثالة ممَّن كان ينسج على نولهم تجاه هياج المهاجرين والأنصار فقتل من اولئك من قُتل، وضمَّ إليه كندوج امّ حبيبة آخرين، وتفرَّق شذّاذٌ منهم هاربين في أزقَّة المدينة، فلم يبق إلّا الرجل نفسه وأهله حتّى انتهت إليه نوبة القتل من دون أيِّ مُدافع عنه، فتحفَّظ على هذا فإنَّه سوف ينفعك فيما يأتي من البحث عن سلسلة الموضوعات.

(لفت نظر) عَدُّ نيار بن عبد الله بن أصحاب عثمان كما فعله ابن كثير غلطٌ فاحشٌ دعاه إليه حبّه إكثار عدد المدافعين عن الخليفة المقتولين دونه، وقد عرفت انَّه كان شيخاً كبيراً حضر ذلك الموقف للنصيحة والموعظة الحسنة لعثمان فقتله مولى مروان بسهم، فشبَّ به القتال، وطولب عثمان بقاتله ليقتصَّ منه وامتنع عن دفعه فهاج بذلك غضب الأنصار عليه.

٢٠٣

حديث مقتل عثمان

إنّا لله وإنّا إليه راجعون

أخرج الطبري في تاريخه وغيره من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال: أشرف عثمان على النّاس وهو محصورٌ وقد أحاطوا بالدار من كلِّ ناحية فقال: اُنشدكم بالله عزَّ وجلَّ هل تعلمون أنّكم دعوتم الله عند مُصاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يخيّر لكم وأن يجمعكم على خيركم؟ فما ظنّكم بالله؟ أتقولونه لم يستجب لهم وهنتم على الله سبحانه؟ وأنتم يومئذ أهل حقِّه من خلقه، وجميع اموركم لم تتفرَّق. أم تقولون: هان على الله دينه فلم يُبال مَن ولّاه؟ والدين يومئذ يُعبد به الله ولم يتفرَّق أهله فتوكلوا، أو تخذلوا وتعاقبوا، أم تقولون: لم يكن أخذٌ عن مشورة؟ وإنَّما كابرتم مكابرة، فوكّل الله الاُمَّة إذا عصته، لم تشاوروا في الإمام، ولم يجتهدوا في موضع كراهته، أم تقولون: لم يدر الله ما عاقبة أمري؟ فكنت في بعض أمري مُحسناً ولأهل الدين رضىً فما أحدثت بعدُ في امري ما يسخط الله وتسخطون ممّا لم يعلم الله سبحانه يوم اختارني وسربلني سربال كرامته، واُنشدكم بالله هل تعلمون لي من سابقة خير و سلف خير قدَّمه الله لي، وأشهدنيه من حقِّه وجهاد عدوِّه؟ حقٌّ على كلِّ من جاء من بعدي أن يعرفوا لي فضلها، فمهلاً لا تقتلوني فإنَّه لا يحلُّ إلّا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه أو كفر بعد إسلامه، أو قتل نفساً بغير نفس فيُقتل بها، فإنَّكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثمَّ لم يرفعه الله عنكم إلى يوم القيامة ولا تقتلوني فإنَّكم إن قتلتموني لم تصلّوا من بعدي جميعاً أبدا، ولم تقتسموا بعدي فيءً جميعاً أبداً، ولن يرفع الله عنكم الإختلاف أبدا.

قالوا له: أمَّا ما ذكرت مَن استخارة الله عزَّ وجلَّ الناس بعد عمر رضي الله عنه فيمن يولّون عليهم ثمَّ ولّوك بعد استخارة الله، فإنَّ كلَّ ما صنع الله الخيرة، ولكن الله سبحانه جعل أمركَ بليَّة إبتلى بها عباده.

وأمَّا ما ذكرتَ من قِدمك وسبقك مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانَّك قد كنت ذا قِدَم

٢٠٤

وسلف وكنت أهلاً للولاية ولكن بدَّلتَ بعد ذلك وأحدثت ما قد علمت.

وأمّا ما ذكرتَ ممّا يصيبنا إن نحن قتلناك من البلاء فإنّه لا ينبغي ترك إقامة الحقِّ عليك مخافة الفتنة عاماً قابلاً.

وأمّا قولك: إنّه لا يحلُّ إلّا قتل ثلاثة، فإنّا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سمَّيت: قتل من سعى في الأرض فساداً، وقتل من بغى ثمَّ قاتل على بغيه، و قتل من حال دون شيء من الحقِّ ومنعه ثمَّ قاتل دونه وكابر عليه، وقد بغيتَ، ومنعت للحقَّ وحُلتَ دونه وكابرت عليه، تأبى أن تقيد مَن نفسك مَن ظلمت عمداً، وتمسَّكت بالإمارة علينا، وقد جُرت في حكمك وقسمك، فإن زعمت أنَّك لم تُكابرنا عليه وانَّ الّذين قاموا دونك ومنعوك منَّا إنَّما يقاتلون بغير أمرك فإنَّما يقاتلون لتمسُّكك بالإمارة فلو أنَّك خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال دونك.

قال البلاذري وغيره: لمـّا بلغ أهل مصر ومن معهم ممِّن حاصر عثمان ما كتب به إلى ابن عامر ومعاوية فزادهم ذلك شدَّةً عليه وجدًّا في حصاره وحرصاً على معاجلته بالقتل.

وكان طلحة قد استولى على أمر الناس في الحصار، وأمرهم بمنع من يدخل عليه والخروج من عنده، وأن يُدخل اليه الماء، وأتت امّ حبيبة بنت أبي سفيان بادواة وقد اشتدَّ عليه الحصار فمنعوها من الدخول فقالت: إنَّه كان المتولّي لوصايانا وأمر أيتامنا وأنا اُريد مناظرته في ذلك، فأذنوا لها فأعطته الأدواة.

وقال جبير بن مطعم: حصر عثمان حت َّ ى كان لا يشرب إلّا من فقير في داره فدخلت على عليّ فقلت: أرضيت بهذا أن يُحصر ابن عمَّتك حتَّى والله ما يشرب إلّا من فقير في داره؟ فقال: سبحان الله أو قَد بلغوا به هذه الحال؟ قلت: نعم، فعمد إلى روايا ماء فأدخلها إليه فسقاه.

ولَمّا وقعت الواقعة، وقام القتال، وقُتل في المعركة زياد بن نعيم الفهري في ناس من أصحاب عثمان، فلم يزل الناس يقتتلون حتَّى فتح عمرو بن حزم الأنصاري باب داره وهو إلى جنب دار عثمان بن عفّان ثم نادى الناس فأقبلوا عليهم من داره فقاتلوهم في جوف الدار حتَّى انهزموا وخلّي لهم عن باب الدار فخرجوا هرَّاباً في طرق المدينة و بقي عثمان في اُناس من أهل بيته وأصحابه فقتلوا معه وقتل عثمان رضي الله عنه

٢٠٥

أخرج ابن سعد والطبري من طريق عبد الر َّ حمن بن محمَّد قال: إنَّ محمَّد بن أبي بكر تسوَّر على عثمان من دار عمرو بن حزم ومعه كنانة بن بشر بن عتاب، وسودان ابن حمران، وعمرو بن الحمق، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة وهو يقرأ في المصحف سورة البقرة فتقدَّمهم محمَّد بن أبي بكر فأخذ بلحية عثمان فقال: قد أخزاك الله يا نعثل! فقال عثمان: لست بنعثل، ولكن عبد الله وأمير المؤمنين. فقال محمّد: ما أغنى عنك معاوية وفلان و فلان.فقال عثمان: يا ابن أخي! دع عنك لحيتي، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه فقال محمّد: ما اُريد بك أشدّ من قبضي على لحيتك.فقال عثمان: أستنصر الله عليك و أستعين به ثمَّ طعن جبينه بمشقص(١) في يده.

وفي لفظ البلاذري: تناول عثمان المصحف ووضعه في حجره وقال: عباد الله! لكم ما فيه، والعتبى ممّا تكرهون، أللهمَّ اشهد، فقال محمَّد بن أبي بكر: الآن وقد عصيت قبلُ وكنتَ من المفسدين، ثمَّ رفع جماعة قِداح كانت في يده فوجأ بها في خُشُشائه(٢) حتّى وقعت في أوداجه فحزَّت ولم تقطع، فقال: عباد الله! لا تقتلوني فتندموا و تختلفوا.

وفي لفظ ابن كثير: جاء محمَّد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلاً فأخذ بلحيته فعالَ بها حتَّى سمعت وقع أضراسه فقال: ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر، و ما أغنت عنك كتبك.

وفي لفظ ابن عساكر: قال محمَّد بن أبي بكر: على أيِّ دين أنت يا نعثل؟ قال: على دين الإسلام، ولست بنعثل ولكنِّي أمير المؤمنين. قال: غيَّرتَ كتاب الله. فقال: كتاب الله بيني وبينكم. فتقدَّم إليه وأخذ بلحيته وقال: إنّا لا يُقبل منّا يوم القيامة أن نقول: ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيل، وشحطه بيده من البيت إلى باب الدار وهو يقول: يا ابن أخي ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي.

قال ابن سعد والطبري: ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل اُذن عثمان فمضت حتَّى دخلت في حلقه ثمَّ علّاه السيف حتى قتله.

____________________

١ - المشقص: نصل السهم اذا كان طويلا غير عريض.

٢ - الخششاء: العظم الدقيق العارى من الشعر الناتئ خلف الاذن.

٢٠٦

وفي رواية ابن أبي عون: ضرب كنانة بن بشر التجيبي جبينه ومقدَّم رأسه بعمود حديد فخرَّ لجنبه، قال الوليد بن عقبة او غيره:

علاه بالعمود أخو تجيب

فأوهى الرأس منه والجبينا(١)

وضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خرَّ لجنبه فقتله، وأمَّا عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رَمَق فطعنه تسع طعنات، وقال: أمّا ثلاث منهنَّ فإنِّي طعنتهنَّ لِلَّه، وأما ستّ فإنِّي طعنت إيّاهنَّ لِما كان في صدري عليه.

وأقبل عمير بن ضابئ عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه، وفي الإصابة: لمـّا قتل عثمان وثب عمير بن ضابئ عليه فكسر ضلعين من أضلاعه. وقال المسعودي: وكان فيمن مال عليه عمير بن ضابئ البرجمي وخضخص بسيفه بطنه. وسيوافيك حديثٌ آخر عنه لدة هذا.

وفي لفظ الطبري وابن عبد ربِّه وابن كثير: ضربوه على رأسه ثلاث ضربات، و طعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدَّم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم وقد أثخنوه وبه حياة وهم يريدون قطع رأسه فألقت نائلة وابنة شبيبة بن ربيعة زوجتاه بنفسهما عليه، فقال ابن عديس: اتركوه. فتركوه ووطئتا وطئاً شديداً. وفي لفظ ابن كثير: في رواية: إنَّ الغافقي بن حرب تقدَّم اليه بعد محمَّد بن ابي بكر فضربه بحديدة في فِيه.

وذكر البلاذري من طريق الحسن عن وثاب وكان مع عثمان يوم الدار وأصابته طعنتان كأنَّهما كيَّتان قال: بعثني عثمان فدعوت الأشتر له فقال: يا أشتر! ما يريد الناس منِّي؟ قال: يخيَّرونك أن تخلع لهم أمرهم، أو تقصَّ من نفسك وإلّا فهم قاتلوك. قال: أمَّا الخلع فما كنت لأخلع سربالاً سربلنيه الله، وأمَّا القصاص فوالله لقد علمت انَّ صاحبيَّ كانا يعاقبان، وما يقوم بدني للقصاص، وأمَّا قتلي فوالله لئن قتلتموني لا تتحابون بعدي أبداً ولا تقاتلون عدوّاً جميعاً أبداً.

وقال وثاب: أصابتني جراحة فأنا أنزف مرَّة وأقوم مرَّة، فقال لي عثمان: هل

____________________

١ - من المستغرب جداً انّ أبا عمر ابن عبد البر ذكر هذا البيت فى « الاستيعاب » فى ترجمة مولانا أمير المؤمنين بعد ذكر قتله وقال: قال شاعرهم:

علاه بالعمود أخو تجوب

فأوحى الراس منه والجبينا

٢٠٧

عندك وضوءٌ؟ قلت: نعم فتوضَّأ ثمَّ أخذ المصحف فتحرَّم به من الفسقة فبينا هو كذلك إذ جاء رُويجل كأنَّه ذئبٌ فاطَّلع ثمَّ رجع، فقلنا لقد ردَّهم أمرٌ ونهاهم، فدخل محمَّد بن أبي بكر حتَّى جثى على ركبتيه، وكان عثمان حسن اللحية، فجعل يهزّها حتّى سُمع نقيض أضراسه ثمَّ قال: ما أغنى عنك معاوية، ما أغنى عنك ابن عامر، فقال: يا ابن أخي! مهلاً فوالله ما كان أبوك ليجلس منِّي هذا المجلس، قال: فأشعره وتعاوَنوا عليه فقتلوه.

وأخرج من طريق ابن سيرين قال: جاء ابن بُديل إلى عثمان - وكان بينهما شحناء - ومعه السيف وهو يقول: لأقتلنَّه، فقالت له جارية عثمان: لأنت أهون على الله من ذلك، فدخل على عثمان فضربه ضربةً لا أدري ما أخذت منه.

راجع طبقات ابن سعد ط ليدن ٣: ٥١، انساب البلاذرى ٥: ٧٢، ٨٢، ٨٣،٩٢، ٩٧، ٩٨، الامامة والسياسة ١: ٣٩، تاريخ الطبرى ٥: ١٢٥، ١٣١، ١٣٢، العقد الفريد ٢: ٢٧٠، مروج الذهب ١، ٤٤٢، الاستيعاب ٢: ٤٧٧، ٤٧٨، تاريخ ابن عساكر ٤: ٣٧٢، الكامل لابن الاثير ٣: ٧٢، ٧٥، شرح ابن ابي الحديد ١: ١٦٦، ١٦٨، تاريخ ابن خلدون ٢: ٤٠١، تاريخ ابي الفدا ج ١: ١٧٠، تاريخ ابن كثير ٧، ١٨٤، ١٨٥، ١٨٧، ١٨٨، حياة الحيوان للدميري ١: ٥٤، مجمع الزوائد ٧: ٢٣٢، تاريخ الخميس ٢: ٢٦٣، السيرة الحلبية ٢، ٨٥، الاصابة ٢: ٢١٥، ازالة الخفاء ٢: ٢٣٩ - ٢٤٢.

تجهيز الخليفة ودفنه

أخرج الطبري من طريق أبي بشير العابدي قال: نُبذ عثمان رضي الله عنه ثلاثة أيّام لا يُدفن، ثمَّ أنَّ حكيم بن حزام القرشي ثمَّ أحد بني أسد بن عبد العزّى، وجُبير ابن مطعم كَلّما عليّاً في دفنه وطلبا إليه أن يأذن لأهله في ذلك، ففعل وأذن لهم عليٌّ، فلمّا سُمع بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناسٌ يسيرٌ من أهله وهم يريدون به حائطاً بالمدينة يُقال له: حُشُّ كوكب(١) كانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلمّا خرج به على النّاس رجموا سريره وهمّوا بطرحه، فبلغ ذلك عليّاً، فأرسل إليهم يعزم

____________________

١ - قال ابو عمر فى « الاستيعاب » وياقوت فى « المعجم » والمحب الطبرى فى « الرياض » : كوكب رجل من الانصار، والحش: البستان.

_١٣_

٢٠٨

عليهم ليكفنَّ عنه، ففعلوا فانطُلق به حتّى دفن رضي الله عنه في حشِّ كوكب، فلمّا ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بهدم ذلك الحائط حتّى أفضى به إلى البقيع، فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتّى اتَّصل ذلك بمقابر المسلمين.

ومن طريق أبي كرب - وكان عاملاً على بيت مال عثمان - قال: دُفن عثمان رضي الله عنه بين المغرب والعتمة ولم يشهد جنازته إلّا مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه، وأخذ الناس الحجارة وقالوا: نعثل نعثل، وكادت تُرجم، فقالوا: الحائط الحائط، فدفن في حائطٍ خارجاً.

ومن طريق عبد الله بن ساعدة قال: لبث عثمان بعد ما قاتل ليلتين لا يستطيعون دفنه ثمَّ حمله أربعة: حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، ونيار بن مكرم، وأبو جهم ابن حذيفة. فلمّا وُضع ليصلّى عليه جاء نفرٌ من الصحابة يمنعونهم الصَّلاة عليه فيهم: أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي، وأبو حيَّة المازني في عدَّة ومنعوهم أن يُدفن بالبقيع فقال أبو جهم: ادفنوه فقد صلّى الله عليه وملائكته، فقالوا: لا والله لا يُدفن في مقابر المسلمين أبداً، فدفنوه في حشِّ كوكب، فلمّا ملكت بنو اُميّة أدخلوا ذلك الحشّ في البقيع، فهو اليوم مقبرة بني اُميّة.

ومن طريق عبد الله بن موسى المخزومي قال: لمـّا قتل عثمان رضي الله عنه أرادوا حزَّ رأسه فوقعت عليه نائلة وأمّ البنين فمنعهم وصِحن وضربن الوجوه وخرقن ثيابهنَّ، فقال ابن عديس: اتركوه، فاُخرج عثمان ولم يُغسَّل إلى البقيع، وأرادوا أن يصلّوا عليه في موضع الجنائز فأبت الأنصار، وأقبل عمير بن ضابئ وعثمان موضوعٌ على باب فنزا عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه وقال: سجنتَ ضابئاً حتّى مات في السجن.

وأخرج ابن سعد والطبري من طريق مالك بن أبي عامر قال: كنت أحدَ حملة عثمان رضي الله عنه حين قُتل، حملناه على باب وانَّ رأسه لتقرع الباب لإسراعنا به، وإنَّ بنا من الخوف لأمراً عظيماً حتّى واريناه في قبره في حشِّ كوكب.

وأخرج البلاذري من رواية أبي مخنف: انَّ عثمان رضي الله عنه قُتل يوم الجمعة فتُرك في داره قتيلاً، فجاء جبير بن مُطعم، وعبد الرَّحمن بن أبي بكر، ومسور بن مخرمة الزهري، وأبو الجهم بن حذيفة العدوي ليصلّوا عليه ويجنوه، فجاء رجالٌ من الأنصار

٢٠٩

فقالوا: لا ندعكم تُصلّون عليه، فقال أبو الجهم: ألا تدعونا نصلّي عليه؟ فقد صلّت عليه الملائكة، فقال الحجَّاج بن غزيَّة: إن كنت كاذباً فأدخلك الله مدخله، قال: نعم حشرني الله معه، قال ابن غزيَّة: إنَّ الله حاشرك معه ومع الشيطان، والله إنَّ ترك إلحاقك، به لخطأ وعجزٌ. فسكت أبو الجهم، ثمَّ إنَّ القوم اغفلوا أمر عثمان وشغلوا عنه، فعاد هؤلاء النفر فصلّوا عليه ودفنوه، وأمَّهم جبير بن مُطعم وحملت اُم البنين بنت عُيينة بن حصن امرأة عثمان لهم السراج، وحُمل على باب صغير من جريد قد خرجتْ عنه رجلاه وأخرج حديث منع الصَّلاة عليه أبو عمر في « الإستيعاب » من طريق هشام بن عروة عن أبيه.

وقال: إنَّه لقيهم قومٌ من الأنصار فقاتلوهم حتّى طرحوه، ثمَّ توطَّأ عمير بن ضابئ بن الحارث بن ارطاة التميمي ثمَّ البرجمي بطنه، وجعل يقول: ما رأيت كافراً ألين بطناً منه، وكان أشدَّ الناس على عثمان، فكان يقول يومئذٍ: أرني ضابئاً، أحي لِي ضابئاً ليرى ما عليه عثمان من الحال. وقال ابن قتيبة في الشعر والشعراء ص ١٢٨: جاء عمير بن ضابئ حتّى رفسه برجله.

قال البلاذري: ودفن عثمان في حشِّ كوكب وهو نخلٌ لرجل قديم يقال له: كوكب، ثمَّ أقبل الناس حين دُفن إلى عليّ فبايعوه وأرادوا دفن عثمان بالبقيع فمنعهم من ذلك قومٌ فيهم أسلم بن بجرة الساعدي، ويقال: جبلة بن عمرو الساعدي، وقال ابن دأب: صلّى عليه مسور بن مخرمة.

وقال المدائني عن الوقاضي عن الزهري: امتنعوا من دفن عثمان فوقفت اُمّ حبيبة بباب المسجد ثمَّ قالت: لتخلنَّ بيننا وبين دفن هذا الرجل أو لأكشفنَّ ستر رسول الله فخلّوا بينهم وبين دفنه.

وأخرج من طريق أبي الزناد قال: خرجت نائلة امرأة عثمان ليلة دُفن ومعها سراجٌ وقد شقَّت جيبها وهي تصيح: واعثماناه، وأمير المؤمنيناه، فقال لها جبير بن مُطعم: اطفئي السراج فقد ترين مَن بالباب، فأطفأت السراج وانتهوا إلى البقيع، فصلّى عليه جُبير وخلفه حكيم بن حزام، وأبو جهم، ونيار بن مكرم، ونائلة واُم البنين امرأتاه ونزل في حفرته نيار وأبو جهم وجُبير، وكان حكيم والامرأتان يُدلُّونه على الرجال

٢١٠

حتّى قُبر وبني عليه وغَموا قبره وتفرَّقوا. وفي لفظ أبي عمر: فلمّا دفنوه غيَّبوا قبره، وذكره السمهودي في وفاء الوفاء ٢: ٩٩ من طريق ابن شبة عن الزهري.

وأخرج ابن الجوزي والمحب الطبري والهيثمي من طريق عبد الله بن فروخ قال: شهدت عثمان بن عفان دفن في ثيابه بدمائه ولم يغسَّل. وقال المحب: خرَّجه البخاري والبغوي في معجمه. وذكر ابن الأثير في « الكامل » وابن أبي الحديد في الشرح انَّه لم يغسَّل وكفن في ثيابه.

وأخرج أبو عمر في « الاستيعاب » من طريق مالك قال: لَمّا قُتل عثمان رضي الله عنه اُلقي على المزبلة ثلاثة أيّام فلمّا كان من الليل أتاه اثنا عشر رجلاً(١) فيهم حويطب ابن عبد العزى، وحكيم بن حزام، وعبد الله بن الزبير فاحتملوه فلمّا صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه ناداهم قومٌ من بني مازن: والله لئن دفنتموه ههنا لنخبرنَّ الناس غداً. فاحتملوه وكان على باب وانَّ رأسه على الباب ليقول: طق طق، حتّى صاروا به إلى حشّ كوكب فاحتفروا له وكانت عائشة بنت عثمان رضي الله عنهما معها مصباحٌ في جرَّة، فلمّا أخرجوه ليدفنوه صاحت فقال لها ابن الزبير: والله لئن لم تسكتي لأضربنَّ الذي في عيناك. فسكتت فدفن.

وذكره المحب الطبري في « الرياض » نقلاً عن القلعي، وذكر عن الخجندي انَّه أقام في حشِّ كوكب ثلاثاً مطروحاً لا يصلّى عليه.

وذكر الصفدي في تمام المتون ص ٧٩ عن مالك انَّ عثمان اُلقي على المزبلة ثلاثة أيّام.

وقال اليعقوبي: أقام ثلاثاً لم يُدفن وحضر دفنه حكيم، وجبير، وحويطب، و عمرو بن عثمان ابنه، ودُفن ليلاً في موضع يُعرف بحشِّ كوكب، وصلّى عليه هؤلاء الأربعة وقيل: لم يصلّ عليه، وقيل: أحد الأربعة صلّى عليه، فدفن بغير صلاة.

وقال ابن قتيبة: ذكروا أنَّ عبد الرّحمن بن الأزهر قال: لم أكن دخلت في شيء من أمر عثمان لا عليه ولا له، فانِّي مجالسٌ بفناء داري ليلاً بعد ما قتل عثمان بليلة إذ

____________________

١ - احاديث الباب مطلقة على ان الذين تولوا اجنانه كانوا اربعة. وقال المحب الطبرى وقد قيل: ان الذين تولوا تجهيزه كانوا خمسة او ستة. اربعة رجال وامراتان نائلة وام البنين.

٢١١

جاءني المنذر بن الزبير فقال إنَّ أخي يدعوك فقمت إليه فقال لي: إنّا أردنا أن ندفن عثمان فهل لك؟ قلت: والله ما دخلت في شيء من شأنه وما اُريد ذلك، فانصرفت عنه ثمَّ إتَّبعته، فإذا هو في نفر فيهم جبير بن مطعم، وأبو الجهم، والمسور، وعبد الرّحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير فاحتملوه على باب وانَّ رأسه ليقول: طق طق، فوضعوه في موضع الجنائز فقام إليهم رجالٌ من الأنصار فقالوا لهم: لا والله لا تُصلّون عليه، فقال أبو الجهم: ألا تدعون نصلّي عليه؟ فقد صلّى الله تعالى عليه وملائكته. فقال له رجلٌ منهم: إن كنت كاذبا فأدخلك الله مدخله، فقال له: حشرني الله معه فقال له: إنَّ الله حاشرك مع الشياطين، والله إن تركناكم به لعجز منّا. فقال القوم لأبي الجهم: اسكت عنهم وكف فسكت، فاحتملوه ثمَّ انطلقوا مسرعين كأنِّي اسمع وقع رأسه على اللوح حتّى وضعوه في أدنى البقيع فأتاهم جبلة بن عمرو الساعدي من الأنصار فقال: لا والله لا تدفنوه في بقيع رسول الله ولا نترككم تُصلّون عليه، فقال أبو الجهم: انطلقوا بنا إن لم نصلِّ عليه فقد صلّى الله عليه، فخرجوا ومعهم عائشة بنت عثمان معها مصباح في حقّ حتّى إذا أتوا به جسر(١) كوكب حفروا له حفرة ثمَّ قاموا يُصلّون عليه وأمَّهم جبير بن مطعم، ثمَّ دلّوه في حفرته فلمّا رأته ابنته صاحت فقال ابن الزبير: والله لئن لم تسكتي لأضربنَّ الذي في عينيك فدفنوه، ولم يلحدوه بلبن وحثوا عليه التراب حثواً.

وقال ياقوت الحموي: لَمّا قتل عثمان ألقي في حشِّ كوكب ثمَّ دفن في جنبه.

وذكر ابن كثير بعض ما أسلفناه نقلاً عن البلاذري فقال: ثمَّ أخرجوا بعبدي عثمان اللذين قتلا في الدار وهما: صُبيح ونُجيح رضي الله عنهما فدفنا إلى جانبه بحشّ كوكب، وقيل: إنَّ الخوارج لم يمكّنوا من دفنهما، بل جرّوهما بأرجلهما حتّى ألقوهما بالبلاط(٢) فأكلتهما الكلاب، وقد اعتنى معاوية في أيَّام إمارته بقبر عثمان، ورفع الجدار بينه وبين البقيع وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حوله.

وذكر الحلبي في السيرة عن ابن ماجشون عن مالك: انَّ عثمان بعد قتله اُلقي

____________________

١ - كذا فى النسخة، والصحيح: حش.

٢ - البلاط من الأرض: وجهها، او منتهى الصلب منها. وفى لفظ الحلبى كما يأتي: التلال ولعله الصحيح.

٢١٢

على المزبلة ثلاثة أيّام، وقيل، اُغلق عليه بابه بعد قتله ثلاثة أيّام، لا يستطيع أحدٌ أن يدفنه (إلى آخر ما مرَّ من حديث مالك) ولمـّا دفنوه عفوا قبره خوفاً عليه أن يُنبش، وأمّا غلاماه اللذان قتلا معه فجرُّوهما برجليها وألقوهما على التلال فأكلتهما الكلاب.

وذكر ابن أبي الحديد وابن الأثير والدميري انَّه أقام ثلاثة أيّام لم يُدفن ولم يصلّ عليه، وقيل لم يغسَّل ولم يكفَّن، وقيل: صلّى عليه جبير بن مطعم ودُفن ليلاً.

وذكر السمهودي في وفاء الوفا عن عثمان بن محمَّد الأخنسي عن اُمّ حكيمة قالت: كنت مع الأربعة الذين دفنوا عثمان بن عفان: جبير، حكيم، أبو جهم، نيار الأسلمي وحملوه على باب اسمع قرع رأسه على الباب كأنَّه دباة ويقول: دب دب. حتّى جاؤا به حشّ كوكب فدفن به ثمَّ هدم عليه الجدار وصُلّي عليه هناك.

طبقات ابن سعد ط ليدن ٣: ٥٥: انساب البلاذرى ٨٣ -، ٨٦، ٩٩، الامامة والسياسة ١: ٤٠، تاريخ الطبري ٥: ١٤٣، ١٤٤، تاريخ اليعقوبي ٢: ١٥٣، الاستيعاب ٢: ٤٧٨، ٤٧٩ صفة الصفوة ١: ١١٧، الكامل لابن الأثير ٣: ٧٦، الرياض النضرة ٢: ١٣١، ١٣٢، معجم البلدان ٣: ٢٨١، شرح ابن ابي الحديد ١: ١٦٨، تاريخ ابن كثير ٧: ١٩٠، ١٩١، حياة الحيوان للدميري ١: ٥٤، وفاء الوفا للسمهودي ٢: ٩٩، السيرة الحلبية ٢: ٨٥، تاريخ الخميس ٢: ٢٦٥.

وقال الشاعر المفلق أحمد شوقي بك في دول العرب ص ٤٩.

مَن لقتيل بالسفا(١) مكفّنِ

مرَّت به ثلاثةٌ لم يُدفنِ

تعرضه نوادباً أرامله

ويشفق النعش ويأبى حامله

قد حيل بين الأرض وابن آدما

ونوزعت دار البقاء قادما

قال الأميني: إنَّ هاهنا صحيفةٌ غامضة أقف تجاهها موقف السادر لا تطاوعني النفس على الركون إلى أيٍّ من شقيّ الإحتمال الذَين يخالجان في الصدر، وذلك انَّ ما ارتكب من الخليفة في التضييق عليه وقتله بتلكم الصور المشدَّدة، ثمَّ ما نيل منه بعد القتل من المنع عن تجهيزه وتغسيله ودفنه والصّلاة عليه والوقيعة فيه بالسباب المقذع وتحقيره برمي جنازته بالحجارة وكسر بعض اضلاعه، يستدعي إمّا فسق الصحابة أجمع

____________________

١ - السفا: الغبار.

٢١٣

فانَّهم كانوا بين مباشر لهاتيك الأحوال، وبين خاذلٍ للمودى به، وبين مؤلِّب عليه، إلى مثبِّط عنه، إلى راضٍ بما فعلوا، إلى محبِّذٍ لتلكم الأهوال، وكان يرنُّ في مسامعهم قوله تعالى: لا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلاّ بالحقِّ. وقوله تعالى: من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنَّما قتل الناس جميعاً. وقوله تعالى:ومن يقتل مؤمناً متعمِّداً فجزاؤه جهنَّم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً عظيماً.

وما جاء في ذلك من السنَّة أكثر، وما يؤثر عن نبيِّ العظمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وجوب دفن موتى المؤمنين وتغسيلهم وتكفينهم والصَّلاة عليهم، وانَّ حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حيّاً، فالقوم إن كانوا متعمِّدين في مخالفة هذه النصوص؟ فهم فسّاقٌ إن لم نقل إنَّهم مرّاقٌ عن الدين بخروجهم على الإمام المفترض طاعته.

أو أنَّ هذه الأحوال تستدعي انحراف الخليفة عن الطريقة المثلى؟ وانَّ القوم اعتقدوا بخروجه عن مصاديق تلكم الأوامر والمناهي المؤكّدة التي تَطابق عليها الكتاب والسنَّة. وليس من السهل الهيِّن البخوع إلى أيّ من طرفي الترديد؟ أمّا الصحابة فكلّهم عدولٌ عند القومُ يركن إليهم ويُحتجُّ بأقوالهم وأفعالهم ويوثق بايمانهم، وقد كهربتهم صحبة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخرج دَرنَ نفوسهم، وكان في المعمعة منهم بقايا العشرة المبشَّرة كطلحة والزبير، ولطلحة خاصَّة فظاظات حول ذلك الجلاد، إلى اناس آخرين من ذوي المآثر نظراء عمّار بن ياسر، ومالك الأشتر، وعبد الله بن بُديل، وكان بين ظهرانيهم إمام المسلمين أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وهو المرموق يومئذ للخلافة، وقد انثنت إليه الخناصر، والامَّة أطوع له من الظلِّ لذيه. أفتراه والحالة هذه سكت عن تلكم الفظايع وهو مطلٌّ عليها من كثَب وهو أعلم الناس بنواميس الشريعة، وأهداهم إلى طريقها المهيع، وهو يعلم أنَّ من المحظور ارتكابها؟ لا ها الله.

أو أنَّهعليه‌السلام أخذ الحياد في ذلك المأزق الحرج وهو مستبيحٌ للحياد أو لما يعملون به؟ أنا لا أدري.

وليس من المستطاع القول بأنَّ معظم الصحابة ما كانوا عالمين بتلكم الوقايع، أو انَّهم ما كانوا يحسبون انَّ الأمر يبلغ ذلك المبلغ، أو أنَّهم كانوا غير راضين بهاتيك الاُحدوثة، فإنَّ الواقعة ما كانت مُباغَتة ولا غِيلة حتّى يعزب عن أحد علمها، فإنَّ

٢١٤

الحوار استدام أكثر من شهرين، وطيلة هذه المدَّة لم يكن للمتجمهرين طلبة من الخليفة إلاّ الإقلاع عن أحداثه، أو التنازل عن عرش الخلافة، وكانوا يهدّدونه بالقتل إن لم يخضع لإحدى الطلبتين، وكانت نعرات القوم في ذلك تتموَّج بها الفضاء، وعقيرة عثمان في التوبة تارة وعدم التنازل اُخرى وتخويفهم بمغبّات القتل ثالثة تتسرَّب في فجوات الجوِّ، فلو كان معظم الصحابة منحازين عن ذلك الرأي لكان في وسعهم تفريق الجمع بالقهر أو الموعظة، لكن بالرغم عمّا يزعم عليهم لم يؤثَر عن أحد منهم ما يثبت ذلك أو يُقرِّبه، وما أسلفناه من الأحاديث الجمَّة النامّة عن معتقدات الصحابة في الخليفة وفي التوثّب عليه تُفنِّد هذه المزعمة الفارغة، إن لم نقل انَّها تثبت ما يعلمه الكلّ من الإجماع على مقت الخليفة والتصافق على ما نقموا عليه والرضا بما نيل منه، حتّى أنَّ أحداً لم يُرو عنه انَّه ساءه نداء قاتله حين طاف بالمدينة ثلاثاً قائلاً: أنا قاتل نعثل(١) .

وأمّا ثاني الإحتمالين فمن المستعصب أن يبلغ سوء الظن بالخليفة هذا المدى، وإن كانت الصحابة جزموا بذلك، والشاهد يرى ما لا يراه الغايب، وقد أوقفناك على قول السيِّدة عائشة: اقتلوا نعثلاً قتله الله وقد كفر.

وقولها لمروان: وددت والله انَّه في غِرارة من غرائري هذه وانِّي طوَّقت حمله حتى اُلقيه في البحر.

وقولها لابن عبّاس: إيّاك أن تردَّ الناس عن هذا الطاغية.

وقول عبد الرّحمن بن عوف للامام أمير المؤمنينعليه‌السلام : إذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي، انَّه قد خالف ما أعطاني.

وقوله: عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه.

وقوله له: لِلَّه عليَّ أن لا اكلّمك أبداً.

وقول طلحة لمجمع بن جارية لَمّا قال له: أظنّكم والله قاتليه: (فإن قُتل فلا ملكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل).

وقد مرَّ انَّ طلحة كان أشدَّ الناس على عثمان في قتله يوم الدار، وقتل دون دمه وقول الزبير: اقتلوه فقد بدَّل دينكم.

____________________

١ - الاستيعاب ٢: ٤٧٨.

٢١٥

وقوله: إنَّ عثمان لجيفةٌ على الصراط غداً.

وقول عمّار يوم صفِّين: امضوا معي عباد الله إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله.

وقوله: ما تركت في نفسي حزَّة أهمّ إليَّ من أن لا نكون نبشنا عثمان من قبره ثمَّ أحرقناه بالنّار.

وقوله: أراد أن يغيِّر ديننا فقتلناه.

وقوله: والله إن كان إلّا ظالماً لنفسه الحاكم بغير ما أنزل الله.

وقوله: إنَّما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالإحسان.

وقول حجر بن عدي وأصحابه: هو أوَّل من جار في الحكم وعمل بغير الحقِّ.

وقول عبد الرَّحمن العنزي: هو أوَّل من فتح أبواب الظلم، وارتج أبواب الحقّ.

وقول هاشم المرقال: إنَّما قتله أصحاب محمَّد وقرّاء الناس حين أحدث أحداثاً و خالف حكم الكتاب، وأصحاب محمَّد هم أصحاب الدِّين، وأولى بالنظر في امور المسلمين.

وقول عمرو بن العاص: أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها، إن كنت لاُحرِّض عليه حتّى إنِّي لأحرِّض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.

وقوله له: ركبتَ بهذه الاُمَّة نهابير من الاُمور فركبوها منك، وملت بهم فمالوا بك، اعدل أو اعتزل.

وقوله: أنا عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع.

وقول سعد بن أبي وقاص: إنَّه قُتل بسيف سلّته عائشة، وصقَّله طلحة، وسمَّه ابن أبي طالب، وسكت الزبير وأشار بيده، وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه. إلخ.

وقول جهجاه الغفاري: قم يا نعثل! فانزل عن هذا المنبر، ندرِّعك عباءةً، ولنطرحك في الجامعة، ولنحملك على شارف من الإبل ثمَّ نطرحك في جبل الدخان.

وقول مالك الأشتر: إلى الخليفة المبتلى الخاطىء الحائد عن سنَّة نبيِّه، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره.

وقول عمرو بن زرارة: إنَّ عثمان قد ترك الحقَّ وهو يعرفه. الخ.

وقول الحجاج بن غزيَّة الأنصاري: والله لو لم يبق من عمره إلّا بين الظهر والعصر

٢١٦

لتقرَّبنا إلى الله بدمه.

وقول قيس بن سعد الأنصاري: أوَّل الناس كان فيه « قتل عثمان » قياماً عشيرتي ولهم اُسوة.

وقول جبلة بن عمرو الأنصاري: يا نعثل! والله لأقتلنَّك ولأحملنَّك على قلوص جرباء ولاُخرجنّك إلى حرَّة النار.

وقوله وقد سُئل الكفّ عن عثمان: والله لا ألقى الله غداً فأقول: إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيل.

وقول محمّد بن أبي بكر له: على أيِّ دين أنت يا نعثل؟ غيّرت كتاب الله. وقوله له: الآن وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين.

وقول الصحابة مجيبين لقوله: لا تقتلوني فانَّه لا يحلُّ إلّا قتل ثلاثة: إنَّا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سمّيت، قتل من سعى في الأرض فساداً، وقتل من بغى ثمّ قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شيء من الحقِّ ومنعه ثمّ قاتل دون وكابر عليه، وقد بغيتَ، ومنعت الحقَّ، وحلت دونه وكابرت عليه. الخ.

وقول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث من أبيات مرَّت ج ٨: ٢٨٨.

وشبَّهته كسرى وقد كان مثله

شبيهاً بكسرى هديه وضرائبه

إلى كلمات آخرين محكمات واُخر متشابهات، يشبه بعضها بعضاً.

إنَّ في هذا المأزق الحرج لا بدَّ لنا من ركوب إحدى الصعبتين، والحَكم هي الفطرة السليمة مهما دار الأمر بين تخطئة إنسان واحد محتفّ بالأحداث، وبين تضليل آلاف مؤلَّفة فيهم الأئمّة والعلماء والحكماء والصالحون وقد ورد في فضلهم ما ورد كما نرتأيه نحن، أو أنَّ كلهم عدولٌ يُحتجُّ بأقوالهم وأفعالهم كما يحبسه أهل السنَّة، وإن كان في البين إجتهادٌ كما يحسبونه في أمثال المقام فهو في الطرفين، والتحكّم بإصابة إنسان واحد وخطأ تلك الاُمَّة الكبيرة في اجتهادها، تهوُّرٌ بحتٌ، وتمحّلٌ لا يُصار إليه، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إنَّ الله يحبُّ المقسطين.

٢١٧

سلسلة الموضوعات

في قصة الدار وتبرير الخليفة والنظر فيها

١ - قال الطبري في تاريخه ٥: ٩٨: فيما كتب به إليَّ السري عن شعيب عن سيف عن عطيَّة عن يزيد الفقعسي قال: كان عبد الله بن سبا يهودياً من أهل صنعاء اُمّه سوداء فأسلم زمان عثمان، ثمّ تنقَّل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز ثمّ البصرة ثمّ الكوفة ثمّ الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم فقال لهم فيما يقول: لعجبٌ ممّن يزعم انّ عيسى يرجع ويكذّب بأنّ محمداً يرجع وقد قال الله عزّ وجلّ: إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادُّك إلى معاد. فمحمّد أحقُّ بالرجوع من عيسى: قال: فقُبل ذلك عنه ووضع لهم الرجعة فتكلّموا فيها، ثمّ قال لهم بعد ذلك: إنَّه كان ألف نبيّ ولكلِّ نبيٍّ وصيٍّ وكان عليٌّ وصيَّ محمّد. ثمّ قال: محمّد خاتم الأنبياء وعليٌّ خاتم الأوصياء. ثمّ قال بعد ذلك: من أظلم ممّن لم يُجز وصيَّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووثب على وصيِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتناول أمر الاُمّة ثمَّ قال لهم بعد ذلك: إنّ عثمان أخذها بغير حقّ وهذا وصيُّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه وابدأوا بالطعن على اُمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر، فبثَّ دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السرِّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كلِّ مصر منهم إلى مصر آخر بما يضعون فيقرأ اُولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض ازاعةً، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويُسرّون غير ما يُبدون، فيقول أهل كلّ مصر: إنّا لفي عافية ممّا ابتلى به هؤلاء إلّا أهل المدينة فانَّهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا: إنّا لفي عافية ممّا فيه الناس، وجامعه محمّد وطلحة من هذا المكان قالوا: فأتوا عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين! أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ قال: لا والله ما جاءني إلّا السَّلامة. قالوا: فإنّا قد أتانا وأخبروه بالذي أسقطوا إليهم، قال: فأنتم

٢١٨

شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا عليَّ، قالوا: نُشير عليك أن تبعث رجالاً ممَّن تثق بهم إلى الأمصار حتّى يرجعوا إليك بأخبارهم، فدعا محمّد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل اُسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمّار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله ابن عمر إلى الشام، وفرَّق رجالاً سواهم فرجعوا جميعاً قبل عمّار فقالوا: أيُّها النّاس ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامّهم، قالوا جميعاً: الأمر أمر المسلمين إلّا أنَّ اُمرائهم يُقسطون بينهم ويقومون عليهم، واستبطأ النّاس عمّاراً حتّى ظنُّوا أنَّه قد اغتيل فلم يفجأهم إلّا كتاب من عبد الله بن سعد بن أبي سرح يُخبرهم انَّ عمّاراً قد استماله قومٌ بمصر وقد انقطعوا إليه منهم: عبد الله بن السوداء، وخالد بن مُلجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر.

قال الأميني: لو كان إبن سبا بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن، وشقِّ عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه اُمراء الاُمَّة وساستها في البلاد، وانتهى أمره إلى خليفة الوقت، فلماذا لم يقع عليه الطلب؟ ولم يبلغه القبض عليه، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة، والتأديب بالضرب والإهانة، والزجّ إلى أعماق السجون؟ ولا آل أمره إلى الإعدام المريح للاُمّة من شرّه وفساده، كما وقع ذلك كلّه على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهتاف القرآن الكريم يرنُّ في مسامع الملأ الديني: إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتَّلوا أو يصلّبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

« المائدة: ٣٣ »

فهلّا إجتاح الخليفة جرثومة تلكم القلاقل بقتله؟ وهل كان تجهُّمه وغلظته قصراً على الأبرار من اُمّة محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ففعل بهم ما فعل ممّا أسلفنا بعضه في هذا الجزء والجزء الثامن.

هب انَّ ابن سبا هو الذي أمال الأمصار على مناوءة الخليفة فهل كان هو مختلقاً تلكم الأنباء من دون انطباقها على شيء من أعمال عثمان وولاته؟ فنهضت الاُمَّة وفيهم وجوه المهاجرين والأنصار على لا شيء؟ أو أنَّ ما كان يقوله قد انطبق على ما كانوا يأتون به من الجرائم والمآثم، فكانت نهضة الاُمَّة لاكتساحها نهضةً دينيَّة يخضع لها كلُّ مسلم،

٢١٩

وإن كان ابن اليهوديَّة خلط نفسه بالناهضين لأيِّ غاية راقته، وما أكثر الأخلاط في الحركات الصحيحة من غير أن يمسَّ كونهم مع الهايجين بشيء من كرامتهم.

ولو كان ما أنهاه إليهم ابن سبأ عزواً مختلقاً فهلّا - لمـّا قدمت وفود الأمصار المدينة - قال لهم المدنيّون: إنَّ الرجل بريء من هذه القذائف والهنات وهو بين ظهرانيهم يرون ما يفعل، ويسمعون ما يقول؟ لكنَّهم بدلاً عن ذلك أصفقوا مع القادمين، بل صاروا هم القدوة والاُسوة في تلك النهضة، وكانوا قبل مقدمهم ناقمين عليه.

ونحن والدكتور طه حسين نصافق عند رأيه هاهنا حيث قال في كتابه « الفتنة الكبرى ص ١٣٤: وأكبر الظنِّ أنَّ عبد الله بن سبأ هذا - إن كان كلّ ما يُروى عنه صحيحاً - إنَّما قال ما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف فهو قد استغلَّ الفتنة ولم يثرها، وأكبر الظنّ كذلك أنَّ خصوم الشيعة أيّام الأمويِّين والعبّاسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشكّكوا في بعض ما نُسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنِّعوا على عليّ وشيعته من ناحية اُخرى، فيردُّوا بعض امور الشيعة إلى يهوديّ أسلم كيداً للمسلمين، وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة؟ وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان؟

فلنقف من هذا كلّه موقف التحفّظ والتحرّج والإحتياط، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجلٌ أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديّاً وكانت اُمّه سوداء، وكان هو يهوديّاً ثمَّ أسلم لا رغباً ولا رهباً ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثمَّ اُتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حتّى قتلوه، وفرَّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها اُمورٌ لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها امور التاريخ، وإنَّما الشيء الواضح الذي ليس فيه شكٌّ هو أنَّ ظروف الحياة الإسلاميَّة في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى إختلاف الرأي وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسيَّة المتباينة، فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنَّة النبيِّ وسيرة صاحبيه كانوا يرون اموراً تطرأ ينكرونها ولا يعرفونها، ويريدون أن تُواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدَّة وضبط للنفس وضبط للرعيَّة، والشباب الناشئون في قريش وغير قريش

٢٢٠