الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 111882
تحميل: 4255


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111882 / تحميل: 4255
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ) إلى آخر الآية. السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء و لا حقيقة له، و القيع و القاع هو المستوي من الأرض و مفرداهما القيعة و القاعة كالتينة و التمرة، و الظمآن هو العطشان.

لما ذكر سبحانه المؤمنين و وصفهم بأنّهم ذاكرون له في بيوت معظّمة لا تلهيهم عنه تجارة و لا بيع، و أنّ الله الّذي هو نور السماوات و الأرض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الّذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنّها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، و تارة بأنّها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها و هي حاجزة عن النور، و هذه الآية هي الّتي تتضمّن الوصف الأوّل.

فقوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ) شبّه أعمالهم - و هي الّتي يأتون بها من قرابين و أذكار و غيرهما من عباداتهم يتقرّبون بها إلى آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الإنسان ماء و لا حقيقة له يترتّب عليها ما يترتّب على الماء من رفع العطش و غير ذلك.

و إنّما قيل: يحسبه الظمآن ماء مع أنّ السراب يتراءى ماء لكلّ راء لأنّ المطلوب بيان سيره إليه و لا يسير إليه إلّا الظمآن يدفعه إليه ما به من ظمإ، و لذلك رتّب عليه قوله:( حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ) ، كأنّه قيل: كسراب بقيعة يتخيّله الظمآن ماء فيسير إليه و يقبل نحوه ليرتوي و يرفع عطشه به، و لا يزال يسير حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً.

و التعبير بقوله:( جاءَهُ ) دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه و نحوها للإيماء إلى أنّ هناك من يريد مجيئه و ينتظره انتظاراً و هو الله سبحانه، و لذلك أردفه بقوله:( وَ وَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ ) فأفاد أنّ هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحوه فطرتهم و جبلّتهم و هو السعادة الّتي يريدها كلّ إنسان

١٤١

بفطرته و جبلّته لكنّ أعمالهم لا توصلهم إليه، و لا أنّ الآلهة الّتي يبتغون بأعمالهم جزاء حسناً منهم لهم حقيقة بل الّذي ينتهي إليه أعمالهم و يحيط هو بها و يجزيهم هو الله سبحانه فيوفّيهم حسابهم، و توفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الأعمال و إيصال ما يستحقّه صاحب الأعمال.

ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، و تشبيههم بالظمآن الّذي يريد الماء و عنده عذب الماء لكنّه يعرض عنه و لا يصغي إلى مولاه الّذي ينصحه و يدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه و يقبل نحوه، و تشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال و عند ذلك تمام الأعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه و عنده مولاه الّذي كان ينصحه و يدعوه إلى شرب الماء.

فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربّهم و الأعمال الصالحة الهادية إلى نوره و فيه سعادتهم و حسبوا أنّ سعادتهم عند غيره من الآلهة الّذين يدعونهم و الأعمال المقرّبة إليهم و فيها سعادتهم فأكبّوا على تلك الأعمال السرابيّة و استوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدّة أعمارهم حتّى حلّت آجالهم و شارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئاً ممّا يؤمّلونه من أعمالهم و لا أثراً من اُلوهيّة آلهتهم فوفّاهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.

و قوله:( وَ اللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ) إنّما هو لإحاطة علمه بالقليل و الكثير و الحقير و الخطير و الدقيق و الجليل و المتقدّم و المتأخّر على حدّ سواء.

و اعلم أنّ الآية و إن كان ظاهرها بيان حال الكفّار من أهل الملل و خاصّة المشركين من الوثنيّين لكنّ البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإنّ الإنسان كائناً من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة و لا يرتاب أنّ الوسيلة إلى نيلها أعماله الّتي يأتي بها فإن كان ممّن يقول بالصانع و يراه المؤثّر في سعادته بوجه من الوجوه توسّل بأعماله إلى تحصيل رضاه و الفوز بالسعادة الّتي يقدّرها له، و إن كان ممّن ينكره و ينهي التأثير إلى غيره توسّل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثّر كالدهر و الطبيعة و المادّة نحو سعادة حياته الدنيا الّتي لا يقول بما وراءها.

١٤٢

فهؤلاء يرون المؤثّر الّذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى و لا مؤثّر غيره و يرون مساعيهم الدنيويّة موصلة لهم إلى سعادتهم و ليست إلّا سراباً لا حقيقة له و لا يزالون يسعون حتّى إذا تمّ ما قدّر لهم من الأعمال بحلول ما سمّي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئاً و عاينوا أنّ ما كانوا يتمنّون منها لم يكن إلّا طائف خيال أو حلم نائم، و عند ذلك يوفّيهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.

قوله تعالى: ( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ) تشبيه ثان لأعمالهم يظهر به أنّها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، و قد تكرّر في كلامه تعالى أنّهم في الظلمات كقوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ ) البقرة: ٢٥٧، و قوله:( كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢، و قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: ١٥.

و قوله:( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ) معطوف على( كَسَرابٍ ) في الآية السابقة، و البحر اللّجّيّ هو البحر المتردّد أمواجه منسوب إلى لجّة البحر و هي تردّد أمواجه، و المعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجّيّ.

و قوله:( يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ) صفة البحر جي‏ء بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفته أنّه يغشاه و يحيط به موج كائن من فوقه موج آخر كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعاً من الاستضاءة بأضواء الشمس و القمر و النجوم.

و قوله:( ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ) تقرير لبيان أنّ المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرّقة، و قد أكّد ذلك بقوله:( إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ) فإنّ أقرب ما يشاهده الإنسان منه هو نفسه و هو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لأنّه يقرّبها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده و لم يكد يراها كانت الظلمة بالغة.

فهؤلاء و هم سائرون إلى الله و صائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر

١٤٣

لجّيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشدّ ما يكون و لا نور هناك يستضي‏ء به فيهتدي إلى ساحل النجاة.

و قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ) نفي للنور عنهم بأنّ الله لم يجعله لهم، كيف لا؟ و جاعل النور هو الله الّذي هو نور كلّ شي‏ء، فإذا لم يجعل لشي‏ء نوراً لم يكن له نوراً إذ لا جاعل غيره تعالى.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ ) إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه أنّه نور تستنير به السماوات و الأرض و أنّه يختصّ بمزيد نوره المؤمنين من عباده و الّذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتجّ على ذلك بما في هذه الآية و الآيات الأربع التالية لها.

فكونه تعالى نور السماوات و الأرض يدلّ عليه أنّ ما في السماوات و الأرض موجود بوجود ليس من عنده و لا من عند شي‏ء ممّا فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الّذي ينتهي إليه الحاجات.

فوجود كلّ شي‏ء ممّا فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدلّ على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشي‏ء و يدلّ على منوّره بما أشرق عليه من النور و أنّ هناك نوراً يستنير به كلّ شي‏ء فكلّ شي‏ء ممّا فيهما يدلّ على أنّ وراءه شيئاً منزّها من الظلمة الّتي غشيته، و الفاقة الّتي لزمته، و النقص الّذي لا ينفكّ عنه، و هذا هو تسبيح ما في السماوات و الأرض له سبحانه، و لازمه نفي الاستقلال عن كلّ من سواه و سلب أيّ إله و ربّ يدبّر الأمر دونه تعالى.

و إلى ذلك يشير قوله:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ ) و به يحتجّ تعالى على كونه نور السماوات و الأرض لأنّ النور هو ما يظهر به الشي‏ء المستنير ثمّ يدلّ بظهوره على مظهره، و هو تعالى يظهر و يوجد بإظهاره و إيجاده الأشياء ثمّ يدلّ على ظهوره و وجوده.

و تزيد الآية بالإشارة إلى لطائف يكمل بها البيان:

منها: اختصاصها من في السماوات و الأرض و الطير صافّات و هم العقلاء و بعض

١٤٤

ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) .

و لعلّ ذلك من باب اختيار اُمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإنّ ظهور الموجود العاقل الّذي يدلّ عليه لفظ( مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) من عجيب أمر الخلقة الّذي يدهش لبّ ذي اللبّ، كما أنّ صفيف الطير الصافّات في الجوّ من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور و أبدعه.

و يظهر من بعضهم أنّ المراد بقوله:( مَنْ فِي السَّماواتِ ) إلخ، جميع الأشياء و إنّما عبّر بلفظ اُولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شؤون اُولي العقل أو للتنبيه على قوّة تلك الدلالة و وضوح تلك الإشارة تنزيلاً للسان الحال منزلة المقال.

و فيه أنّه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد:( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ ) .

و منها: تصدير الكلام بقوله:( أَ لَمْ تَرَ ) و فيه دلالة على ظهور تسبيحهم و وضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيراً مّا يعبّر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) إبراهيم: ١٩، و الخطاب فيه عامّ لكلّ ذي عقل و إن كان خاصّاً بحسب اللفظ.

و من الممكن أن يكون خطاباً خاصّاً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد كان أراه الله تسبيح من في السماوات و الأرض و الطير صافّات فيما أراه من ملكوت السماوات و الأرض و ليس ببدع منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفّه كما وردت به الأخبار المعتبرة.

و منها: أنّ الآية تعمّم العلم لكلّ ما ذكر ممّن في السماوات و الأرض و الطير، و قد تقدّم بعض البحث عنه في تفسير قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الإسراء: ٤٤، و ستجي‏ء تتمّة الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

١٤٥

و قول بعضهم: إنّ الضمير في قوله:( قَدْ عَلِمَ ) راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق و خاصّة لقوله بعده:( وَ اللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ ) و نظيره قول آخرين: إنّ إسناد العلم إلى مجموع ما تقدّم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوّة دلالته على تسبيحه و تنزيهه.

و منها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أنّ الأشياء تشير إلى صفات كماله تعالى و هو التحميد كما تسبّحه على ما يدلّ عليه البرهان و يؤيّده قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) و لعلّ الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد و نفي الشركاء و ذلك بالتنزيه أمسّ فإنّ من يدعو من دون الله إلهاً آخر أو يركن إلى غيره نوعاً من الركون إنّما يكفر بإثبات خصوصيّة وجود ذلك الشي‏ء للإله تعالى فنفيه إنّما يتأتّى بالتنزيه دون التحميد فافهمه.

و أمّا قوله:( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ ) فصلاته دعاؤه و الدعاء توجيه من الداعي للمدعوّ إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعوّ في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء و التحميد.

و منها: أنّ الآية تنسب التسبيح و العلم به إلى من في السماوات و الأرض فيعمّ المؤمن و الكافر، و يظهر بذلك أنّ هناك نورين: نور عامّ يعمّ الأشياء و المؤمن و الكافر فيه سواء، و إلى ذلك تشير آيات كآية الذرّ:( وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) الأعراف: ١٧٢، و قوله:( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ إلى غير ذلك، و نور خاصّ و هو الّذي تذكره الآيات و يختصّ بأوليائه من المؤمنين.

فالنور الّذي ينوّر تعالى به خلقه كالرحمة الّتي يرحمهم بها قسمان: عامّ و خاصّ و قد قال تعالى:( وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الأعراف: ١٥٦، و قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) الجاثية: ٣٠، و قد جمع بينهما في قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً ) الحديد: ٢٨، و ما ذكر فيه من النور هو النور على نور بحذاء

١٤٦

الثاني من كفلي الرحمة.

و قوله:( وَ اللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ ) و من فعلهم تسبيحهم له سبحانه، و هذا التسبيح و إن كان في بعض المراحل هو نفس وجودهم لكن صدق اسم التسبيح يجوز أن يعدّ فعلاً لهم بهذه العناية.

و في ذكر علمه تعالى بما يفعلون عقيب ذكر تسبيحهم ترغيب للمؤمنين و شكر لهم بأنّ ربّهم يعلم ذلك منهم و سيجزيهم جزاء حسناً، و إيذان بتمام الحجّة على الكافرين، فإنّ من مراتب علمه تعالى كتب الأعمال و الكتاب المبين الّتي تثبت فيها أعمالهم فيثبت فيها تسبيحهم بوجودهم ثمّ إنكارهم بألسنتهم.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) سياق الآية و قد وقعت بين قوله:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ ) إلخ، و هو احتجاج على شمول نوره العامّ لكلّ شي‏ء، و بين قوله:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي ) إلخ، و ما يتعقّبه و هو احتجاج على اختصاص النور الخاصّ، يعطي أنّها كالمتوسّط بين القبيلين أعني بين الأمرين يحتجّ بها على كليهما، فملكه تعالى لكلّ شي‏ء و كونه مصيراً لها هو دليل على تعميمه نوره العامّ و تخصيصه نوره الخاصّ يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

فقوله:( وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) يخصّ الملك و يقصره فيه تعالى فله أن يفعل ما يشاء و يحكم بما يريد لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون، و لازم قصر الملك فيه كونه هو المصير لكلّ شي‏ء، و إذ كان لا مليك إلّا هو و إليه مرجع كلّ شي‏ء و مصيره فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

و من هنا يظهر أنّ المراد - و الله أعلم - بقوله:( وَ إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) مرجعيّته تعالى في الاُمور دون المعاد نظير قوله:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى: ٥٣.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) إلى آخر الآية. الإزجاء هو الدفع، و الركام المتراكم بعضه على بعض، و الودق هو المطر، و الخلال جمع الخلل و هو الفرجة بين الشيئين.

و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعنوان أنّه سامع فيشمل كلّ سامع، و المعنى: أ لم

١٤٧

تر أنت و كلّ من يرى أنّ الله يدفع بالرياح سحاباً متفرّقاً ثمّ يؤلّف بينه ثمّ يجعله متراكماً بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله و فرجه فينزل على الأرض.

و قوله:( وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ) السماء جهة العلو، و قوله:( مِنْ جِبالٍ فِيها ) بيان للسماء، و الجبال جمع جبل و هو معروف، و قوله:( مِنْ بَرَدٍ ) بيان للجبال، و البرد قطعات الجمد النازل من السماء، و كونه جبالاً فيها كناية عن كثرته و تراكمه، و السنا بالقصر الضوء.

و الكلام معطوف على قوله:( يُزْجِي ) ، و المعنى: أ لم تر أنّ الله ينزّل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع و البساتين و ربّما قتل النفوس و المواشي و يصرفه عمّن يشاء فلا يتضرّرون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالأبصار.

و الآية - على ما يعطيه السياق - مسوقة لتعليل ما تقدّم من اختصاصه المؤمنين بنوره، و المعنى: أنّ الأمر في ذلك إلى مشيّته تعالى كما ترى أنّه إذا شاء نزّل من السماء مطراً فيه منافع الناس لنفوسهم و مواشيهم و مزارعهم و بساتينهم، و إذا شاء نزل برداً فيصيب به من يشاء و يصرفه عمّن يشاء.

قوله تعالى: ( يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ) بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيّته تعالى فقط. و تقليب الليل و النهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ ) بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيّته تعالى محضاً حيث يخلق كلّ دابّة من ماء ثمّ تختلف حالهم في المشي فمنهم من يمشي على بطنه كالحيّات و الديدان، و منهم من يمشي على رجلين كالأناسيّ و الطيور و منهم من يمشي على أربع كالبهائم و السباع، و اقتصر سبحانه على هذه الأنواع

١٤٨

الثلاثة - و فيهم غير ذلك - إيجازاً لحصول الغرض بهذا المقدار.

و قوله:( يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ ) تعليل لما تقدّم من اختلاف الدوابّ، مع وحدة المادّة الّتي خلقت منها يبيّن أنّ الأمر إلى مشيّة الله محضاً فله أن يعمّم فيضاً من فيوضه على جميع خلقه كالنور العامّ، و الرحمة العامّة و له أن يختصّ بفيض من فيوضه بعضاً من خلقه دون بعض كالنور الخاصّ و الرحمة الخاصّة.

و قوله:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) تعليل لقوله:( يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ ) فإنّ إطلاق القدرة على كلّ شي‏ء يستوجب أن لا يتوقّف شي‏ء من الأشياء في كينونته على أمر وراء مشيّته و إلّا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الأمر و هذا خلف.

و هذا باب من التوحيد دقيق سيتّضح بعض الاتّضاح إن شاء الله بما في البحث الآتي.

( بحث فلسفي)

( في معنى علّيّته تعالى للأشياء)

إنّا لا نشكّ في أنّ ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى و إنّ كثيراً منها - و خاصّة في الماديّات - تتوقّف في وجودها على شروط لا تحقّق لها بدونها كالإنسان الّذي هو ابن فإنّ لوجوده توقّفاً على وجود الوالدين و على شرائط اُخرى كثيرة زمانيّة و مكانيّة، و إذ كان من الضروريّ كون كلّ ممّا يتوقّف عليه جزءً من علّته التامّة كان الواجب تعالى على هذا جزء علّته التامّة لا علّة تامّة وحدها.

نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علّة تامّة إذ لا يتوقّف على شي‏ء غيره و كذا الصادر الأوّل الّذي تتبعه بقيّة أجزاء المجموع، و أمّا سائر أجزاء العالم فإنّه تعالى جزء علّته التامّة ضرورة توقّفه على ما هو قبله من العلل و ما هو معه من الشرائط و المعدّات.

هذا إذا اعتبرنا كلّ واحد من الأجزاء بحياله ثمّ نسبنا وحده إلى الواجب تعالى.

و هاهنا نظر آخر أدقّ و هو أنّ الارتباط الوجوديّ الّذي لا سبيل إلى إنكاره

١٤٩

بين كلّ شي‏ء و بين علله الممكنة و شروطه و معدّاته يقضي بنوع من الاتّحاد و الاتّصال بينها فالواحد من الأجزاء ليس مطلقاً منفصلاً بل هو في وجوده المتعيّن مقيّد بجميع ما يرتبط به متّصل الهويّة بغيرها.

فالإنسان الابن الّذي كنّا نعتبره في المثال المتقدّم بالنظر السابق موجوداً مستقلّاً مطلقاً فنجده متوقّفاً على علل و شروط كثيرة و الواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هويّة مقيّدة بجميع ما كان يعتبر توقّفه عليه من العلل و الشرائط غير الواجب تعالى فحقيقة زيد مثلاً هو الإنسان ابن فلان و فلانة المتولّد في زمان كذا و مكان كذا المتقدّم عليه كذا و كذا المقارن لوجوده كذا و كذا من الممكنات.

فهذه هو حقيقة زيد مثلاً و من الضروريّ أنّ ما حقيقته ذلك لا تتوقّف على شي‏ء غير الواجب فالواجب هو علّته التامّة الّتي لا توقّف له على غيره، و لا حاجة له إلى غير مشيّته، و قدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة و لا مقيّدة، و هو قوله تعالى:( يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) .

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ اللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يريد آية النور و ما يتلوها المبيّنة لصفة نوره تعالى و الصراط المستقيم سبيله الّتي لا سبيل للغضب و الضلال إلى من اهتدى إليها كما قال:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ ) الحمد: ٧، و قد تقدّم الكلام فيه في تفسير سورة الحمد.

و تذييل الآية بقوله:( وَ اللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هو الموجب لعدم تقييد قوله:( لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ ) بلفظة إليكم بخلاف قوله قبل آيات:( لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) .

إذ لو قيل: لقد أنزلنا إليكم آيات مبيّنات و الله يهدي. تبادر إلى الذهن أنّ البيان اللفظيّ هداية إلى الصراط المستقيم و أنّ المخاطبين عامّة مهديّون إلى الصراط المستقيم و فيهم المنافق و الّذين في قلوبهم مرض و الله العالم.

١٥٠

( بحث روائي)

في التوحيد، بإسناده عن العبّاس بن هلال قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) فقال: هاد لأهل السماوات و هاد لأهل الأرض.

و في رواية البرقيّ: هدى من في السماوات و هدى من في الأرض.

أقول: إذا كان المراد بالهداية الهداية الخاصّة و هي الهداية إلى السعادة الدينيّة كان من التفسير بمرتبة من المعنى، و إن كان المراد بها الهداية العامّة و هي إيصال كلّ شي‏ء إلى كماله انطبق على ما تقدّم.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن جرير قال: سألتني امرأة أن اُدخلها على أبي عبداللهعليه‌السلام فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت و معها مولاة لها فقالت له: يا أباعبدالله قول الله:( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) ما عنى بهذا؟ فقال لها: أيّتها المرأة إنّ الله لم يضرب الأمثال للشجر إنّما ضرب الأمثال لبني آدم.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام : في هذه الآية( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) قال: بدأ بنور نفسه( مَثَلُ نُورِهِ ) مثل هداه في قلب المؤمن( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ) و المصباح جوف المؤمن و القنديل قلبه، و المصباح النور الّذي جعله الله في قلبه.

( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ ) قال: الشجرة المؤمن( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) قال: على سواد الجبل لا غربيّة أي لا شرق لها، و لا شرقيّة أي لا غرب لها إذا طلعت الشمس طلعت عليها و إذا غربت غربت عليها( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ) يكاد النور الّذي في قلبه يضي‏ء و إن لم يتكلّم.

( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) فريضة على فريضة، و سنّة على سنّة( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) يهدي الله لفرائضه و سننه من يشاء( وَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ ) فهذا مثل ضربه الله للمؤمن.

١٥١

ثمّ قال: فالمؤمن يتقلّب في خمسة من النور: مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و مصيره يوم القيامة إلى الجنّة نور. قلت لجعفرعليه‌السلام : إنّهم يقولون: مثل نور الربّ. قال: سبحان الله ليس لله مثل، قال الله:( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ) .

أقول: الحديث يؤيّد ما تقدّم في تفسير الآية، و قد اكتفىعليه‌السلام في تفسير بعض فقرات الآية بذكر بعض المصاديق كالّذي ذكره في ذيل قوله:( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ) و قوله:( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) .

و أمّا قوله:( سبحان الله ليس لله مثل ) فإنّما ينفي به أن يكون المثل مثلاً للنور الّذي هو اسمه تعالى المحمول عليه فكونه مثلاً له تعالى يؤدّي إلى الحلول أو الانقلاب تعالى عن ذلك بل هو مثل لنوره المفاض على السماوات و الأرض، و أمّا الضمير في قوله:( مَثَلُ نُورِهِ ) فلا ضير في رجوعه إليه تعالى مع الاحتفاظ على المعنى الصحيح.

و في التوحيد، و قد روي عن الصادقعليه‌السلام : أنّه سئل عن قول الله عزّوجلّ:( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ) فقال: هو مثل ضربه الله لنا فالنبيّ و الأئمّة صلوات الله عليهم من دلالات الله و آياته الّتي يهتدى بها إلى التوحيد و مصالح الدين و شرائع الإسلام و السنن و الفرائض، و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

أقول: الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق و هو من أفضل المصاديق و هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الطاهرون من أهل بيتهعليهم‌السلام و إلّا فالآية تعمّ بظاهرها غيرهم من الأنبياءعليهم‌السلام و الأوصياء و الأولياء.

نعم ليست الآية بعامّة لجميع المؤمنين لأخذها في وصفهم صفات لا تعمّ الجميع كقوله:( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) إلخ.

و قد وردت عدّة من الأخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على

١٥٢

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أهل بيتهعليهم‌السلام و هي من التطبيق دون التفسير، و من الدليل على ذلك اختلافها في نحو التطبيق‏ كرواية الكلينيّ في روضة الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام و فيها: أنّ المشكاة قلب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و المصباح النور الّذي فيه العلم، و الزجاجة عليّ أو قلبه، و الشجرة المباركة الزيتونة الّتي لا شرقيّة و لا غربيّة إبراهيمعليه‌السلام ما كان يهوديّاً و لا نصرانيّاً، و قوله:( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ) إلخ، يكاد أولادهم أن يتكلّموا بالنبوّة و إن لم ينزل عليهم ملك.

و ما رواه في التوحيد، بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقرعليه‌السلام و فيه: أنّ المشكاة نور العلم في صدر النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسّلم)، و الزجاجة صدر عليّ( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ) يكاد العالم من آل محمّد يتكلّم بالعلم قبل أن يسأل( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) إمام مؤيّد بنور العلم و الحكمة في إثر الإمام من آل محمّد.

و ما في الكافي، بإسناده عن صالح بن سهل الهمدانيّ عن الصادقعليه‌السلام و فيه: أنّ المشكاة فاطمةعليها‌السلام ، و المصباح الحسنعليه‌السلام ، و الزجاجة الحسينعليه‌السلام ، و الشجرة المباركة إبراهيمعليه‌السلام ، و( لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) ما كان يهوديّاً و لا نصرانيّاً، و( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) إمام بعد إمام، و( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) يهدي الله للأئمّةعليهم‌السلام من يشاء.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) قال: قلب إبراهيم لا يهوديّ و لا نصرانيّ.

أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و قد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كما تقدّم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريدة قالا: قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبوبكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت عليّ و فاطمة؟ قال: نعم من أفاضلها.

١٥٣

أقول: و رواه في المجمع، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلاً، و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره بإسناده‏ عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام و لفظه: قال: هي بيوت الأنبياء و بيت عليّعليه‌السلام منها. و هو على أيّ حال من قبيل ذكر بعض المصاديق على ما تقدّم.

و في نهج البلاغة من كلام لهعليه‌السلام عند تلاوته( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) و إنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً فلم يشغلهم تجارة و لا بيع عنه يقطعون به أيّام الحياة، و يهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط و يأتمرون به و ينهون عن المنكر و ينتهون عنه.

كأنّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنّما اطّلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، و حقّقت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون.

و في المجمع في قوله تعالى:( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ ) و روي عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام : أنّهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة و انطلقوا إلى الصلاة و هم أعظم أجراً ممّن لم يتّجر.

أقول: أي لم يتّجر و اشتغل بذكر الله كما في روايات اُخر.

و في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه و غيره عن أبي هريرة و أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله تعالى:( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) قال: هم الّذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله.

أقول: كأنّ الرواية غير تامّة و تمامها فيما روي عن ابن عبّاس قال: كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون و يبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم و قاموا إلى المسجد فصلّوا.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ اللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ) و سئل أميرالمؤمنينعليه‌السلام : كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة.

و في روضة الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله عن أبيه عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله عزّوجلّ جعل السحاب

١٥٤

غرابيل المطر هي تذيب البرد حتّى يصير ماء لكي لا يضرّ شيئاً يصيبه، و الّذي ترون فيه من البرد و الصواعق نقمة من الله عزّوجلّ يصيب بها من يشاء من عباده.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ ) قال: على رجلين الناس، و على بطنه الحيّات، و على أربع البهائم، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : و منهم من يمشي على أكثر من ذلك.

١٥٥

( سورة النور الآيات ٤٧ - ٥٧)

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ  وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ( ٤٨ ) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ  بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٥٠ ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥١ ) وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٥٢ ) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ  قُل لَّا تُقْسِمُوا  طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ  إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ٥٣ ) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ  فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ  وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا  وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( ٥٤ ) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا  يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا  وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٥٥ ) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٥٦ ) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ  وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ  وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٥٧ )

١٥٦

( بيان)

تتضمّن الآيات افتراض طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنّها لا تفارق طاعة الله تعالى، و وجوب الرجوع إلى حكمه و قضائه و أنّ الإعراض عنه آية النفاق، و تختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين و إيعاد للكافرين.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) إلخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الإيمان و الطاعة أوّلاً ثمّ تولّوا ثانياً فالإيمان بالله هو العقد على توحيده و ما شرع من الدين، و الإيمان بالرسول هو العقد على كونه رسولاً مبعوثاً من عند ربّه أمره أمره و نهيه نهيه و حكمه حكمه من غير أن يكون له من الأمر شي‏ء، و طاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، و طاعة الرسول الايتمار و الانتهاء عند أمره و نهيه و قبول ما حكم به و قضى عليه.

فالإيمان بالله و طاعته موردهما نفس الدين و التشرّع به، و الإيمان بالرسول و طاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنّه يخبر به و ما حكم به و قضى عليه في المنازعات و الانقياد له في ذلك كلّه.

فبين الإيمانين و الطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد و ضيقه، و يشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل:( آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ ) فاُشير إلى تعدّد الإيمان و الطاعة و لم يقل: آمنّا بالله و الرسول بحذف الباء، و الإيمانان مع ذلك متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، قال تعالى:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَ رُسُلِهِ ) النساء: ١٥٠.

فقوله:( وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ) أي عقدنا القلوب على دين الله و تشرّعنا به و على أنّ الرسول لا يخبر إلّا بالحقّ و لا يحكم إلّا بالحقّ.

و قوله:( ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) أي ثمّ يعرض طائفة من هؤلاء القائلين:( آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ) عن مقتضى قولهم من بعد ما قالوا ذلك.

و قوله:( وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) أي ليس اُولئك القائلون بالمؤمنين، و المشار

١٥٧

إليه باسم الإشارة القائلون جميعاً لا خصوص الفريق المتولّين على ما يعطيه السياق لأنّ الكلام مسوق لذمّ الجميع.

قوله تعالى: ( وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) يشهد سياق الآية أنّ الآيات إنّما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منازعة وقعت بينه و بين غيره فأبى الرجوع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في ذلك نزلت الآيات.

و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) النساء: ١٠٥. فللحكم نسبة إليه بالمباشرة و نسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته و بنصبه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحكم و القضاء.

و بذلك يظهر أنّ المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، و بالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضى عليه بالمباشرة، و أنّ الظاهر أنّ ضمير( لِيَحْكُمَ ) للرسول، و إنّما اُفرد الفاعل و لم يثنّ إشارة إلى أنّ حكم الرسول حكمه تعالى.

و الآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاصّ بالنسبة إلى العامّ فهي تقصّ إعراضنا معيّناً منهم و الإعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) الإذعان الانقياد، و ظاهر السياق و خاصّة قوله:( يَأْتُوا إِلَيْهِ ) أنّ المراد بالحقّ حكم الرسول بدعوى أنّه حقّ لا ينفكّ عنه، و المعنى و إن يكن الحقّ الّذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلّا لكونه عليهم لا لهم، و لازم ذلك أنّهم يتّبعون الهوى و لا يريدون اتّباع الحقّ.

قوله تعالى: ( أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ ) إلى آخر الآية. الحيف الجور.

و ظاهر سياق الآيات أنّ المراد بمرض القلوب ضعف الإيمان كما في قوله

١٥٨

تعالى:( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) الأحزاب: ٣٢، و قوله:( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ) الأحزاب: ٦٠، و غير ذلك من الآيات.

و أمّا كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسّر به فيدفعه قوله في صدر الآيات:( وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) فإنّه حكم بنفاقهم، و لا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثمّ الإضراب عنه بقوله:( بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

و قوله:( أَمِ ارْتابُوا ) ظاهر إطلاق الارتياب و هو الشكّ أن يكون المراد هو شكّهم في دينهم بعد الإيمان دون الشكّ في صلاحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحكم أو عدله و نحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة.

و قوله:( أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ) أي أم يعرضون عن ذلك لأنّهم يخافون أن يجور الله عليهم و رسوله لكون الشريعة الإلهيّة الّتي يتّبعها حكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبنيّة على الجور و إماتة الحقوق الحقّة، أو لكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يراعي الحقّ في قضائه.

و قوله:( بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) إضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة و ذلك أنّ سبب إعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو ارتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحقّ لهم بل كانوا يعرضون كان الحقّ لهم أو عليهم، و أمّا الخوف من أن يحيف الله عليهم و رسوله فلا موجب له فالله بري‏ء من الحيف و رسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله و رسوله إلّا لكونهم حقّ عليهم أنّهم ظالمون.

و الظاهر أنّ المراد بالظلم التعدّي عن طور الإيمان مع الإقرار به قولاً كما قال آنفاً:( وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) أو خصوص التعدّي إلى الحقوق غير الماليّة، و لو كان المراد مطلق الظلم لم يصحّ الإضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لأنّها من مطلق الظلم و يدلّ عليه أيضاً الآية التالية.

و قد بان بما تقدّم أنّ الترديد في أسباب الإعراض على تقدير عدم النفاق بين الاُمور الثلاثة حاصر و الأقسام متغايرة فإنّ محصّل المعنى أنّهم منافقون غير

١٥٩

مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم إمّا لضعف إيمانهم و إمّا لزواله بالارتياب و إمّا للخوف من غير سبب يوجبه فإنّ الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنّما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه و ميله عن الحقّ إلى الباطل و لا يحتمل ذلك في حكم الله و رسوله.

و قد طال البحث في كلامهم عمّا في الآية من الترديد و الإضراب و لعلّ فيما ذكرناه كفاية، و من أراد أزيد من ذلك فليراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) إلى آخر الآية سياق قوله:( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ) و قد اُخذ فيه( كانَ ) و وصف الإيمان في( الْمُؤْمِنِينَ ) يدلّ على أنّ ذلك من مقتضيات طبيعة الإيمان فإنّ مقتضى الإيمان بالله و رسوله و عقد القلب على اتّباع ما حكم به الله و رسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله و رسوله دون الردّ.

و على هذا فالمراد بقوله:( إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ) دعوة بعض الناس ممّن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله و رسوله ليحكم بينهم، و يدلّ عليه تصدير الجملة بلفظة( إِذا ) و لو كان المراد به دعوة الله و رسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله و رسوله كان ذلك حكماً مؤبّداً لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان.

و بذلك يظهر ضعف ما قيل: إنّ فاعل( دُعُوا ) المحذوف هو الله و رسوله، و المعنى: إذا دعاهم الله و رسوله. نعم مرجع الدعوة بآخره إلى دعوة الله و رسوله.

و كيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله و رسوله في قولهم: سمعنا و أطعنا و هو سمع و طاعة للدعوة الإلهيّة سواء فرض الداعي هو أحد المتنازعين للآخر أو فرض الداعي هو الله و رسوله أو كان المراد هو السمع و الطاعة لحكم الله و رسوله و إن كان بعيداً.

و انحصار قول المؤمنين عند الدعوة في( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) يوجب كون الردّ للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعدّياً عن طور الإيمان، كما يفيده قوله:

١٦٠