الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 111950
تحميل: 4259


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111950 / تحميل: 4259
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

السؤال عن مالك الأرض و من فيها فإنّ الجواب عنه تصديقه لله لأنّهم كانوا يرون الإيجاد لله و الملك لازم الإيجاد فكانوا ملزمين بالاعتراف به.

ثمّ على تقدير كون الربّ أخصّ من المالك يمكن أن يتوهّم توجّه الإشكال إلى ترتّب الجواب على السؤال في الآية المبحوث عنها( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ - إلى قوله -سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) فإنّ جلّ الوثنيّين من الصابئين و غيرهم يرون للسماوات و ما فيها من الشمس و القمر و غيرهما آلهة دون الله فلو أجابوا عن السؤال عن ربّ السماوات أجابوا بإثبات الربوبيّة لآلهتهم دون الله فلا يستقيم قوله:( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) إذ لا ملزم يلزمهم على الاعتراف به.

و الّذي يحسم أصل الإشكال أنّ البحث العميق عن معتقدات القوم يعطي أنّهم لم يكونوا يبنون آراءهم في أمر الآلهة على أصل أو اُصول منظّمة مسلّمة عند الجميع فأمثال الصابئين و البرهمائيّين و البوذيّين كانوا يقسّمون اُمور العالم إلى أنواع و أقسام كأمر السماء و الأرض و أنواع الحيوان و النبات و البرّ و البحر و غير ذلك و يثبتون لكلّ منها إلهاً دون الله يعبدونه من دون الله و يعدّونه شفيعاً مقرّباً ثمّ يتّخذون له صنماً يمثّله.

و أمّا عامّتهم من الهمجيّين كأعراب الجاهليّة و القاطنين في أطراف المعمورة فلم يكن معتقداتهم في ذلك مبنيّة على قواعد مضبوطة و ربّما كانوا يرون للمعمورة من الأرض و سكّانها آلهة دون الله لها أصنام و ربّما رأوا نفس الأصنام المصنوعة آلهة، و أمّا السماوات و السماويّات و كذا البحار فكانوا يرونها مربوبة لله سبحانه و الله ربّها كما يلوّح إليه قوله تعالى حكاية عن فرعون:( يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى‏ إِلهِ مُوسى‏ ) المؤمن: ٣٧، فإنّ ظاهره أنّه كان يرى أنّ الّذي يدعو إليه موسى - و هو الله تعالى - إله السماء و بالجملة السماوات و ما فيهنّ و من فيهنّ من الملائكة عندهم مربوبون لله سبحانه ثمّ الملائكة أرباب لما دون السماوات.

و أمّا الصابئون و من يحذو حذوهم فإنّهم - كما سمعت - يرون للسماوات و

٦١

ما فيهنّ من النجوم و الكواكب آلهة و أرباباً من دون الله و هم الملائكة و الجنّ و هم يرون الملائكة و الجنّ موجودات مجرّدة عن المادّة طاهرة عن لوث الطبيعة، و حينما يعدّونهم ساكنين في السماوات فإنّما يريدون باطن هذا العالم و هو العالم السماويّ العلويّ الّذي فيه تتقدّر الاُمور و منه ينزل القضاء و به تستمدّ الأسباب الطبيعيّة، و هو بما فيه من الملائكة و غيرهم مربوب لله سبحانه و إن كان من فيه آلهة للعالم الحسّيّ و أرباباً لمن فيه و الله ربّ الأرباب.

إذا تمهّدت هذه المقدّمة فنقول: إن كان وجه الكلام في الآية الكريمة إلى مشركي العرب كما هو الظاهر، كان السؤال عن ربّ السماوات السبع و الجواب عنه باعترافهم أنّه الله في محلّه كما عرفت.

و إن كان وجه الكلام إلى غيرهم ممّن يرى للسماء إلهاً دون الله كان المراد بالسماء العالم السماويّ بسكنته من الملائكة و الجنّ دون السماوات المادّيّة، و يؤيّده مقارنته بالسؤال عن ربّ العرش العظيم فإنّ العرش مقام صدور الأحكام المتعلّقة بمطلق الخلق الّذي منهم أربابهم و آلهتهم، و من المعلوم أن لا ربّ لمقام هذا شأنه إلّا الله إذ لا يفوقه شي‏ء دونه.

و هذا العالم العلويّ هو عندهم عالم الأرباب و الآلهة لا ربّ له إلّا الله سبحانه فالسؤال عن ربّه و الجواب عنه باعترافهم أنّه الله في محلّه كما اُشير إليه.

فمعنى الآية - و الله أعلم - قل: من ربّ السماوات السبع الّتي منها تنزل أقدار الاُمور و أقضيتها و ربّ العرش العظيم الّذي منه يصدر الأحكام لعامّة ما في العالم من الملائكة فمن دونهم؟ فإنّهم و ما يملكونهم باعتقادكم مملوكة لله و هو الّذي ملّكهم ما ملكوه.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ ) حكاية لجوابهم بالاعتراف بأنّ السماوات السبع و العرش العظيم لله سبحانه.

و المعنى: سيجيبونك بأنّها لله قل لهم تبكيتاً و توبيخاً: فإذا كان السماوات السبع منها ينزل الأمر و العرش العظيم منه يصدر الأمر لله سبحانه فلم لا تتّقون

٦٢

سخطه إذ تنكرون البعث و تعدّونه من أساطير الأوّلين و تسخرون من أنبيائه الّذين وعدوكم به؟ فإنّ له تعالى أن يصدر الأمر ببعث الأموات و إنشاء النشأة الآخرة للإنسان و ينزل الأمر به من السماء.

و من لطيف تعبير الآية التعبير بقوله:( لِلَّهِ ) فإنّ الحجّة تتمّ بالملك و إن لم يعترفوا بالربوبيّة.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) الملكوت هو الملك بمعنى السلطنة و الحكم، و يفيد مبالغة في معناه و الفرق بين الملك بالفتح و الكسر و بين المالك أنّ المالك هو الّذي يملك المال و الملك يملك المالك و ماله، فله ملك في طول ملك و له التصرّف بالحكم في المال و مالكه.

و قد فسّر تعالى ملكوته بقوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس ٨٣، فملكوت كلّ شي‏ء هو كونه عن أمره تعالى بكلمة كن و بعبارة اُخرى وجوده عن إيجاده تعالى.

فكون ملكوت كلّ شي‏ء بيده كناية استعاريّة عن اختصاص إيجاد كلّ ما يصدق عليه الشي‏ء به تعالى كما قال:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الزمر: ٦٢، فملكه تعالى محيط بكلّ شي‏ء و نفوذ أمره و مضيّ حكمه ثابت على كلّ شي‏ء.

و لما كان من الممكن أن يتوهّم أنّ عموم الملك و نفوذ الأمر لا ينافي إخلال بعض ما أوجده من الأسباب و العلل بأمره فيفعل ببعض خلقه ما لا يريده أو يمنعه عمّا يريده تمّم قوله:( بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) بقوله:( وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ ) و هو في الحقيقة توضيح لاختصاص الملك بأنّه بتمام معنى الكلمة فليس لشي‏ء شي‏ء من الملك في عرض ملكه و لو بالمنع و الإخلال و الاعتراض فله الملك و له الحكم.

و قوله:( وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ ) من الجوار، و هو في أصله قرب المسكن ثمّ جعلوا للجوار حقّاً و هو حماية الجار لجاره عمّن يقصده بسوء لكرامة الجار على الجار بقرب الدار و اشتقّ منه الأفعال يقال: استجاره فأجاره أي سأله الحماية فحماه

٦٣

أي منع عنه من يقصده بسوء.

و هذا جار في جميع أفعاله تعالى فما من شي‏ء يخصّه الله بعطيّة حدوثاً أو بقاء إلّا و هو يحفظه على ما يريد و بمقدار ما يريد من غير أن يمنعه مانع إذ منع المانع - لو فرض - إنّما هو بإذن منه و مشيّة فليس منعا له تعالى بل منعاً منه و تحديداً لفعل منه بفعل آخر، و ما من سبب من الأسباب يفعل فعلاً إلّا و له تعالى أن يتصرّف فيه بما لا يريده لأنّه تعالى هو الّذي ملكه الفعل بمشيّته فله أن يمنعه منه أو من بعضه.

فالمراد بقوله:( وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ ) أنّه يمنع السوء عمّن قصد به و لا يمنعه شي‏ء إذا أراد شيئاً بسوء عمّا أراد.

و معنى الآية قل لهؤلاء المنكرين للبعث: من الّذي يختصّ به إيجاد كلّ شي‏ء بما له من الخواصّ و الآثار و هو يحمي من استجار به و لا يحمى عنه شي‏ء إذا أراد شيئاً بسوء؟ إن كنتم تعلمون.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) قيل: إنّ المراد بالسحر أن يخيّل الشي‏ء للإنسان على خلاف ما هو عليه فهو من الاستعارة أو الكناية.

و المعنى: سيجيبونك أنّ الملكوت لله قل لهم تبكيتاً و توبيخاً: فإلى متى يخيّل لكم الحقّ باطلاً فإذا كان الملك المطلق لله سبحانه فله أن يوجد النشأة الآخرة و يعيد الأموات للحساب و الجزاء بأمر يأمره و هو قوله:( كُنْ ) .

و اعلم أنّ الاحتجاجات الثلاثة كما تثبت إمكان البعث كذلك تثبت توحّده تعالى في الربوبيّة فإنّ الملك الحقيقيّ لا يتخلّف عن جواز التصرّفات، و المالك المتصرّف هو الربّ.

قوله تعالى: ( بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) إضراب عن النفي المفهوم من الحجج الّتي اُقيمت في الآيات السابقة، و المعنى فإذا كانت الحجج المبنيّة تدلّ على البعث و هم معترفون بصحّتها فليس ما وعدهم رسلنا باطلاً بل جئناهم بلسان الرسل بالحقّ و إنّهم لكاذبون في دعواهم كذبهم و نفيهم للبعث.

قوله تعالى: ( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ

٦٤

إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) إلخ، القول بالولد كان شائعاً بين الوثنيّين يعدّون الملائكة أو بعضهم و بعض الجنّ و بعض القدّيسين من البشر أولاداً لله سبحانه و تبعهم النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، و هذا النوع من الولادة و البنوّة مبنيّ على اشتمال الابن على شي‏ء من حقيقة اللّاهوت و جوهره و انفصاله منه بنوع من الاشتقاق فيكون المسمّى بالابن إلهاً مولوداً من إله.

و أمّا البنوّة الادّعائيّة بالتبنّي و هو أخذ ولد الغير ابنا لتشريف أو لغرض آخر فلا يوجب اشتمال الابن على شي‏ء من حقيقة الأب كقول اليهود نحن أبناء الله و أحبّاؤه، و ليس الولد بهذا المعنى مراداً لأنّ الكلام مسوق لنفي تعدّد الآلهة، و لا يستلزم هذا النوع من البنوّة اُلوهيّة و إن كان التسمّي و التسمية بها ممنوعاً.

فالمراد باتّخاذ الولد إيجاد شي‏ء بنحو التبعّض و الاشتقاق يكون مشتملاً بنحو على شي‏ء من حقيقة الموجد لا تسمية شي‏ء موجود ابناً و ولداً لغرض من الأغراض كما ذكره بعضهم.

و الولد - كما عرفت - أخصّ مصداقاً عندهم من الإله فإنّ بعض آلهتهم ليس بولد عندهم فقوله:( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ) ترقّ من نفي الأخصّ إلى نفي الأعمّ و لفظة( مِنْ ) في الجملتين زائدة للتأكيد.

و قوله:( إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ) حجّة على نفي التعدّد ببيان محذوره إذ لا يتصوّر تعدّد الآلهة إلّا ببينونتها بوجه من الوجوه بحيث لا تتّحد في معنى اُلوهيّتها و ربوبيّتها، و معنى ربوبيّة الإله في شطر من الكون و نوع من أنواعه تفويض التدبير فيه إليه بحيث يستقلّ في أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شي‏ء غير نفسه حتّى إلى من فوّض إليه الأمر، و من البيّن أيضاً أنّ المتباينين لا يترشّح منهما إلّا أمران متباينان.

و لازم ذلك أن يستقلّ كلّ من الآلهة بما يرجع إليه من نوع التدبير و تنقطع رابطة الاتّحاد و الاتّصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم كالنظام الجاري في العالم الإنسانيّ عن الأنظمة الجارية في أنواع الحيوان و النبات و البرّ و البحر

٦٥

و السهل و الجبل و الأرض و السماء و غيرها و كلّ منها عن كلّ منها، و فيه فساد السماوات و الأرض و ما فيهنّ، و وحدة النظام الكونيّ و التئام أجزائه و اتّصال التدبير الجاري فيه يكذّبه.

و هذا هو المراد بقوله:( إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ) أي انفصل بعض الآلهة عن بعض بما يترشّح منه من التدبير.

و قوله:( وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) محذور آخر لازم لتعدّد الآلهة تتألّف منه حجّة اُخرى على النفي، بيانه أنّ التدابير الجارية في الكون مختلفة منها التدابير العرضيّة كالتدبيرين الجاريين في البرّ و البحر و التدبيرين الجاريين في الماء و النار، و منها التدابير الطوليّة الّتي تنقسم إلى تدبير عامّ كلّي حاكم و تدبير خاصّ جزئيّ محكوم كتدبير العالم الأرضيّ و تدبير النبات الّذي فيه، و كتدبير العالم السماويّ و تدبير كوكب من الكواكب الّتي في السماء، و كتدبير العالم المادّيّ برمّته و تدبير نوع من الأنواع المادّيّة.

فبعض التدبير و هو التدبير العامّ الكلّيّ يعلو بعضاً بمعنى أنّه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقوّمه بما فوقه، كما أنّه لو لم يكن هناك عالم أرضيّ أو التدبير الّذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنسانيّ و لا التدبير الّذي يجري فيه بالخصوص.

و لازم ذلك أن يكون الإله الّذي يرجع إليه نوع عال من التدبير عالياً بالنسبة إلى الإله الّذي فوّض إليه من التدبير ما هو دونه و أخصّ منه و أخسّ و استعلاء الإله على الإله محال.

لا لأنّ الاستعلاء المذكور يستلزم كون الإله مغلوباً لغيره أو ناقصاً في قدرته محتاجاً في تمامه إلى غيره أو محدوداً و المحدوديّة تفضي إلى التركيب، و كلّ ذلك من لوازم الإمكان المنافي لوجوب وجود الإله فيلزم الخلف - كما قرّره المفسّرون - فإنّ الوثنيّين لا يرون لآلهتهم من دون الله وجوب الوجود بل هي عندهم موجودات ممكنة عالية فوّض إليهم تدبير أمر ما دونها، و هي مربوبة لله سبحانه و أرباب لما دونها

٦٦

و الله سبحانه ربّ الأرباب و إله الآلهة و هو الواجب الوجود بالذات وحده.

بل استحالة الاستعلاء إنّما هو لاستلزامه بطلان استقلال المستعلى عليه في تدبيره و تأثيره إذ لا يجامع توقّف التدبير على الغير و الحاجة إليه الاستقلال فيكون السافل منها مستمدّاً في تأثيره محتاجاً فيه إلى العالي فيكون سبباً من الأسباب الّتي يتوسّل بها إلى تدبير ما دونه لا إلهاً مستقلّاً بالتأثير دونه فيكون ما فرض إلهاً غير إله بل سبباً يدبّر به الأمر هذا خلف.

هذا ما يعطيه التدبّر في الآية، و للمفسّرين في تقرير حجّة الآية مسالك مختلفة يبتني جميعها على استلزام تعدّد الآلهة اُموراً تستلزم إمكانها و تنافي كونها واجبة الوجود فيلزم الخلف، و القوم لا يقولون في شي‏ء من آلهتهم من دون الله بوجوب الوجود، و قد أفرط بعضهم فقرّر الآية بوجوه مؤلّفة من مقدّمات لا إشارة في الآية إلى جلّها و لا إيهام، و فرّط آخرون فصرّحوا بأنّ الملازمة المذكورة في الآية عاديّة لا عقليّة، و الدليل إقناعيّ لا قطعيّ.

ثمّ لا يشتبهنّ عليك أمر قوله:( لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ) حيث نسب الخلقة إليها و قد تقدّم أنّهم قائلون بإله التدبير دون الإيجاد و ذلك لأنّ بعض الخلق من التدبير فإنّ خلق جزئيّ من الجزئيّات ممّا يتمّ بوجوده النظام الكلّيّ من التدبير بالنسبة إلى النظام الجاري فالخلق بمعنى الفعل و التدبير مختلطان و قد نسب الخلق إلى أعمالنا كما في قوله:( وَ اللهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ ) الصافّات: ٩٦، و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) الزخرف: ١٢.

فالقوم يرون أنّ كلّا من الآلهة خالق لما دونه أي فاعل له كما يفعل الواحد منّا أفعاله، و أمّا إعطاء الوجود للأشياء فممّا يختصّ بالله سبحانه وحده لا يرتاب فيه موحّد و لا وثنيّ إلّا بعض من لم يفرّق بين الفعل و الإيجاد من المتكلّمين.

و قد ختم الآية بالتنزيه بقوله:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

قوله تعالى: ( عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَتَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) صفة لاسم الجلالة في قوله:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) و تأخيرها للدلالة على علمه بتنزّهه عن وصفهم

٦٧

إيّاه بالشركة - على ما يعطيه السياق - فيكون في معنى قوله:( قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يونس: ١٨.

و يرجع في الحقيقة إلى الاحتجاج على نفي الشركاء بشهادته تعالى أنّه لا يعلم لنفسه شريكاً كما أنّ قوله:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) آل عمران: ١٨ احتجاج بالشهادة على نفي أصل الوجود.

و قيل: إنّه برهان آخر راجع إلى إثبات العلوّ أو لزوم الجهل الّذي هو نقص و ضدّ العلوّ لأنّ المتعدّدين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كلّ واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة و هو نوع جهل و قصور. انتهى.

و فيه أنّ ذلك كسائر ما قرّروه من البراهين ينفي تعدّد الإله الواجب الوجود بالذات، و الوثنيّون لا يلتزمون في آلهتهم من دون الله بذلك. على أنّ بعض مقدّمات ما قرّر من الدليل ممنوع.

و قوله:( فَتَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) تفريع على جميع ما تقدّم من الحجج على نفي الشركاء.

قوله تعالى: ( قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) لما فرغ من نقل ما تفوّهوا به من الشرك بالله و إنكار البعث و الاستهزاء بالرسل و أقام الحجج على إثبات حقّيّتها رجع إلى ما تقدّم من تهديدهم بالعذاب فأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأله أن ينجيه من العذاب الّذي أوعدهم به إن أراه ذلك العذاب.

فقوله:( قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ ) أمر بالدعاء و الاستغاثة، و تكرار( رَبِّ ) لتأكيد التضرّع و ما في قوله:( إِمَّا تُرِيَنِّي ) زائدة و هي المصحّحة لدخول نون التأكيد على الشرط و أصله: إن ترني. و في قوله:( ما يُوعَدُونَ ) دلالة على أنّ بعض ما تقدّم في السورة من الإيعاد بالعذاب إيعاد بعذاب دنيويّ. و ما في قوله:( رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) من الكون فيهم كناية عن شمول عذابهم له.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا عَلى‏ أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ) تطييب لنفس

٦٨

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقدرة ربّه على أن يكشف عنه بإراءته ما يعدهم من العذاب، و لعلّ المراد به ما عذّبهم الله به يوم بدر و قد أراه الله ذلك و أراه المؤمنين و شفى به غليل صدورهم.

قوله تعالى: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ ) أي ادفع السيّئة الّتي تتوجّه إليك منهم بالحسنة و اختر للدفع من الحسنات أحسنها، و هو دفع السيّئة بالحسنة الّتي هي أحسن مثل أنّه لو أساؤا إليك بالإيذاء أحسن إليهم بغاية ما استطعت من الإحسان ثمّ ببعض الإحسان في الجملة و لو لم يسعك ذلك فبالصفح عنهم.

و قوله:( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ ) نوع تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يسوءنّه ما يلقاه و لا يحزنه ما يشاهد من تجرّيهم على ربّهم فإنّه أعلم بما يصفون.

قوله تعالى: ( وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) ، قال في مجمع البيان: الهمزة شدّة الدفع، و منه الهمزة للحرف الّذي يخرج من أقصى الحلق باعتماد شديد و دفع، و همزة الشيطان دفعه بالإغواء إلى المعاصي انتهى. و في تفسير القمّيّ، عنهعليه‌السلام : أنّه ما يقع في قلبك من وسوسة الشياطين.

و في الآيتين أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستعيذ بربّه من إغواء الشياطين و من أن يحضروه، و فيه إيهام إلى أنّ ما ابتلي به المشركون من الشرك و التكذيب من همزات الشياطين و إحاطتهم بهم بالحضور.

٦٩

( سورة المؤمنون الآيات ٩٩ - ١١٨)

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ( ٩٩ ) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ  كَلَّا  إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا  وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( ١٠٠ ) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ( ١٠١ ) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ١٠٢ ) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ( ١٠٣ ) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ( ١٠٤ ) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ( ١٠٥ ) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ( ١٠٦ ) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ( ١٠٧ ) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ( ١٠٨ ) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ( ١٠٩ ) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ( ١١٠ ) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ١١١ ) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ( ١١٣ ) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا  لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ١١٤ ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ( ١١٥ ) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ  لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ( ١١٦ ) وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ  إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( ١١٧ ) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ( ١١٨ )

٧٠

( بيان‏)

الآيات تفصّل القول في عذاب الآخرة الّتي أوعدهم الله بها في طيّ الآيات السابقة و هو من يوم الموت إلى يوم البعث ثمّ إلى الأبد، و تذكر أنّ الحياة الدنيا الّتي غرّتهم و صرفتهم عن الآخرة قليلة لو كانوا يعلمون. ثمّ تختم السورة بأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تسأله ما حكاه عن عباده المؤمنين الفائزين في الآخرة( رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) و قد افتتحت السورة بأنّهم مفلحون وارثون للجنّة.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) ( حَتَّى ) متعلّق بما تقدّم من وصفهم له تعالى بما هو منزّه منه و شركهم به، و الآيات المتخلّلة اعتراض في الكلام أي لا يزالون يشركون به و يصفونه بما هو منزّه منه و هم مغترّون بما نمدّهم به من مال و بنين حتّى إذا جاء أحدهم الموت.

و قوله:( قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) الظاهر أنّ الخطاب للملائكة المتصدّين لقبض روحه و( رَبِّ ) استغاثة معترضة بحذف حرف النداء و المعنى قال - و هو يستغيث بربّه - ارجعون.

و قيل: إنّ الخطاب للربّ تعالى و الجمع للتعظيم كقول امرأة فرعون له على ما حكاه الله:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ ) .

و قيل: هو من جمع الفعل و يفيد تعدّد الخطاب، و المعنى ربّ ارجعني ارجعني ارجعني كما قيل في قوله:

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

أي قف قف نبك

و في الوجهين أنّ الجمع للتعظيم إن صحّ ثبوته في اللغة العربيّة فهو شاذّ لا يحمل عليه كلامه تعالى، و أشذّ منه جمع الفعل بالمعنى الّذي ذكر.

قوله تعالى: ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ) ( لعلّ ) للترجّي و هو رجاء تعلّقوا به بمعاينة العذاب المشرف عليهم كما ربّما ذكروا

٧١

الرجوع بوعد العمل الصالح كقولهم:( فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ) السجدة: ١٢، و ربّما ذكروه بلفظ التمنّي كقولهم:( يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ) الأنعام: ٢٧.

و قوله:( أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) أي أعمل عملاً صالحاً فيما تركت من المال بإنفاقه في البرّ و الإحسان و كلّ ما فيه رضي الله سبحانه.

و قيل: المراد بما تركت الدنيا الّتي تركها بالموت و العمل الصالح أعمّ من العبادات الماليّة و غيرها من صلاة و صوم و حجّ و نحوها، و هو حسن غير أنّ الأوّل هو الأظهر.

و قوله:( كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ) أي لا يرجع إلى الدنيا إنّ هذه الكلمة( ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) كلمة هو قائلها أي لا أثر لها إلّا أنّها كلمة هو قائلها، فهو كناية عن عدم إجابة مسألته.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) البرزخ هو الحاجز بين الشيئين كما في قوله:( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) الرحمن: ٢٠، و المراد بكونه وراءهم كونه أمامهم محيطاً بهم و سمّي وراءهم بعناية أنّه يطلبهم كما أنّ مستقبل الزمان أمام الإنسان و يقال: وراءك يوم كذا بعناية أنّ الزمان يطلب الإنسان ليمرّ عليه و هذا معنى قول بعضهم: إنّ في( وَراءَ ) معنى الإحاطة، قال تعالى:( وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) الكهف: ٧٩.

و المراد بهذا البرزخ عالم القبر و هو عالم المثال الّذي يعيش فيه الإنسان بعد موته إلى قيام الساعة على ما يعطيه السياق و تدلّ عليه آيات اُخر و تكاثرت فيه الروايات من طرق الشيعة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و كذا من طرق أهل السنّة، و قد تقدّم البحث عنه في الجزء الأوّل من الكتاب.

و قيل: المراد بالآية أنّ بينهم و بين الدنيا حاجزاً يمنعهم من الرجوع إليها إلى يوم القيامة و معلوم أن لا رجوع بعد القيامة ففيه تأكيد لعدم رجوعهم و إياس لهم من الرجوع إليها من أصله.

و فيه أنّ ظاهر السياق الدلالة على استقرار الحاجز بين الدنيا و بين يوم

٧٢

يبعثون لا بينهم و بين الرجوع إلى الدنيا، و لو كان المراد أنّ الموت حاجز بينهم و بين الرجوع إلى الدنيا لغي التقييد بقوله:( إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) لا لدلالته من طريق المفهوم على رجوعهم بعد البعث إلى الدنيا و لا رجوع بعد البعث بل للغويّة أصل التقييد و إن فرض أنّهم كانوا يعلمون من الخارج أو من آيات سابقة أن لا رجوع بعد القيامة.

على أنّ قولهم: إنّه تأكيد لعدم الرجوع بإياسهم من الرجوع مطلقاً مع قولهم بأنّ عدم الرجوع بعد القيامة معلوم من خارج كالمتهافتين بل يرجع المعنى إلى تأكيد نفي الرجوع مطلقاً المفهوم من( كَلَّا ) بنفي الرجوع الموقّت المحدود بقوله:( إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) فافهمه.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ ) المراد به النفخة الثانية الّتي تحيا فيها الأموات دون النفخة الاُولى الّتي تموت فيها الأحياء كما قاله بعضهم لكون ما يترتّب عليها من انتفاء الأنساب و التساؤل و ثقل الميزان و خفّته إلى غير ذلك من آثار النفخة الثانية.

و قوله:( فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ) نفي لآثار الأنساب بنفي أصلها فإنّ الّذي يستوجب حفظ الأنساب و اعتبارها هي الحوائج الدنيويّة الّتي تدعو الإنسان إلى الحياة الاجتماعيّة الّتي تبتني على تكوّن البيت، و المجتمع المنزليّ يستعقب التعارف و التعاطف و أقسام التعاون و التعاضد و سائر الأسباب الّتي تدوم بها العيشة الدنيويّة و يوم القيامة ظرف جزاء الأعمال و سقوط الأسباب الّتي منها الأعمال فلا موطن فيه للأسباب الدنيويّة الّتي منها الأنساب بلوازمها و خواصّها و آثارها.

و قوله:( وَ لا يَتَساءَلُونَ ) ذكر لأظهر آثار الأنساب، و هو التساؤل بين المنتسبين بسؤال بعضهم عن حال بعض، للإعانة و الاستعانة في الحوائج لجلب المنافع و دفع المضارّ.

و لا ينافي الآية ما وقع في مواضع اُخر من قوله تعالى:( وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) الصافّات: ٢٧، فإنّه حكاية تساؤل أهل الجنّة بعد

٧٣

دخولها و تساؤل أهل النار بعد دخولها و هذه الآية تنفي التساؤل في ظرف الحساب و القضاء.

قوله تعالى: ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) إلى آخر الآيتين. الموازين جمع الميزان أو جمع الموزون و هو العمل الّذي يوزن يومئذ، و قد تقدّم الكلام في معنى الميزان و ثقله و خفّته في تفسير سورة الأعراف.

قوله تعالى: ( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ ) قال في المجمع: اللفح و النفح بمعنى إلّا أنّ اللفح أشدّ تأثيراً و أعظم من النفح، و هو ضرب من السموم للوجه و النفح ضرب الريح الوجه، و الكلوح تقلّص الشفتين عن الأسنان حتّى تبدو الأسنان. انتهى.

و المعنى: يصيب وجوههم لهب النار حتّى تتقلّص شفاههم و تنكشف عن أسنانهم كالرؤس المشويّة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) إلخ أي يقال لهم: أ لم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذّبون.

قوله تعالى: ( قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ) الشقوة و الشقاوة و الشقاء خلاف السعادة و سعادة الشي‏ء ما يختصّ به من الخير، و شقاوته فقد ذلك و إن شئت فقل: ما يختصّ به من الشرّ.

و قوله:( غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا ) أي قهرنا و استولت علينا شقوتنا، و في إضافة الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أنّ لهم صنعاً في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم، و الدليل عليه قولهم بعد:( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ) إذ هو وعد منهم بالحسنات و لو لم يكن لها ارتباط باكتسابهم الاختياريّ لم يكن للوعد معنى لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبل الخروج.

و قد عدّوا أنفسهم مغلوبة للشقوة فقد أخذوها ساذجة في ذواتها صالحة للحقوق السعادة و الشقاوة غير أنّ الشقوة غلبت فأشغلت المحلّ و كانت الشقوة شقوة أنفسهم أي شقوة لازمة لسوء اختيارهم و سيّئات أعمالهم لأنّهم فرضوا أنفسهم خالية عن السعادة

٧٤

و الشقوة لذاتها فانتساب الشقوة إلى أنفسهم و ارتباطها بها إنّما هي من جهة سوء اختيارهم و سيّئات أعمالهم.

و بالجملة هو اعتراف منهم بتمام الحجّة و لحوق الشقوة على ما يشهد به وقوع الآية بعد قوله:( أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) إلخ.

ثمّ عقّبوا قولهم:( غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا ) بقولهم:( وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ) تأكيداً لاعترافهم، و إنّما اعترفوا بالذنب ليتوسّلوا به إلى التخلّص من العذاب و الرجوع إلى الدنيا لكسب السعادة فقد شاهدوا في الدنيا أنّ اعتراف العاصي المتمرّد بذنبه و ظلمه توبة منه مطهّرة له تنجيه من تبعة الذنب و هم يعلمون أنّ اليوم يوم جزاء لا يوم عمل و التوبة و الاعتراف بالذنب من الأعمال لكنّ ذلك من قبيل ظهور الملكات كما أنّهم يكذبون يومئذ و ينكرون أشياء مع ظهور الحقّ و معاينته لاستقرار ملكة الكذب و الإنكار في نفوسهم، قال تعالى:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: ١٨ و قال:( ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً ) المؤمن: ٧٤.

قوله تعالى: ( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ) سؤال منهم للرجوع إلى الدنيا على ما تدلّ عليه آيات اُخر فهو من قبيل طلب المسبّب بطلب سببه، و مرادهم أن يعملوا صالحاً بعد ما تابوا بالاعتراف المذكور فيكونوا بذلك ممّن تاب و عمل صالحاً.

قوله تعالى: ( قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ ) قال الراغب: خسأت الكلب فخسأ أي زجرته مستهينا به فانزجر و ذلك إذا قلت له: اخسأ انتهى. ففي الكلام استعارة بالكناية، و المراد زجرهم بالتباعد و قطع الكلام.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) هؤلاء هم المؤمنون في الدنيا و كان إيمانهم توبة و رجوعاً إلى الله كما سمّاه الله في كلامه توبة، و كان سؤالهم شمول الرحمة - و هي الرحمة الخاصّة بالمؤمنين البتّة - سؤالاً منهم أن يوفّقهم للسعادة فيعملوا صالحاً فيدخلوا

٧٥

الجنّة، و قد توسّلوا إليه باسمه خير الراحمين.

فكان ما قاله المؤمنون في الدنيا معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و ذلك عين ما قاله هؤلاء ممّا معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و إنّما الفرق بينهما من حيث الموقف.

قوله تعالى: ( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ) ضمائر الخطاب للكفّار و ضمائر الغيبة للمؤمنين، و السياق يشهد أنّ المراد من( ذِكْرِي ) قول المؤمنين:( رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا ) إلخ، و هو معنى قول الكفّار في النار.

و قوله:( حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ) أي أنسى اشتغالكم بسخريّة المؤمنين و الضحك منهم ذكري، ففي نسبة الإنساء إلى المؤمنين دون سخريّتهم إشارة إلى أنّه لم يكن للمؤمنين عندهم شأن من الشؤون إلّا أن يتّخذوهم سخريّاً.

قوله تعالى: ( إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ) المراد باليوم يوم الجزاء، و متعلّق الصبر معلوم من السياق محذوف للإيجاز أي صبروا على ذكري مع سخريّتكم منهم لأجله، و قوله:( أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ) مسوق للحصر أي هم الفائزون دونكم.

و هذه الآيات الأربع( قالَ اخْسَؤُا - إلى قوله -هُمُ الْفائِزُونَ ) إياس قطعيّ للكفّار من الفوز بسبب ما تعلّقوا به من الاعتراف بالذنب و سؤال الرجوع إلى الدنيا و محصّلها أن اقنطوا ممّا تطلبونه بهذا القول و هو الاعتراف و السؤال فإنّه عمل إنّما كان ينفع في دار العمل و هي الدنيا، و قد كان المؤمنون من عبادي يتّخذونه وسيلة إلى الفوز و كنتم تسخرون و تضحكون منهم حتّى تركتموه و بدّلتموه من سخريّتهم حتّى إذا كان اليوم و هو يوم جزاء لا يوم عمل فازوا بجزاء ما عملوا يوم العمل و بقيتم صفر الأكفّ تريدون أن تتوسّلوا بالعمل اليوم و هو يوم الجزاء دون العمل.

قوله تعالى: ( قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ) ممّا يسأل الله الناس عنه

٧٦

يوم القيامة مدّة لبثهم في الأرض و قد ذكر في مواضع من كلامه و المراد به السؤال عن مدّة لبثهم في القبور كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) الروم: ٥٥، و قوله:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) الأحقاف: ٣٥، و غيرهما من الآيات، فلا محلّ لقول بعضهم : إنّ المراد به المكث في الدنيا، و احتمال بعضهم أنّه مجموع اللبث في الدنيا و البرزخ.

قوله تعالى: ( قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ ) ظاهر السياق أنّ المراد باليوم هو الواحد من أيّام الدنيا و قد استقلّوا اللبث في الأرض حينما قايسوه بالبقاء الأبديّ الّذي يلوح لهم يوم القيامة و يعاينونه.

و يؤيّده ما وقع في موضع آخر من تقديرهم ذلك بالساعة، و في موضع آخر بعشيّة أو ضحاها.

و قوله:( فَسْئَلِ الْعادِّينَ ) أي نحن لا نحسن إحصاءها فاسأل الّذين يعدّونه و فسّر بالملائكة العادّين للأيّام و ليس ببعيد.

قوله تعالى: ( قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) القائل هو الله سبحانه، و في الكلام تصديق لهم في استقلالهم المكث في القبور و فيه توطئة لما يلحق به من قوله:( لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) بما فيه من التمنّي.

و المعنى: قال الله: الأمر كما قلتم فما مكثتم إلّا قليلاً فليتكم كنتم تعلمون في الدنيا أنّكم لا تلبثون في قبوركم إلّا قليلاً ثمّ تبعثون حتّى لا تنكروا البعث و لم تبتلوا بهذا العذاب الخالد، و التمنّي في كلامه تعالى كالترجّي راجع إلى المخاطب أو المقام.

و جعل بعضهم( لَوْ ) في الآية شرطيّة و الجملة شرطاً محذوف الجزاء و تكلّف في تصحيح الكلام بما لا يرتضيه الذوق السليم و هو بعيد عن السياق كما هو ظاهر و أبعد منه جعل( لو ) وصليّة مع أنّ( لو ) الوصليّة لا تجي‏ء بغير واو العطف.

قوله تعالى: ( أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً - إلى قوله -رَبُّ الْعَرْشِ

٧٧

الْكَرِيمِ ) بعد ما بيّن ما سيستقبلهم من أحوال الموت ثمّ اللبث في البرزخ ثمّ البعث بما فيه من الحساب و الجزاء وبّخهم على حسبانهم أنّهم لا يبعثون فإنّ فيه جرأة على الله بنسبة العبث إليه ثمّ أشار إلى برهان العبث.

فقوله:( أَ فَحَسِبْتُمْ ) إلخ، معناه فإذا كان الأمر على ما أخبرناكم من تحسّركم عند معاينة الموت ثمّ اللبث في القبور ثمّ البعث فالحساب و الجزاء فهل تظنّون أنّما خلقناكم عبثاً تحيون و تموتون من غير غاية باقية في خلقكم و أنّكم إلينا لا ترجعون؟.

و قوله:( فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) إشارة إلى برهان يثبت البعث و يدفع قولهم بالنفي، في صورة التنزيه، فإنّه تعالى وصف نفسه في كلمة التنزيه بالأوصاف الأربعة: أنّه ملك و أنّه حقّ و أنّه لا إله إلّا هو و أنّه ربّ العرش الكريم.

فله أن يحكم بما شاء من بدء و عود و حياة و موت و رزق نافذاً حكمه ماضياً أمره لملكه، و ما يصدر عنه من حكم فإنّه لا يكون إلّا حقّاً فإنّه حقّ و لا يصدر عن الحقّ بما هو حقّ إلّا حقّ دون أن يكون عبثاً باطلاً ثمّ لما أمكن أن يتصوّر أنّ معه مصدر حكم آخر يحكم بما يبطل به حكمه وصفه بأنّه لا إله - أي لا معبود - إلّا هو، و الإله معبود لربوبيّته فإذا لا إله غيره فهو ربّ العرش الكريم - عرش العالم - الّذي هو مجتمع أزمّة الاُمور و منه يصدر الأحكام و الأوامر الجارية فيه.

فتلخّص أنّه هو الّذي يصدر عنه كلّ حكم و يوجد منه كلّ شي‏ء و لا يحكم إلّا بحقّ و لا يفعل إلّا حقّاً فللأشياء رجوع إليه و بقاء به و إلّا لكانت عبثاً باطلة و لا عبث في الخلق و لا باطل في الصنع.

و الدليل على اتّصافه بالأوصاف الأربعة كونه تعالى هو الله الموجود لذاته الموجد لغيره.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ) ، المراد من دعاء إله آخر مع الله دعاؤه مع وجوده تعالى

٧٨

لا دعاؤه تعالى و دعاء إله آخر معاً فإنّ المشركين جلّهم أو كلّهم لا يدعون الله تعالى و إنّما يدعون ما أثبتوه من الشركاء، و يمكن أن يكون المراد بالدعاء الإثبات فإنّ إثبات إله آخر لا ينفكّ عن دعائه.

و قوله:( لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ) قيد توضيحيّ لإله آخر إذ لا إله آخر يكون به برهان بل البرهان قائم على نفي الإله الآخر مطلقاً.

و قوله:( فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) كلمة تهديد و فيه قصر حسابه بكونه عند ربّه لا يداخله أحد فيما اقتضاه حسابه من جزاء - و هو النار كما صرّحت به الآيات السابقة - فإنّه يصيبه لا محالة، و مرجعه إلى نفي الشفعاء و الإياس من أسباب النجاة و تمّمه بقوله:( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) خاتمة السورة و قد أمر فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول ما حكاه عن عباده المؤمنين أنّهم يقولونه في الدنيا و أنّ جزاء ذلك هو الفوز يوم القيامة:( إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ ) إلخ، الآيتان ١٠٩ و ١١١ من السورة.

و بذلك يختتم الكلام بما افتتح به في أوّل السورة:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) و قد تقدّم الكلام في معنى الآية.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : من منع قيراطاً من الزكاة فليس بمؤمن و لا مسلم، و هو قوله تعالى:( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) .

أقول: و روي هذا المعنى بطرق اُخر غيرها عنهعليه‌السلام و عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد به انطباق الآية على مانع الزكاة لا نزولها فيه.

و في تفسير القمّيّ: قوله عزّوجلّ:( وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال: البرزخ هو أمر بين أمرين و هو الثواب و العقاب بين الدنيا و الآخرة، و هو

٧٩

قول الصادقعليه‌السلام : و الله ما أخاف عليكم إلّا البرزخ و أمّا إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم.

أقول: و روي الذيل في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد عنهعليه‌السلام .

و فيه، قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : إنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار.

و في الكافي، بإسناده عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له: جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش. فقال: لا. المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كأبدانهم‏

و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنّة يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها و يقولون: ربّنا أقم الساعة لنا، و أنجز لنا ما وعدتنا و ألحق آخرنا بأوّلنا.

و فيه، بإسناده أيضاً عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنّة تتعارف و تتساءل فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها فإنّها قد أقبلت من هول عظيم ثمّ يسألونها ما فعل فلان؟ و ما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيّا ارتجوه، و إن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى قد هوى.

أقول: أخبار البرزخ و تفاصيل ما يجري على المؤمنين و غيرهم فيه كثيرة متواترة، و قد مرّ شطر منها في أبحاث متفرّقة ممّا تقدّم.

في مجمع البيان، و قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ حسب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا حسبي و نسبي.

أقول: كأن الرواية من طريق الجماعة، و قد رواها في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن المسوّر بن مخرمة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لفظها: أنّ الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي و سببي و صهري‏، و عن عدّة منهم عن عمر بن الخطّاب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لفظها: كلّ سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا سببي و نسبي‏

٨٠