الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 111862
تحميل: 4253


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111862 / تحميل: 4253
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) على ما تقدّم، فتكون الآية في مقام التعليل للإضراب في ذيل الآية السابقة.

و قد ختمت الآية بقوله:( وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) و فيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) ورود الآية في سياق الآيات السابقة و انضمامها إلى سابقتها يعطي أنّها في مقام التعليل - كالكبرى الكلّيّة - للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله و رسوله بالسمع و الطاعة بقيد الإيمان كأنّه قيل: إنّما أفلح من أجاب إلى حكم الله و رسوله و هو مؤمن لأنّه مطيع لله و لرسوله و هو مؤمن حقّاً في باطنه خشية الله و في ظاهره تقواه و من يطع الله و رسوله فيما قضي عليه و يخش الله و يتّقه فاُولئك هم الفائزون، و الفوز هو الفلاح.

و تشمل الآية الداعي إلى حكم الله و رسوله من المتنازعين كما يشمل المدعوّ منهما إذا أجاب بالسمع و الطاعة ففيها زيادةً على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي و المدعوّ جميعاً.

قوله تعالى: ( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) إلى آخر الآية الجهد الطاقة، و التقدير في قوله:( أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ‏ ) أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم و المراد أقسموا بأغلظ أيمانهم.

و الظاهر أنّ المراد بقوله:( لَيَخْرُجُنَ) الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدّة من الآيات كقوله:( وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا ) التوبة: ٤٧.

و قوله:( قُلْ لا تُقْسِمُوا ) نهي عن الإقسام، و قوله:( طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) خبر لمبتدإ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج و الجملة في مقام التعليل للنهي عن الإقسام و لذا جي‏ء بالفصل، و قوله:( إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ‏ ) من تمام التعليل.

و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد

١٦١

ليخرجنّ قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين - و هو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلّظ - و إن تكونوا تقسمون لأجل أن ترضوا الله و رسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغرّه إغلاظكم في الإيمان.

و قيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم و أموالهم لو حكم الرسول بذلك، و قوله:( طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) مبتدأ لخبر محذوف، و التقدير: طاعة معروفة للنبيّ خير من إقسامكم، و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ الأيمان لئن أمرتهم و حكمت عليهم في منازعاتهم بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجنّ منها قل لهم: لا تقسموا لأنّ طاعة حسنة منكم للنبيّ خير من إقسامكم بالله و الله خبير بما تعملون.

و فيه أنّ هذا المعنى و إن كان يؤكّد اتّصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى السابق لكنّه لا يلائم التصريح السابق بردّهم الدعوة إلى الله و رسوله ليحكم بينهم لأنّهم إذ كانوا تولّوا و أعرضوا عن حكم الله و رسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجنّ و هو ظاهر، اللّهمّ إلّا أن يكون المقسمون فريقاً آخر منهم غير الرادّين للدعوة المعرضين عن الحكم، و حينئذ كان حمل( لَيَخْرُجُنَ) على هذا المعنى لا دليل يدلّ عليه.

قوله تعالى: ( قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) إلى آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين، و أمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربّهم و يأمرهم به في أمر دينهم و دنياهم، و تصدير الكلام بقوله:( قُلْ ) إشارة إلى أنّ الطاعة جميعا لله، و قد أكّده بقوله:( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) دون أن يقول: و أطيعوني لأنّ طاعة الرسول بما هو طاعة الرسول طاعة المرسل، و بذلك تتمّ الحجّة.

و لذلك عقّب الكلام:

أوّلاً بقوله:( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) أي فإن تتولّوا و تعرضوا عن طاعة الرسول لم يضرّ ذلك الرسول فإنّما عليه ما حمّل من التكليف و لا يمسّكم منه شي‏ء و عليكم ما حمّلتم من التكليف و لا يمسّه منه شي‏ء فإنّ

١٦٢

الطاعة جميعاً لله سبحانه.

و ثانياً بقوله:( وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ) أي و إن كان لكلّ منكم و منه ما حمّل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لأنّ ما يجي‏ء به إليكم و ما يأمركم به من الله و بأمره و الطاعة لله و فيه الهداية.

و ثالثاً بقوله:( وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) و هو بمنزلة التعليل لما تقدّمه أي إنّ ما حمّله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلّغ و إذ كان رسولاً لم يحتمل إلّا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله و في طاعة من أرسله و هو الله سبحانه اهتداؤكم.

قوله تعالى: ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إلى آخر الآية.

ظاهر وقوع الآية موقعها أنّها نزلت في ذيل الآيات السابقة من السورة و هي مدنيّة و لم تنزل بمكّة قبل الهجرة على ما يؤيّد سياقها و خاصّة ذيلها.

فالآية - على هذا - وعد جميل للّذين آمنوا و عملوا الصالحات أنّ الله تعالى سيجعل لهم مجتمعاً صالحاً يخصّ بهم فيستخلفهم في الأرض و يمكّن لهم دينهم و يبدلهم من بعد خوفهم أمنا لا يخافون كيد منافق و لا صدّ كافر يعبدونه لا يشركون به شيئاً.

فقوله:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) من فيه تبعيضيّة لا بيانيّة و الخطاب لعامّة المسلمين و فيهم المنافق و المؤمن و في المؤمنين منهم من يعمل الصالحات و من لا يعمل الصالحات و الوعد خاصّ بالّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات محضاً.

و قوله:( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الإلهيّة كما ورد في آدم و داود و سليمانعليهم‌السلام قال تعالى:( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة: ٣٠ و قال:( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) ص: ٢٦ و قال:( وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) النمل: ١٦ فالمراد

١٦٣

بالّذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه و أوليائه و لا يخلو من بعد كما سيأتي.

و إن كان المراد به إيراث الأرض و تسليط قوم عليها بعد قوم كما قال:( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) الأعراف: ١٢٨ و قال:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء: ١٠٥ فالمراد بالّذين من قبلهم المؤمنون من اُمم الأنبياء الماضين الّذين أهلك الله الكافرين و الفاسقين منهم و نجّى الخلّص من مؤمنيهم كقوم نوح و هود و صالح و شعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ ) إبراهيم ١٤ فهؤلاء الّذين أخلصوا لله فنجّاهم فعقدوا مجتمعاً صالحاً و عاشوا فيه حتّى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.

و أمّا قول من قال: إنّ المراد بالّذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون و جنوده فأورثهم أرض مصر و الشام و مكّنهم فيها كما قال تعالى فيهم:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) القصص: ٦.

ففيه أنّ المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون و جنوده لم يصف من الكفر و النفاق و الفسق و لم يخلص للّذين آمنوا و عملوا الصالحات و لا حيناً على ما ينصّ عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة و لا وجه لتشبيه استخلاف الّذين آمنوا و عملوا الصالحات باستخلافهم و فيهم الكافر و المنافق و الطالح و الصالح.

و لو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الّذين من قبلهم - و هم بنوإسرائيل - كيفما كان لم يحتج إلى إشخاص المجتمع الإسرائيليّ للتشبيه به و في زمن نزول الآية و قبل ذلك اُمم أشدّ قوّة و أكثر جمعاً منهم كالروم و الفرس و كلدة و غيرهم و قد قال تعالى في عاد الاُولى و ثمود:( إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) الأعراف: ٦٩ و قال:( إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ ) الأعراف: ٧٤ و قد خاطب بذلك الكفّار من هذه الاُمّة فقال:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ

١٦٤

الْأَرْضِ ) الأنعام: ١٦٥ و قال:( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) فاطر: ٣٩.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التشبيه ببني إسرائيل ثمّ يؤدّى حقّ هذا المجتمع الصالح بما يعقّبه من قوله:( وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ) إلى آخر الوعد؟

قلت: نعم و لكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل لأن يشبّه به و أن يكون المراد بالّذين من قبلهم بني إسرائيل فقط كما تقدّم.

و قوله:( وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ ) تمكين الشي‏ء إقراره في مكان و هو كناية عن ثبات الشي‏ء من غير زوال و اضطراب و تزلزل بحيث يؤثّر أثره من غير مانع و لا حاجز فتمكّن الدين هو كونه معمولاً به في المجتمع من غير كفر به و استهانة بأمره و مأخوذاً باُصول معارفه من غير اختلاف و تخاصم و قد حكم الله سبحانه في مواضع من كلامه أنّ الاختلاف في الدين من بغي المختلفين كقوله:( وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) البقرة: ٢١٣.

و المراد بدينهم الّذي ارتضى لهم دين الإسلام و أضاف الدين إليهم تشريفاً لهم و لكونه من مقتضى فطرتهم.

و قوله:( وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ) هو كقوله:( وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ ) عطف على قوله:( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) و أصل المعنى و ليبدّلنّ خوفهم أمناً فنسبة التبديل إليهم إمّا على المجاز العقليّ أو على حذف مضاف يدلّ عليه قوله:( مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ ) و التقدير و ليبدّلنّ خوفهم أو كون( أَمْناً ) بمعنى آمين.

و المراد بالخوف على أيّ حال ما كان يقاسيه المؤمنون في صدر الإسلام من الكفّار و المنافقين.

و قوله:( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) الأوفق بالسياق أن يكون حالاً من ضمير( وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ ) أي و ليبدّلنّ خوفهم أمناً في حال يعبدونني لا يشركون بي شيئاً.

و الالتفات في الكلام من الغيبة إلى التكلّم و تأكيد( يَعْبُدُونَنِي ) بقوله:

١٦٥

( لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) و وقوع النكرة - شيئاً - في سياق النفي الدالّ على نفي الشرك على الإطلاق كلّ ذلك يقضي بأنّ المراد عبادتهم لله عبادة خالصة لا يداخلها شرك جليّ أو خفيّ و بالجملة يبدّل الله مجتمعهم مجتمعاً آمناً لا يعبد فيه إلّا الله و لا يتّخذ فيه ربّ غيره.

و قوله:( وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) ظاهر السياق كون( ذلِكَ ) إشارة إلى الموعود و الأنسب على ذلك كون( كَفَرَ ) من الكفران مقابل الشكر و المعنى و من كفر و لم يشكر الله بعد تحقّق هذا الوعد بالكفر أو النفاق أو سائر المعاصي الموبقة فاُولئك هم الفاسقون الكاملون في الفسق و هو الخروج عن زيّ العبوديّة.

و قد اشتدّ الخلاف بين المفسّرين في الآية.

فقيل إنّها واردة في أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد أنجز الله وعده لهم باستخلافهم في الأرض و تمكين دينهم و تبديل خوفهم أمناً بما أعزّ الإسلام بعد رحلة النبيّ في أيّام الخلفاء الراشدين و المراد باستخلافهم استخلاف الخلفاء الأربعة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الثلاثة الُول منهم و نسبة الاستخلاف إلى جميعهم مع اختصاصه ببعضهم و هم الأربعة أو الثلاثة من قبيل نسبة أمر البعض إلى الكلّ كقولهم: قتل بنو فلان و إنّما قتل بعضهم.

و قيل: هي عامّة لاُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد باستخلافهم و تمكين دينهم و تبديل خوفهم أمناً إيراثهم الأرض كما أورثها الله الاُمم الّذين كانوا قبلهم أو استخلاف الخلفاء بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على اختلاف التقرير - و تمكين الإسلام و انهزام أعداء الدين و قد أنجز الله وعده بما نصر الإسلام و المسلمين بعد الرحلة ففتحوا الأمصار و سخّروا الأقطار.

و على القولين الآية من ملاحم القرآن حيث أخبر بأمر قبل أوان تحقّقه و لم يكن‏ مرجوّا ذلك يومئذ.

و قيل: إنّها في المهديّ الموعودعليه‌السلام الّذي تواترت الأخبار على أنّه سيظهر

١٦٦

فيملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً و إنّ المراد بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام .

و الّذي يعطيه سياق الآية الكريمة على ما تقدّم من البحث بالتحرّز عن المسامحات الّتي ربّما يرتكبها المفسّرون في تفسير الآيات هو أنّ الوعد لبعض الاُمّة لا لجميعها و لا لأشخاص خاصّة منهم و هم الّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات فالآية نصّ في ذلك و لا قرينة من لفظ أو عقل يدلّ على كونهم هم الصحابة أو النبيّ و أئمّة أهل البيت عليهم الصلاة و السلام و لا على أنّ المراد بالّذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات جميع الاُمّة و إنّما صرف الوعد إلى طائفة خاصّة منهم تشريفاً لهم أو لمزيد العناية بهم فهذا كلّه تحكّم من غير وجه.

و المراد باستخلافهم في الأرض كما استخلف الّذين من قبلهم عقد مجتمع مؤمن صالح منهم يرثون الأرض كما ورثها الّذين من قبلهم من الاُمم الماضين اُولي القوّة و الشوكة و هذا الاستخلاف قائم بمجتمعهم الصالح من دون أن يختصّ به أشخاص منهم كما كان كذلك في الّذين من قبلهم و أمّا إرادة الخلافة الإلهيّة بمعنى الولاية على المجتمع كما كان لداود و سليمان و يوسفعليهم‌السلام و هي السلطنة الإلهيّة فمن المستبعد أن يعبّر عن أنبيائه الكرام بلفظ( الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) و قد وقعت هذه اللفظة أو ما بمعناها في أكثر من خمسين موضعاً من كلامه تعالى و لم يقصد و لا في واحد منها الأنبياء الماضون مع كثرة ورود ذكرهم في القرآن نعم ذكرهم الله بلفظ( رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) أو( رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي ) أو نحوهما بالإضافة إلى الضمير الراجع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و المراد بتمكين دينهم الّذي ارتضى لهم كما مرّ ثبات الدين على ساقه بحيث لا يزلزله اختلافهم في اُصوله و لا مساهلتهم في إجراء أحكامه و العمل بفروعه و خلوص المجتمع من وصمة النفاق فيه.

و المراد من تبديل خوفهم أمناً انبساط الأمن و السلام على مجتمعهم بحيث لا يخافون عدوّاً في داخل مجتمعهم أو خارجه متجاهراً أو مستخفياً على دينهم

١٦٧

أو دنياهم.

و قول بعضهم: إنّ المراد الخوف من العدوّ الخارج من مجتمعهم كما كان المسلمون يخافون الكفّار و المشركين القاصدين إطفاء نور الله و إبطال الدعوة.

تحكّم مدفوع بإطلاق اللفظ من غير قرينة معيّنة للمدّعي على أنّ الآية في مقام الامتنان و أيّ امتنان على قوم لا عدوّ يقصدهم من خارج و قد أحاط بمجتمعهم الفساد و عمّته البليّة لا أمن لهم في نفس و لا عرض و لا مال الحرّيّة فيه للقدرة الحاكمة و السبق فيه للفئة الباغية.

و المراد بكونهم يعبدون الله لا يشركون به شيئاً ما يعطيه حقيقة معنى اللفظ و هو عموم إخلاص العبادة و انهدام بنيان كلّ كرامة إلّا كرامة التقوى.

و المتحصّل من ذلك كلّه أنّ الله سبحانه يعد الّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات أن سيجعل لهم مجتمعاً صالحاً خالصاً من وصمة الكفر و النفاق و الفسق يرث الأرض لا يحكم في عقائد أفراده عامّة و لا أعمالهم إلّا الدين الحقّ يعيشون آمنين من غير خوف من عدوّ داخل أو خارج، أحراراً من كيد الكائدين و ظلم الظالمين و تحكّم المتحكّمين.

و هذا المجتمع الطيّب الطاهر على ما له من صفات الفضيلة و القداسة لم يتحقّق و لم ينعقد منذ بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذا، و إن انطبق فلينطبق على زمن ظهور المهديّعليه‌السلام على ما ورد من صفته في الأخبار المتواترة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام لكن على أن يكون الخطاب للمجتمع الصالح لا لهعليه‌السلام وحده.

فإن قلت: ما معنى الوعد حينئذ للّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات و ليس المهديّعليه‌السلام أحد المخاطبين حين النزول و لا واحد من أهل زمان ظهوره بينهم؟

قلت: فيه خلط بين الخطابات الفرديّة و الاجتماعيّة أعني الخطاب المتوجّه إلى أشخاص القوم بما هم أشخاص بأعيانهم و الخطاب المتوجّه إليهم بما هم قوم على نعت كذا فالأوّل لا يتعدّى إلى غير أشخاصهم و لا ما تضمّنه من وعد أو وعيد أو غير ذلك يسري إلى غيرهم و الثاني يتعدّى إلى كلّ من اتّصف بما ذكر فيه من الوصف

١٦٨

و يسري إليه ما تضمّنه من الحكم، و خطاب الآية من القبيل الثاني على ما تقدّم.

و من هذا القبيل أغلب الخطابات القرآنيّة المتوجّهة إلى المؤمنين و الكفّار، و منه الخطابات الذامّة لأهل الكتاب و خاصّة اليهود بما فعله أسلافهم و للمشركين بما صنعه آباؤهم.

و من هذا القبيل خاصّة ما ذكر من الوعد في قوله تعالى:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ) الإسراء: ٧ فإنّ الموعودين لم يعيشوا إلى زمن إنجاز هذا الوعد، و نظيره الوعد المذكور في قول ذي القرنين على ما حكاه الله:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) الكهف: ٩٨، و كذا وعده تعالى الناس بقيام الساعة و انطواء بساط الحياة الدنيا بنفخ الصور كما قال:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: ١٨٧، فوعد الصالحين من المؤمنين بعنوان أنّهم مؤمنون صالحون بوعد لا يدركه أشخاص زمان النزول بأعيانهم و لما يوجد أشخاص المجتمع الّذي يدرك إنجاز الوعد ممّا لا ضير فيه البتّة.

فالحقّ أنّ الآية إن اُعطيت حقّ معناها لم تنطبق إلّا على المجتمع الموعود الّذي سينعقد بظهور المهديّعليه‌السلام و إن سومح في تفسير مفرداتها و جملها و كان المراد باستخلاف الّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات استخلاف الاُمّة بنوع من التغليب و نحوه، و بتمكين دينهم الّذي ارتضاه لهم كونهم معروفين في الدنيا بالاُمّة المسلمة و عدّهم الإسلام ديناً لهم و إن تفرّقوا فيه ثلاثاً و سبعين فرقة يكفّر بعضهم بعضاً و يستبيح بعضهم دماء بعض و أعراضهم و أموالهم، و بتبديل خوفهم أمناً يعبدون الله و لا يشركون به شيئاً عزّة الاُمّة و شوكتها في الدنيا و انبساطها على معظم المعمورة و ظواهر ما يأتون به من صلاة و صوم و حجّ و إن ارتحل الأمن من بينهم أنفسهم و ودّعهم الحقّ و الحقيقة، فالوجه أنّ الموعود بهذا الوعد الاُمّة، و المراد باستخلافهم ما رزقهم الله من العزّة و الشوكة بعد الهجرة إلى ما بعد الرحلة و لا موجب لقصر ذلك في زمن الخلفاء الراشدين بل يجري فيما بعد ذلك إلى زمن انحطاط الخلافة الإسلاميّة.

١٦٩

و أمّا تطبيق الآية على خلافة الخلفاء الراشدين أو الثلاثة الاُول أو خصوص عليّعليه‌السلام فلا سبيل إليه البتّة.

قوله تعالى: ( وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) مناسبة مضمون الآية لما سيقت لبيانه الآيات السابقة تعطي أنّها من تمامها.

فقوله:( وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ) أمر في الحقيقة بطاعته تعالى فيما شرعه لعباده، و تخصيص الصلاة و الزكاة بالذكر لكونهما ركنين في التكاليف الراجعة إلى الله تعالى و إلى الخلق، و قوله:( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) إنفاذ لولايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القضاء و الحكومة.

و قوله:( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) تعليل للأمر بما في المأمور به من المصلحة، و المعنى - على ما يعطيه السياق -: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإنّ في هاتين الطاعتين رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهيّة فينجز لكم وعده أو يعجّل لكم إنجازه فإنّ ارتفاع النفاق من بين المسلمين و عموم الصلاح و الاتّفاق على كلمة الحقّ مفتاح انعقاد مجتمع صالح يدرّ عليهم بكلّ خير.

قوله تعالى: ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) من تمام الآيات السابقة، و فيها تأكيد ما مرّ من وعد الاستخلاف في الأرض و تمكين الدين و تبديل الخوف أمناً.

يخاطب تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الوعد - بخطاب مؤكّد - أن لا يظنّ أنّ الكفّار معجزون لله في الأرض فيمنعونه بما عندهم من القوّة و الشوكة من أن ينجز وعده، و هذا في الحقيقة بشرى خاصّة بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أكرم به اُمّته و أنّ أعداءه سينهزمون و يغلبون و لذلك خصّه بالخطاب على طريق الالتفات.

و لكون النهي المذكور في معنى أنّ الكفّار سينتهون عن معارضة الدين و أهله عطف عليه قوله:( وَ مَأْواهُمُ النَّارُ ) إلخ، كأنّه قيل: هم مقهورون في الدنيا و مسكنهم النار في الآخرة و بئس المصير.

١٧٠

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ ) الآيات قيل: نزلت الآيات في رجل من المنافقين كان بينه و بين رجل من اليهود حكومة فدعاه اليهوديّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف.

و حكى البلخيّ أنّه كانت بين عليّ و عثمان منازعة في أرض اشتراها من عليّ فخرجت فيها أحجار و أراد ردّها بالعيب فلم يأخذها فقال: بيني و بينك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمّه يحكم له فلا تحاكمه إليه فنزلت الآيات، و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام أو قريب منه.

أقول: و في تفسير روح المعاني، عن الضحّاك أنّ النزاع كان بين عليّ و المغيرة بن وائل و ذكر قريباً من القصّة.

و في المجمع في قوله تعالى:( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ) الآية: وروي عن أبي جعفر: أنّ المعنيّ بالآية أميرالمؤمنينعليهما‌السلام .

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) الآية أخرج ابن جرير و ابن قانع و الطبراني عن علقمة بن وائل الحضرميّ عن سلمة بن يزيد الجهنيّ قال: قلت: يا رسول الله أ رأيت إن كان علينا اُمراء من بعدك يأخذونا بالحقّ الّذي علينا و يمنعونا الحقّ الّذي جعله الله لنا نقاتلهم و نبغضهم؟ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليهم ما حمّلوا و عليكم ما حمّلتم.

أقول: و في معناه بعض روايات اُخر مرويّة فيه لكن ينبغي أن لا يرتاب في أنّ الإسلام بما فيه من روح إحياء الحقّ و إماتة الباطل يأبى عن إجازة ولاية الظلمة المتظاهرين بالظلم و إباحة السكوت و تحمّل الضيم و الاضطهاد قبال الطغاة و الفجرة لمن يجد إلى إصلاح الأمر سبيلاً و قد اتّضح بالأبحاث الاجتماعيّة اليوم أنّ استبداد الولاة برأيهم و اتّباعهم لأهوائهم في تحكّماتهم أعظم خطراً و أخبث أثراً من إثارة الفتن و إقامة الحروب في سبيل إلجائهم إلى الحقّ و العدل.

١٧١

و في المجمع في قوله تعالى:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) الآية: و اختلف في الآية و المرويّ عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّها في المهديّ من آل محمّد.

قال: و روى العيّاشيّ بإسناده عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام : أنّه قرأ الآية و قال: هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منّا و هو مهديّ هذه الاُمّة، و هو الّذي قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملاُ الأرض عدلاً و قسطاً كما ملئت ظلماً و جوراً - و روي مثل ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: و بذلك وردت الأخبار عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و قد تقدّم بيان انطباق الآية على ذلك.

و قال في المجمع، بعد نقل الرواية: فعلى هذا يكون المراد بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات النبيّ و أهل بيته عليهم الصلاة و السلام انتهى. و قد عرفت أنّ المراد به عامّ و الرواية لا تدلّ على أزيد من ذلك حيث قالعليه‌السلام : هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منّا الحديث.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن البراء في قوله:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) الآية قال: فينا نزلت و نحن في خوف شديد.

أقول: ظاهره أنّ المراد بالّذين آمنوا الصحابة و قد عرفت أنّ الآية لا دلالة فيها عليه بوجه بل الدلالة على خلافه.

و فيه، أخرج ابن المنذر و الطبرانيّ في الأوسط و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل و الضياء في المختارة عن اُبيّ بن كعب قال: لما قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه المدينة و آوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلّا في السلاح و لا يصبحون إلّا فيه فقالوا: أ ترون أنّا نعيش حتّى نبيت آمنين مطمئنّين لا نخاف إلّا الله فنزلت:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) الآية.

أقول: هو لا يدلّ على أزيد من سبب النزول و أمّا أنّ المراد بالّذين آمنوا

١٧٢

من هم؟ و أنّ الله متى أنجز أو ينجز هذا الوعد؟ فلا تعرّض له به.

و نظيرته روايته الاُخرى: لما نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) الآية قال: بشّر هذه الاُمّة بالسناء و الرفعة و الدين و النصر و التمكين في الأرض فمن عمل منكم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب.

فإنّ تبشير الاُمّة بالاستخلاف لا يستلزم كون المراد بالّذين آمنوا في الآية جميع الاُمّة أو خصوص الصحابة أو نفراً معدوداً منهم.

و في نهج البلاغة في كلام له لعمر لما استشاره لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمّعوا للحرب قالعليه‌السلام : إنّ هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا بقلّة، و هو دين الله الّذي أظهره، و جنده الّذي أعزّه و أيّده حتّى بلغ ما بلغ و طلع حيث طلع، و نحن على موعود من الله تعالى حيث قال عزّ اسمه: وعد الله الّذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض و ليمكّننّ لهم دينهم الّذي ارتضى لهم و ليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمناً.

و الله تعالى منجز وعده و ناصر جنده، و مكان القيّم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرّق و ربّ متفرّق لم يجتمع، و العرب اليوم و إن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطباً و استدر الرحى بالعرب، و أصلهم دونك نار الحرب فإنّك إن شخصت من هذه الأرض تنقّضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك، و كان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك و طمعهم فيك.

فأمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة و إنّما كنّا نقاتل بالنصر و المعونة.

أقول: و قد استدلّ به في روح المعاني، على ما ارتضاه من كون المراد بالاستخلاف في الآية ظهور الإسلام و ارتفاع قدره في زمن الخلفاء الراشدين و هو بمعزل عن

١٧٣

ذلك بل دليل على خلافه، فإنّ ظاهر كلامه أنّ الوعد الإلهيّ لم يتمّ أمر إنجازه بعد و أنّهم يومئذ في طريقه حيث يقول: و الله منجز وعده، و أنّ الدين لم يمكّن بعد و لا الخوف بدّل أمناً و كيف لا؟ و هم بين خوفين خوف من تنقّض العرب من داخل و خوف من مهاجمة الأعداء من خارج.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال: كنت جالساً مع حذيفة و ابن مسعود فقال حذيفة ذهب النفاق إنّما كان النفاق على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و إنّما هو اليوم الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثمّ قال: بم تقول؟ قال: بهذه الآية( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلى آخر الآية.

أقول: ليت شعري أين ذهب منافقو عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ و شواهد الكتاب العزيز و التاريخ تدلّ على أنّهم ما كانوا بأقلّ من ثلث أهل المدينة و معظمهم بها أصدقوا الإسلام يوم رحلتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم تغيّرت آراؤهم في تربّصهم الدوائر و تقليبهم الاُمور؟

١٧٤

( سورة النور الآيات ٥٨ - ٦٤)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ  مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ  ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ  لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ  طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ  كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ  وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٨ ) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ  وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٩ ) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ  وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ  وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٦٠ ) لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ  لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا  فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً  كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٦١ ) إِنَّمَا

١٧٥

الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ  إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ  فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ  إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا  قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا  فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦٣ ) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا  وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٦٤ )

( بيان)

بقيّة الأحكام المذكورة في السورة و تختتم السورة بآخر الآيات و فيها إشارة إلى أنّ الله سبحانه إنّما يشرّع ما يشرّع بعلمه و سيظهر و سينكشف لهم حقيقته حين يرجعون إليه.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) إلى آخر الآية. وضع الثياب خلعها و هو كناية عن كونهم على حال ربّما لا يحبّون أن يراهم عليها الأجنبيّ. و الظهيرة وقت الظهر، و العورة السوأة سمّيت بها لما يلحق الإنسان من انكشافها من العار و كأنّ المراد بها في الآية ما ينبغي ستره.

فقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ، تعقيب لقوله سابقاً:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا ) إلخ، القاضي بتوقّف دخول البيت على الإذن و هو كالاستثناء من عمومه في العبيد و الأطفال بأنّه يكفيهم الاستيذان ثلاث مرّات في اليوم.

و قوله:( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) أي مروهم أن يستأذنوكم للدخول، و ظاهر الّذين ملكت أيمانكم العبيد دون الإماء و إن كان اللفظ لا يأبى

١٧٦

عن العموم بعناية التغليب، و به وردت الرواية كما سيجي‏ء.

و قوله:( وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ) يعني المميّزين من الأطفال قبل البلوغ، و الدليل على تقيّدهم بالتمييز قوله بعد:( ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ) .

و قوله:( ثَلاثَ مَرَّاتٍ ) أي كلّ يوم بدليل تفصيله بقوله:( مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ - أي وقت الظهر -وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ) ، و قد أشار إلى وجه الحكم بقوله:( ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ) أي الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم لا ينبغي بالطبع أن يطّلع عليكم فيها غيركم.

و قوله:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ ) أي لا مانع لكم من أن لا تأمروهم بالاستيذان و لا لهم من أن لا يستأذنوكم في غير هذه الأوقات، و قد أشار إلى جهة نفي الجناح بقوله:( طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) أي هم كثير الطوف عليكم بعضكم يطوف على بعض للخدمة فالاستيذان كلّما دخل حرج عادة فليكتفوا فيه بالعورات الثلاث.

ثمّ قال:( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ) أي أحكام دينه الّتي هي آيات دالّة عليه( وَ اللهُ عَلِيمٌ ) يعلم أحوالكم و ما تستدعيه من الحكم( حَكِيمٌ ) يراعي مصالحكم في أحكامه.

قوله تعالى: ( وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ) إلخ، بيان أنّ حكم الاستيذان ثلاث مرّات في الأطفال مغيّى بالبلوغ فإذا بلغ الأطفال منكم الحلم بأن بلغوا فليستأذنوا كما استأذن الّذين من قبلهم و هم البالغون من الرجال و النساء الأحرار( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ) إلى آخر الآية. القواعد جمع قاعدة و هي المرأة الّتي قعدت عن النكاح فلا ترجوه لعدم الرغبة في مباشرتها لكبرها، فقوله:( اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ) وصف توضيحيّ، و قيل: هي الّتي يئست من الحيض، و الوصف احترازيّ.

و في المجمع: التبرّج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، و أصله

١٧٧

الظهور و منه البرج البناء العالي لظهوره.

و الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب، و المعنى: و الكبائر المسنّة من النساء فلا بأس عليهنّ أن لا يحتجبن حال كونهنّ غير متبرّجات بزينة.

و قوله:( وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) كناية عن الاحتجاب أي الاحتجاب خير لهنّ من وضع الثياب، و قوله:( وَ اللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) تعليل لما شرع بالاسمين أي هو تعالى سميع يسمع ما يسألنه بفطرتهنّ عليم يعلم ما يحتجن إليه من الأحكام.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ - إلى قوله -أَوْ صَدِيقِكُمْ ) ظاهر الآية أنّ فيها جعل حقّ للمؤمنين أن يأكلوا من بيوت قراباتهم أو الّتي ائتمنوا عليها أو بيوت أصدقائهم فهم مأذونون في أن يأكلوا منها بمقدار حاجتهم من غير إسراف و إفساد.

فقوله:( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ - إلى قوله -وَ لا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) في عطف( عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) على ما تقدّمه دلالة على أنّ عدّ المذكورين ليس لاختصاص الحقّ بهم بل لكونهم أرباب عاهات يشكل عليهم أن يكتسبوا الرزق بعمل أنفسهم أحياناً و إلّا فلا فرق بين الأعمى و الأعرج و المريض و غيرهم في ذلك.

و قوله:( مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ) إلخ، في عدّ( بُيُوتِكُمْ ) مع بيوت الأقرباء و غيرهم إشارة إلى نفي الفرق في هذا الدين المبنيّ على كون المؤمنين بعضهم أولياء بعض بين بيوتهم أنفسهم و بيوت أقربائهم و ما ملكوا مفاتحه و بيوت أصدقائهم.

على أنّ( بُيُوتِكُمْ ) يشمل بيت الابن و الزوج كما وردت به الرواية، و قوله:( أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) المفاتح جمع مفتح و هو المخزن، و المعنى: أو البيت الّذي ملكتم أي تسلّطتم على مخازنه الّتي فيها الرزق كما يكون الرجل قيّماً على بيت أو وكيلاً أو سلّم إليه مفتاحه.

و قوله:( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) معطوف على ما تقدّمه بتقدير بيت على ما يعلم من

١٧٨

سياقه، و التقدير أو بيت صديقكم.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ) الأشتات جمع شتّ و هو مصدر بمعنى التفرّق استعمل بمعنى المتفرّق مبالغة ثمّ جمع أو صفة بمعنى المتفرّق كالحقّ، و المعنى لا إثم عليكم أن تأكلوا مجتمعين و بعضكم مع بعض أو متفرّقين، و الآية عامّة و إن كان نزولها لسبب خاصّ كما روي.

و للمفسّرين في هذا الفصل من الآية و في الفصل الّذي قبلها اختلافات شديدة رأينا الصفح عن إيرادها و الغور في البحث عنها أولى، و ما أوردناه من المعنى في الفصلين هو الّذي يعطيه سياقهما.

قوله تعالى: ( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ) إلخ، لما تقدّم ذكر البيوت فرع عليه ذكر أدب الدخول فيها فقال:( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً ) .

فقوله:( فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) المراد فسلّموا على من كان فيها من أهلها و قد بدّل من قوله:( عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) للدلالة على أنّ بعضهم من بعض فإنّ الجميع إنسان و قد خلقهم الله من ذكر و اُنثى على أنّهم مؤمنون و الإيمان يجمعهم و يوحّدهم أقوى من الرحم و أيّ شي‏ء آخر.

و ليس ببعيد أن يكون المراد بقوله:( فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) أن يسلّم الداخل على أهل البيت و يردّوا السلام عليه.

و قوله:( تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ) أي حال كون السلام تحيّة من عند الله شرّعها الله و أنزل حكمها ليحيّي بها المسلمون و هو مبارك ذو خير كثير باق و طيّب يلائم النفس فإنّ حقيقة هذه التحيّة بسط الأمن و السلامة على المسلّم عليه و هو أطيب أمر يشترك فيه المجتمعان.

ثمّ ختم سبحانه الآية بقوله:( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ) و قد مرّ تفسيره( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي تعلموا معالم دينكم فتعملوا بها كما قيل.

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ

١٧٩

عَلى‏ أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) ذكر قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ ) بياناً للمؤمنين على ظهور معناه للدلالة على اتّصافهم بحقيقة المعنى أي إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله و رسوله بحقيقة الإيمان و أيقنوا بتوحّده تعالى و اطمأنّت نفوسهم و تعلّقت قلوبهم برسوله.

و لذلك عقّبه بقوله:( وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى‏ أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) و الأمر الجامع هو الّذي يجمع الناس للتدبّر في أطرافه و التشاور و العزم عليه كالحرب و نحوها.

و المعنى: و إذا كانوا مع الرسول بالاجتماع عنده على أمر من الاُمور العامّة لم يذهبوا و لم ينصرفوا من عند الرسول حتّى يستأذنوه للذهاب.

و لذلك أيضاً عقّبه بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ ) و هو بمنزلة عكس صدر الآية للدلالة على الملازمة و عدم الانفكاك.

و قوله:( فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) تخيير منه تعالى لرسوله في أن يأذن لمن شاء و لا يأذن لمن لم يشأ.

و قوله:( وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أمر له بالاستغفار لهم تطييباً لنفوسهم و رحمة بهم.

قوله تعالى: ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) إلى آخر الآية، دعاء الرسول هو دعوته الناس إلى أمر من الاُمور كدعوتهم إلى الإيمان و العمل الصالح، و دعوتهم ليشاورهم في أمر جامع، و دعوتهم إلى الصلاة جامعة، و أمرهم بشي‏ء في أمر دنياهم أو اُخراهم فكلّ ذلك دعاء و دعوة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و يشهد بهذا المعنى قوله ذيلاً:( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً ) و ما يتلوه من تهديد مخالفي أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لا يخفى. و هو أنسب لسياق الآية السابقة فإنّها تمدح الّذين يلبّون دعوته و يحضرون عنده و لا يفارقونه حتّى يستأذنوه و هذه تذمّ و تهدّد الّذين يدعوهم فيتسلّلون عنه لواذا غير مهتمّين بدعائه و لا معتنين.

١٨٠