الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 111918
تحميل: 4256


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111918 / تحميل: 4256
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ( ٤١ ) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ  قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ  وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ( ٤٢ ) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ  إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ( ٤٣ ) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ  فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا  قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ  قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٤ )

( بيان)

نبذة من قصص داود و سليمانعليهما‌السلام و فيها شي‏ء من عجائب أخبار سليمان بما آتاه الله من الملك.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً ) إلخ، في تنكير العلم إشارة إلى تفخيم أمره، و ممّا اُشير فيه إلى علم داود من كلامه تعالى قوله:( وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ ) ص: ٢٠. و ممّا اُشير فيه إلى علم سليمان قوله:( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً ) الأنبياء: ٧٩، و ذيل الآية يشملهما جميعاً.

و قوله:( وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى‏ كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) المراد بالتفضيل إمّا التفضيل بالعلم على ما ربّما يؤيّده سياق الآية، و إمّا التفضيل بمطلق ما خصّهما الله به من المواهب كتسخير الجبال و الطير لداود و تليين الحديد له و إيتائه الملك، و تسخير الجنّ و الوحش و الطير و كذا الريح لسليمان و تعليمه منطق الطير و إيتائه الملك على ما يستدعيه إطلاق التفضيل.

و الآية أعني قوله:( وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ ) إلخ، على أيّ حال بمنزلة حكاية اعترافهما على التفضيل الإلهيّ فيكون كالشاهد على المدّعى الّذي تشير إليه بشارة

٣٨١

صدر السورة أنّ الله سبحانه سيخصّ المؤمنين بما تقرّ به عيونهم و مثلها ما سيأتي من اعترافات سليمان في مواضع من كلامه.

قوله تعالى: ( وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) إلخ، أي ورثه ماله و ملكه، و أمّا قول بعضهم: المراد به وراثة النبوّة و العلم ففيه أنّ النبوّة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، و العلم و إن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنّه إنّما يصحّ في العلم الفكريّ الاكتسابيّ و العلم الّذي يختصّ به الأنبياء و الرسل كرامةً من الله لهم وهبيّ ليس ممّا يكتسب بالفكر فغير النبيّ يرث العلم من النبيّ لكنّ النبيّ لا يرث علمه من نبيّ آخر و لا من غير نبيّ.

و قوله:( وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) ظاهر السياق أنّهعليه‌السلام يباهي عن نفسه و أبيه و هو منهعليه‌السلام تحديث بنعمة الله كما قال تعالى:( وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) الضحى: ١١، و أمّا إصرار بعض المفسّرين على أنّ الضمير في قوله:( عُلِّمْنا ) و( أُوتِينا ) لنفسه لا له و لأبيه على ما هو عادة الملوك و العظماء في الإخبار عن أنفسهم - فإنّهم يخبرون عنهم و عن خدمهم و أعوانهم رعاية لسياسة الملك - فالسياق السابق لا يساعد عليه كلّ المساعدة.

و المراد بالناس ظاهر معناه و هو عامّة المجتمعين من غير تميّز لبعضهم من بعض و قول بعضهم إنّ المراد بهم عظماء أهل مملكته أو علماؤهم غير سديد.

و المنطق و النطق على ما نتعارفه هو الصوت أو الأصوات المؤلّفة الدالّة بالوضع على معان مقصودة للناطق المسمّاة كلاماً و لا يكاد يقال - على ما ذكره الراغب - إلّا للإنسان لكنّ القرآن الكريم يستعمله في معنى أوسع من ذلك و هو دلالة الشي‏ء على معنى مقصود لنفسه، قال تعالى:( وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) حم السجدة: ٢١، و هو إمّا من باب تحليل المعنى كما يستعمله القرآن في أغلب المعاني و المفاهيم المقصورة في الاستعمالات على المصاديق الجسمانيّة المادّيّة كالرؤية و النظر و السمع و اللوح و القلم و العرش

٣٨٢

و الكرسيّ و غيرها، و إمّا لأنّ للفظ معنى أعمّ و اختصاصه بالإنسان من باب الانصراف لكثرة الاستعمال.

و كيف كان فمنطق الطير هو ما تدلّ به الطير بعضها على مقاصدها، و الّذي نجده عند التأمّل في أحوالها الحيوية هو أنّ لكلّ صنف أو نوع منها أصواتاً ساذجة خاصّة في حالاتها الخاصّة الاجتماعيّة حسب تنوّع اجتماعاتها كحال الهياج للسفاد و حال المغالبة و الغلبة و حال الوحشة و الفزع و حال التضرّع أو الاستغاثة إلى غير ذلك و نظير الطير في ذلك سائر الحيوان.

لكن لا ينبغي الارتياب في أنّ المراد بمنطق الطير في الآية معنى أدقّ و أوسع من ذلك.

أمّا أوّلاً: فلشهادة سياق الآية على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتحدّث عن أمر اختصاصيّ ليس في وسع عامّة الناس أن ينالوه و إنّما ناله بعناية خاصّة إلهيّة، و هذا المقدار المذكور من منطق الطير ممّا يسع لكلّ أحد أن يطّلع عليه و يعرفه.

و أمّا ثانياً: فلأنّ ما حكاه الله تعالى في الآيات التالية من محاورة سليمان و الهدهد يتضمّن معارف عالية متنوّعة لا يسع لما نجده عند الهدهد من الأصوات المعدودة أن تدلّ عليها بتميّز لبعضها من بعض ففي كلام الهدهد ذكر الله سبحانه و وحدانيّته و قدرته و علمه و ربوبيّته و عرشه العظيم و ذكر الشيطان و تزيينه الأعمال و الهدى و الضلال و غير ذلك، و فيه ذكر الملك و العرش و المرأة و قومها و سجدتهم للشمس، و في كلام سليمان أمره بالذهاب بالكتاب و إلقائه إليهم ثمّ النظر فيما يرجعون، و هذه كما لا يخفى على الباحث في أمر المعاني المتعمّق فيها معارف جمّة لها اُصول عريقة يتوقّف الوقوف عليها على اُلوف و اُلوف من المعلومات، و أنّى تفي على إفادة تفصيلها أصوات ساذجة معدودة.

على أنّه لا دليل على أنّ كلّ ما يأتي بها الحيوان في نطقه من الأصوات أو خصوصيّات الصوت يفي حسّنا بإدراكه أو تمييزه، و يؤيّده ما نقل من قول النملة في الآيات التالية و هو من منطق الحيوان قطعاً و لا صوت للنملة يناله سمعناً

٣٨٣

و يؤيّده أيضاً ما يراه علماء الطبيعة اليوم أنّ الّذي يناله سمع الإنسان من الصوت عدد خاصّ من الارتعاش المادّي و هو ما بين ستّة عشر ألفاً إلى اثنين و ثلاثين ألفاً في الثانية، و أنّ الخارج من ذلك في جانبي القلّة و الكثرة لا يقوى عليه سمع الإنسان و ربّما ناله سائر الحيوان أو بعضها.

و قد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان من عجيب الفهم و لطيف الإدراك عند أنواع من الحيوان كالفرس و الكلب و القرد و الدبّ و الزنبور و النملة و غيرها على اُمور لا يكاد يعثر على نظائرها عند أكثر أفراد الإنسان.

و قد تبيّن بما مرّ أنّ ظاهر السياق أنّ للطير منطقاً علّمه الله سليمان، و ظهر به فساد قول من قال إنّ نطق الطير كان معجزة لسليمان و أمّا هي في نفسها فليس لها نطق هذا.

و قوله:( وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) أي أعطينا من كلّ شي‏ء و( كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) و إن كان شاملاً لجميع ما يفرض موجوداً - لأنّ مفهوم شي‏ء من أعمّ المفاهيم و قد دخل عليه كلمة الاستغراق - لكن لما كان المقام مقام التحديث بالنعمة و لا كلّ نعمة بل النعم الّتي يمكن أن يؤتاها الإنسان فيتنعّم بها تقيّد به معنى كلّ شي‏ء و كان معنى الجملة: و أعطانا الله من كلّ نعمة يمكن أن يعطاها الإنسان فيتنعّم بها مقداراً معتدّاً به كالعلم و النبوّة و الملك و الحكم و سائر النعم المعنويّة و المادّيّة.

و قوله:( إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) شكر و تأكيد للتحديث بالنعمة من غير عجب و لا كبر و اختيال لإسناده الجميع إلى الله بقوله:( عُلِّمْنا ) و( أُوتِينا ) ، و احتمل بعضهم أن تكون الجملة من كلام الله سبحانه لا من كلام سليمان و السياق يأباه.

قوله تعالى: ( وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ) الحشر هو جمع الناس و إخراجهم لأمر بإزعاج و الوزع المنع و قيل الحبس، و المعنى كما قيل: و جمع لسليمان جنوده من الجنّ و الإنس و الطير فهم يمنعون من التفرّق و اختلاط كلّ جمع بآخر بردّ أوّلهم إلى آخرهم و حبس كلّ في مكانه.

٣٨٤

و يستفاد من الآية أنّه كان له جنود من الجنّ و الطير يسيرون معه كجنوده من الإنس.

و كلمة الحشر و وصف المحشورين بأنّهم جنود، و سياق الآيات التالية كلّ ذلك دليل على أنّ جنوده كانوا طوائف خاصّة من الجنّ و الإنس و الطير سواء كانت( مِنَ ) في الآية للتبعيض أو للبيان.

و قد أغرب في التفسير الكبير، فزعم أنّ الآية تدلّ على أنّ جميع الجنّ و الإنس و الطير كانوا جنوده و قد ملك الأرض كلّها و أنّ الله تعالى جعل الطير في زمانه عقلاء مكلّفين ثمّ عادت بعد زمانه على ما كانت عليه قبله و قال بمثله في النملة الّتي تكلّمت، قال في تفسير الآية: و المعنى أنّه جعل الله تعالى كلّ هذه الأصناف جنوده، و لا يكون كذلك إلّا بأن يتصرّف على مراده، و لا يكون كذلك إلّا مع العقل الّذي يصحّ معه التكليف أو يكون بمنزلة المراهق الّذي قد قارب حدّ التكليف، فلذلك قلنا: إنّ الله تعالى جعل الطير في أيّامه ممّا له عقل و ليس كذلك حال الطيور في أيّامنا و إن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق الّتي خصّت بالحاجة إليها أو خصّها الله بها لمنافع العباد كالنحل و غيره. انتهى.

و وجوه التحكّم فيه غنيّة عن البيان.

و تقديم الجنّ في الذكر على الإنس و الطير لكون تسخيرهم و دخولهم تحت الطاعة عجيباً، و ذكر الإنس بعده دون الطير مع كون تسخيرها أيضاً عجيباً رعاية لأمر المقابلة بين الجنّ و الإنس.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى‏ وادِ النَّمْلِ ) الآية،( حَتَّى ) غاية لما يفهم من الآية السابقة، و ضمير الجمع لسليمان و جنوده، و تعدية الإتيان بعلى قيل: لكون الإتيان من فوق، و وادي النمل واد بالشام على ما قيل، و قيل في أرض الطائف، و قيل: في أقصى اليمن، و الحطم الكسر.

و المعنى: فلمّا سار سليمان و جنوده حتّى أتوا على وادي النمل قالت نملة مخاطبة لسائر النمل: يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يكسرنّكم سليمان و جنوده أي لا يطأنّكم

٣٨٥

بأقدامهم و هم لا يشعرون. و فيه دليل على أنّهم كانوا يسيرون على الأرض.

قوله تعالى: ( فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها ) إلى آخر الآية، قيل: التبسّم دون الضحك، و على هذا فالمراد بالضحك هو الإشراف عليه مجازاً.

و لا منافاة بين قولهعليه‌السلام :( عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) و بين فهمه كلام النملة إذ لم ينف فهمه كلام سائر الحيوان أو كلام بعضها كالنملة.

و قد تسلّم جمع منهم دلالة قوله:( عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) على نفي ما عداه فتكلّفوا في توجيه فهمهعليه‌السلام قول النملة تارة بأنّه كانت قضيّة في واقعة، و اُخرى بتقدير أنّها كانت نملة ذات جناحين و هي من الطير، و ثالثة بأنّ كلامها كان من معجزات سليمانعليه‌السلام و رابعة بأنّهعليه‌السلام لم يسمع منها صوتاً قطّ و إنّما فهم ما في نفس النملة إلهاماً من الله تعالى هذا.

و ما تقدّم من معنى منطق الحيوان يزاح به هذه الأوهام. على أنّ سياق الآيات وحده كاف في دفعها.

و قوله:( وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) الإيزاع الإلهام. تبسّمعليه‌السلام مبتهجاً مسروراً بما أنعم الله عليه حتّى أوقفه هذا الموقف و هي النبوّة و العلم بمنطق الحيوان و الملك و الجنود من الجنّ و الإنس و الطير فسأل الله أن يلهمه شكر نعمته و أن يعمل بما فيه رضاه سبحانه.

و قد جعل الشكر للنعمة الّتي أنعم الله تعالى بها على نفسه مختصّة به، و للنعمة الّتي أنعم بها على والديه فإنّ الإنعام على والديه إنعام عليه بوجه لكونه منهما و قد أنعم الله تعالى على أبيه داود بالنبوّة و الملك و الحكمة و فصل الخطاب و غيرها و أنعم على اُمّه حيث زوجها من داود النبيّ و رزقها سليمان النبيّ و جعلها من أهل بيت النبوّة.

و في كلامه هذا دليل على أنّ والدته من أهل الصراط المستقيم الّذين أنعم الله

٣٨٦

عليهم(١) و هم إحدى الطوائف الأربع المذكورين في قوله تعالى:( الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ ) النساء: ٦٩.

و قوله:( وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) عطف على قوله:( أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) و مسألته هذه:( أوزعني أن أعمل) إلخ، أمر أرفع قدراً و أعلى منزلة من سؤال التوفيق للعمل الصالح فإنّ التوفيق يعمل في الأسباب الخارجيّة بترتيبها بحيث توافق سعادة الإنسان و الإيزاع الّذي سأله دعوة باطنيّة في الإنسان إلى السعادة، و على هذا فليس من البعيد أن يكون المراد به الوحي الّذي أكرم الله به إبراهيم و آله فيما يخبر عنه بقوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ) الآية الأنبياء: ٧٣، و هو التأييد بروح القدس على ما مرّ في تفسير الآية.

و قوله:( وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) أي اجعلني منهم، و هذا الصلاح لما لم يتقيّد بالعمل كان هو صلاح الذات و هو صلاح النفس في جوهرها الّذي يستعد به لقبول أيّ كرامة إلهيّة.

و من المعلوم أنّ صلاح الذات أرفع قدراً من صلاح العمل ففي قوله:( وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) تدرّج في المسألة من الأدنى إلى الأعلى و قد كان صلاح العمل منسوباً إلى صنعه و اختياره بوجه دون صلاح الذات و لذا سأل صلاح الذات من ربّه و لم يسأل نفس صلاح العمل بل أن يوزعه أن يعمل.

و في تبديله سؤال صلاح الذات من سؤال أن يدخله في عباده الصالحين إيذان بسؤاله ما خصّهم الله به من المواهب و أغزرها العبوديّة و قد وصفه الله بها في قوله:( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ص: ٣٠.

قوله تعالى: ( وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ )

____________________

(١) و فيه تبرئة ساحتها عمّا في التوراة أنّها كانت امرأة أوريا فجر بها داود ثمّ كاد في قتل أوريا فقتل في بعض الحروب فأدخلها في أزواجه فولدت له سليمان.

٣٨٧

قال الراغب: التفقّد التعهّد لكن حقيقة التفقّد تعرّف فقدان الشي‏ء و التعهّد تعرّف العهد المتقدّم قال تعالى:( وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ ) انتهى.

استفهم أوّلاً متعجّباً من حال نفسه إذ لا يرى الهدهد بين الطير كأنّه لم يكن من المظنون في حقّه أن يغيب عن موكبه و يستنكف عن امتثال أمره ثمّ أضرب عن ذلك بالاستفهام عن غيبته.

و المعنى: ما بالي لا أرى الهدهد بين الطيور الملازمة لموكبي بل أ كان من الغائبين.

قوله تعالى: ( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) اللّامات للقسم و السلطان المبين البرهان الواضح، يقضيعليه‌السلام على الهدهد أحد ثلاث خصال: العذاب الشديد و الذبح و فيهما شقاؤه، و الإتيان بحجّة واضحة و فيه خلاصه و نجاته.

قوله تعالى: ( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) ضمير( فَمَكَثَ ) لسليمان و يحتمل أن يكون للهدهد و يؤيّد الأوّل سابق السياق و الثاني لاحقه، و المراد بالإحاطة العلم الكامل، و قوله:( وَ جِئْتُكَ ) إلخ، بمنزلة عطف التفسير لقوله:( أَحَطْتُ ) إلخ، و سبأ بلدة باليمن كانت عاصمته يومئذ و النبأ الخبر الّذي له أهميّة، و اليقين ما لا شكّ فيه.

و المعنى: فمكث سليمان - أو فمكث الهدهد - زماناً غير بعيد - ثمّ حضر فسأله سليمان عن غيبته و عاتبه - فقال أحطت من العلم بما لم تحط به و جئتك من سبإ بخبر مهمّ لا شكّ فيه.

و منه يظهر أنّ في الآية حذفاً و إيجازاً، و قد قيل: إنّ في قول الهدهد:( أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ) كسراً لسورة سليمانعليه‌السلام فيما شدّد عليه.

قوله تعالى: ( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ) الضمير في( تَمْلِكُهُمْ ) لأهل سبإ و ما يتبعها و قوله:( وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) وصف لسعة ملكها و عظمته و هو القرينة على أنّ المراد بكلّ شي‏ء في الآية كلّ شي‏ء

٣٨٨

هو من لوازم الملك العظيم من حزم و عزم و سطوة و مملكة عريضة و كنوز و جنود مجنّدة و رعيّة مطيعة، و خصّ بالذكر من بينها عرشها العظيم.

قوله تعالى: ( وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ ) إلخ، أي إنّهم من عبدة الشمس من الوثنيّين.

و قوله:( وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) بمنزلة عطف التفسير لما سبقه و هو مع ذلك توطئة لقوله بعد:( فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) لأنّ تزيين الشيطان لهم أعمالهم الّتي هي سجدتهم و سائر تقرّباتهم هو الّذي صرفهم و منعهم عن سبيل الله و هي عبادته وحده.

و في إطلاق السبيل من غير إضافتها إليه تعالى إشارة إلى أنّها السبيل المتعيّنة للسبيليّة بنفسها للإنسان بالنظر إلى فطرته بل لكلّ شي‏ء بالنظر إلى الخلقة العامّة.

و قوله:( فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) تفريع على صدّهم عن السبيل إذ لا سبيل مع الصدّ عن السبيل فلا اهتداء، فافهمه.

قوله تعالى: ( أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ‏ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ ) القراءة الدائرة( أَلَّا ) بتشديد اللّام - مؤلّف من( أن و لا) و هو عطف بيان من( أَعْمالَهُمْ ) ، و المعنى: زيّن لهم الشيطان أن لا يسجدوا لله، و قيل: بتقدير لام التعليل، و المعنى: زيّن لهم الشيطان ضلالتهم لئلّا يسجدوا لله.

و الخب‏ء على ما في مجمع البيان، المخبوء و هو ما أحاط به غيره حتّى منع من إدراكه و هو مصدر وصف به يقال: خبأته أخبؤه خبأ و ما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنزلة. انتهى.

ففي قوله:( يُخْرِجُ الْخَبْ‏ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) استعارة كأنّ الأشياء مخبوءة مستورة تحت أطباق العدم فيخرجها الله تعالى إلى الوجود واحداً بعد آخر فيكون تسمية الإيجاد بعد العدم إخراجاً للخب‏ء قريباً من تسميته بالفطر و توصيفه تعالى بأنّه فاطر السماوات و الأرض و الفطر هو الشقّ كأنّه يشقّ العدم فيخرج الأشياء.

و يمكن حمل الجملة على الحقيقة من غير استعارة لكنّه مفتقر إلى بيان

٣٨٩

موضعه غير هذا الموضع. و قيل: المراد بالخب‏ء الغيب و إخراجه العلم به و هو كما ترى.

و قوله:( وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ ) بالتاء على الخطاب أي يعلم سرّكم و علانيّتكم، و قرأ الأكثرون بالياء على الغيبة و هو أرجح.

و ملخص الحجّة: أنّهم إنّما يسجدون للشمس دون الله تعظيماً لها على ما أودع الله سبحانه في طباعها من الآثار الحسنة و التدبير العامّ للعالم الأرضيّ و غيره، و الله الّذي أخرج جميع الأشياء من العدم إلى الوجود و من الغيب إلى الشهادة فترتّب على ذلك نظام التدبير من أصله - و من جملتها الشمس و تدبيرها - أولى بالتعظيم و أحقّ أن يسجد له، مع أنّه لا معنى لعبادة ما لا شعور له بها و لا شعور للشمس بسجدتهم و الله سبحانه يعلم ما يخفون و ما يعلنون فالله سبحانه هو المتعيّن للسجدة و التعظيم لا غير.

و بهذا البيان تبيّن وجه اتّصال قوله تلوا:( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) من تمام كلام الهدهد و هو بمنزلة التصريح بنتيجة البيان الضمنيّ السابق و إظهار الحقّ قبال باطلهم و لذا أتى أوّلاً بالتهليل الدالّ على توحيد العبادة ثمّ ضمّ إليه قوله:( رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) الدالّ على انتهاء تدبير الأمر إليه فإنّ العرش الملكيّ هو المقام الّذي تجتمع عنده أزمّة الاُمور و تصدر منه الأحكام الجارية في الملك.

و في قوله:( رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) مناسبة محاذاة اُخرى مع قوله في وصف ملكة سبإ:( وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ) و لعلّ قول الهدهد هذا هو الّذي دعا - أو هو من جملة ما دعا - سليمانعليه‌السلام أن يأمر أن يأتوا بعرشها إليه ليخضع لعظمة ربّه كلّ عظمة.

قوله تعالى: ( قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ) الضمير لسليمانعليه‌السلام . أحال القضاء في أمر الهدهد إلى المستقبل فلم يصدّقه في قوله لعدم بيّنة عليه بعد و لم يكذّبه لعدم الدليل على كذبه بل وعده أن يجرّب و يتأمّل.

٣٩٠

قوله تعالى: ( اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ ) حكاية قول سليمان خطاباً للهدهد كأنّه قيل: فكتب سليمان كتاباً ثمّ قال للهدهد: اذهب بكتابي هذا إليهم أي إلى ملكة سبإ و ملإها فألقه إليهم ثمّ تولّ عنهم أي تنحّ عنهم وقع في مكان تراهم فانظر ما ذا يرجعون أي ما ذا يردّ بعضهم من الجواب على بعض إذا تكلّموا فيه.

و قوله:( فَأَلْقِهْ ) بسكون الهاء وصلاً و وقفاً في جميع القراءات و هي هاء السكت، و ممّا قيل في الآية: أنّ قوله:( ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ) إلخ، من قبيل التقديم و التأخير و الأصل فانظر ما ذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم: و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ) في الكلام حذف و إيجاز و التقدير فأخذ الهدهد الكتاب و حمله إلى ملكة سبإ حتّى إذا أتاها ألقاه إليها فأخذته و لما قرأته قالت لملإها و أشراف قومها يا أيّها الملؤا إلخ.

فقوله:( قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) حكاية ذكرها لملإها أمر الكتاب و كيفيّة وصوله إليها و مضمونه، و قد عظّمته إذ وصفته بالكرم.

و قوله:( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ظاهره أنّه تعليل لكون الكتاب كريماً أي و السبب فيه أنّه من سليمان و لم يكد يخفى عليها جبروت سليمان و ما اُوتيه من الملك العظيم و الشوكة العجيبة كما اعترفت بذلك في قولها على ما حكاه الله بعد:( وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ ) .

( وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) : أي الكتاب باسمه تعالى فهو كريم لذلك و الوثنيّون جميعاً قائلون بالله سبحانه يرونه ربّ الأرباب و إن لم يعبدوه، و عبدة الشمس منهم و هم من شعب الصابئين يعظّمونه و يعظّمون صفاته و إن كانوا يفسّرون الصفات بنفي النقائص و الأعدام فيفسّرون العلم و القدرة و الحياة و الرحمة مثلاً بانتفاء الجهل و العجز و الموت و القسوة فكون الكتاب باسم الله الرحمن الرحيم يستدعي كونه كريماً، كما أنّ كونه من سليمان العظيم يستدعي كونه كريماً، و على هذا فالكتاب

٣٩١

أي مضمونه هو قوله:( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ ) و أن مفسّرة.

و من العجيب ما عن جمع من المفسّرين أنّ قوله:( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ) استئناف وقع جواباً لسؤال مقدّر كأنّه قيل: ممّن الكتاب و ما ذا فيه فقالت: إنّه من سليمان إلخ، و على هذا يكون قوله:( وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ ) بياناً للكتاب أي لمتنه و أنّ الكتاب هو( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ ) .

و يتوجّه عليهم أوّلاً: وقوع لفظة( أن ) زائدة لا فائدة لها و لذا قال بعضهم: إنّها مصدريّة و( لا ) نافية لا ناهية و هو وجه سخيف كما سيأتي.

و ثانياً: بيان الوجه في كون الكتاب كريماً فقيل: وجه كرامته أنّه كان مختوماً ففي الحديث: إكرام الكتاب ختمه‏ حتّى ادّعى بعضهم أنّ معنى كرامة الكتاب ختمه، يقال: أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته، و قيل: إنّها سمّته كريماً لجودة خطّه و حسن بيانه، و قيل: لوصوله إليها على منهاج غير عاديّ، و قيل: لظنّها بسبب إلقاء الطير أنّه كتاب سماويّ إلى غير ذلك من الوجوه.

و أنت خبير بأنّها تحكّمات غير مقنعة، و الظاهر أنّ الّذي أوقعهم فيما وقعوا حملهم قوله:( وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ - إلى قوله -مُسْلِمِينَ ) على حكاية متن الكتاب و ذلك ينافي حمل قوله:( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ ) إلخ، على تعليل كرامة الكتاب و يدفعه أنّ ظاهر أنّ المفسّرة في قوله:( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ) إلخ، أنّه نقل لمعنى الكتاب و مضمونه لا حكاية متنه فمحصّل الآيتين أنّ الكتاب كان مبدوّا بسم الله الرحمن الرحيم و أنّ مضمونه النهي عن العلوّ عليه و الأمر بأن يأتوه مسلمين فلا محذور أصلاً.

قوله تعالى: ( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ ) أن مفسّرة تفسّر مضمون كتاب سليمان كما تقدّمت الإشارة إليه.

و قول بعضهم: إنّها مصدريّة و( لا ) نافية أي عدم علوّكم عليّ، سخيف لاستلزامه أوّلاً: تقدير مبتدإ أو خبر محذوف من غير موجب، و ثانياً: عطف الإنشاء و هو قوله:( وَ أْتُونِي ) على الإخبار.

٣٩٢

و المراد بعلوّهم عليه، استكبارهم عليه، و بقوله:( وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ ) إسلامهم بمعنى الانقياد على ما يؤيّده قوله:( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ) دون الإسلام بالمعنى المصطلح و هو الإيمان بالله سبحانه و إن كان إتيانهم منقادين له يستلزم إيمانهم بالله على ما يستفاد من سياق قول الهدهد و سياق الآيات الآتية، و لو كان المراد بالإيمان المعنى المصطلح كان المناسب له أن يقال: أن لا تعلوا على الله.

و كون سليمانعليه‌السلام نبيّاً شأنه الدعوة إلى الإسلام لا ينافي ذلك فإنّه كان ملكاً رسولاً و كانت دعوته إلى الانقياد المطلق تستلزم ذلك كما تقدّم و قد انتهت إلى إسلامها لله كما حكى الله تعالى عنها( أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ ) .

قوله تعالى: ( قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ ) الإفتاء إظهار الفتوى و هي الرأي، و قطع الأمر القضاء به و العزم عليه و الشهادة الحضور و هذا استشارة منها لهم تقول: أشيروا عليّ في هذا الأمر الّذي واجهته - و هو الّذي يشير إليه كتاب سليمان - و إنّما أستشيركم فيه لأنّي لم أكن حتّى اليوم أستبدّ برأيي في الاُمور بل أقضي و أعزم عن إشارة و حضور منكم.

فالآية تشير إلى فصل ثان من كلامها مع ملإها بعد الفصل الأوّل الّذي أخبرتهم فيه بكتاب سليمانعليه‌السلام و كيفيّة وصوله و ما فيه.

قوله تعالى: ( قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ ) القوّة ما يتقوّى به على المطلوب و هي ههنا الجند الّذي يتقوّى به على دفع العدوّ و قتاله، و البأس الشدّة في العمل و المراد به النجدة و الشجاعة.

و الآية تتضمّن جواب الملإ لها يسمعونها أوّلاً ما يطيب له نفسها و يسكن به قلقها ثمّ يرجعون إليها الأمر يقولون: طيبي نفساً و لا تحزني فإنّ لنا من القوّة و الشدّة ما لا نهاب به عدوّاً و إن كان هو سليمان ثمّ الأمر إليك مري بما شئت فنحن مطيعوك.

قوله تعالى: ( قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) إفساد القرى تخريبها و إحراقها و هدم أبنيتها، و إذلال

٣٩٣

أعزّة أهلها هو بالقتل و الأسر و السبي و الإجلاء و التحكّم.

كان رأيها على ما يستفاد من هاتين الآيتين - زيادة التبصّر في أمر سليمانعليه‌السلام بأن ترسل إليه من يختبر حاله و يشاهد مظاهر نبوّته و ملكه فيخبر الملكة بما رأى حتّى تصمّم هي العزم على أحد الأمرين: الحرب أو السلم و كان الظاهر من كلام الملإ حيث بدؤا في الكلام معها بقولهم: نحن اُولو قوّة و اُولو بأس شديد، أنّهم يميلون إلى القتال لذلك أخذت أوّلاً تذمّ الحرب ثمّ نصّت على ما هو رأيها فقالت:( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها ) إلخ، أي إنّ الحرب لا تنتهي إلّا إلى غلبة أحد المتحاربين و فيها فساد القرى و ذلّة أعزّتها فليس من الحزم الإقدام عليها مع قوّة العدوّ و شوكته مهما كانت إلى السلم و الصلح سبيل إلّا لضرورة و رأيي الّذي أراه أن اُرسل إليهم بهدية ثمّ أنظر بما ذا يرجع المرسلون من الخبر و عند ذلك أقطع بأحد الأمرين الحرب أو السلم.

فقوله:( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا ) إلخ، توطئة لقوله بعد:( وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ ) إلخ.

و قوله:( وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً ) أبلغ و آكد من قولنا مثلاً: استذلّوا أعزّتها لأنّه مع الدلالة على تحقّق الذلّة يدلّ على تلبّسهم بصفة الذلّة.

و قوله:( وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) مسوق للدلالة على الاستمرار بعد دلالة قوله:( أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً ) على أصل الوقوع، و قيل: إنّ الجملة من كلام الله سبحانه لا من تمام كلام ملكة سبإ و ليس بسديد إذ لا اقتضاء في المقام لمثل هذا التصديق.

قوله تعالى: ( وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) أي مرسلة إلى سليمان و هذا نوع من التجبّر و الاعتزاز الملوكيّ تصون لسانها عن اسمه و تنسب الأمر إليه و إلى من معه جميعاً و أيضاً تشير به إلى أنّه يفعل ما يفعل بأيدي أعضاده و جنوده و إمداد رعيّته.

و قوله:( فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) أي حتّى أعمل عند ذلك بما تقتضيه الحال

٣٩٤

و هذا - كما تقدّم - هو رأي ملكة سبإ و يعلم من قوله:( الْمُرْسَلُونَ ) أنّ الحامل للهديّة كان جمعاً من قومها كما يستفاد من قول سليمان بعد:( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ) أنّه كان للقوم المرسلين رئيس يرأسهم.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ) ضمير جاء للمال الّذي اُهدي إليه أو للرسول الّذي جاء بالهديّة.

و الاستفهام في قوله:( أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ ) للتوبيخ و الخطاب للرسول و المرسل بتغليب الحاضر على الغائب، و توبيخ القوم من غير تعيين الملكة من بينهم نظير قولها فيما تقدّم:( وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ) كما أشرنا إليه.

و جوّز أن يكون الخطاب للمرسلين و كانوا جماعة و هو خطأ فإنّ الإمداد لم يكن من المرسلين بل ممّن أرسلهم فلا معنى لتوجيه التوبيخ إليهم خاصّة، و تنكير المال للتحقير، و المراد بما آتاني الله الملك و النبوّة.

و المعنى: أ تمدّونني بمال حقير لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله فما آتاني الله من النبوّة و الملك و الثروة خير ممّا آتاكم.

و قوله:( بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ) إضراب عن التوبيخ بإمداده بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديّتهم أي إنّ إمدادكم إيّاي بمال لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله قبيح و فرحكم بهديّتكم لاستعظامكم لها و إعجابكم بها أقبح.

و قيل: المراد بهديّتكم الهديّة الّتي تهدى إليكم، و المعنى: بل أنتم تفرحون بما يهدى إليكم من الهديّة لحبّكم زيادة المال و أمّا أنا فلا أعتدّ بمال الدنيا هذا. و بُعده ظاهر.

قوله تعالى: ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ ) الخطاب لرئيس المرسلين، و ضمائر الجمع راجعة إلى ملكة سبإ و قومها، و القبل الطاقة، و ضمير( بِها ) لسبإ، و قوله:( وَ هُمْ صاغِرُونَ ) تأكيد لما قبله، و اللّام في( فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ ) و( لَنُخْرِجَنَّهُمْ ) للقسم.

٣٩٥

لما كان ظاهر تبديلهم امتثال أمره - و هو قوله:( وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ ) - من إرسال الهديّة هو الاستنكاف عن الإسلام قدّر بحسب المقام أنّهم غير مسلمين له فهدّدهم بإرسال جنود لا قبل لهم بها و لذلك فرّع إتيانهم بالجنود على رجوع الرسول من غير أن يشترطه بعدم إتيانهم مسلمين فقال:( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ ) إلخ، و لم يقل: ارجع فإن لم يأتوني مسلمين فلنأتينّهم إلخ، و إن كان مرجع المعنى إليه فإنّ إرسال الجنود و إخراجهم من سبإ على حال الذلّة كان مشروطاً به على أيّ حال.

و السياق يشهد أنّهعليه‌السلام ردّ إليهم هديّتهم و لم يقبلها منهم.

قوله تعالى: ( قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) كلام تكلّم به بعد ردّ الهديّة و إرجاع الرسل، و فيه إخباره أنّهم سيأتونه مسلمين و إنّما أراد الإتيان بعرشها قبل حضورها و قومها عنده ليكون دلالة ظاهرة على بلوغ قدرته الموهوبة من ربّه و معجزة باهرة لنبوّته حتّى يسلموا لله كما يسلمون له و يستفاد ذلك من الآيات التالية.

قوله تعالى: ( قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) العفريت - على ما قيل - المارد الخبيث، و قوله:( آتِيكَ بِهِ ) اسم فاعل أو فعل مضارع من الإتيان، و الأوّل أنسب للسياق لدلالته على التلبّس بالفعل و كونه أنسب لعطف قوله:( وَ إِنِّي عَلَيْهِ ) إلخ، و هو جملة اسميّة عليه. كذا قيل.

و قوله:( وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) الضمير للإتيان أي أنا للإتيان بعرشها لقويّ لا يثقل علي حمله و لا يجهدني نقله أمين لا أخونك في هذا الأمر.

قوله تعالى: ( قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ ) مقابلته لمن قبله دليل على أنّه كان من الإنس، و قد وردت الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه كان آصف بن برخيا وزير سليمان و وصيّه، و قيل: هو الخضر، و قيل: رجل كان عنده اسم الله الأعظم الّذي إذا سئل به أجاب و قيل: جبرئيل، و قيل: هو سليمان نفسه، و هي وجوه لا دليل على شي‏ء منها.

٣٩٦

و أيّاً ما كان و أيّ من كان ففصل الكلام ممّا قبله من غير أن يعطف عليه للاعتناء بشأن هذا العالم الّذي أتى بعرشها إليه في أقلّ من طرفة العين، و قد اعتنى بشأن علمه أيضاً إذ نكّر فقيل:( عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ) أي علم لا يحتمل اللفظ وصفه.

و المراد بالكتاب الّذي هو مبدأ هذا العلم العجيب إمّا جنس الكتب السماويّة أو اللوح المحفوظ، و العلم الّذي أخذه هذا العالم منه كان علماً يسهّل له الوصول إلى هذه البغية و قد ذكر المفسّرون أنّه كان يعلم اسم الله الأعظم الّذي إذا سئل به أجاب، و ربّما ذكر بعضهم أنّ ذلك الاسم هو الحيّ القيّوم، و قيل: ذو الجلال و الإكرام، و قيل: الله الرحمن، و قيل: هو بالعبرانيّة آهيّاً شراهيّاً، و قيل: إنّه دعا بقوله: يا إلهنا و إله كلّ شي‏ء إلهاً واحداً لا إله إلّا أنت إيتني بعرشها. إلى غير ذلك ممّا قيل.

و قد تقدّم في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أنّ من المحال أن يكون الاسم الأعظم الّذي له التصرّف في كلّ شي‏ء من قبيل الألفاظ و لا المفاهيم الّتي تدلّ عليها و تكشف عنها الألفاظ بل إن كان هناك اسم له هذا الشأن أو بعض هذا الشأن فهو حقيقة الاسم الخارجيّة الّتي ينطبق عليها مفهوم اللفظ نوعاً من الانطباق و هي الاسم حقيقة و اللفظ الدالّ عليها اسم الاسم.

و لم يرد في لفظ الآية نبأ من هذا الاسم الّذي ذكروه بل الّذي تتضمّنه الآية أنّه كان عنده علم من الكتاب، و أنّه قال:( أَنَا آتِيكَ بِهِ ) ، و من المعلوم مع ذلك أنّ الفعل فعل الله حقيقة، و بذلك كلّه يتحصّل أنّه كان له من العلم بالله و الارتباط به ما إذا سأل ربّه شيئاً بالتوجّه إليه لم يتخلّف عن الاستجابة و إن شئت فقل: إذا شاءه الله سبحانه.

و يتبيّن ممّا تقدّم أيضاً أنّ هذا العلم لم يكن من سنخ العلوم الفكريّة الّتي تقبل الاكتساب و التعلّم.

و قوله:( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) الطرف - على ما قيل - اللحظ و النظر و ارتداد الطرف وصول المنظور إليه إلى النفس و علم الإنسان به، فالمراد

٣٩٧

أنا آتيك به في أقلّ من الفاصلة الزمانيّة بين النظر إلى الشي‏ء و العلم به.

و قيل: الطرف تحريك الأجفان و فتحها للنظر، و ارتداده هو انضمامها و لكونه أمراً طبيعيّاً غير منوط بالقصد اُوثر الارتداد على الرد فقيل:( قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) و لم يقل: قبل أن يردّ. هذا.

و قد أخطأ فالطرف كالتنفّس من أفعال الإنسان الاختياريّة غير أنّ الّذي يبعث إليه هو الطبيعة كما في التنفّس و لذلك لا يحتاج في صدوره إلى تروّ سابق كما يحتاج إليه في أمثال الأكل و الشرب، فالفعل الاختياريّ ما يرتبط إلى إرادة الإنسان و هو أعمّ ممّا يسبقه التروّي، و الّذي أوقع هذا القائل فيما وقع ظنّه التساوي بين الفعل الصادر عن اختيار و الصادر عن تروّ، و لعلّ النكتة في إيثار الارتداد على الردّ هي أنّ الفعل لعدم توقّفه على التروّي كأنّه يقع بنفسه لا عن مشيّة من اللاحظ.

و الخطاب في قوله:( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) لسليمانعليه‌السلام فهو الّذي يريد الإتيان به إليه و هو الّذي يراد الإتيان به إليه.

و قيل: الخطاب للعفريت القائل:( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ) و المراد بالّذي عنده علم من الكتاب عند هذا القائل هو سليمان، و إنّما قاله له إظهاراً لفضل النبوّة و أنّ الّذي أقدره الله عليه بتعليمه علماً من الكتاب أعظم ممّا يتبجّح به العفريت من القدرة، فالمعنى: قال سليمان للعفريت لما قال ما قال: أنا آتيك بالعرش قبل ارتداد طرفك.

و قد أصرّ في التفسير الكبير، على هذا القول و أورد لتأييده وجوها و هي وجوه رديّة و أصل القول لا يلائم السياق كما أومأنا إليه.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ) إلى آخر الآية، أي لما رأى سليمان العرش مستقرّاً عنده قال: هذا، أي حضور العرش و استقراره عندي في أقلّ من طرفة العين من فضل ربّي من غير استحقاق منّي ليبلوني أي يمتحنني أ أشكر نعمته أم أكفر و من شكر فإنّما يشكر لنفسه أي يعود نفعه إليه

٣٩٨

لا إلى ربّي و من كفر فلم يشكر فإنّ ربّي غنيّ كريم - و في ذيل الكلام تأكيد لما في صدره من حديث الفضل-.

و قيل: المشار إليه بقوله( هذا ) هو التمكّن من إحضاره بالواسطة أو بالذات.

و فيه أنّ ظاهر قوله:( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ ) إلخ، أنّ هذا الثناء مرتبط بحال الرؤية و الّذي في حال الرؤية هو حضور العرش عنده دون التمكّن من الإحضار الّذي كان متحقّقاً منذ زمان.

و في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير فأذن له سليمان في الإتيان به كذلك فأتى به كما قال:( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ) و في حذف ما حذف دلالة بالغة على سرعة العمل كأنّه لم يكن بين دعواه الإتيان به كذلك و بين رؤيته مستقرّاً عنده فصل أصلاً.

قوله تعالى: ( قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ) قال في المفردات: تنكير الشي‏ء من حيث المعنى جعله بحيث لا يعرف، قال تعالى:( قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها ) و تعريفه جعله بحيث يعرف. انتهى.

و السياق يدلّ على أنّ سليمانعليه‌السلام إنّما قاله حينما قصدته ملكة سبإ و ملؤها لما دخلوا عليه، و إنّما أراد بذلك اختبار عقلها كما أنّه أراد بأصل الإتيان به إظهار آية باهرة من آيات نبوّته لها، و لذا أمر بتنكير العرش ثمّ رتّب عليه قوله:( نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي ) إلخ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ ) أي فلمّا جاءت الملكة سليمانعليه‌السلام قيل له من جانب سليمان:( أَ هكَذا عَرْشُكِ ) و هو كلمة اختبار.

و لم يقل: أ هذا عرشك بل زيد في التنكير فقيل:( أَ هكَذا عَرْشُكِ ) ؟ فاستفهم عن مشابهة عرشها لهذا العرش المشار إليه في هيئته و صفاته، و في نفس هذه الجملة نوع من التنكير.

٣٩٩

و قوله:( قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ) المراد به أنّه هو و إنّما عبّرت بلفظ التشبيه تحرّزاً من الطيش و المبادرة إلى التصديق من غير تثبّت، و يكنّى عن الاعتقادات الابتدائيّة الّتي لم يتثبّت عليها غالباً بالتشبيه.

و قوله:( وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ ) ضمير( قَبْلِها ) لهذه الآية أي الإتيان بالعرش أو لهذه الحالة أي رؤيتها له بعد ما جاءت، و ظاهر السياق أنّها تتمّة كلام الملكة فهي لما رأت العرش و سألت عن أمره أحسّت أنّ ذلك منهم تلويح إلى ما آتى الله سليمان من القدرة الخارقة للعادة فأجابت بقولها:( وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها ) إلخ، أي لا حاجة إلى هذا التلويح و التذكير فقد علمنا بقدرته قبل هذه الآية أو هذه الحالة و كنّا مسلمين لسليمان طائعين له.

و قيل: قوله:( وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ ) إلخ، من كلام سليمان، و قيل: من كلام قوم سليمان، و قيل من كلام الملكة، لكنّ المعنى و اُوتينا العلم بإتيان العرش قبل هذه الحال - و هي جميعاً وجوه رديّة.

قوله تعالى: ( وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ ) الصدّ: المنع و الصرف، و متعلّق الصدّ الإسلام لله و هو الّذي ستشهد به حين تؤمر بدخول الصرح فتقول:( سْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ ) ، و أمّا قولها في الآية السابقة:( وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ ) فهو إسلامها و انقيادها لسليمانعليه‌السلام .

هذا ما يعطيه سياق الآيات و للقوم وجوه اُخر في معنى الآية أضربنا عنها.

و قوله:( إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ ) في مقام التعليل للصدّ، و المعنى: و منعها عن الإسلام لله ما كانت تعبد من دون الله و هي الشمس على ما تقدّم في نبإ الهدهد و السبب فيه أنّها كانت من قوم كافرين فاتبّعتهم في كفرهم.

قوله تعالى: ( قيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ‏ ) إلى آخر الآية، الصرح هو القصر و كلّ بناء مشرف و الصرح الموضع المنبسط المنكشف من غير سقف، و اللجّة المعظم من الماء و الممردّ اسم مفعول من التمريد و هو التمليس، و القوارير الزجاج.

و قوله:( قيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ‏ ) كأنّ القائل بعض خدم سليمان مع حضور

٤٠٠