الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 111944
تحميل: 4258


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111944 / تحميل: 4258
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأرض، قال تعالى:( يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ) الطلاق: ١٢، و قال:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) الم السجدة: ٥، و السبل الّتي تسلكها الأعمال في صعودها إلى الله و الملائكة في هبوطهم و عروجهم كما قال:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر: ١٠، و قال:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) مريم: ٦٤.

و بذلك يتّضح اتّصال ذيل الآية( وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ ) بصدرها أي لستم بمنقطعين عنّا و لا بمعزل عن مراقبتنا بل هذه الطرائق السبع منصوبة بيننا و بينكم يتطرّقها رسل الملائكة بالنزول و الصعود و ينزل منها أمرنا إليكم و تصعد منها أعمالكم إلينا.

و بذلك كلّه يظهر ما في قول بعضهم: إنّ الطرائق بمعنى الطباق المنضودة بعضها فوق بعض من طرق النعل إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض، و قول آخرين: إنّها بمعنى المبسوطات من طرق الحديد إذا بسطه بالمطرقة.

على أنّ اتّصال ذيل الآية بصدرها على القولين غير بيّن.

قوله تعالى: ( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى‏ ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ ) المراد بالسماء جهة العلو فإنّ ما علاك و أظلّك فهو سماء، و المراد بالماء النازل منها ماء المطر.

و في قوله:( بِقَدَرٍ ) دلالة على أنّ الّذي نزل إنّما نزل على حسب ما يقتضيه التدبير التامّ الإلهيّ الّذي يقدّره بقدر لا يزيد قطرة على ما قدّر و لا ينقص، و فيه تلميح أيضاً إلى قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١.

و المعنى: و أنزلنا من جهة العلو ماء بقدر و هو ماء المطر فأسكنّاه في الأرض و هو الذخائر المدّخرة من الماء في الجبال و السهول تتفجّر عنه العيون و الأنهار و تكشف عنه الآبار، و إنّا لقادرون على أن نذهب بهذا الماء الّذي أسكنّاه في الأرض نوعاً من الذهاب لا تهتدون إلى علمه.

٢١

قوله تعالى: ( فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ ) إلى آخر الآية، إنشاء الجنّات إحداثها و تربيتها، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) معطوف على( جَنَّاتٍ ) أي و أنشأنا لكم به شجرة في طور سيناء، و المراد بها شجرة الزيتون الّتي تكثر في طور سيناء، و قوله:( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) أي تثمر ثمرة فيها الدهن و هو الزيت فهي تنبت بالدهن، و قوله:( وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) أي و تنبت بصبغ للآكلين، و الصبغ بالكسر فالسكون الإدام الّذي يؤتدم به، و إنّما خصّ شجرة الزيتون بالذكر لعجيب أمرها، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ) إلخ، العبرة الدلالة يستدلّ بها على أنّه تعالى مدبّر لأمر خلقه حنين بهم رؤف رحيم، و المراد بسقيه تعالى ممّا في بطونها أنّه رزقهم من ألبانها، و المراد بالمنافع الكثيرة ما ينتفعون من صوفها و شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و منها يأكلون.

قوله تعالى: ( عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ‏ ) ضمير( عَلَيْها ) للأنعام و الحمل على الأنعام هو الحمل على الإبل، و هو حمل في البرّ و يقابله الحمل في البحر و هو الحمل على الفلك، فالآية في معنى قوله:( وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ ) إسراء: ٧٠، و الفلك جمع فلكة و هي السفينة.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال: إذا تمّت النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) يعني نفخ الروح فيه.

و في الكافي، بإسناده عن ابن فضّال عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أباالحسن الرضاعليه‌السلام يقول: قال أبوجعفرعليه‌السلام : إنّ النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله

٢٢

ملكين خلّاقين فيقولان: يا ربّ ما نخلق ذكراً أو اُنثى؟ فيؤمران فيقولان: يا ربّ شقيّ أو سعيد؟ فيؤمران فيقولان: يا ربّ ما أجله و ما رزقه و كلّ شي‏ء من حاله؟ و عدّد من ذلك أشياء، و يكتبان الميثاق بين عينيه.

فإذا كمل الأجل بعث الله إليه ملكاً فزجره زجرة فيخرج و قد نسي الميثاق، فقال الحسن بن الجهم: أ فيجوز أن يدعو الله فيحوّل الاُنثى ذكراً أو الذكر اُنثى؟ فقال: إنّ الله يفعل ما يشاء.

أقول: و الرواية مرويّة عن أبي جعفرعليه‌السلام بطرق اُخرى و ألفاظ متقاربة.

و في تفسير القمّيّ قوله عزّوجلّ:( وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) قال: شجرة الزيتون، و هو مثل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مثل أميرالمؤمنينعليه‌السلام فالطور الجبل و سيناء الشجرة.

و في المجمع:( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) و قد روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه و ادّهنوا.

٢٣

( سورة المؤمنون الآيات ٢٣ - ٥٤)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ  أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٢٣ ) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ( ٢٤ ) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ ( ٢٥ ) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ( ٢٦ ) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ  فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ  وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا  إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ( ٢٧ ) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ( ٢٩ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ( ٣٠ ) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( ٣١ ) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ  أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٣٢ ) وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ( ٣٣ ) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ( ٣٤ ) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا

٢٤

وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ( ٣٥ ) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ( ٣٦ ) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( ٣٧ ) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ( ٣٨ ) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ( ٣٩ ) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ( ٤٠ ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً  فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٤١ ) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ ( ٤٢ ) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ( ٤٣ ) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ  كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ  فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ  فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ( ٤٤ ) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ٤٥ ) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ( ٤٦ ) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ( ٤٧ ) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ( ٤٨ ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( ٤٩ ) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( ٥٠ ) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا  إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٥١ ) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( ٥٢ ) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا  كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( ٥٣ ) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ ( ٥٤ )

٢٥

( بيان‏)

بعد ما عدّ نعمه العظام على الناس عقّبه في هذه الآيات بذكر دعوتهم إلى توحيد عبادته من طريق الرسالة و قصّ إجمال دعوة الرسل من لدن نوح إلى عيسى بن مريمعليهما‌السلام ، و لم يصرّح من أسمائهم إلّا باسم نوح و هو أوّل الناهضين لدعوة التوحيد و اسم موسى و عيسىعليهما‌السلام و هما في آخرهم، و أبهم أسماء الباقين غير أنّه صرح باتّصال الدعوة و تواتر الرسل، و أنّ الناس لم يستجيبوا إلّا بالكفر بآيات الله و الكفران لنعمه.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ ) قد تقدّم في قصص نوحعليه‌السلام من سورة هود أنّه أوّل اُولي العزم من الرسل أصحاب الكتب و الشرائع المبعوثين إلى عامّة البشر و الناهضين للتوحيد و نفي الشرك، فالمراد بقومه اُمّته و أهل عصره عامّة.

و قوله:( اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) دعوة إلى عبادة الله و رفض عبادة الآلهة من دونه فإنّ الوثنيّين إنّما يعبدون غيره من الملائكة و الجنّ و القدّيسين بدعوى اُلوهيّتهم أي كونهم معبودين من دونه.

قال بعض المفسّرين: إنّ معنى( اعْبُدُوا اللهَ ) اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله في سورة هود:( أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) و ترك التقييد به للإيذان بأنّها هي العبادة فقط و أمّا العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شي‏ء رأسا. انتهى.

و فيه غفلة أو ذهول عن أنّ الوثنيّين لا يعبدون الله سبحانه أصلاً بناء على أنّ العبادة توجّه من العابد إلى المعبود، و الله سبحانه أجلّ من أن يحيط به توجّه متوجّه أو علم عالم، فالوجه أن يتقرّب إلى خاصّة خلقه من الملائكة و غيره ليشفعوا عنده و يقرّبوا منه، و العبادة بإزاء التدبير و أمر التدبير مفوّض إليهم منه تعالى فهم الآلهة المعبودون و الأرباب من دونه.

و من هنا يظهر أنّه لو جازت عبادته تعالى عندهم لم يجز إلّا عبادته وحده لأنّهم

٢٦

لا يرتابون في أنّه تعالى ربّ الأرباب موجد الكلّ و لو صحّت عبادته لم تجز إلّا عبادته وحده و لم تصحّ عبادة غيره لكنّهم لا يرون صحّتها بناء على ما زعموه من الوجه المتقدّم.

فقولهعليه‌السلام لقومه الوثنيّين:( اعْبُدُوا اللهَ ) في معنى أن يقال: اعبدوا الله وحده كما ورد في سورة هود( أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) ، و قوله:( ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) في معنى أن يقال: ما لكم من معبود سواه لأنّه لا ربّ غيره يدبّر أمركم حتّى تعبدوه رجاء لرحمته أو خوفاً من سخطه، و قوله بالتفريع على ذلك:( أَ فَلا تَتَّقُونَ ) أي إذا لم يكن لكم ربّ يدبّر اُموركم دونه أ فلا تتّقون عذابه حيث لا تعبدونه و تكفرون به؟

قوله تعالى: ( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ - إلى قوله -حَتَّى حِينٍ ) ملأ القوم أشرافهم، و وصفهم بقوله:( الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) وصف توضيحيّ لا احترازيّ إذ لم يؤمن به من ملإ قومه أحد بدليل قولهم على ما حكاه الله:( وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ) هود: ٢٧.

و السياق يدلّ على أنّ الملأ كانوا يخاطبون بمضمون الآيتين عامّة الناس لصرف وجوههم عنه و إغرائهم عليه و تحريضهم على إيذائه و إسكاته، و ما حكاه تعالى من أقاويلهم في الآيتين وجوه أربعة أو خمسة من فرية أو مغالطة لفّقوها و احتجّوا بها على بطلان دعوته.

الأوّل قولهم:( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) و محصّله أنّه بشر مثلكم فلو كان صادقاً فيما يدّعيه من الوحي الإلهيّ و الاتّصال بالغيب كان نظير ما يدّعيه متحقّقاً فيكم إذ لا تنقصون منه في شي‏ء من البشريّة و لوازمها، و لم يتحقّق فهو كاذب و كيف يمكن أن يكون كمال في وسع البشر أن يناله ثمّ لا يناله إلّا واحد منهم فقط ثمّ يدّعيه من غير شاهد يشهد عليه؟ فلم يبق إلّا أنّه يريد بهذه الدعوة أن يتفضّل عليكم و يترأس فيكم و يؤيّده أنّه يدعوكم إلى اتّباعه و طاعته و هذه الحجّة تنحلّ في الحقيقة إلى حجّتين مختلقتين.

٢٧

و الثاني قولهم:( وَ لَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) و محصّله أنّ الله سبحانه لو شاء أن يدعونا بدعوة غيبيّة لاختار لذلك الملائكة الّذين هم المقرّبون عنده و الشفعاء الروابط بيننا و بينه فأرسلهم إلينا لا بشراً ممّن لا نسبة بينه و بينه. على أنّ في نزولهم و اعترافهم بوجوب العبادة له تعالى وحده و عدم جواز اتّخاذهم أرباباً و آلهة معبودين آية بيّنة على صحّة الدعوة و صدقها.

و التعبير عن إرسال الملائكة بإنزالهم إنّما هو لكون إرسالهم يتحقّق بالإنزال و التعبير بلفظ الجمع دون الإفراد لعلّه لكون المراد بهم الآلهة المتّخذة منهم و هم كثيرون.

و الثالث قولهم:( ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ ) و محصّله أنّه لو كانت دعوته حقّة لاتّفق لها نظير فيما سلف من تاريخ الإنسانيّة، و آباؤنا كانوا أفضل منّا و أعقل و لم يتّفق لهم و في أعصارهم ما يناظر هذه الدعوة فليست إلّا بدعة و اُحدوثة كاذبة.

و الرابع قولهم:( إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ) الجنّة إمّا مصدر أي به جنون أو مفرد الجنّ أي حلّ به من الجنّ من يتكلّم على لسانه لأنّه يدّعي ما لا يقبله العقل السليم و يقول ما لا يقوله إلّا مصاب في عقله فترّبصوا و انتظروا به إلى حين مّا لعلّه يفيق من حالة جنونه أو يموت فنستريح منه.

و هذه حجج مختلقة ألقاها ملأ قومه إلى عامّتهم أو ذكر كلّا منها بعضهم و هي و إن كانت حججاً جدليّة مدخولة لكنّهم كانوا ينتفعون بها حينما يلقونها إلى الناس فيصرفون وجوههم عنه و يغرونهم عليه و يمدّون في ضلالهم.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ) سؤال منه للنصر و الباء في قوله:( بِما كَذَّبُونِ ) للبدليّة و المعنى انصرني بدل تكذيبهم لي أو للآلة و عليه فالمعنى انصرني بالّذي كذّبوني فيه و هو العذاب فإنّهم قالوا:( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) هود: ٣٢، و يؤيّده قول نوح:( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) نوح: ٢٦، و فصل الآية لكونها في معنى جواب السؤال.

٢٨

قوله تعالى: ( فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا ) إلى آخر الآية. متفرّع على سؤال النصر، و معنى صنع الفلك بأعينه صنعه بمرأى منه و هو كناية عن كونه تحت مراقبته تعالى و محافظته، و معنى كون الصنع بوحيه كونه بتعليمه الغيبيّ حالاً بعد حال.

و قوله:( فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ ) المراد بالأمر - كما قيل - حكمه الفصل بينه و بين قومه و قضاؤه فيهم بالغرق، و السياق يشهد على كون فوران التنّور بالماء أمارة نزول العذاب عليهم و هو أعني فوران الماء من التنّور و هو محلّ النار من عجيب الأمر في نفسه.

و قوله:( فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) القراءة الدائرة( مِنْ كُلٍّ ) بالتنوين و القطع عن الإضافة، و التقدير من كلّ نوع من الحيوان، و السلوك فيها الإدخال في الفلك و الظاهر أنّ( مِنْ ) لابتداء الغاية و المعنى فأدخل في الفلك زوجين اثنين: ذكر و اُنثى من كلّ نوع من الحيوان.

و قوله:( وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) معطوف على قوله:( زَوْجَيْنِ ) و ما قيل: إنّ عطف( أَهْلَكَ ) على( زَوْجَيْنِ ) يفسد المعنى المراد لرجوع التقدير حينئذ إلى قولنا: و اسلك فيها من كلّ نوع أهلك فالأولى تقدير( فَاسْلُكْ ) ثانياً قبل( أَهْلَكَ ) و عطفه على( فَاسْلُكْ ) يدفعه أنّ( مِنْ كُلٍّ ) في موضع الحال من( زَوْجَيْنِ ) فهو متأخّر عنه رتبة كما قدّمنا تقديره فلا يعود ثانياً على المعطوف.

و المراد بالأهل خاصّته، و الظاهر أنّهم أهل بيته و المؤمنون به فقد ذكرهم في سورة هود مع الأهل و لم يذكر ههنا إلّا الأهل فقط.

و المراد بمن سبق عليه القول منهم امرأته الكافرة على ما فهم نوحعليه‌السلام و هي و ابنه الّذي أبى ركوب السفينة و غرق حينما آوى إلى جبل في الحقيقة، و سبق القول هو القضاء المحتوم بالغرق.

و قوله:( وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) النهي عن مخاطبته تعالى كناية عن النهي الشديد عن الشفاعة لهم، بدليل تعليق المخاطبة بالّذين ظلموا

٢٩

و تعليل النهي بقوله:( إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) فكأنّه قيل: أنهاك عن أصل تكليمي فيهم فضلاً أن تشفع لهم فقد شملهم غضبي شمولاً لا يدفعه دافع.

قوله تعالى: ( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ ) إلى آخر الآيتين علّمه أن يحمد الله بعد الاستواء على الفلك على تنجيته تعالى من القوم الظالمين و هذا بيان بعد بيان لكونهم هالكين مغرقين حتماً، و أن يسأله أن ينجيه من الطوفان و ينزله على الأرض إنزالاً مباركاً ذا خير كثير ثابت فإنّه خير المنزلين.

و في أمرهعليه‌السلام أن يحمده و يصفه بالجميل دليل على أنّه من عباده المخلصين فإنّه تعالى منزّه عمّا يصفه غيرهم كما قال:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠.

و قد اكتفى سبحانه في القصّة بإخباره عن حكمه بغرقهم و أنّهم مغرقون حتماً و لم يذكر خبر غرقهم إيماء إلى أنّهم آل بهم الأمر إلى أن لا خبر عنهم بعد ذلك، و إعظاماً للقدرة و تهويلاً للسخطة و تحقيراً لهم و استهانة بأمرهم، فالسكوت في هذه القصّة عن هلاكهم أبلغ من قوله في القصّة الآتية:( وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) من وجوه.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ) خطاب في آخر القصّة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بيان أنّ هذه الدعوة مع ما جرى معها كانت ابتلاءً أي امتحاناً و اختباراً إلهيّاً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) إلى آخر الآية الثانية. القرن أهل عصر واحد، و قوله:( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) تفسير لإرسال الرسول من قبيل تفسير الفعل بنتيجته كقوله تعالى:( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا ) حم السجدة: ٣٠.

قوله تعالى: ( قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) هؤلاء أشرافهم المتوغّلون في الدنيا المخلدون إلى الأرض يغرون بقولهم هذا عامّتهم على رسولهم.

٣٠

و قد وصفهم الله بصفات ثلاث و هي: الكفر بالله بعبادة غيره، و التكذيب بلقاء الآخرة - أي بلقاء الحياة الآخرة بقرينة مقابلتها لقوله:( فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) - و لكفرهم بالمبدإ و المعاد انقطعوا عمّا وراء الدنيا فانكبّوا عليها ثمّ لما اُترفوا في الحياة الدنيا و تمكّنوا من زخارفها و زيناتها الملذّة اجتذبتهم الدنيا إلى نفسها فاتّبعوا الهوى و نسوا كلّ حقّ و حقيقة، و لذلك تفوّهوا تارة بنفي التوحيد و الرسالة و تارة بإنكار المعاد و تارة ردّ الدعوة بإضرارها دنياهم و حرّيّتهم في اتّباع هواهم.

فتارة قالوا لعوامهم مشيرين إلى رسولهم إشارة المستحقر المستهين بأمره:( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) يريدون به تكذيبه في دعوته و دعواه الرسالة على ما مرّ من تقرير حجّتهم في قصّة نوح السابقة.

و في استدلالهم على بشريّته و مساواته سائر الناس بأكله و شربه مثل الناس و ذلك من خاصّة مطلق الحيوان دليل على أنّهم ما كانوا يرون للإنسان إلّا كمال الحيوان و لا فضيلة إلّا في الأكل و الشرب و لا سعادة إلّا في التمكّن من التوسّع و الاسترسال من اللذائذ الحيوانيّة كما قال تعالى:( أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ) الأعراف: ١٧٩، و قال:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ) سورة محمّد: ١٢.

و تارة قالوا:( وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ) و هو في معنى قولهم في القصّة السابقة:( يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) يريدون به أنّ في اتّباعه و إطاعته فيما يأمركم به مع كونه بشراً مثلكم من غير فضل له عليكم خسرانكم و بطلان سعادتكم في الحياة إذ لا حياة إلّا الحياة الدنيا و لا سعادة فيها إلّا الحرّيّة في التمتّع من لذائذها، و في طاعة من لا فضل له عليكم رقّيّتكم و زوال حرّيّتكم و هو الخسران.

و تارة قالوا:( أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) أي مبعوثون من قبوركم للحساب و الجزاء( هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ) و هيهات كلمة استبعاد و في تكراره مبالغة في الاستبعاد( إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا )

٣١

أي يموت قوم منّا في الدنيا و يحيا آخرون فيها لا نزال كذلك( وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) للحياة في دار اُخرى وراء الدنيا.

و يمكن أن يحمل قولهم:( نَمُوتُ وَ نَحْيا ) على التناسخ و هو خروج الروح بالموت من بدن و تعلّقها ببدن آخر إنسانيّ أو غير إنسانيّ فإنّ التناسخ مذهب شائع عند الوثنيّين و ربّما عبّروا عنه بالولادة بعد الولادة لكنّه لا يلائم سياق الآيات كثير ملائمة.

و تارة قالوا:( إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ) يريدون به تكذيب دعواه الرسالة مع ما احتوت عليه دعوته و قد أنكروا التوحيد و المعاد قبل ذلك.

و مرادهم بقولهم:( نَحْنُ ) أنفسهم و عامّتهم أشركوا أنفسهم عامّتهم لئلّا يتّهمهم العامّة فيما يأمرونهم به من الكفر بالرسول، و يمكن أن يكون المراد به أنفسهم خاصّة دون العامّة و إنّما أخبروا بعدم إيمانهم ليقتدوا بهم فيه.

و قد نشأت هذه الأقاويل من اجتماع الصفات الّتي وصفهم الله بها في أوّل الآيات و هي إنكار التوحيد و النبوّة و المعاد و الإتراف في الحياة الدنيا.

و اعلم أنّ في قوله في صدر الآيات:( وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ ) قدم قوله:( مِنْ قَوْمِهِ ) على( الَّذِينَ كَفَرُوا ) بخلاف ما في القصّة السابقة من قوله:( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) لأنّه لو وقع بعد( الَّذِينَ كَفَرُوا ) اختلّ به ترتيب الجمل المتوالية( كَفَرُوا ) ( وَ كَذَّبُوا ) ( وَ أَتْرَفْناهُمْ ) و لو وقع بعد الجميع طال الفصل.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ) تقدّم تفسيره في القصّة السابقة.

قوله تعالى: ( قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ ) استجابة لدعوة الرسول و صيرورتهم نادمين كناية عن حلول عذاب الاستئصال بهم، و قوله:( عَمَّا قَلِيلٍ ) عن بمعنى بعد و( مَّا ) لتأكيد القلّة و ضمير الجمع للقوم، و الكلام مؤكّد بلام القسم و نون التأكيد، و المعنى: اُقسم لتأخذنّهم الندامة بعد قليل من الزمان بمشاهدة

٣٢

حلول العذاب.

قوله تعالى: ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ، الباء في( بِالْحَقِّ ) للمصاحبة و هو متعلّق بقوله:( فَأَخَذَتْهُمُ ) أي أخذتهم الصيحة أخذاً مصاحباً للحقّ، أو للسببيّة، و الحقّ وصف اُقيم مقام موصوفه المحذوف و التقدير فأخذتهم الصيحة بسبب الأمر الحقّ أو القضاء الحقّ كما قال:( فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) المؤمن: ٧٨.

و الغثاء بضمّ الغين و ربّما شدّدت الثاء: ما يحمله السيل من يابس النبات و الورق و العيدان البالية، و قوله:( فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) إبعاد و لعن لهم أو دعاء عليهم.

و المعنى: فأنجزنا للرسول ما وعدناه من عذابهم فأخذتهم الصيحة السماويّة و هي العذاب فأهلكناهم و جعلناهم كغثاء السيل فليبعد القوم الظالمون بعداً.

و لم يصرّح باسم هؤلاء القوم الّذين أنشأهم بعد قوم نوح ثمّ أهلكهم و لا باسم رسولهم، و ليس من البعيد أن يكونوا هم ثمود قوم صالحعليه‌السلام فقد ذكر الله سبحانه في قصّتهم في مواضع من كلامه أنّهم كانوا بعد قوم نوح و قد اُهلكوا بالصيحة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ ) تقدّم توضيح مضمون الآيتين كراراً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ ) ، إلى آخر الآية يقال: جاؤا تترى أي فرادى يتبع بعضهم بعضاً، و منه التواتر و هو تتابع الشي‏ء وتراً و فرادى، و عن الأصمعيّ: واترت الخبر أتبعت بعضه بعضاً و بين الخبرين هنيهة انتهى.

و الكلام من تتمّة قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً ) و( ثُمَّ ) للتراخي بحسب الذكر دون الزمان، و القصّة إجمال منتزع من قصص الرسل و اُممهم بين اُمّة نوح و الاُمّة الناشئة بعدها و بين اُمّة موسى.

يقول تعالى: ثمّ أنشأنا بعد تلك الاُمّة الهالكة بالصيحة بعد اُمّة نوح قروناً و اُمماً آخرين و أرسلنا إليهم رسلنا متتابعين يتبع بعضهم بعضا كلّما جاء اُمّة رسولها

٣٣

المبعوث منها إليها كذّبوه فأتبعنا بعضهم أي بعض هذه الاُمم بعضاً أي بالعذاب و جعلناهم أحاديث أي صيّرناهم قصصاً و أخباراً بعد ما كانوا أعياناً ذوات آثار فليبعد قوم لا يؤمنون.

و الآيات تدلّ على أنّه كان من سنّة الله إنشاء قرن بعد قرن و هدايتهم إلى الحقّ بإرسال رسول بعد رسول و هي سنّة الابتلاء و الامتحان، و من سنّة القرون تكذيب الرسول بعد الرسول ثمّ من سنّة الله ثانياً - و هي سنّة المجازاة - تعذيب المكذّبين و إتباع بعضهم بعضاً.

و قوله:( وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) أبلغ كلمة تفصح عن القهر الإلهيّ الّذي يغشى أعداء الحقّ و المكذّبين لدعوته حيث يمحو العين و يعفو الأثر و لا يبقى إلّا الخبر.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى‏ وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ ) الآيات هي العصا و اليد البيضاء و سائر الآيات الّتي أراها موسى فرعون و قومه، و السلطان المبين الحجّة الواضحة، و تفسير بعضهم السلطان بالعصا غير سديد.

قوله تعالى: ( إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ ) قيل: إنّما ذكر ملأ فرعون و اكتفى بهم عن ذكر قومه لأنّهم الأشراف المتبوعون و سائر القوم أتباع يتبعونهم.

و المراد بكونهم عالين أنّهم كانوا يعلون على غيرهم فيستعبدونهم كما علوا على بني إسرائيل و استعبدوهم فالعلوّ في الأرض كناية عن التطاول على أهلها و قهرهم على الطاعة.

قوله تعالى: ( فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ) المراد بكونهما بشرين مثلهم نفي أن يكون لهما فضل عليهم، و بكون قومهما لهم عابدين فضلهم عليهما كما فضّلوا على قومهما فإذا كان الفضل لهم عليهما كان من الواجب أن يعبداهم كما عبدهم قومهما لا أن يؤمنوا بهما كما قال فرعون لموسى:( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) ثمّ ختم تعالى القصّة بذكر هلاكهم

٣٤

فقال:( فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ) ثمّ قال:( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) و المراد بهم بنو إسرائيل لأنّ التوراة إنّما نزلت بعد هلاك فرعون و ملئه.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى‏ رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ ) تقدّم أنّ الآية هي ولادة عيسىعليه‌السلام الخارقة للعادة و إذ كانت أمراً قائماً به و باُمّه معاً عدّاً جميعاً آية واحدة.

و الإيواء من الاُويّ و أصله الرجوع ثمّ استعمل في رجوع الإنسان إلى مسكنه و مقرّه، و آواه إلى مكان كذا أي جعله مسكنا له و الربوة المكان المرتفع المستوي الواسع، و المعين الماء الجاري.

و المعنى: و جعلنا عيسى بن مريم و اُمّه مريم آية دالّة على ربوبيّتنا و أسكنّاهما في مكان مرتفع مستو وسيع فيه قرار و ماء جار.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) خطاب لعامّة الرسل بأكل الطيّبات و كانّ المراد بالأكل منها الارتزاق بها بالتصرّف فيها سواء كان بأكل أو غيره و هو استعمال شائع.

و السياق يشهد بأنّ في قوله:( كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ) امتناناً منه تعالى عليهم، ففي قوله عقيبه:( وَ اعْمَلُوا صالِحاً ) أمر بمقابلة المنّة بصالح العمل و هو شكر للنعمة و في تعليله بقوله:( إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) تحذير لهم من مخالفة أمره و بعث إلى ملازمة التقوى.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) تقدّم تفسير نظيره الآية في سورة الأنبياء.

قوله تعالى: ( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) في المجمع، أنّ التقطّع و التقطيع بمعنى واحد، و الزبر بضمّتين جمع زبور و هو الكتاب، و الكلام متفرّع على ما تقدّمه، و المعنى أنّ الله أرسل إليهم رسله تترا و الجميع اُمّة واحدة لهم ربّ واحد دعاهم إلى تقواه لكنّهم لم يأتمروا بأمره و

٣٥

قطّعوا أمرهم بينهم قطعاً و جعلوه كتباً اختصّ بكلّ كتاب حزب و كلّ حزب بما لديهم فرحون.

و في قراءة ابن عامر( زُبُراً ) بفتح الباء و هو جمع زبرة و هي الفرقة، و المعنى و تفرّقوا في أمرهم جماعات و أحزاباً كلّ حزب بما لديهم فرحون، و هي أرجح.

قوله تعالى: ( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ) قال في المفردات: الغمرة معظم الماء الساترة لمقرّها و جعل مثلاً للجهالة الّتي يغمر صاحبها، انتهى. و في الآية تهديد بالعذاب، و قد تقدّمت إشارة إلى أنّ من سنّته تعالى المجازاة بالعذاب بعد تكذيب الرسالة، و في تنكير( حِينٍ ) إشارة إلى إتيان العذاب الموعود بغتة.

( بحث روائي)

في نهج البلاغة: يا أيّها الناس إنّ الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم و لم يعذكم من أن يبتليكم و قد قال جلّ من قائل:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ) .

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً ) الغثاء اليابس الهامد من نبات الأرض.

و فيه في قوله تعالى:( إِلى‏ رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ ) قال: الربوة الحيرة و ذات قرار و معين الكوفة.

و في المجمع:( وَ آوَيْناهُما إِلى‏ رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ ) قيل: حيرة الكوفة و سوادها، و القرار مسجد الكوفة، و المعين الفرات: عن أبي جعفر و أبي عبد اللهعليهما‌السلام .‏

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الربوة هي دمشق الشام‏، و روي أيضاً عن ابن عساكر و غيره عن مرّة البهزيّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّها الرملة، و الروايات جميعاً لا تخلو من الضعف.

و في المجمع:( يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ) روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّباً و أنّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:( يا

٣٦

أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ) و قال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن أحمد و مسلم و الترمذيّ و غيرهم عن أبي هريرة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( أُمَّةً واحِدَةً ) قال على مذهب واحد.

و فيه في قوله:( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) قال: كلّ من اختار لنفسه ديناً فهو فرح به.

٣٧

( سورة المؤمنون الآيات ٥٥ - ٧٧)

أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ( ٥٥ ) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ  بَل لَّا يَشْعُرُونَ ( ٥٦ ) إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ( ٥٧ ) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( ٥٨ ) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ( ٥٩ ) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ( ٦٠ ) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ( ٦١ ) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا  وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ  وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ٦٢ ) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ( ٦٣ ) حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ( ٦٤ ) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ  إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ ( ٦٥ ) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ( ٦٦ ) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ( ٦٧ ) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ( ٦٨ ) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ( ٦٩ ) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ  بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ( ٧٠ ) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ  بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ( ٧١ ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ  وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ٧٢ ) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ

٣٨

مُّسْتَقِيمٍ ( ٧٣ ) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ( ٧٤ ) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ٧٥ ) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ( ٧٦ ) حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ( ٧٧ )

( بيان‏)

الآيات متّصلة بقوله السابق:( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ) فإنّه لما عقّب قصص الرسل باختلاف الناس في أمر الدين و تحزّبهم أحزاباً كلّ حزب بما لديهم فرحون أوعدهم بعذاب مؤجّل لا مناص لهم عنه و لا مخلص منه فليتيهوا في غمرتهم ما شاؤا فسيغشاهم العذاب و لا محالة.

فنبّههم في هذه الآيات أنّ توهّمهم أنّ ما مدّهم الله به من مال و بنين مسارعة لهم في الخيرات خطأ منهم و جهل بحقيقة الحال، و لو كان ذلك من الخير لم يأخذ العذاب مترفيهم بل المسارعة في الخيرات هو ما وفّق الله المؤمنين له من الأعمال الصالحة و ما يترتّب عليها من جزيل الأجر و عظيم الثواب في الدنيا و الآخرة فهم يسارعون إليها فيسارع لهم فيها.

فالعذاب مدركهم لا محالة و الحجّة تامّة عليهم و لا عذر لهم يعتذرون به كعدم تدبّر القول أو كون الدعوة بدعا لا سابقة له أو عدم معرفة الرسول أو كونه مجنوناً مختلّ القول أو سؤاله منهم خرجاً بل هم أهل عناد و لجاج لا يؤمنون بالحقّ حتّى يأتيهم عذاب لا مردّ له.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ‏ ) ( نُمِدُّهُمْ ) بضمّ النون من الإمداد و المدّ و الإمداد بمعنى واحد و هو تتميم نقص الشي‏ء و حفظه من أن ينقطع أو ينفد، قال الراغب: و أكثر ما يستعمل

٣٩

الإمداد في المحبوب و المدّ في المكروه، فقوله( نُمِدُّهُمْ ) من الإمداد المستعمل في المكروه و المسارعة لهم في الخيرات إفاضة الخيرات بسرعة لكرامتهم عليه فيكون الخيرات على ظنّهم هي المال و البنون سورع لهم فيها.

و المعنى: أ يظنّ هؤلاء أنّ ما نعطيهم في مدّة المهلة من مال و بنين خيرات نسارع لهم فيها لرضانا عنهم أو حبّنا لأعمالهم أو كرامتهم علينا؟

لا، بل لا يشعرون أي إنّ الأمر على خلاف ما يظنّون و هم في جهل بحقيقة الأمر و هو أنّ ذلك إملاء منّا و استدراج و إنّما نمدّهم في طغيانهم يعمهون كما قال تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) الأعراف: ١٨٣.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) إلى آخر الآيات الخمس، يبيّن تعالى في هذه الآيات الخمس بمعونة ما تقدّم أنّ الّذي يظنّ هؤلاء الكفّار أنّ المال و البنين خيرات نسارع لهم فيها خطأ منهم فليست هي من الخيرات في شي‏ء بل استدراج و إملاء و إنّما الخيرات الّتي يسارع فيها هي ما عند المؤمنين بالله و رسله و اليوم الآخر الصالحين في أعمالهم.

فأفصح تعالى عن وصفهم فقال:( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) ، قال الراغب: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأنّ المشفق يحبّ المشفق عليه و يخاف ما يلحقه، قال تعالى:( وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) فإذا عدّي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدّي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال:( إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) ( مُشْفِقُونَ مِنْها ) انتهى.

و الآية تصفهم بأنّهم اتّخذوا الله سبحانه ربّاً يملكهم و يدبّر أمرهم، و لازم ذلك أن يكون النجاة و الهلاك دائرين مدار رضاه و سخطه يخشونه في أمر يحبّونه و هو نجاتهم و سعادتهم فهم مشفقون من خشيته و هذا هو الّذي يبعثهم إلى الإيمان بآياته و عبادته، و قد ظهر بما مرّ من المعنى أنّ الجمع في الآية بين الخشية و الإشفاق ليس تكراراً مستدركاً.

٤٠