الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 111870
تحميل: 4254


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111870 / تحميل: 4254
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و كانوا ممّن بعث إليهم شعيبعليه‌السلام ، و كان أجنبيّاً منهم و لذلك قيل:( إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ) و لم يقل: أخوهم شعيب بخلاف هود و صالح فقد كانا نسيبين إلى قومهما و كذا لوط فقد كان نسيباً إلى قومه بالمصاهرة و لذا عبّر عنهم بقوله:( أَخُوهُمْ هُودٌ ) ( أَخُوهُمْ صالِحٌ ) ( أَخُوهُمْ لُوطٌ ) .

و قد تقدّم تفسير باقي الآيات.

قوله تعالى: ( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ) الكيل ما يقدّر به المتاع من جهة حجمه و إيفاؤه أن لا ينقص الحجم، و القسطاس الميزان الّذي يقدّر به من جهة وزنه و استقامته أن يزن بالعدل، و الآيتان تأمران بالعدل في الأخذ و الإعطاء بالكيل و الوزن.

قوله تعالى: ( وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) البخس النقص في الوزن و التقدير كما أنّ الإخسار النقص في رأس المال.

و ظاهر السياق أنّ قوله:( وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ) أي سلعهم و أمتعتهم قيد متمّم لقوله:( وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ) كما أنّ قوله:( وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ) قيد متمّم لقوله:( أَوْفُوا الْكَيْلَ ) و قوله:( وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) تأكيد للنهيين جميعاً أعني قوله:( لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ) و قوله:( لا تَبْخَسُوا ) و بيان لتبعة التطفيف السيّئة المشومة.

و قوله:( وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) العثيّ و العَيث الإفساد، فقوله:( مُفْسِدِينَ ) حال مؤكّد و قد تقدّم في قصّة شعيب من سورة هود و في قوله:( وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) الآية ٣٥ من سورة الإسراء كلام في كيفيّة إفساد التطفيف المجتمع الإنسانيّ، فراجع.

قوله تعالى: ( وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ) قال في المجمع: الجبلّة الخليقة الّتي طبع عليها الشي‏ء. انتهى. فالمراد بالجبلّة ذوو الجبلّة أي اتّقوا الله الّذي خلقكم و آباءكم الأوّلين الّذين فطرهم و قرّر في جبلّتهم تقبيح الفساد و الاعتراف بشؤمه.

٣٤١

و لعلّ هذا الّذي أشرنا إليه من المعنى هو الموجب لتخصيص الجبلّة بالذكر، و في الآية على أيّ حال دعوة إلى توحيد العبادة فإنّهم لم يكونوا يتّقون الخالق الّذي هو ربّ العالمين.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ - إلى قوله -وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ ) تقدّم تفسير الصدر، و:( إِنْ ) في قوله:( إِنْ نَظُنُّكَ ) مخفّفة من الثقيلة.

قوله تعالى: ( فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) إلخ، الكسف بالكسر فالفتح - على ما قيل - جمع كسفة و هي القطعة، و الأمر مبنيّ على التعجيز و الاستهزاء.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ ) جواب شعيب عن قولهم و اقتراحهم منه إتيان العذاب، و هو كناية عن أنّه ليس له من الأمر شي‏ء و إنّما الأمر إلى الله لأنّه أعلم بما يعملون و أنّ عملهم هل يستوجب عذاباً؟ و ما هو العذاب الّذي يستوجبه إذا استوجب؟ فهو كقول هود لقومه:( إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ ) الأحقاف: ٢٣.

قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) إلخ، يوم الظلّة يوم عذّب فيه قوم شعيب بظلّة من الغمام، و قد تقدّم تفصيل قصّتهم في سورة هود.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً - إلى قوله -الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) تقدّم تفسيره.

( بحث روائي)

في جوامع الجامع في قوله تعالى:( إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ) و في الحديث أنّ شعيباً أخا مدين اُرسل إليهم و إلى أصحاب الأيكة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ) قال: الخلق الأوّلين، و قوله:( فَكَذَّبُوهُ ) قال: قوم شعيب( فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) قال: يوم حرّ و سمائم.

٣٤٢

( سورة الشعراء الآيات ١٩٢ - ٢٢٧)

وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٩٢ ) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ( ١٩٣ ) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ( ١٩٤ ) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ( ١٩٥ ) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ( ١٩٦ ) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ١٩٧ ) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ( ١٩٨ ) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ( ١٩٩ ) كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( ٢٠٠ ) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ( ٢٠١ ) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ٢٠٢ ) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ( ٢٠٣ ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( ٢٠٤ ) أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ( ٢٠٥ ) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ( ٢٠٦ ) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ( ٢٠٧ ) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ ( ٢٠٨ ) ذِكْرَىٰ وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ( ٢٠٩ ) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ( ٢١٠ ) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ( ٢١١ ) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ( ٢١٢ ) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ( ٢١٣ ) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ( ٢١٤ ) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢١٥ ) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ( ٢١٦ ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( ٢١٧ ) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ( ٢١٨ ) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ( ٢١٩ ) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٢٢٠ ) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن

٣٤٣

تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ( ٢٢١ ) تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( ٢٢٢ ) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ( ٢٢٣ ) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ( ٢٢٤ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ( ٢٢٥ ) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ( ٢٢٦ ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا  وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ( ٢٢٧ )

( بيان)

تشير الآيات إلى ما هو كالنتيجة المستخرجة من القصص السبع السابقة و يتضمّن التوبيخ و التهديد لكفّار الاُمّة.

و فيها دفاع عن نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاحتجاج عليه بذكره في زبر الأوّلين و علم علماء بني إسرائيل به، و دفاع عن كتابه بالاحتجاج على أنّه ليس من إلقاءات الشياطين و لا من أقاويل الشعراء.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ) الضمير للقرآن، و فيه رجوع إلى ما في صدر السورة من قوله:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) و تعقيب لحديث كفرهم به كما في قوله بعد ذلك:( وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ، فَقَدْ كَذَّبُوا ) الآية.

و التنزيل و الإنزال بمعنى واحد، غير أنّ الغالب على باب الإفعال الدفعة و على باب التفعيل التدريج، و أصل النزول في الأجسام انتقال الجسم من مكان عال إلى ما هو دونه و في غير الأجسام بما يناسبه.

و تنزيله تعالى إخراجه الشي‏ء من عنده إلى موطن الخلق و التقدير و قد سمّى نفسه بالعليّ العظيم و الكبير المتعال و رفيع الدرجات و القاهر فوق عباده

٣٤٤

فيكون خروج الشي‏ء بإيجاده من عنده إلى عالم الخلق و التقدير - و إن شئت فقل: إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة - تنزيلاً منه تعالى له.

و قد استعمل الإنزال و التنزيل في كلامه تعالى في أشياء بهذه العناية كقوله تعالى:( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ) الأعراف: ٢٦، و قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: ٦، و قوله:( وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) الحديد: ٢٥، و قوله:( ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) البقرة: ١٠٥، و قد أطلق القول في قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١.

و من الآيات الدالّة على اعتبار هذا المعنى في خصوص القرآن قوله تعالى:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤.

و قد اُضيف التنزيل إلى ربّ العالمين للدلالة على توحيد الربّ تعالى لما تكرّر مراراً أنّ المشركين إنّما كانوا يعترفون به تعالى بما أنّه ربّ الأرباب و لا يرون أنّه ربّ العالمين.

قوله تعالى: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) المراد بالروح الأمين هو جبرئيل ملك الوحي بدليل قوله:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ) البقرة: ٩٧ و قد سمّاه في موضع آخر بروح القدس:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) النحل: ١٠٢، و قد تقدّم في تفسير سورتي النحل و الإسراء ما يتعلّق بمعنى الروح من الكلام.

و قد وصف الروح بالأمين للدلالة على أنّه مأمون في رسالته منه تعالى إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يغيّر شيئاً من كلامه تعالى بتبديل أو تحريف بعمد أو سهو أو نسيان كما أنّ توصيفه في آية اُخرى بالقدس يشير إلى ذلك.

و قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ ) الباء للتعدية أي نزّله الروح الأمين و أمّا قول

٣٤٥

من قال: إنّ الباء للمصاحبة و المعنى نزل معه الروح فلا يلتفت إليه لأنّ العناية في المقام بنزول القرآن لا بنزول الروح مع القرآن.

و الضمير في( نَزَلَ بِهِ ) للقرآن بما أنّه كلام مؤلّف من ألفاظ لها معانيها الحقّة فإنّ ألفاظ القرآن نازلة من عنده تعالى كما أنّ معانيها نازلة من عنده على ما هو ظاهر قوله:( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) القيامة: ١٨، و قوله:( تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ) آل عمران: ١٠٨، الجاثية: ٦، إلى غير ذلك.

فلا يعبؤ بقول من قال: إنّ الّذي نزل به الروح الأمين إنّما هو معاني القرآن الكريم ثمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعبّر عنها بما يطابقها و يحكيها من الألفاظ بلسان عربيّ.

و أسخف منه قول من قال: إنّ القرآن بلفظه و معناه من منشئات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألقته مرتبة من نفسه الشريفة تسمّى الروح الأمين إلى مرتبة منها تسمّى القلب.

و المراد بالقلب المنسوب إليه الإدراك و الشعور في كلامه تعالى هو النفس الإنسانيّة الّتي لها الإدراك و إليها تنتهي أنواع الشعور و الإرادة دون اللحم الصنوبريّ المعلّق عن يسار الصدر الّذي هو أحد الأعضاء الرئيسة كما يستفاد من مواضع في كلامه تعالى، كقوله:( وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ) الأحزاب: ١٠، أي الأرواح، و قوله:( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة: ٢٨٣، أي نفسه إذ لا معنى لنسبة الإثم إلى العضو الخاصّ.

و لعلّ الوجه في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) دون أن يقول: عليك هو الإشارة إلى كيفيّة تلقّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن النازل عليه، و أنّ الّذي كان يتلقّاه من الروح هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواسّ الظاهرة الّتي هي الأدوات المستعملة في إدراك الاُمور الجزئيّة.

فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى و يسمع حينما كان يوحى إليه من غير أن يستعمل حاسّتي البصر و السمع كما روي أنّه كان يأخذه شبه إغماء يسمّى برجاء الوحي.

فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى الشخص و يسمع الصوت مثل ما نرى الشخص و نسمع الصوت

٣٤٦

غير أنّه ما كان يستخدم حاسّتي بصره و سمعه المادّيّتين في ذلك كما نستخدمهما.

و لو كان رؤيته و سمعه بالبصر و السمع المادّيّين لكان ما يجده مشتركاً بينه و بين غيره فكان سائر الناس يرون ما يراه و يسمعون ما يسمعه و النقل القطعيّ يكذّب ذلك فكثيراً ما كان يأخذه برجاء الوحي و هو بين الناس فيوحى إليه و من حوله لا يشعرون بشي‏ء و لا يشاهدون شخصاً يكلّمه و لا كلاماً يلقى إليه.

و القول بأنّ من الجائز أن يصرف الله تعالى حواسّ غيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الناس عن بعض ما كانت تناله حواسّه و هي الاُمور الغيبيّة المستورة عنّا.

هدم لبنيان التصديق العلميّ إذ لو جاز مثل هذا الخطإ العظيم على الحواسّ و هي مفتاح العلوم الضروريّة و التصديقات البديهيّة و غيرها لم يبق وثوق على شي‏ء من العلوم و التصديقات.

على أنّ هذا الكلام مبنيّ على أصالة الحسّ و أن لا وجود إلّا لمحسوس و هو من أفحش الخطإ و قد تقدّم في تفسير سورة مريم كلام في معنى تمثّل الملك نافع في المقام.

و ربّما قيل في وجه تخصيص القلب بالإنزال أنّه لكونه هو المدرك المكلّف دون الجسد و إن كان يتلقّى الوحي بتوسيط الأدوات البدنيّة من السمع و البصر، و قد عرفت ما فيه.

و ربّما قيل: لما كان للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهتان: جهة ملكيّة يستفيض بها، و جهة بشريّة يفيض بها، جعل الإنزال على روحه لأنّها المتّصفة بالصفات الملكيّة الّتي يستفيض بها من الروح الأمين، و للإشارة إلى ذلك قيل.( عَلى‏ قَلْبِكَ ) و لم يقل: عليك مع كونه أخصر. انتهى.

و هذا أيضاً مبنيّ على مشاركة الحواسّ و القوى البدنيّة في تلقّي الوحي فيرد عليه ما قدّمناه.

و ذكر جمع من المفسّرين أنّ المراد بالقلب هو العضو الخاصّ البدنيّ و أنّ الإدراك كيفما كان من خواصّه.

٣٤٧

فمنهم من قال: إنّ جعل القلب متعلّق الإنزال مبنيّ على التوسّع لأنّ الله تعالى يُسمع القرآن جبرئيل بخلق الصوت فيحفظه و ينزل به على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يقرؤه عليه فيعيه و يحفظه بقلبه فكأنّه نزل به على قلبه.

و منهم من قال: إنّ تخصيص القلب بالإنزال لأنّ المعاني الروحانيّة تنزل أوّلاً على الروح ثمّ تنتقل منها إلى القلب لما بينهما من التعلّق ثمّ تنتقل منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيّلة.

و منهم من قال: إنّ تخصيصه به للإشارة إلى كمال تعقّلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث لم يعتبر الوسائط من سمع و بصر و غيرهما.

و منهم من قال: إنّ ذلك للإشارة إلى صلاح قلبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تقدّسه حيث كان منزلاً لكلامه تعالى ليعلم به صلاح سائر أجزائه و أعضائه فإنّ القلب رئيس سائر الأعضاء و ملكها و إذا صلح الملك صلحت رعيّته.

و منهم من قال: إنّ ذلك لأنّ الله تعالى جعل لقلب رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمعاً و بصراً مخصوصين يسمع و يبصر بهما تمييزاً لشأنه من غيره كما يشعر به قوله تعالى:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى‏ ) النجم: ١١.

و هذه الوجوه مضافاً على اشتمال أكثرها على المجازفة مبنيّة على قياس هذه الاُمور الغيبيّة على ما عندنا من الحوادث المادّيّة و إجراء حكمها فيها و قد بلغ من تعسّف بعضهم أن قال: إنّ معنى إنزال الملك القرآن أنّ الله ألهمه كلامه و هو في السماء و علّمه قراءته ثمّ الملك أداه في الأرض و هو يهبط في المكان و في ذلك طريقتان: إحداهما أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انخلع من صورة البشريّة إلى صورة الملكيّة فأخذه من الملك، و ثانيتهما أنّ الملك انخلع إلى صورة البشريّة حتّى يأخذه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الاُولى أصعب الحالين. انتهى.

و ليت شعري ما الّذي تصوّره من انخلاع الإنسان من صورته إلى صورة الملكيّة و صيرورته ملكاً ثمّ عوده إنساناً و من انخلاع الملك إلى صورة الإنسانيّة

٣٤٨

و قد فرض لكلّ منهما هويّة مغايرة للآخر لا رابطة بين أحدهما و الآخر ذاتاً و أثراً و في كلامه مواضع اُخرى للنظر غير خفيّة على من تأمّل فيه.

و للبحث تتمّة لعلّ الله سبحانه يوفّقنا لاستيفائها بإيراد كلام جامع في الملك و آخر في الوحي.

و قوله:( لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) أي من الداعين إلى الله سبحانه بالتخويف من عذابه و هو المراد بالإنذار في عرف القرآن دون النبيّ أو الرسول بالخصوص، قال تعالى في مؤمني الجنّ:( وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى‏ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ) الأحقاف: ٢٩، و قال في المتفقّهين من المؤمنين:( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ) براءة: ١٢٢.

و إنّما ذكر إنذارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غاية لإنزال القرآن دون نبوّته أو رسالته لأنّ سياق آيات السورة سياق التخويف و التهديد.

و قوله( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) أي ظاهر في عربيّته أو مبيّن للمقاصد تمام البيان و الجارّ و المجرور متعلّق بنزل أي أنزله بلسان عربيّ مبين.

و جوّز بعضهم أن يكون متعلّقاً بقوله:( الْمُنْذِرِينَ ) و المعنى أنزله على قلبك لتدخل في زمرة الأنبياء من العرب و قد ذكر منهم في القرآن هود و صالح و إسماعيل و شعيبعليهم‌السلام و أوّل الوجهين أحسنهما.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ) الضمير للقرآن أو نزوله على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الزبر جمع زبور و هو الكتاب و المعنى و إنّ خبر القرآن أو خبر نزوله عليك في كتب الماضين من الأنبياء.

و قيل: الضمير لما في القرآن من المعارف الكلّيّة أي إنّ المعارف القرآنيّة موجودة مذكورة في كتب الأنبياء الماضين.

و فيه أوّلاً: أنّ المشركين ما كانوا يؤمنون بالأنبياء و كتبهم حتّى يحتجّ عليهم بما فيها من التوحيد و المعاد و غيرهما، و هذا بخلاف ذكر خبر القرآن

٣٤٩

و نزوله على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتب الأوّلين فإنّه حينئذ يكون ملحمة تضطرّ النفوس إلى قبولها.

و ثانياً: أنّه لا يلائم الآية التالية.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ) ضمير( أَنْ يَعْلَمَهُ ) لخبر القرآن أو خبر نزوله على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي أ و لم يكن علم علماء بني إسرائيل بخبر القرآن أو نزوله عليك على سبيل البشارة في كتب الأنبياء الماضين آية للمشركين على صحّة نبوّتك و كانت اليهود تبشّر بذلك و تستفتح على العرب به كما مرّ في قوله تعالى:( وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) البقرة: ٨٩.

و قد أسلم عدّة من علماء اليهود في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اعترفوا بأنّه مبشّر به في كتبهم، و السورة من أوائل السور المكّيّة النازلة قبل الهجرة و لم تبلغ عداوة اليهود للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبلغها بعد الهجرة و كان من المرجوّ أن ينطقوا ببعض ما عندهم من الحقّ و لو بوجه كلّيّ.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) قال في المفردات: العجمة خلاف الإبانة و الإعجام الإبهام - إلى أن قال - و العجم خلاف العرب و العجميّ منسوب إليهم، و الأعجم من في لسانه عجمة عربيّاً كان أو غير عربيّ اعتباراً بقلّة فهمهم عن العجم، و منه قيل للبهيمة عجماء و الأعجميّ منسوب إليه قوله تعالى:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ) على حذف الياءات انتهى.

و مقتضى ما ذكره - كما ترى - أنّ أصل الأعجمين الأعجميّين ثمّ حذفت ياء النسبة و به صرّح بعض آخر، و ذكر بعضهم أنّ الوجه أنّ أعجم مؤنّثه عجماء و أفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة لكنّ الكوفييّن من النحاة يجوّزون ذلك و ظاهر اللفظ يؤيّد قولهم فلا موجب للقول بالحذف.

و كيف كان فظاهر السياق اتّصال الآيتين بقوله:( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ )

٣٥٠

فتكونان في مقام التعليل له و يكون المعنى: نزّلناه عليك بلسان عربيّ ظاهر العربيّة واضح الدلالة ليؤمنوا به و لا يتعلّلوا بعدم فهمهم مقاصده و لو نزّلناه على بعض الأعجمين بلسان أعجميّ ما كانوا به مؤمنين و ردّوه بعدم فهم مقاصده.

فيكون المراد بنزوله على بعض الأعجمين نزوله أعجميّاً و بلسانه، و الآيتان و الّتي بعدهما في معنى قوله تعالى:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) حم السجدة: ٤٤.

و قال بعضهم: إنّ المعنى و لو نزّلناه قرآناً عربيّاً كما هو بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الّذين لا يقدرون على التكلّم بالعربيّة فقرأه عليهم قراءة صحيحة خارقة للعادات ما كانوا به مؤمنين مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم و شدّة شكيمتهم في المكابرة.

قال: و أمّا قول بعضهم: إنّ المعنى و لو نزّلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين فليس بذاك فإنّه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تماديهم في المكابرة و العناد. انتهى ملخّصاً.

و فيه أنّ اتّصال الآيتين بقوله:( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) أقرب إليهما من اتّصالهما بسياق تمادي الكفّار في كفرهم و جحودهم و قد عرفت توضيحه.

و يمكن أن يورد على الوجه السابق أنّ الضمير في قوله:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ) راجع إلى هذا القرآن الّذي هو عربيّ فلو كان المراد تنزيله بلسان أعجميّ لكان المعنى و لو نزّلنا العربيّ غير عربيّ و لا محصّل له.

و يردّه أنّه من قبيل قوله تعالى:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الزخرف: ٣، و لا معنى لقولنا: إنّا جعلنا العربيّ عربيّاً فالمراد بالقرآن على أيّ حال الكتاب المقروء.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) إلى الحال الّتي عليها القرآن عند المشركين و قد ذكرت في الآيات السابقة و هي أنّهم

٣٥١

معرضون عنه لا يؤمنون به و إن كان تنزيلاً من ربّ العالمين و كان عربيّاً مبيّناً غير أعجميّ و كان مذكوراً في زبر الأوّلين يعلمه علماء بني إسرائيل.

و السلوك الإدخال في الطريق و الإمرار، و المراد بالمجرمين هم الكفّار و المشركون و ذكرهم بوصف الاجرام للإشارة إلى علّة الحكم و هو سلوكه في قلوبهم على هذه الحال المبغوضة و المنفورة و أنّ ذلك مجازاة إلهيّة جازاهم بها عن إجرامهم و ليعمّ الحكم بعموم العلّة.

و المعنى على هذه الحال - و هي أن يكون بحيث يعرض عنه و لا يؤمن به - ندخل القرآن في قلوب هؤلاء المشركين و نمرّه في نفوسهم جزاء لإجرامهم و كذلك كلّ مجرم.

و قيل: الإشارة إلى ما ذكر من أوصاف القرآن الكريمة و المعنى: ندخل القرآن و نمرّه في قلوب المجرمين بمثل ما بيّنّا له الأوصاف فيرون أنّه كتاب سماويّ ذو نظم معجز خارج عن طوق البشر و أنّه مبشّر به في زبر الأوّلين يعلمه علماء بني إسرائيل و تتمّ الحجّة به عليهم و هو بعيد من السياق.

و قيل: الضمير في( سَلَكْناهُ ) للتكذيب بالقرآن و الكفر به المدلول عليه بقوله:( ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) هذا و هو قريب من الوجه الأوّل لكنّ الوجه الأوّل ألطف و أدقّ، و قد ذكره في الكشّاف.

و قد تبيّن بما تقدّم أنّ المراد بالمجرمين مشركو مكّة غير أنّ عموم وصف الاجرام يعمّم الحكم، و قال بعضهم: إنّ المراد بالمجرمين غير مشركي مكّة من معاصريهم و من يأتي بعدهم، و المعنى: كما سلكناه في قلوب مشركي مكّة نسلكه في قلوب غيرهم من المجرمين.

و لعلّ الّذي دعاه إلى اختيار هذا الوجه إشكال اتّحاد المشبّه و المشبّه به على الوجه الأوّل مع لزوم المغايرة بينهما فاعتبر المشار إليه بقوله:( كَذلِكَ ) السلوك في قلوب مشركي مكّة و هو المشبّه به و جعل المشبّه غيرهم من المجرمين و فيه أنّ تشبيه الكلّيّ ببعض أفراده للدلالة على سراية حكمه في جميع الأفراد طريقة شائعة.

٣٥٢

و من هنا يظهر أنّ هناك وجهاً آخر و هو أن يكون المراد بالمجرمين ما يعمّ مشركي مكّة و غيرهم بجعل اللّام فيه لغير العهد و لعلّ الوجه الأوّل أقرب من السياق.

قوله تعالى: ( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ - إلى قوله -مُنْظَرُونَ ) تفسير و بيان لقوله:( كَذلِكَ سَلَكْناهُ ) إلخ هذا على الوجه الأوّل و الثالث من الوجوه المذكورة في الآية السابقة و أمّا على الوجه الثاني فهو استئناف غير مرتبط بما قبله.

و قوله:( حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) أي حتّى يشاهدوا العذاب الأليم فيلجئهم إلى الإيمان الاضطراريّ الّذي لا ينفعهم، و الظاهر أنّ المراد بالعذاب الأليم ما يشاهدونه عند الموت و احتمل بعضهم أن يكون المراد به ما أصابهم يوم بدر من القتل، لكن عموم الحكم في الآية السابقة لمشركي مكّة و غيرهم لا يلائم ذلك.

و قوله:( فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) كالتفسير لقوله:( حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) إذ لو لم يأتهم بغتة و علموا به قبل موعده لاستعدّوا له و آمنوا باختيار منهم غير ملجئين إليه.

و قوله:( فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ) كلمة تحسّر منهم.

قوله تعالى: ( أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ) توبيخ و تهديد.

قوله تعالى: ( أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ - إلى قوله -يُمَتَّعُونَ ) متّصل بقوله:( فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ) و محصّل المعنى أنّ تمنّي الإمهال و الإنظار تمنّي أمر لا ينفعهم لو وقع على ما يتمنّونه و لم يغن عنهم شيئاً لو اُجيبوا إلى ما سألوه فإنّ تمتيعهم أمداً محدوداً طال أو قصر لا يرفع العذاب الخالد الّذي قضي في حقّهم.

و هو قوله:( أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ) معدودة ستنقضي:( ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ) من العذاب بعد انقضاء سني الإنظار و الإمهال( ما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ ) أي تمتيعهم أمداً محدوداً.

٣٥٣

قوله تعالى: ( وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى) إلخ، الأقرب أن يكون قوله:( لَها مُنْذِرُونَ ) حالاً من( قَرْيَةٍ ) و قوله:( ذِكْرى) حالاً من ضمير الجمع في( مُنْذِرُونَ ) أو مفعولاً مطلقاً عامله( مُنْذِرُونَ ) لكونه في معنى مذكّرون و المعنى ظاهر، و قيل غير ذلك ممّا لا جدوى في ذكره و إطالة البحث عنه.

و قوله:( وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ ) ورود النفي على الكون دون أن يقال: و ما ظلمناهم و نحو ذلك يفيد نفي الشأنيّة أي و ما كان من شأننا و لا المترقّب منّا أن نظلمهم.

و الجملة في مقام التعليل للحصر السابق و المعنى: ما أهلكنا من قرية إلّا في حال لها منذرون مذكّرون تتمّ بهم الحجّة عليهم لأنّا لو أهلكناهم في غير هذه الحال لكنّا ظالمين لهم و ليس من شأننا أن نظلم أحداً فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) إسراء: ١٥.

( كلام في معنى نفي الظلم عنه تعالى‏)

من لوازم معنى الظلم المتساوية له فعل الفاعل و تصرّفه ما لا يملكه من الفعل و التصرّف، و يقابله العدل و لازمه أنّه فعل الفاعل و تصرّفه ما يملكه.

و من هنا يظهر أنّ أفعال الفواعل التكوينيّة من حيث هي مملوكة لها تكويناً لا يتحقّق فيها معنى الظلم لأنّ فرض صدور الفعل عن فاعله تكويناً مساوق لكونه مملوكاً له بمعنى قيام وجوده به قياماً لا يستقلّ دونه.

و لله سبحانه ملك مطلق منبسط على الأشياء من جميع جهات وجودها لقيامها به تعالى من غير غنى عنه و استقلال دونه فأيّ تصرّف تصرّف به فيها ممّا يسرّها أو يسوؤها أو ينفعها أو يضرّها ليس من الظلم في شي‏ء و إن شئت فقل: عدل بمعنى ما ليس بظلم فله أن يفعل ما يشاء و له أن يحكم ما يريد كلّ ذلك بحسب التكوين.

فله تعالى ملك مطلق بذاته، و لغيره من الفواعل التكوينيّة ملك تكوينيّ بالنسبة إلى فعله حسب الإعطاء و الموهبة الإلهيّة و هو ملك في طول ملكه تعالى و هو المالك لما ملّكها و المهيمن على ما عليه سلّطها.

٣٥٤

و من جملة هذه الفواعل النوع الإنسانيّ بالنسبة إلى أفعاله و خاصّة ما نسمّيها بالأفعال الاختياريّة و الاختيار الّذي يتعيّن به هذه الأفعال، فالواحد منّا يجد من نفسه عياناً أنّه يملك الاختيار بمعنى إمكان الفعل و الترك معاً، فإن شاء فعل و إن لم يشأ ترك فهو يرى نفسه حرّاً يملك الفعل و الترك، أيّ فعل و ترك كانا، بمعنى إمكان صدور كلّ منهما عنه.

ثمّ إنّ اضطرار الإنسان إلى الحياة الاجتماعيّة المدنيّة اضطرّ العقل أن يغمض عن بعض ما للإنسان من حرّيّة العمل و يرفع اليد عن بعض الأفعال الّتي كان يرى أنّه يملكها و هي الّتي يختلّ بإتيانها أمر المجتمع فيختلّ نظم حياته نفسه و هذه هي المحرّمات و المعاصي الّتي تنهى عنها القوانين المدنيّة أو السنن القوميّة أو الأحكام الملوكيّة الدائرة في المجتمعات.

و من الضروري لتحكيم هذه القوانين و السنن أن يجعل نوع من الجزاء السيّئ على المتخلّف عنها - بشرط العلم و تمام الحجّة لأنّه شرط تحقّق التكليف - من ذمّ أو عقاب، و نوع من الأجر الجميل للمطيع الّذي يحترمها من مدح أو ثواب.

و من الضروريّ أن ينتصب على المجتمع و القوانين الجارية فيها من يُجريها على ما هي عليه و هو مسؤل عمّا نصب له و خاصّة بالنسبة إلى أحكام الجزاء، فلو لم يكن مسئولاً و جاز له أن يجازي و أن لا يجازي و يأخذ المحسن و يترك المسي‏ء لغي وضع القوانين و السنن من رأس. هذه اُصول عقلائيّة جارية في الجملة في المجتمعات الإنسانيّة منذ استقرّ هذا النوع على الأرض منبعثة عن فطرتهم الإنسانيّة.

و قد دلّت البراهين العقليّة و أيّدها تواتر الأنبياء و الرسل من قبله تعالى على أنّ القوانين الاجتماعيّة و سنن الحياة يجب أن تكون من عنده تعالى و هي أحكام و وظائف إنسانيّة تهدي إليها الفطرة الإنسانيّة و تضمّن سعادة حياته و تحفظ مصالح مجتمعة.

٣٥٥

و هذه الشريعة السماويّة الفطريّة واضعها هو الله سبحانه و مجريها من حيث الثواب و العقاب - و موطنهما موطن الرجوع إليه تعالى - هو الله سبحانه.

و مقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماويّة و اعتباره نفسه مجرياً لها أنّه أوجب على نفسه إيجاباً تشريعيّاً - و ليس بالتكوينيّ - أن لا يناقض نفسه و لا يتخلّف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقّه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمّد المعاند، و أخذ المظلوم بإثم الظالم و إلّا كان ظلماً منه، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

و لعلّ هذا معنى ما يقال: إنّ الظلم مقدور له تعالى لكنّه ليس بواقع البتّة لأنّه نقص كمال يتنزّه تعالى عنه ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال و ليس بفرض محال، و هو المستفاد من ظاهر قوله تعالى:( وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ ) الآية ٢٠٩ من السورة و قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ) يونس: ٤٤، و قوله:( وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) فصّلت: ٤٦، و قوله:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: ١٦٥، فظاهرها أنّها ليست من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع كما يومئ إليه تفسير من فسّرها بأنّ المعنى أنّ الله لا يفعل فعلاً لو فعله غيره لكان ظالماً.

فإن قلت: ما ذكر من وجوب إجراء الجزاء ثواباً أو عقاباً يخالف ما هو المسلّم عندهم أنّ ترك عقاب العاصي جائز لأنّه من حقّ المعاقب و من الجائز على صاحب الحقّ تركه و عدم المطالبة به بخلاف ثواب المطيع لأنّه من حقّ الغير و هو المطيع فلا يجوز تركه و إبطاله.

على أنّه قيل: إنّ الإثابة على الطاعات من الفضل دون الاستحقاق لأنّ العبد و عمله لمولاه فلا يملك شيئاً حتّى يعاوضه بشي‏ء.

قلت: ترك عقاب العاصي في الجملة ممّا لا كلام فيه لأنّه من الفضل و أمّا بالجملة فلا لاستلزامه لغويّة التشريع و التقنين و ترتيب الجزاء على العمل.

و أمّا كون ثواب الأعمال من الفضل بالنظر إلى كون عمل العبد كنفسه لله

٣٥٦

فلا ينافي فضلاً آخر منه تعالى على عبده باعتبار عمله ملكاً له، ثمّ جعل ما يثيبه عليه أجراً لعمله، و القرآن ملي‏ء بحديث الأجر على الأعمال الصالحة، و قد قال تعالى:( إِنَّ اللهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) براءة: ١١١.

قوله تعالى: ( وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ - إلى قوله -لَمَعْزُولُونَ ) شروع في الجواب عن قول المشركين: إنّ لمحمّد جنّا يأتيه بهذا الكلام، و قولهم: إنّه شاعر، و قدّم الجواب عن الأوّل و قد وجّه الكلام أوّلاً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبيّن له أنّ القرآن ليس من تنزيل الشياطين و طيّب بذلك نفسه ثمّ وجّه القول إلى القوم فبيّنه لهم بما في وسعهم أن يفقهوه.

فقوله:( وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ) أي ما نزّلته و الآية متّصلة بقوله:( وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ) و وجّه الكلام كما سمعت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله تلواً:( فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) إلى آخر الخطابات المختصّة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتفرّعة على قوله:( وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ ) إلخ، على ما سيجي‏ء بيانه.

و إنّما وجّه الكلام إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون القوم لأنّه معلّل بما لا يقبلونه بكفرهم أعني قوله:( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) و الشيطان الشرير و جمعه الشياطين و المراد بهم أشرار الجنّ.

و قوله:( وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ ) أي للشياطين. قال في مجمع البيان: و معنى قول العرب: ينبغي لك أن تفعل كذا أنّه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية الّتي هي الطلب. انتهى.

و الوجه في أنّه لا ينبغي لهم أن يتنزّلوا به أنّهم خلق شرير لا همّ لهم إلّا الشرّ و الفساد و الأخذ بالباطل و تصويره في صورة الحقّ ليضلّوا به عن سبيل الله، و القرآن كلام حقّ لا سبيل للباطل إليه فلا يناسب جبلّتهم الشيطانيّة أن يلقوه إلى أحد.

و قوله:( وَ ما يَسْتَطِيعُونَ ) أي و ما يقدرون على التنزّل به لأنّه كلام سماويّ تتلقّاه الملائكة من ربّ العزّة فينزّلونه بأمره في حفظ و حراسة منه تعالى كما

٣٥٧

قال:( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) الجنّ: ٢٨، و إلى ذلك يشير قوله:( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ ) إلخ.

و قوله:( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) أي إنّ الشياطين عن سمع الأخبار السماويّة و الاطّلاع على ما يجري في الملإ الأعلى معزولون حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمّعوا كما ذكره الله في مواضع من كلامه.

قوله تعالى: ( فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ) خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهاه عن الشرك بالله متفرّع على قوله:( وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ) إلخ، أي إذا كان هذا القرآن تنزيلاً من ربّ العالمين و لم تنزّل به الشياطين و هو ينهى عن الشرك و يوعد عليه العذاب فلا تشرك بالله فينالك العذاب الموعود عليه و تدخل في زمرة المعذّبين.

و كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوماً بعصمة إلهيّة يستحيل معها صدور المعصية منه لا ينافي نهيه عن الشرك فإنّ العصمة لا توجب بطلان تعلّق الأمر و النهي بالمعصوم و ارتفاع التكليف عنه بما أنّه بشر مختار في الفعل و الترك متصوّر في حقّه الطاعة و المعصية بالنظر إلى نفسه، و قد تكاثرت الآيات في تكليف الأنبياءعليهم‌السلام في القرآن الكريم كقوله في الأنبياءعليهم‌السلام :( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: ٨٨، و قوله في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) الزمر: ٦٥، و الآيتان في معنى النهي.

و قول بعضهم: إنّ التكليف للتكميل فيرتفع عند حصول الكمال و تحقّقه لاستحالة تحصيل الحاصل خطأ فإنّ الأعمال الصالحة الّتي يتعلّق بها التكاليف من آثار الكمال المطلوب و الكمال النفسانيّ كما يجب أن يكتسب بالإتيان بآثاره و مزاولة الأعمال الّتي تناسبه و الارتياض بها كذلك يجب أن يستبقي بذلك فما دام الإنسان بشراً له تعلّق بالحياة الأرضيّة لا مناص له عن تحمّل أعباء التكليف، و قد تقدّم كلام في هذا المعنى في بعض الأبحاث.

قوله تعالى: ( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) في مجمع البيان: عشيرة الرجل

٣٥٨

قرابته سمّوا بذلك لأنّه يعاشرهم و هم يعاشرونه انتهى. و خصّ عشيرته و قرابته الأقربين بالذكر بعد نهي نفسه عن الشرك و إنذاره تنبيها على أنّه لا استثناء في الدعوة الدينيّة و لا مداهنة و لا مساهلة كما هو معهود في السنن الملوكيّة فلا فرق في تعلّق الإنذار بين النبيّ و اُمّته و لا بين الأقارب و الأجانب، فالجميع عبيد و الله مولاهم.

قوله تعالى: ( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي اشتغل بالمؤمنين بك و اجمعهم و ضمّهم إليك بالرأفة و الرحمة كما يجمع الطير أفراخه إليه بخفض جناحه لها، و هذا من الاستعارة بالكناية تقدّم نظيره في قوله:( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الحجر: ٨٨.

و المراد بالاتّباع الطاعة بقرينة قوله في الآية التالية:( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) فملخّص معنى الآيتين: إن آمنوا بك و اتّبعوك فاجمعهم إليك بالرأفة و اشتغل بهم بالتربية و إن عصوك فتبرّأ من عملهم.

قوله تعالى: ( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) أي ليس لك من أمر طاعتهم و معصيتهم شي‏ء وراء ما كلّفناك فكلّ ما وراء ذلك إلى الله سبحانه فإنّه لعزّته سيعذّب العاصين و برحمته سينجي المؤمنين المتّبعين.

و في اختصاص اسمي العزيز و الرحيم إلفات للذهن إلى ما تقدّم من القصص ختمت واحدة بعد واحدة بالاسمين الكريمين.

فهو في معنى أن يقال: توكّل في أمر المتّبعين و العاصين جميعاً إلى الله فهو العزيز الرحيم الّذي فعل بقوم نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و قوم فرعون ما فعل ممّا قصصناه فسنّته أخذ العاصين و إنجاء المؤمنين.

قوله تعالى: ( الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ‏ ) ظاهر الآيتين - على ما يسبق إلى الذهن - أنّ المراد بالساجدين الساجدون في الصلاة من المؤمنين و فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاته بهم جماعة، و المراد بقرينة المقابلة القيام في الصلاة فيكون المعنى: الّذي يراك و أنت بعينه في حالتي قيامك و سجودك متقلّباً في الساجدين

٣٥٩

و أنت تصلّي مع المؤمنين.

و في معنى الآية روايات من طرق الشيعة و أهل السنّة سنتعرّض لها في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) تعليل لقوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) و في الآيات - على ما تقدّم من معناها - تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بشرى للمؤمنين بالنجاة و إيعاد للكفّار بالعذاب.

قوله تعالى:( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى‏ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ - إلى قوله -كاذِبُونَ ) ، تعريف لمن تتنزّل عليه الشياطين بما يخصّه من الصفة ليعلم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس منهم و لا أنّ القرآن من إلقاء الشياطين، و الخطاب متوجّه إلى المشركين.

فقوله:( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى‏ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ ) في معنى هل اُعرّفكم الّذين تتنزّل عليهم شياطين الجنّ بالأخبار؟

و قوله:( تَنَزَّلُ عَلى‏ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) قال في مجمع البيان: الأفّاك الكذّاب و أصل الإفك القلب و الأفّاك الكثير القلب للخبر عن جهة الصدق إلى جهة الكذب، و الأثيم الفاعل للقبيح يقال: أثم يأثم إثماً إذا ارتكب القبيح و تأثّم إذا ترك الإثم انتهى.

و ذلك أنّ الشياطين لا شأن لهم إلّا إظهار الباطل في صورة الحقّ و تزيين القبيح في زيّ الحسن فلا يتنزّلون إلّا على أفّاك أثيم.

و قوله:( يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ) الظاهر أنّ ضميري الجمع في( يُلْقُونَ ) و( أَكْثَرُهُمْ ) معاً للشياطين، و السمع مصدر بمعنى المسموع و المراد به ما سمعه الشياطين من أخبار السماء و لو ناقصاً فإنّهم ممنوعون من الاستماع مرميّون بالشهب فما استرقوه لا يكون إلّا ناقصاً غير تامّ و لا كامل و لذا يتسرّب إليه الكذب كثيراً.

و قوله:( وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ) أي أكثر الشياطين كاذبون لا يخبرون بصدق أصلاً و هذا هو الكثرة بحسب الأفراد و يمكن أن يكون المراد الكثرة من حيث

٣٦٠