الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٩

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 403

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 115187
تحميل: 6930


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 115187 / تحميل: 6930
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 9

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إمَّا أن تخرج فتقاتلهم ونحن معك وأنت على الحقِّ وهم على الباطل، وإما أن تخرق باباً سوى الباب الذي هم عليه فتركب رواحلك وتلحق بمكّة فانّهم لن يستحلّوك وأنت بها، وإمَّا أن تلحق بالشام فانّهم اهل الشام وفيهم معاوية. فقال عثمان: أمَّا أن أخرج إلى مكّة فإنِّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . يقول: يُلحد رجلٌ من قريش بمكّة يكون عليه نصف عذاب العالم. فلن أكون أنا. وأمّا أن ألحق بالشام فلن اُفارق دار هجرتي ومجاورة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: فأذن لنا أن نقاتلهم ونكشفهم عنك، قال: فلا أكون أوَّل من يأذن في محاربة اُمَّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج عليٌّ وهو يسترجع وقال للحسن والحسين: إذهبا بسيفكما حتّى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه، وبعث الزبير إبنه، وبعث طلحة إبنه، وبعث عدَّة من أصحاب محمّد أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان ويسألونه إخراج مروان، فلمّا رأى ذلك محمّد بن أبي بكر وقد رمى الناس عثمان بالسهام حتّى خضب الحسن بالدماء على بابه وغيره، فخشي محمّد بن أبي بكر أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن ويكشفوا الناس عن عثمان فأخذ بيد رجلين من أهل مصر فدخلوا من بيت كان بجواره، لأنَّ كلَّ من كان مع عثمان كانوا فوق البيوت ولم يكن في الدار عند عثمان إلّا امرأته، فنقّبوا الحائط فدخل عليه محمّد بن أبي بكر فوجده يتلو القرآن فأخذ بلحيته فقال له عثمان: والله لو رآك أبوك لساءه فعلك. فتراخت يده ودخل الرجلان عليه فقتلاه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، قيل: جلس عمرو بن الحمق على صدره ضربه حتّى مات، ووطأ عمير بن ضابئ على بطنه فكسر له ضلعين من أضلاعه، وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها لما كان حول الدار من الناس وصعدت امرأته فقالت: إنَّ أمير المؤمنين قد قُتل فدخل الناس فوجدوه مذبوحاً وانتشر الدم على المصحف على قوله تعالى: « فسيكفيكهم الله وهو السَّميع العليم » ، وبلغ الخبر عليّاً وطلحة والزبير وسعداً ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذي أتاهم حتّى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولاً فاسترجعوا، وقال عليُّ لابنيه: كيف قُتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسن، وضرب على صدر الحسين، وشتم محمَّد بن طلحة وعبد الله بن الزبير، وخرج وهو غضبانٌ حتّى أتى منزله، وجاء الناس يهرعون إليه فقالوا له: نبايعك فمدَّ يدك فلا بدَّ لنا من أمير. فقال عليٌّ: والله انِّي

٢٤١

لأستحي أن اُبايع قوماً قتلوا عثمان، وإنِّي لأستحي من الله تعالى أن اُبايَع وعثمان لم يُدفن بعدُ، فافترقوا ثمَّ رجعوا فسألوه البيعة فقال: أللهمَّ انِّي مشفقٌ ممّا اقدم عليه فقال لهم: ليس ذلك إليكم إنَّما ذلك لأهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة، فلم يبق أحدٌ من أهل بدر حتّى أتى عليّاً فقالوا: ما نرى أحداً أحقّ بها منك، مدّ يدك نبايعك. فبايعوه، فهرب مروان وولده، وجاء عليٌّ وسأل امرأة عثمان فقال لها: مَن قتل عثمان؟ قالت: لا أدري دخل عليه محمَّد بن أبي بكر ومعه رجلان لا أعرفهما، فدعا محمَّداً فسأله عمّا ذكرت امرأة عثمان فقال محمَّد: لم تكذب والله دخلت عليه وأنا اريد قتله فذكر لي أبي فقمت عنه وأنا تائبٌ إلى الله تعالى، والله ما قتلته ولا أمسكته. فقالت امرأته: صدق ولكنَّه أدخلهما عليه.

راجع أخبار الدول للقرماني هامش الكامل لابن الأثير ١: ٢١٠ - ٢١٣.

نظرة فى الموضوعات

هذه الموضوعات اختلقت تجاه التاريخ الصحيح المتسالم عليه المأخوذ من مئآت الآثار الثابتة المعتضد بعضها ببعض، فيضادّها ما أسلفناه في البحث عن آراء أعاظم الصحابة في عثمان وما جرى بينهم وبينه من سيِّء القول والفعل، وفيهم بقيَّة أصحاب الشورى وغير واحد من العشَّرة المبشَّرة وعدَّة من البدريِّين، وقد جاء فيه ما يربو على مائة وخمسين حديثاً راجع ص ٦٩ - ١٥٧ من هذا الجزء.

وتكذِّبها أحاديث جمَّة ممّا قدَّ منا ذكرها ص ١٥٧ - ١٦٣ من حديث المهاجرين والأنصار وانَّهم هم قتلة عثمان.

ومن حديث كتاب أهل المدينة إلى الصحابة في الثغور من أنَّ الرجل أفسد دين محمَّد فهلمّوا وأقيموا دين محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن حديث كتاب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ويقسمون له بالله انَّهم لا يمسكون عنه أبداً حتّى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من الله.

ومن حديث كتاب المهاجرين إلى مصر أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها، فإنَّ كتاب الله قد بُدِّل، وسنَّة رسوله قد غُيِّرت. إلى آخر ما مرَّ في ص ١٦١، ١٦٢.

٢٤٢

ومن حديث الحصار الأوَّل المذكور في صفحة ١٦٨ - ١٧٧.

ومن حديث كتاب المصريِّين إلى عثمان إنّا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتّى تأتينا منك توبةٌ مصرَّحة، أو ضلالةٌ مجلحة مبلجة. إلى آخر مرَّ ص ١٧٠.

ومن حديث عهد الخليفة على نفسه أن يعمل بالكتاب والسنَّة سنة ٣٥ كما مرَّ ص ١٧٠ - ١٧٢.

ومن حديث توبته مرَّة بعد اُخرى كما فصَّلناه ص ١٧٢ - ١٧٨.

ومن حديث الحصار الثاني الذي أسلفناه ص ١٧٧ - ١٨٩.

ومن حديث كتاب عثمان إلى معاوية في أنَّ أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة. إلى آخر ما سبق في صفحة ١٩٠.

ومن حديث كتابه إلى الشام عامِّة: انِّي في قوم طال فيهم مقامي واستعجلوا القدر فيَّ. وخيَّروني بين أن يحملوني على شارف من الإبل الدحيل، وبين أن أنزع لهم رداء الله. إلى آخر ما مرَّ ص ١٩٠.

ومن حديث كتابه إهل البصرة المذكور صفحة ١٩١.

ومن حديث كتابه إلى أهل الأمصار مستنجداً يدعوهم إلى الجهاد مع أهل المدينة واللحوق به لنصره كما مرَّ ص ١٩١.

ومن حديث كتابه إلى أهل مكّة ومن حضر الموسم ينشد الله رجلاً من المسلمين بلغه كتابه إلّا قدم عليه. إلخ.

ومن حديث يوم الدار والقتال فيه، وحديث مَن قُتل في ذلك المعترك ممّا مضى في ص ١٩٨ - ٢٠٤.

ومن حديث مقتل عثمان وتجهيزه ودفنه بحشّ كوكب بدير سلع مقابر اليهود المذكور ص ٢٠٤ - ٢١٧.

وممّا ثبت من أحوال هؤلاء الذين زعموا انَّهم بعثوا أبنائهم للدفاع عن عثمان، وانَّهم لم يفتأوا مناوئين له إلى أن قُتل وبعد مقتله إلى أن قُبر في أشنع الحالات، أمّا عليٌّ أمير المؤمنين فمن المتسالم عليه انَّه لم يحضر مقتل الرجل في المدينة فضلاً عن دخوله عليه قُبيل ذلك واستيذانه منه للذبِّ عنه وبعد مقتله وبكاءه عليه وصفعه ودفعه وسبِّه

٢٤٣

ولعنه وحواره حول الواقعة، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ٢٣٠ ردًّا علي حديث: الظاهر انَّ هذا ضعيفٌ لأنَّ عليّاً لم يكن بالمدينة حين حُصر عثمان ولا شهد قتله.

وقد سأله عثمان أن يخرج إلى ماله بينبع ليقلَّ هتف الناس بإسمه للخلافة، و كان ذلك مرَّة بعد اُخرى وفي إحداهما قال لإبن عبّاس: قل له فليخرج إلى ماله بينبع فلا أغتمُّ به ولا يغتمُّ بي. فأتى ابن عبّاس عليّاً فأخبره فقالعليه‌السلام : يا ابن عبّاس! ما يريد عثمان إلّا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب اُقبل واُدبر، بعث إليَّ أن أخرج، ثمَّ بعث إليَّ أن اقدم، ثمَّ هو الآن يبعث إليَّ أن أخرج.

وعليٌّعليه‌السلام هو الذي مرَّ حديث رأيه في عثمان فراجع حتّى يأتيك اليقين بأنَّه صلوات الله عليه لم يكن كالواله الحزين، ولم يكن ذاهباً عقله يوم الدار، ولا يقذفه بهذه الفرية الشائنة إلّا من ذهبت به الخيلاء، وتخبطّه الشيطان من المسِّ، وخبل حبُّ آل اُميَّة قلبه واختبله، فلا يبالي بما يقول، ولا يكترث لما يتقوَّل.

وأمَّا طلحة فحدِّث عنه ولا حرج، كان أشدَّ الناس على عثمان نقمة، وله أيّام الحصارين وفي يومي الدار والتجهيز خطوات واسعة ومواقف هائلة خطرة ثائرة على الرجل كما مرَّ تفصيل ذلك كلّه، وإن كنت في ريب من ذلك فاسأل عنه مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام لتسمع منه قوله: والله ما استعجل متجردّاً للطلب بدم عثمان إلّا خوفاً من أن يطالب بدمه لأنَّه مظنَّته، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط ممَّا أجلب فيه ليلبس الأمر ويقع الشكّ. وقوله: لحا الله ابن الصعبة أعطاه عثمان ما أعطاه وفعل به ما فعل. إلى أقواله الاُخرى التي أوقفناك عليها.

وسَلْ عنه عثمان نفسه وقد مرَّت فيه كلماته المعربة عن جليّة الحال، وسَلْ عنه مروان لماذا قتله؟ وما معنى قوله حين قتله لأبان عثمان: قد كفيتك بعض قتلة أبيك؟ وسَلْ عنه سعداً ومحمَّد بن طلحة وغيرهما ممّن مرَّ حديثهم.

وأمّا الزبير فإن سألت عنه مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام فعلى الخبير سقطت قالعليه‌السلام له: أتطلب منِّي دم عثمان وأنت قتلته؟ سلّط الله على أشدِّنا عليه اليوم ما يكره، وقال فيه وفي طلحة: انَّهم يطلبون حقّاً هُم تركوه، ودماً هُم سفكوه، فإن كنت شريكهم فيه فإنَّ لهم نصيبهم منه، وإن كان ولَّوه دوني فما الطلبة إلّا قِبَلهم. إلى آخر ما

٢٤٤

أسلفناه من كلماتهعليه‌السلام .

وقد مرَّ قول ابن عبّاس: أمَّا طلحة والزبير فانَّهما أجلبا عليه وضيَّقا خناقه. و قول عمّار بن ياسر في خطبة له: انَّ طلحة والزبير كانا أوَّل مَن طعن وآخر من أمر. وقول سعيد بن العاص لمروان: هؤلاء قتلة عثمان معك إنَّ هذين الرجلين قتلا عثمان: طلحة والزبير، وهما يريدان الأمر لأنفسهما، فلمّا غُلبا عليه قالا: نغسل الدم بالدم والحوبة بالحوبة.

وأمّا سعد بن أبي وقاص فهو القائل كما مر حديثه: وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعنا عنه ولكن عثمان غيِّر وتغيّر، وأحسن وأساء، فإن كنّا أحسنّا فقد أحسنّا، وإن كنّا أسأنا فنستغفر الله.

وأعطف على هؤلاء بقيَّة الصحابة الذين حسب واضعوا هذه الروايات انَّهم بعثوا أبناءهم للدفاع عن عثمان، وقد أسلفنا اجماعهم عدا ثلاثة رجال منهم على مقته المفضي إلى قتله، وهل ترى من المعقول أن يمقته الآباء إلى هذا الحدّ الموصوف ثمَّ يبعثوا أبنائهم للمجالدة عنه؟ إنْ هذا إلّا اختلاق.

وهل من المعقول انَّ القوم كانوا يمحضون له الولاء، وحضروا للمناضلة عنه، فباغتهم الرجلان اللذين أجهزا عليه وفرّا ولم يعلم بهما أحدٌ إلى أن أخبرتهم بهما الفرافصة ولم تعرفهما هي أيضاً، وكانت إلى جنب القتيل تراهما وتبصر ما ما ارتكباه منه؟.

وهل عرف مختلق الرواية التهافت الشائن بين طرفي ما وضعه من تحرِّيه تقليل عدد المناوئين لعثمان المجهزين عليه حتّى كاد أن يخرج الصحابة الآباء منهم والأبناء عن ذلك الجمهور، وممَّا عزاه إلى مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام من قوله لمـّا انثال إليه القوم ليبايعوه: والله إنِّي لأستحي أن أبايَع قوماً قتلوا عثمان. الخ؟ وهو نصٌّ على أنَّ مبايعيه اولئك هم كانوا قتلوا عثمان وهُم هُم المهاجرون والأنصار الصحابة الأوَّلون الذين جاء عنهم يوم صفِّين لمـّا طلب معاوية من الإمامعليه‌السلام قتلة عثمان وأمرعليه‌السلام بتبرّزهم فنهض أكثر من عشرة آلاف قائلين: نحن قتَلته، يقدمهم عمّار بن ياسر، ومالك الأشتر، و محمَّد بن أبي بكر، وفيهم البدريُّون، فهل الكلمة المعزوَّة إلى الإمامعليه‌السلام لمبايعيه عبارةٌ اُخرى عن الرجلين المجهولين اللذين فرّا ولم يعرف أحدٌ خبرهما؟ أو هما وأخلاطٌ من

٢٤٥

الناس الذين كانت الصحابة تضادّهم في المرمى؟ وهل في المعقول أن يلهج بهذا إلّا معتوه؟

وهل نحت هذا الإنسان الوضّاع إن صدق في أحلامه عذراً مقبولاً لاُولئك الصحابة العدول الذابِّين عن عثمان بأنفسهم وأبنائهم الناقمين على مَن ناوئه في تأخيرهم دفنه ثلاثاً وقد اُلقي في المزبلة حتّى زُجَّ بجثمانه إلى حشِّ كوكب، دير سلع، مقبرة اليهود، ورُمي بالحجارة، وشُيّع بالمهانة، وكُسر ضلعٌ من أضلاعه، وأودع الجدث بأثيابه من غير غسل ولا كفن، ولم يشيّعه إلّا أربعة، ولم يمكنهم الصَّلاة عليه؟ فهل كلُّ هذا مشروعٌ في الإسلام، والصحابة العدول يرونه ويعتقدون بأنَّه خليفة المسلمين، وانَّ من قتله ظالمٌ، ولا ينبسون فيه ببنت شفة، ولا يجرون فيه أحكام الإسلام؟ أو انَّهم ارتكبوا ذلك الحوب الكبير وهم لا يتحوَّبون متعمدين؟ معاذ الله من أن يقال ذلك.

أو أنَّ هذا الإنسان زحزحته بوادره عن مجاري تلكم الأحكام، وحالت شوارده بينه وبين حرمات الله، وشَرشَرت منه جلباب الحرمة والكرامة ومزَّقته تمزيقاً، حتّى وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة؟

ومن الكذب الصريح في هذه الروايات عدُّ سعد بن أبي وقاص في الرعيل الأوَّل ممَّن بايع عليّاًعليه‌السلام وهو من المتقاعدين عن بيعته إلى آخر نفس لفظه وهذا هو المعروف منه والمتسالم عليه عند رواة الحديث ورجال التاريخ، وقد نحتت يد الإفتعال في ذلك له عذراً أشنع من العمل، راجع مستدرك الحاكم ٣: ١١٦.

ومن المضحك جدّاً ما حكاه البلاذري في الأنساب ٥: ٩٣ عن ابن سيرين من قوله: لقد قُتل عثمان وإنَّ في الدار لسبعمائة منهم الحسن وابن الزبير فلو أذن لهم لأخرجوهم من أقطار المدينة.

وعن الحسن البصري(١) قال: أتت الأنصار عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين! ننصر الله مرَّتين نصرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وننصرك. قال: لا حاجة لي في ذلك ارجعوا. قال الحسن: والله لو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه.

أيّ عذر معقول أو مشروع هذا؟ يُقتل خليفة المسلمين في عُقر داره بين ظهراني سبعمائة صحابيّ عادل وهم ينظرون إليه، ومحمَّد بن أبي بكر قابضٌ على لحيته عالَ بها

____________________

١ - راجع ازالة الخفاء ٢: ٢٤٢.

٢٤٦

حتّى سُمع وقع أضراسه، وشحطه من البيت إلى باب داره، وعمرو بن الحمق يثب ويجلس علي صدره، وعمير بن ضابئ يكسر اضلاعه، وجبينه موجوءٌ بمشقص كنانة بن بشر، ورأسه مضروسٌ بعمود التجيبي، والغافقي يضرب فمه بحديد، ترد عليه طعنةٌ بعد اُخرى حتّى أثخنته الجراح وبه حياةٌ فأرادوا قطع رأسه فألقت زوجتاه بنفسهما عليه، كلُّ هذه بين يدي اولئك المئآت العدول أنصار الخليفة غير انَّهم ينتظرون حتّى اليوم إلى إذن القتيل وإلّا كانوا أخرجوهم من أقطار المدينة، ولو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه. أين هذه الاُضحوكة من الإسلام والكتاب والسنَّة والعقل والعاطفة والمنطق والإجماع والتاريخ الصحيح؟!.

نظرة في المؤلّفات

إنَّ ما سطرناه في عثمان إلى هذا الحدّ أساس ما علّوا عليه بنيان فضله، وتبرير ساحته عن لوت أفعاله وتروكه، وتعذيره في النهابير التي ركبها والدفاع عنه، وقد أوقفناك على الصحيح الثابت ممّا جاء فيه، وعلى المزيَّف الباطل ممّا وضع له، ومِن جنايات المؤرِّخين ضربهم الصفح عن الأوَّل، وركونهم إلى الفريق الثاني من الروايات فبنوا ما شادوه على شفا جُرف هارٍ، فلم يأت بغيرها أيّ عثماني في العقيدة، أمويّ في النزعة، ضع يدك على أيِّ كتاب لأحدهم في التاريخ والحديث مثل تاريخ الاُمم والملوك للطبري، والتمهيد للباقلاني، والكامل لابن الأثير، والرياض النضرة للمحب الطبري، وتاريخ أبي الفدا، وتاريخ ابن خلدون، والبداية والنهاية لابن كثير، والصواعق لابن حجر، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، وروضة المناظر لابن الشحنة الحنفي، وتاريخ أخبار الدول للقرماني، وتاريخ الخميس للديار بكري، ونزهة المجالس للصفوري، ونور الأبصار للشبلنجي، تجده مشحوناً بتلكم الموضوعات المسلسلة، أتوا بها مرسلين إيّاها إرسال المسلّم، وشوَّهوا بها صحيفة التاريخ بعد ما سوَّدوا صحائفهم، وموَّهوا بها على الحقائق الراهنة.

وجاء بعد هؤلاء المحدثون المتسرِّعون وهم يحسبون انَّهم يمحصون التاريخ والحديث تمحيصاً، ويحلّلون القضايا والحوادث تحليلاً صحيحاً متجرِّدين عن الأهواء والنزعات غير متحيِّزين إلى فئة، ولا جانحين إلى مذهب، لكنَّهم بالرغم من هاتيك الدعوي

٢٤٧

وقعوا في ذلك وهم لا يشعرون، فحملوا إلينا كلّ تلكم الدسائس في صور مُبهرجة رجاء أن تنطلي عند الرجرجة الدهماء، لكن قلم التنقيب أماط الستار عن تمويههم، وعرَّف الملأ الباحث انَّهم إنَّما ردُّوا ما هنالك من بوائق ومخازي.

كما ردّها يوماً بسوءته عمرو

وأثبتوا فضائل بنيت على أساس منهدم، وربطوها بعرى متفكّكة، فهلمَّ معي نقرأ صحيفة من « الفتوحات الإسلاميَّة » تأليف مفتي مكّة السيِّد أحمد زيني دحلان ممّا ذكره في الجزء الثاني من سيرة الخلفاء الأربعة ص ٣٥٤ - ٥١٧ قال في ص ٤٩٢ تحت عنوان: ذكر ما كان لسيِّدنا عثمان من الإقتصاد في الدنيا وحسن السيرة: كان عثمان رضي الله عنه زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، عادلاً في بيت المال(١) لا يأخذ لنفسه منه شيئاً(٢) لأنَّه كان غنيَّاً، وغناه كان مشهوراً من حياة النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد وفاته، وكان كثير الإنفاق في نهاية الجود والسماحة والبذل في القريب والبعيد(٣) وأنزل الله فيه: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثمَّ لا يُتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون(٤) وقوله تعالى: أمّن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً و قائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربِّه(٥) . وقوله تعالى: رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه(٦) .

وكان يخطب الناس وعليه إزارٌ غليظٌ عدنيٌّ ثمنه أربعة دراهم(٧) وكان يطعم الناس طعام الأمارة ويدخل بيته يأكل الخلَّ والزيت، قال الحسن البصري: دخلت المسجد فإذا أنا بعثمان متَّكئاً على ردائه فأتاه سقّا آن يختصمان إليه فقضى بينهما،

____________________

١ - فلماذا نقم عليه الصحابة اجمع؟ ولماذا قتلوا ذلك الزاهد الراغب العادل؟

٢ - راجع الجزء الثامن ص ٢٨٨، ٢٨٩ ط ٢.

٣ - الا من كان يمتّ بالبيت الهاشمي ويحمل ولاء العترة كأبي ذر وعمار وابن مسعود ونظرائهم.

٤ - مر فى الجزء الثامن ص ٥٧ ط ٢ بطلان هذا التقول على الله.

٥ - اسلفنا فى هذا الجزء فى ترجمة عمّار القول الصحيح فى نزول الآية.

٦ - مرّ فى الجزء الثانى ص ٥١ ط ٢ نزولها فى على وحمزة وعبيدة بن الحرث. واخرج البخارى فى صحيحه فى التفسير ج ٧: ٩١ نزولها فى انس بن النضر وذكر ابن حجر نزولها فى جماعة ولم يذكر فيهم عثمان، راجع فتح البارى ٨: ٤٢٠.

٧ - راجع ما رويناه فى الجزء الثامن ص ٢٩١ ط ٢.

٢٤٨

وعن عبد الله بن شدّاد قال: رأيت عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة وهو يومئذٍ أمير المؤمنين وعليه ثوبٌ قيمته أربعة دراهم. وسئل الحسن البصري ما كان رداء عثمان؟ قال: كان قطري. قالوا: كم ثمنه؟ قال: ثمانية دراهم. وكان رضي الله عنه شديد المتواضع، قال الحسن البصري: رأيت عثمان وهو أمير المؤمنين نائماً في المسجد ورداؤه تحت رأسه فيجيء الرجل فيجلس إليه، ثمَّ يجيء الرجل فيجلس اليه، فيجلس هو كأنَّه أحدهم وروى خيثمة قال: رأيت عثمان نائماً في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين، وفي رواية اُخرى لخيثمة ايضاً: رأيت عثمان يقيل في المسجد ويقوم وأثر الحصاة في جنبه فيقول الناس: يا أمير المؤمنين! وكان يلي وضوءه في الليل بنفسه فقيل له: لو أمرت بعض الخدم لكفوك، قال: لا، ألليل لهم يستريحون فيه، وكان رضي الله عنه يعتق في كلِّ جمعة رقبة منذ أسلم إلّا أن لا يجد ذلك تلك الجمعة فيجمعها في الجمعة الاُخرى. قال العلّامة ابن حجر في الصواعق: إنَّ جملة ما أعتقه عثمان رضي الله عنه ألفان واربعمائة. ومن تواضعه: انَّه كان يردف غلامه خلفه أيّام خلافته ولا يعيب ذلك. وكان يصوم النهار ويقول الليل إلّا هجعة من أوَّله. وكان يختم القرآن كلَّ ليلة في صلاته. وكان كثيراً ما يختمه في ركعة، وكان إذا مرَّ على المقبرة يبكي حتى تبتلَّ لحيته، وكان من العشرة المبشّرين بالجنَّة. ومن اصحاب النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفّي وهو عنهم راضٍ، وكان من السابقين للإسلام، فانَّه أسلم بعد أبي بكر وعليّ وزيد بن حارثة، و شهد له النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنَّة والزهد في الدنيا، فقد صحَّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال: رحمك الله يا عثمان! ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك(١) وكثرت الفتوحات في زمن خلافته فقد فتح في زمنه أفريقيَّة وسواحل الأردن وسواحل الروم واصطخر وفارس وطبرستان وسجستان وغير ذلك، وكثرت أموال الصحابة في خلافته حتّى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمائة ألف، ونخلة بألف، وعن الحسن البصري قال: كانت الأرزاق في زمن عثمان وافرة وكان الخير كثيراً، وأصاب الناس مجاعة في غزوة تبوك فاشترى طعاماً يصلح العسكر وأخرج أبو يعلى عن جابر عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: عثمان في الجنَّة وقال: لكلِّ نبيّ خليلٌ

____________________

١ - هل تؤيد هذه الصحيحة المزعومة وما قبلها سيرة الرجل؟ ما لهم بذلك من علم ان هم إلا يخرصون.

٢٤٩

في الجنَّة وانَّ خليلي عثمان بن عفان. وفي رواية: لكلِّ نبيّ رفيقٌ في الجنَّة ورفيقي فيها عثمان بن عفان. وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليدخلنَّ بشفاعة عثمان سبعون ألف كلّهم استحقّوا النار الجنَّة بغير حساب. وأخرج أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه: أوَّل من هاجر إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صحبهما الله إنَّ عثمان لأوَّل من هاجر إلى الله تعالى بأهله بعد لوفى، ولمـّا زوَّج النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنته اُم كلثوم لعثمان قال لها: إنَّ بعلك لأشبه الناس بجدِّك ابراهيم وأبيك محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشدَّ اُمَّتي حياءً عثمان بن عفان. وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ الله أوحى إليَّ أن ازوَّج كريمتيَّ يعني رقيَّة واُم كلثوم من عثمان. وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ عثمان حيي تستحي منه الملائكة، و قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما يشبه عثمان بأبينا إبراهيم. وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما زوَّجت عثمان باُمّ كلثوم إلّا بوحي من السّماء. وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعثمان: يا عثمان! هذا جبريل يخبرني إنَّ الله زوَّجك امّ كلثوم بمثل صداق رقيَّة وعلى مثل صحبتها، وأخرج الترمذي عن عبد الرّحمن بن خباب قال: شهدت النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يحثّ على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله! عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثمّ حضَّ على الجيش فقال عثمان: يا رسول الله! عليَّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول: ما على عثمان ما فعل بعد اليوم. وعن عبد الرّحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بألف دينار حين جهَّز جيش العسرة فنثره في حجره فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقلّبها ويقول: ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم. وفي رواية عن حذيفة: انَّها عشرة آلاف دينار فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقلّبها ويقول: غفر الله لك يا عثمان! ما أسررت وما أعلنت وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، ما يُبالي عثمان ما عمل بعدها، وأخرج الواحدي: إنَّ الله أنزل بسبب ذلك في حقِّ عثمان: الَّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثمَّ لا يتبعون ما انفقوا منّاً ولا أذى لهم أجرهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. وعن أبي سعيد الخدري قال: إرتقبتُ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة من أوَّل الليل إلى أن طلع الفجر يدعو لعثمان بن عفان يقول: أللهمَّ عثمان بن عفان رضيت عنه فارضَ عنه، فما زال رافعاً يديه حتّى طلع الفجر. وعن جابر بن عطيّة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : غفر الله لك يا عثمان! ما قدَّمت وما أخَّرت وما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما أبديت وما هو كائن إلى يوم القيامة. الخ.

٢٥٠

هذه بلايا تمنَّتها يد الغلو في الفضائل، مُنيت بها الاُمَّة، وطمست تحت أطباقها حقايق العلم والدين، وانطمست بها انوار الهداية، وستعرف انّها روايات مختلقة زيَّفتها نظّارة التنقيب ولا يصحّ منها شيءٌ، غير أنَّ المفتي دحلان على مطمار قومه أرسلها إرسال المسلّم، وموَّهها على أغرار الملأ الدينيِّ، ولا يجد عن سردها منتدحاً، ذلك مبلغهم من العلم إن هم إلّا يظنّون، ولا تقف ما ليس لك به علمٌ إنَّ السمع والبصر والفؤاد كلّ اولئك كان عنه مسؤولا.

(الفتنة الكبرى)

واقرأ صحيفة من « الفتنة الكبرى » للدكتور طه حسين قال في بدء كتابه. هذا حديثٌ اُريد أن اُخلّصه للحقِّ ما وسعني إخلاصه للحقِّ وحده، وأن أتحرّى فيه الصواب ما استطعت إلى تحرّي الصواب سبيلا، وأن أحمل نفسي فيه على الإنصاف لا أحيد عنه ولا امالئ فيه حزباً من أحزاب المسلمين على حزب، ولا اُشايع فيه فريقاً من الذين اختصموا في قضيَّة عثمان دون فريق، فلست عثمانيَّ الهوى، ولست شيعة لعليّ، و لست أفكّر في هذه القضيَّة كما كان يفكّر فيها الذين حاصروا عثمان واحتملوا معه ثقلها وجنوا معه أو بعده نتائجها.

وأنا أعلم أنَّ الناس ما زالوا ينقسمون في أمر هذه القضيَّة إلى الآن كما كانوا ينقسمون فيها أيّام عثمان رحمه الله، فمنهم العثمانيُّ الذي لا يعدل بعثمان أحداً من أصحاب النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الشيخين، ومنهم الشيعيُّ الذي لا يعدل بعليّ رحمه الله بعد النبيِّ أحداً لا يستثني الشيخين ولا يكاد يرجو لمكانهما وقارا، ومنهم من يتردَّد بين هذا وذاك يقتصد في عثمانيَّته شيئاً، أو يقتصد في تشيّعه لعليّ شيئاً، فيعرف لأصحاب النبيِّ مكانتهم ويعرف لأصحاب السابقة منهم سابقتهم، ثمَّ لا يفضِّل بعد ذلك أحداً منهم على الآخر يرى انَّهم جميعاً قد اجتهدوا ونصحوا لِلَّه ولرسوله وللمسلمين، فأخطأ منهم من أخطأ وأصاب منهم من أصاب، ولأولئك وهؤلاء أجرهم لأنَّهم لم يتعمدوا خطيئة ولم يقصدوا إلى إساءة، وكلّ هؤلاء إنَّما يرون آراءهم هذه يستمسكون بها ويذودون عنها و يتفانون في سبيلها، لأنَّهم يفكّرون في هذه القضيَّة تفكيراً دينيّاً، يصدرون فيه عن الايمان، ويبتغون به ما يبتغي المؤمن من المحافظة على دينه والإستمساك بيقينه وابتغاء

٢٥١

رضوان الله بكلِّ ما يعمل في ذلك أو يقول.

وأنا اُريد أن أنظر إلى هذه القضيَّة نظرةً خالصةً مجرَّدة لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثَّر بالإيمان ولا بالدين، وإنَّما هي نظرة المؤرِّخ الذي يجرّد نفسه تجريداً كاملاً من النزعات والعواطف والأهواء مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها الخ.

هكذا يحسب الدكتور ويبدي انَّه لا يروقه النزول على حكم العاطفة ولا التحيُّز إلى فئة أو جنوح إلى مذهب، وقد تجرّد فيما كتب عن كلِّ ذلك حتّى عن الإيمان والدين، وزعم انَّه قصّر نظرته في قضايا عثمان على البساطة ليتسنّى له الحكم الطبيعي، والقول في تلكم الحوادث على الحقائق المحضة، هكذا يحسب الدكتور، لكنّه سرعان ما انقلب على عقبيه كرًّا على ما فرَّ منه، فلم يسعه إلّا الرّكون إلى العواطف ومتابعة النزعات، فلم يرتد إلّا تلكم السفاسف التي اختلقتها سماسرة العثمانيِّين، ولم يسرح في مسيره إلّا مقيّداً بسلاسل أساطير الأوّلين التي سردها الطبري ومن شايعه أو سبقه بتلك الأسانيد الواهية والمتون المزيَّفة التي أوقفناك عليها في هذا الجزء وفيما سبقه من الأجزاء، فلم نجد مائزاً بين هذا الكتاب وبين غيره من الكتب التي حسب الدكتور انّ مؤلّفيها حدت بهم الميول والنزعات، فما هو إلّا فتنةٌ كبرى كما سمّاه هو بذلك.

ترى الدكتور يحايد حذراً من أن يحيد عن مهيع الحقِّ ويجور في الحكم، و زعم الحياد أسلم في اليوم الحاضر كما كان في الأمس الدابر، فذهب مذهب سعد بن أبي وقاص الحايد في القضيَّة واتّبع أثره، قال في ديباجة كتابه: عاش قومٌ من أصحاب النبيِّ حين حدثت هذه القضيَّة وحين اختصم المسلمون حولها أعنف خصومة عرفها تاريخهم فلم يشاركوا فيها ولم يحتملوا من أعبائها قليلاً ولا كثيراً، وإنَّما اعتزلوا المختصمين وفرّوا بدينهم إلى الله، وقال قائلهم سعد بن أبي وقاص رحمه الله: لا اُقاتل حتى تأتوني بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول: أصاب هذا وأخطأ ذاك.

فأنا اُريد أن أذهب مذهب سعد وأصحابه رحمهم الله، لا اُجادل عن اُولئك ولا عن هؤلاء، وإنّما اُحاول أن أتبيَّن لنفسي واُبيِّن للناس الظروف التي دفعت اُولئك وهؤلاء إلى الفتنة، وما استتبعت من الخصومة العنيفة التي فرَّقتهم وما زالت تفرِّقهم إلى الآن، وستظلُّ تفرِّقهم في أكبر الظنِّ إلى آخر الدهر، وسيرى الذين يقرأون

٢٥٢

هذا الحديث انَّ الأمر كان أجلّ من عثمان وعليّ وممّن شايعهما وقام من دونهما، وأنَّ غير عثمان لو ولي خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها لتعرَّض لمثل ما تعرَّض له من ضروب المحن والفتن، ومن اختصام الناس حوله واقتتالهم بعد ذلك فيه.اهـ.

هاهنا نجد الدكتور جارياً على ما عهد إلى نفسه تجرَّد عن العواطف، وجانب المبادئ الدينيّة، وحايد الدين الحنيف حقّاً، ونظر إلى القضيّة بالحريَّة المحضة، وحسبها فتنةً يحقُّ للعاقل أن يكون فيها كابن لبون لا ظهر له فيركب ولا ضرع فيحلب، ونِعمَ الرأي هذا لولا الإسلام المقدّس، لولا ما جاء به نبيّ العظمة، لولا ما نطق به كتاب الله العزيز، لولا ما تقتضيه فروض الإنسانيَّة والعواطف البشريّة القاضية بخلاف ما ذهب إليه الدكتور، وإنِّي لست أقضي العجب منه، ولست أدري كيف يُقدّس مذهب ابن أبي وقاص، أيسوغ للباحث المسلم أن يصفح في تلكم القضايا عن حكم الدين المقدَّس، ويشذَّ عمّا قرَّره نبيُّ الإسلام، ويسحق العواطف كلّها حتّى ما يستدعيه الطبع الإنساني والغريزة العادلة في كسح الفساد والتفاني دون صالح المجتمع العام؟ ألم يكن هنالك كتابٌ ناطقٌ أو سنَّةٌ محكمةٌ أو شريعةٌ حاكمةٌ أو عقلٌ سليمٌ يبعث الملأ الدينيّ إلى الدفاع عن كلِّ مسلم مُدَّت إليه يد الظلم والجور فضلاً عن خليفة الوقت الواجب طاعته؟

ما الذي أحوج المتمسّك بعرى الدين الحنيف إلى سيف يعقل ويبصر وينطق والله يقول: فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرَّسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر؟ أوَ لم يكفهم إنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم؟ وما أنزلنا عليك الكتاب إلّا لتبيِّن لهم الذي اختلفوا فيه.

ما الذي أذهل الدكتور عن قول الصحابيِّ العظيم حذيفة اليماني: لا تضرّك الفتنة ما عرفت دينك إنَّما الفتنة إذا اشتبه عليك الحقّ والباطل؟ وكيف يشتبه الحكم في القضيَّة على المسلم النابه وهي لا تخلو عن وجهين، فإنّ عثمان إن كان إماماً عادلاً قائماً بالقسط عاملاً بالكتاب والسنّة مرضيّاً عند الله؟ فالخروج عليه معلوم الحكم عند جميع فرق المسلمين لا يختلف فيه اثنان، ولا تشذُّ فئةٌ عن فئةٍ، وإن لم يكن كذلك وكان كما حسبه اُولئك العدول من أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومرَّت آرائهم ومعتقداتهم فيه؟

٢٥٣

فالحكم أيضاً بيِّنٌ مبرهنٌ بالكتاب العزيز كما استدلّ بذلك الثائرون عليه لمـّا قال لهم: لا تقتلوني فانّه لا يحلُّ إلّا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه. أو كفر بعد إسلامه، أو قتل نفساً بغير نفس فيقتل بها. فقالوا: إنّا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سمّيت: قتل من سعى في الأرض فساداً، وقتل من بغى، ثمَّ قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شيء من الحقِّ ومنعه ثمَّ قاتل دونه وكابر عليه، وقد بغيتَ، ومنعت الحقّ، وحُلت دونه وكابرت عليه.الحديث « راجع ص ٢٠٥ »

فنحن لا نعرف وجهاً للحياد كما ذهب اليه ابن أبي وقاص في القضيَّة وفي المواقف الهائلة بعدها، فالحياد - وإن راق الدكتور - تقاعدٌ عن حكم الله، وتقاعسٌ عن الواجب الدينيِّ، وخروج عمّا قرّرته الحنيفيَّة البيضاء، نعم: الحياد حيلة اُولئك المتشاغبين المتقاعدين عن بيعة إمام المتقين أمير المؤمنين، المتقاعسين عن نصرته، المتحايدين عن حكم الكتاب والسنَّة في حروبه ومغازيه، عذرٌ تترَّس به سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري ومحمّد بن مسلمة السابقون الأوَّلون من رجال الحياد الزائف، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

كتاب عثمان بن عفان

وأعطف على كتاب عثمان بن عفان للمدرِّس في كلّية اللغة العربيَّة بمصر الاستاذ صادق إبراهيم عرجون نظرةً ممعنةً حيث يقول في فاتحته: فهذا طرازٌ من البحث في سيرة ثالث الراشدين « عثمان » رضي الله عنه، صوَّرت به حياته صورة لا أعيذها من اجمال غير مجحف بحقّ، ولا أعضها تفصيل يظهر حجَّة أو يدفع شبهة.

وقد احتفلت فيه بتحقيق ما احتفَّ بهذه السيرة الأسيفة من عوامل اجتماعيَّة و سياسيَّة، دفعت المجتمع الإسلامي دفعاً عاصفاً إلى أخطر انقلاب عرفه التاريخ في الاسلام وسيرة عثمان رضي الله عنه حريَّةٌ بالبحث الممحص الهادئ، ليكشف منها ما سترته الأقاصيص العابثة من فضائل، وما شوَّهته الروايات الغالطة من محاسن، ويصحح ما غالطت بينها من حقائق، ويزيّف ما بهرجه المتقوِّلون من أكاذيب مزوّرة وحكايات باطلة.

٢٥٤

وقد حاولتُ جهدي أن أتتبَّع الخطوط الأصيلة في حياة عثمان رضي الله عنه، فلائمت بينها حتّى ارتسمت منها هذه الصورة التي أرجو أن تكون لبنة بين لبنات متساندة في دراسة حياة رجالات الإسلام، وسير أبطاله الغرّ الميامين، تبصرة وذكرى للمؤمنين. والله وليُّ التوفيق.اهـ.

ثمَّ ألق نظرة اُخرى على مواضيع كتابه تجدها غير منطبقة على ما يقول في شيء منها، وإنّما هي نعرات طائفيَّة ممقوتة، وفضائل مفتعلة دسَّتها يد الغلو فيها، وسفاسف موضوعة حبَّذت الشهوات إختلاقها، كلّل أساطير السلف بزخرف القول، وزخرف أباطيل الأوَّلين بالبيان المزوَّر، لم نجد له فحصاً عن حال الأسانيد، وتهافت المتون، وفقه الحديث، وطَرَق مواضيع مهمَّة من فقه عثمان وأغاليطه وأحداثه وهو يروقه التفصِّي عنها فلم يتفصَّ إلّا بالتافهات لا سيَّما في المسائل الفقهيّة التي هو بمجنب عنها، فنحت لها اعذاراً باردة، أو انّها أعظم من تلكم المآثم، فلنمرَّ عليها كراماً.

وما ظنّك بكتاب يكون من مصادره كتاب فجر الإسلام، لأحمد أمين ذلك المتحذلق المختلق، وكتاب الخضري ذلك الأمويّ المباهت، ومحاضرات كرد علي العثماني الشاميّ المناوئ لأهل بيت الوحي، وأمثال هذه من كتب السلف والخلف ممّا لا يعرّج عليه؟ وفيه الخلط والخبط، وضوضاء الدجّالين، ولغط المستأجرين.

ومن أعجب ما رأيت قوله ص ٤١ من الكتاب تحت عنوان « الكذب على ذلك رسول الله » : وفي هذه المرحلة من تاريخ الإسلام بُدئت أكاذيب الفرق والأحزاب فيما يكيد به بعضها لبعض، حتّى أخذت تلك الأكاذيب صورة الحجاج بأحاديث يتقوَّلها زعماء الفرق ورؤساء الأحزاب على سيِّدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كثر من هذه الأكاذيب ما زعموه كان في حقِّ الأئمَّة والخلفاء، وقالت كلّ شيعة فيمن شايعته وفي منافسيه عندها ما شاء لها الهوى، وتجاذب هذا النوع طرفي الإفراط والتفريط مدحاً وذمّاً، و اختلاقاً وتقوّلا، حتّى غشّى سير هؤلاء الأجلّاء بغشاء من الغموض حجب الحقايق عن كثير من الناظرين.

وليس بأقلّ خطراً من ذلك ما افترقوه في جنب القرآن الكريم من تأويلات محرّفة لآيات الله تعالى عن مواضعها، ومن هنا وهناك تألّفت سلسلة الموضوعات

٢٥٥

والخرافات والأساطير التي ابتلي بها المسلمون، وانتشرت بينهم التلبيسات الملتوية والشبه الغامضة، فشوَّهت جمال الشريعة المطهَّرة، وحُشي بها كثيرٌ من كتب المؤلّفين المتقدّمين والمتأخرين، حتّى أصبحت وبالاً على الدين، وشرًّا على المسلمين، وحائلاً دون نهضتهم وتقدّمهم، وسلاحاً في أيدي خصوم الإسلام، وعائقاً عن الوصول إلى كثير من الحقايق التاريخيَّة والعلميّة والدينيَّة، ولولا توفيق الله تعالى رحمةً بهذه الامَّة، ورعايةً لهذا الدين الكريم، لطائفة من أئمّة المسلمين المصطفين الأخيار، إنتهضوا لنقد الأسانيد وتنقيح الروايات، وبهرجة الزائف منها، وحظر الرواية عن كلِّ صاحب بدعة في الإسلام، لَما بقيت للإسلام صورته النيِّرة التي جاء بها القرآن الحكيم، وأدّاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه نقيّة صافية.اهـ.

هذه نفثات الاستاذ الصَّادق، وهذه حسراته وزفراته المتصاعدة وراء ضياع التاريخ الإسلامي، وراء طمس الحقايق تحت أطباق الظلمات، وراء تشويه الأساطير والمخاريق والأباطيل جمال الشريعة المطهّرة، ولعمر الحقِّ لقد أحسن وأجاد، والرايد لا يكذب، غير أنَّ المسكين هو من اُسراء تلكم السلاسل المتسلسة من الموضوعات والخرافات التي اُبتلي بها المسلمون، وعاقته الأغشية المدلهمَّة عن الوصول إلى الحقايق التاريخيَّة والعلميّة والدينيَّة، وثبَّطته التلبيسات الملتوية عن نيل الصحيح الناصع من التاريخ والحديث، فما أصاب من الحقِّ نيلاً، وما أسعفته فكرته هذه على الطامات ولا قدر شعرة، وما أوضحت له سبل النجاح، وما هدته إلى المهيع اللايح، فليته ثمَّ ليته كان يأخذ بأقوال اولئك الأئمَّة المصطفين الأخيار في نقد الأسانيد في الجرح والتعديل، وكان يعمل بها ويتّخذها دستوراً لنفسه، مقياساً فيما سطره من الأكاذيب والأفائك، وليته كان يرحم هذه الاُمَّة، ويرعى هذا الدين الكريم مثلما هم رحموا ورعوا، وما زرَّف في تأليفه، وما أعاد لأساطير الأوَّلين الخلقة جدَّتها بعد ألف وثلثمائة عاماً من عمرها.

وهل هو بعد ما وقف على هذا الجزء ووجد كتابه مؤلَّفاً من سلسلة بلايا وحلقة أباطيل زيَّفها اولئك الأئمّة الذين هو اصطفاهم واختارهم وأثنى عليهم يقرع سنَّ الندم ويتَّبع سَنن الحقِّ اللاحب؟ أو انَّه يلج فيما سوَّد به صحائف كتابه أو صحيفة تاريخه ويتمادى في غيِّه وليَه؟ وما التوفيق إلّا بالله.

_١٦_

٢٥٦

كتاب انصاف عثمان

تأليف الاستاذ محمد احمد جاد المولى بك.

هذا الكتاب أخدع من السراب، صفرٌ من شواهد الإنصاف، شرجه الاستاذ من سلسلة أخبار مدسوسة وروايات مختلقة، وإن درس هو بزعمه تاريخ عثمان دراسة الحذر منها فقال في ديباجته ص ٤: درسنا تاريخ عثمان وعصره والثورة عليه دراسة الحذر من الأخبار المدسوسة، اليقظ لمواطن العبرة، المرجع كلّ حدث إلى بواعثه الأصليَّة وإن رانت عليها الشبهات.

ولم نكتفِ بما قال المؤرِّخون، بل مددنا بصرنا إلى أبعد مِن ذلك، فحللنا شخصيَّته، وبيَّنا ما لها من صلة بالثورة عليه، ودرسنا حال المسلمين وقد نعموا بالراحة والثراء وانساحوا في الأصقاع يخالطون الأعاجم ويصهرون إليهم ويتخلّقون بعاداتهم، وحال قريش وما أنتابها من تفرُّق وتنازع على الرياسة، وبيَّنا صلة ذلك بالتجنِّي على الخليفة، وجلونا الفتنة التي أرثها في الأمصار أعداء عثمان وأعداء الإسلام، ونخلنا ذلك كلّه وصفَّيناه، واستخلصنا منه الأسباب الصريحة للفتنة.

ولم نغفل أن نعرض لما اُخذ على عثمان، ولا أن ننتصف له حيث يستحقّ الإنصاف.

ومن حقّ عثمان أن تُخصَّص لدراسته ودراسة عصره عشرات الكتب، فإنَّه الخليفة المهضوم الحقّ، المظلوم في الحكم عليه، على ما له من سابقة وفضل وإصلاحات، وعصره عصر انتقال واضطراب وثورات سياسيَّة وإجتماعيَّة.

ونحن وإن بالغنا في الإحاطة وتوفّي الزلل عرضة للتقصير، ولكنّا اجتهدنا رأينا، فنرجوا أن نكون قد وُفِّقنا لإبراز صورةٍ واضحةٍ لهذه الحقبة من تاريخ المسلمين ففيها عِظاتٌ وعبر. والله المستعان.اهـ.

هذه لُفاظته، وهذا حسن طويَّته وحرصه على النجاح، غير انَّك تجده في جمعه وتأليفه كحاطب ليل رَزَم في حزمته كلَّ رطب ويابس، وجاء يخبط خبط عشواء من دون أيِّ فحص وتنقيب، لا يفقه ولا ينقِّه، لا يستصحب دراية في الحديث توقفه على الصحيح الثابت، وتعرّفه الزائف البهرج، ولا بصيرةً تميِّز له الحوَّ من اللوِّ، ولا علماً

٢٥٧

ناجعاً يجعجعه ويهديه إلى الفوز والنجاح، ولا فقهاً ينجيه من غمرات تلكم المعارك الوبيلة، ولا تثبُّتاً يُرشده إلى ما يُنقذه من تلكم التلبيسات الملتوية، جوَّل في مضمار تلكم الطامات التي جاء بها الطبري وغيره وحسبها اصولاً مُسلّمة، وأسند في آرائه إلى فضائل مفتعلة نتاج أيدي الأمويِّين نسباً ونزعة، ومن المأسوف عليه جدًّا انَّه أكدى وإن اجتهد رأيه، ولم يظفر بأمله وإن بالغ في الإحاطة بزعمه، وأبرز لهذه الحقبة من تاريخ المسلمين صورة معقّدة معضلة تخلو عن كلِّ عِظة وعِبرة.

بسط القول في عبد الله بن سبأ وعَزا إليه كلّ تلكم المعامع الثورات، وحسبه مادَّة الفكرة الناقمة على الخليفة وأساسها الوحيد في البلاد، ورأى معظم الصحابة أتباع نعرات ذلك المبتدع الغاشم، وطوع تلبيس ذلك اليهوديِّ المهتوك، وقال في ص ٤٢: عند ذلك يجد ابن سبأ منفذاً إلى هذا الشيخ الزاهد (يعني أباذر) في عرض الدنيا فينشر آراءه في مجلسه ويغريه بالحكومة ويحرّضه على الأغنياء، وصار يقول له: يا أبا ذر! ألا تعجب لمعاوية يقول: المال مال الله، ألا كلّ شيء لله؟ كأنّه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو إسم المسلمين. ظلّ أبو ذر يدعو إلى الإشتراكيَّة المتطرِّفة بإرغام الأغنياء أن يساعدوا الفقراء ويتركوا أموالهم لهم، واتَّخذ برَّ الإسلام بالفقراء سبيلاً إلى ذهاب المال من أربابه، وما قصد الإسلام هذا بل كما قال الله تعالى: والَّذين في أموالهم حقٌّ معلوم للسائل والمحروم زيادة على الزكاة الشرعيّة. الخ.

وقال في ص ٦١: أمّا عمّار فقد توجَّه إلى مصر وكان حاكمها مبغضاً من المصريّين لا يجدون حرجاً في رميه بكلِّ نقيصة، واستطاع أتباع ابن سبأ بحذقهم و مهارتهم في ذلك المكفهر أن يخدعوه بزخرف القول وزوره، وكان مع هذا في نفس عمّار شيء من عثمان لأنّه نفذ فيه حكم الله لمـَّا تقاذف هو والعبّاس بن عتبة بن أبي لهب، ولهذا لم يعد إلى الخليفة، ولم يطلعه على شيء ممّا رأى، ومال إلى اتباع ابن سبأ.اهـ.

هذه صفحةٌ من تلك الصورة الواضحة التي وُفِّق الاستاذ لابرازها، هذه هي الغاية المتوخّاة التي بزعمه فيها عِظات وعبر، هل يدري القارئ عن أيِّ أبي ذر و عمَّار يحدّث هذا الثرثار المجازف؟ حتى لا يبالي بما يقول ولا يكترث لما أسرف فيهما من القول، ولست أدري لِماذا اقتحم الرجل في هذه الأبحاث الغامضة الخطرة التي يتيه

٢٥٨

فيها الناقد البصير؟ لِماذا اقتحم فيها مع ضؤولة رأيه وجهله بأحوال الرجال ومقادير أفذاذ الاُمّة، وعدم عرفانه نفسيّات خيرة البشر وصلحاء الصحابة ومبلغهم من الدين؟ لِماذا اقتحم فيها مع بُعده عن دراية الحديث، وعلم الدين، وفقه التاريخ؟

تراه تشزّر وتعبّأ للدفاع عمَّن شغفه حبّه بكلِّ ما تيسَّر له ولو بالوقيعة في عدول الصحابة أو في الصحابة العدول، وقد بيّنا في الجزء الثامن ص ٣٤٩ ط ٢ حديث الرجل في أبي ذر وانّه موضوعٌ عنعنه اُناس لا يعوّل عليهم عند مهرة الفنِّ، وفصّلنا القول في هذا الجزء في حديث عمّار وانّه قطُّ لم يتوجَّه إلى مصر، وانَّ ما ركن إليه الاُستاذ لا يصحُّ اسناده، ونحاشي عمّاراً عن أن يحمل ضغينة على أحد لإنفاذه حكم الله فيه، وهل الاستاذ طبّق المفصل في رأيه هذا وبين يديه الذكر الحكيم والآية النازلة في عمّار؟ وفي صفحات الكتب قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ملئ عمّار ايماناً إلى أخمص قدميه. وقوله: إنَّ عمّاراً مع الحقِّ والحقُّ معه، يدور عمّار مع الحقِّ أينما دار.

و قوله: ما خُيِّر عمّار بين أمرين إلّا اختار أرشدهما. إلى أحاديث اُخرى مرَّت في هذا الجزء ص ٢٠ - ٢٨ تضادُّ تلكم الخزعبلات.

وللاستاذ في تبرير الخليفة كلماتٌ ضخمة موجزةٌ في طيِّها دسائس مطمورة، وتمويهٌ على الحقائق التاريخيَّة، يتلقّاها الدهماء بالقبول ولا يرى عن الصفح عنها مندوحة قال في ص ٣٥: من المسلّم به أنَّ الوليد هذا عُيّن سنة ٢٥ هجريَّة وهي السنة الاُولى من حكم عثمان، وقد أجمع الناقدون والمؤرّخون على أنّه لم يقع منه خلال ستّ السنوات الاُولى ما يسوِّغ توجيه النقد إليه، إذ كانوا يرون رائده تحرّي المصلحة العامة، وإسناد المناصب إلى الجديرين بها لا فرق بين قريب وبعيد.اهـ.

دعوى الإجماع والإتِّفاق والإصفاق المكذوبة سيرةٌ مطَّردة عند القوم جيلاً بعد جيل سلفاً وخلفاً، وكتب الفقه والكلام والحديث والتاريخ مشحونةٌ بهذه السيرة الممقوتة ومن أمعن النظر في كتاب المحلّى لابن حزم، وكتابه الفصل في الملل والنحل، ومنهاج السنَّة لابن تيميَّة، والبداية والنهاية لابن كثير، يجد مئاةً من الإجماعات المدَّعاة المشمرجة، والاستاذ اقتفى إثر اولئك الاُمناء على ودائع العلم والدين وحذا حذوهم، كأنّه لم يكُ يحسب أن يأتي عليه يوم يناقشه قلم التنقيب الحساب، أو انّه غير مكترث

٢٥٩

لأيِّ تبعة ومغبَّة.

أنَّى من المتسالم عليه تولية الوليد سنة ٢٥ وإن هو إلّا قول سيف بن عمر كما نصّ عليه الطبري في تاريخه ٧: ٤٧ وزيَّفه، وعزاه ابن الأثير في الكامل إلى البعض، وقد عرَّفناك سيفاً في الجزء الثامن ص ٨٤ ط ٢ وانَّه: ضعيفٌ متروكٌ، ساقطٌ، وضّاعٌ، اتّهم بالزندقة. فالمعتمد عند المؤرّخين انَّ تولية الوليد كانت سنة ٢٦.

ثمَّ أنَّى يصحّ كون السنة الـ‍ ٢٥ هي السنة الاُولى من حكم عثمان، وإنَّما توفّي عمر في أواخر ذي الحجَّة سنة ٢٣ وبويع عثمان بعد ثلاثة أيّام من موت عمر، فالسنة الاُولى من حكم عثمان هي ٢٤.

وأين وأنَّى يسع لناقد أو مؤرِّخ فضلاً عن إجماع الناقدين والمؤرّخين أن يحسب صفو الجوِّ من بوائق عثمان وبوادره ونوادره خلال ستّ السنوات الاُولى، وهذه صفحات تاريخه في تلكم السنين مسودَّةٌ بهنات وهنات، بل التاريخ سجَّل له من أوَّل يوم تسنّم عرش الخلافة، وقام نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه، صرعةً وعثرةً لا تُستقال، منها:

١ - أبطل القصاص لَمّا استخلف ولم يقد عبيد الله بن عمر وقد أتى عظيماً وقتل الهرمزان والجفينة وابنة أبي لؤلؤة، وأجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجِّعون عثمان على قتل ابن عمر أخذاً بالكتاب والسنَّة، غير أنَّ عمرو بن العاص فلته عن رأيه، فذهب دم اولئك الأبرياء هدراً. وكانت أوَّل قارورة كُسرت في الإسلام بيد عثمان يوم ولي الأمر.

٢ - لَمّا استخلف صعد المنبر وجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يجلس أبو بكر وعمر فيه، جلس أبو بكر دونه بمرقاة، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة، فتكلّم الناس في ذلك فقال بعضهم: اليوم ولد الشرّ(١) .

٣ - ردّ الحَكمَ بن أبي العاص طريد النبيِّ الأقدس ولعينه إلى المدينة لمـَّا ولي الخلافة، وبقي فيها حتّى لَعق لسانه، وهذا الايواء ممّا نُقم به على عثمان كما مرَّ حديثه في ج ٨: ٢٤٢، ٢٥٤، ٢٥٨ ط ٢.

____________________

١ - تاريخ اليعقوبى ٢: ١٤٠، تاريخ ابن كثير ٧: ١٤٨.

٢٦٠