الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 153065
تحميل: 4293


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153065 / تحميل: 4293
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بعده على ما قبله، و المراد بالحقّ ما يقابل الباطل على ما يؤيّده إعادة الحقّ ثانياً باللّام و المراد به ما يقابل الباطل قطعاً و التقدير فالحقّ اُقسم به لأملأنّ جهنّم منك و ممّن تبعك منهم، أو فقولي الحقّ لأملأنّ إلخ.

و قوله:( وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) جملة معترضة تشير إلى حتميّة القضاء و تردّ على إبليس ما يلوّح إليه قوله:( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) إلخ من كون قوله تعالى و هو أمره بالسجود غير حقّ، و تقديم الحقّ في( وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) و تحليته باللّام لإفادة الحصر.

و قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) متن القضاء الّذي قضى به و كأنّ المراد بقوله:( مِنْكَ ) جنس الشياطين حتّى يشمل إبليس و ذرّيّته و قبيله، و قوله:( وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ ) أي من الناس ذرّيّة آدم.

و قد أشبعنا الكلام في نظائر الآيات من سورة الحجر و في القصّة من سور البقرة و الأعراف و الإسراء فعليك بالرجوع إليها.

قوله تعالى: ( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) رجوع إلى ما تقدّم في أوّل السورة و خلال آياتها أنّ القرآن ذكر و أن ليس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا منذراً لا غير و ردّ لما رموه بقولهم( امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ يُرادُ ) .

فقوله:( ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) أي أجراً دنيوياً من مال أو جاه، و قوله:( وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) أي من أهل التكلّف و هو التصنّع و التحلّي بما ليس له.

قوله تعالى: ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) أي القرآن ذكر عامّ للعالمين من جماعات الناس و مختلف الشعوب و الاُمم و غيرهم لا يختصّ بقوم دون قوم حتّى يؤخذ على تلاوته مال و على تعليمه أجر بل هو للجميع.

قوله تعالى: ( وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) أي لتعلمنّ ما أخبر به القرآن من الوعد و الوعيد و ظهوره على الأديان و غير ذلك بعد حين أي بعد مرور زمان.

قيل: المراد بعد حين يوم القيامة، و قيل: يوم الموت، و قيل: يوم بدر، و لا يبعد أن يقال: إنّ نبأه مختلف لا يختصّ بيوم من هذه الأيّام حتّى يكون هو المراد بل المراد به المطلق فلكلّ من أقسام نبائه حينه.

٢٢١

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن إسماعيل الجعفيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام : في حديث يذكر فيه المعراج، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال تعالى: يا محمّد. قلت: لبّيك يا ربّ. قال: فيما اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: سبحانك لا علم لي إلّا ما علّمتني. قال: فوضع يده أي يد القدرة بين ثدييّ فوجدت بردها بين كتفي قال: فلم يسألني عمّا مضى و لا عمّا بقي إلّا علمته. فقال: يا محمّد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الكفّارات و الدرجات و الحسنات الحديث.

و في المجمع، روى ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قال لي ربّي: أ تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا. قال: اختصموا في الكفّارات و الدرجات فأمّا الكفّارات فإسباغ الوضوء في السبرات و نقل الأقدام إلى الجماعات و انتظار الصلاة بعد الصلاة، و أمّا الدرجات فإفشاء السلام و إطعام الطعام و الصلاة باللّيل و الناس نيام.

أقول: و رواه في الخصال، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل ما فسّر به الكفّارات تفسيراً للدرجات و بالعكس، و روي في الدرّ المنثور، حديث المجمع بطرق كثيرة عن عدّة من الصحابة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اختلاف ما في الروايات.

و كيفما كان فسياق الآية يأبى الانطباق على مضمون هذه الروايات و لا دليل يدلّ على كون الروايات في مقام تفسير الآية فلعلّ الاختصام المذكور فيها غير المذكور في الآية.

و في نهج البلاغة،: الحمد لله الّذي لبس العزّ و الكبرياء و اختارهما لنفسه دون خلقه، و جعلهما حمى و حرما على غيره، و اصطفاهما لجلاله، و جعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ليميّز المتواضعين منهم من المستكبرين فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب و محجوبات الغيوب:( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ

٢٢٢

الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ ) اعترضته الحميّة فافتخر على آدم بخلقه و تعصّب عليه بأصله.

فعدوّ الله إمام المتعصّبين و سلف المستكبرين الّذي وضع أساس العصبيّة، و نازع الله رداء الجبريّة، و أدّرع لباس التعزّز، و خلع قناع التذلّل أ لا ترون كيف صغّره الله بتكبّره، و وضعه بترفّعه فجعله في الدنيا مدحوراً، و أعدّ له في الآخرة سعيراً. الخطبة.

و في العيون، بإسناده إلى محمّد بن عبيدة قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله تعالى لإبليس:( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) قال: يعني بقدرتي و قوّتي.

أقول: و روي مثله في التوحيد، بإسناده عن محمّد بن مسلم عن الصادقعليه‌السلام .

و في القصّة روايات اُخر أوردناها في ذيلها من سور البقرة و الأعراف و الحجر و الإسراء فراجع.

و عن جوامع الجامع، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : للمتكلّف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، و يتعاطى ما لا ينال، و يقول ما لا يعلم.

أقول: و روي مثله في الخصال، عن الصادقعليه‌السلام عن لقمان في وصيّته لابنه، و روي أيضاً من طرق أهل السنّة، و في بعض الروايات: ينازل من فوقه.

٢٢٣

( سورة الزمر مكّيّة و هي خمس و سبعون آية)

( سورة الزمر الآيات 1 - 10)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ( 2 ) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ  وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ  إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( 3 ) لَّوْ أَرَادَ اللهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ  سُبْحَانَهُ  هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 4 ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ  يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ  وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ  كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى  أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 5 ) خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ  يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ  ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ  لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ  فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ( 6 ) إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ  وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ  وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ  وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ  ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ  إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 7 ) وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ

٢٢٤

مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ  قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا  إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( 8 ) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ  قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ  إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ( 9 ) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ  لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ  وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ  إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 10 )

( بيان)

يظهر من خلال آيات السورة أنّ المشركين من قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألوه أن ينصرف عمّا هو عليه من التوحيد و الدعوة إليه و التعرّض لآلهتهم و خوّفوه بآلهتهم فنزلت السورة - و هي قرينة سورة ص بوجه - و هي تؤكّد الأمر بأن يخلص دينه لله سبحانه و لا يعبأ بآلهتهم و أن يعلمهم أنّه مأمور بالتوحيد و إخلاص الدين الّذي تواترت الآيات من طريق الوحي و العقل جميعاً عليه.

و لذلك نراه سبحانه يعطف الكلام عليه في خلال السورة مرّة بعد مرّة كقوله في مفتتح السورة:( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) ثمّ يرجع إليه و يقول:( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ - إلى قوله -قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) .

ثمّ يقول:( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) إلخ ثمّ يقول:( أَ لَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) ثمّ يقول:( قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى‏ مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ ) ثمّ يقول:( قُلْ أَ فَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ) إلى غير ذلك من الإشارات.

٢٢٥

ثمّ عمّم الاحتجاج على توحّده تعالى في الربوبيّة و الاُلوهيّة من الوحي و من طريق البرهان و قايس بين المؤمنين و المشركين مقايسات لطيفة فوصف المؤمنين بأجمل أوصافهم و بشّرهم بما سيثيبهم في الآخرة مرّة بعد مرّة و ذكر المشركين و أنذرهم بما سيلحقهم من الخسران و عذاب الآخرة مضافاً إلى ما يصيبهم في الدنيا من وبال أمرهم كما أصاب الّذين كذّبوا من الاُمم الدارجة من عذاب الخزي في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أكبر.

و من ثمّ وصفت السورة يوم البعث و خاصّة في مختتمها بأوضح الوصف و أتمّه.

و السورة مكّيّة لشهادة سياق آياتها بذلك و كأنّها نزلت دفعة واحدة لمّا بين آياتها من الاتّصال.

و الآيات العشر المنقولة تجمع الدعوة من طريق الوحي و الحجّة العقليّة بادئة بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) ( تَنْزِيلُ الْكِتابِ ) خبر لمبتدإ محذوف، و هو مصدر بمعنى المفعول فيكون إضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى موصوفها و( مِنَ اللهِ ) متعلّق بتنزيل و المعنى هذا كتاب منزّل من الله العزيز الحكيم.

و قيل:( تَنْزِيلُ الْكِتابِ ) مبتدأ و( مِنَ اللهِ ) خبره و لعلّ الأوّل أقرب إلى الذهن.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) عبّر بالإنزال دون التنزيل كما في الآية السابقة لأنّ القصد إلى بيان كونه بالحقّ و هو يناسب مجموع ما نزل إليه من ربّه.

و قوله:( بِالْحَقِّ ) الباء فيه للملابسة أي أنزلناه إليك متلبّساً بالحقّ فما فيه من الأمر بعبادة الله وحده حقّ، و على هذا المعنى فرّع عليه قوله:( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ‏ ) و المعنى فإذا كان بالحقّ فاعبدالله مخلصاً له الدين لأنّ فيه ذلك.

و المراد بالدين - على ما يعطيه السياق - العبادة و يمكن أن يراد به سنّة الحياة و هي الطريقة المسلوكة في الحياة في المجتمع الإنسانيّ، و يراد بالعبادة تمثيل العبوديّة

٢٢٦

بسلوك الطريق الّتي شرعها الله سبحانه و المعنى فأظهر العبوديّة لله في جميع شؤن حياتك باتّباع ما شرعه لك فيها و الحال أنّك مخلص له دينك لا تتّبع غير ما شرعه لك.

قوله تعالى: ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) إظهار و إعلان لما أضمر و أجمل في قوله:( بِالْحَقِّ ) و تعميم لما خصّص في قوله:( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) أي إنّ الّذي أوحيناه إليك من إخلاص الدين لله واجب على كلّ من سمع هذا النداء، و لكون الجملة نداء مستقلّاً اُظهر اسم الجلالة و كان مقتضى الظاهر أن يضمر و يقال: له الدين الخالص.

و معنى كون الدين الخالص له أنّه لا يقبل العبادة ممّن لا يعبده وحده سواء عبده و غيره أو عبد غيره وحده.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) إلى آخر الآية تقدّم أنّ الوثنيّة يرون أنّ الله سبحانه أجلّ من أن يحيط به الإدراك الإنسانيّ من عقل أو وهم أو حسّ فيتنزّه تعالى عن أن يقع عليه توجّه عبادي منّا.

فمن الواجب أن نتقرّب إليه بالتقرّب إلى مقرّبيه من خلقه و هم الّذين فوّض إليهم تدبير شؤن العالم فنتّخذهم أرباباً من دون الله ثمّ آلهة نعبدهم و نتقرّب إليهم ليشفعوا لنا عندالله و يقرّبونا إليه زلفى و هؤلاء هم الملائكة و الجنّ و قدّيسوا البشر و هؤلاء هم الأرباب و الآلهة بالحقيقة.

أمّا الأصنام المصنوعة المنصوبة في الهياكل و المعابد فإنّما هي تماثيل للأرباب و الآلهة و ليست في نفسها أرباباً و لا آلهة غير أنّ الجهلة من عامّتهم ربّما لم يفرّقوا بين الأصنام و أرباب الأصنام فعبدوا الأصنام كما يعبد الأرباب و الآلهة و كذلك كانت عرب الجاهليّة و كذلك الجهلة من عامّة الصابئين ربّما لم يفرّقوا بين أصنام الكواكب و الكواكب الّتي هي أيضاً أصنام لأرواحها الموكّلة عليها و بين أرواحها الّتي هي الأرباب و الآلهة بالحقيقة عند خاصّتهم.

و كيف كان فالأرباب و الآلهة هم المعبودون عندهم و هم موجودات ممكنة مخلوقة لله

٢٢٧

مقرّبة عنده مفوّضة إليهم تدبير أمر العالم لكلّ بحسب منزلته و أمّا الله سبحانه فليس له إلّا الخلق و الإيجاد و هو ربّ الأرباب و إله الآلهة.

إذا تذكّرت ما مرّ ظهر أنّ المراد بقوله:( وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) اتّخاذهم أرباباً يدبّرون الأمر بأن يسندوا الربوبيّة و أمر التدبير إليهم لا إلى الله فهم المدبّرون للأمر عندهم و يتفرّع عليه أن يخضع لهم و يعبدوا لأنّ العبادة لجلب النفع أو لدفع الضرر أو شكر النعم و كلّ ذلك إليهم لتصديهم أمر التدبير دون الله سبحانه.

فالمراد باتّخاذهم أولياء اتّخاذهم أرباباً(1) ، و لذا عقّب اتّخاذ الأولياء بذكر العبادة( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا ) فقوله:( وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) مبتدأ خبره( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ) إلخ و المراد بهم المشركون القائلون بربوبيّة الشركاء و اُلوهيّتهم دون الله إلّا ما ذهب إليه جهلتهم من كونه تعالى شريكاً لهم في المعبوديّة.

و قوله:( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) تفسير لمعنى اتّخاذ الأولياء من دون الله و هو حكاية لقولهم أو بتقدير القول أي يقولون: ما نعبدهم هؤلاء إلّا ليقرّبونا بسبب عبادتنا لهم إلى الله تقريباً فهم عادلون منه تعالى إلى غيره، و إنّما سمّوا مشركين لأنّهم يشركون به تعالى غيره حيث يقولون بكونهم أرباباً و آلهة للعالم و كونه تعالى ربّاً و إلهاً لاُولئك الأرباب و الآلهة، و أمّا الشركة في الخلق و الإيجاد فلم يقل به لا مشرك و لا موحّد.

و قوله:( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) قيل: ضمير الجمع للمشركين و أوليائهم أي إنّ الله يحكم بين المشركين و بين أوليائهم فيما هم فيه يختلفون، و قيل: الضميران راجعان إلى المشركين و خصمائهم من أهل الإخلاص في الدين المفهوم من السياق، و المعنى إنّ الله يحكم بينهم و بين المخلصين للدين.

و قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ ) الكفّار كثير الكفران لنعم

____________________

(1) فالولاية و الربوبيّة قريباً المعنى فالربّ هو المالك المدبّر و الوليّ هو مالك التدبير أو متصدي التدبير.

٢٢٨

الله‏ أو كثير الستر للحقّ، و في الجملة إشعار بل دلالة على أنّ الحكم يوم القيامة على المشركين لا لهم و أنّهم مسيّرون إلى العذاب، و المراد بالهداية الإيصال إلى حسن العاقبة.

قوله تعالى: ( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) احتجاج على نفي قولهم: إنّ الله اتّخذ ولداً، و قول بعضهم: الملائكة بنات الله. و القول بالولد دائر بين عامّة الوثنيّة على اختلاف مذاهبهم و قد قالت النصارى: المسيح ابن الله، و قالت اليهود على ما حكاه القرآن عنهم: عزير ابن الله و كأنّها بنوّة تشريفيّة.

و البنوّة كيفما كانت تقتضي شركة ما بين الابن و الأب و الولد و الوالد فإن كانت بنوّة حقيقيّة و هي اشتقاق شي‏ء من شي‏ء و انفصاله منه اقتضت الشركة في حقيقة الذات و الخواصّ و الآثار المنبعثة من الذات كبنوّة إنسان لإنسان المقتضية لشركة الابن لأبيه في الإنسانيّة و لوازمها، و إن كانت بنوّة اعتباريّة كالبنوّة الاجتماعيّة و هو التبنّي اقتضت الاشتراك في الشؤنات الخاصّة بالأب كالسؤدد و الملك و الشرف و التقدّم و الوراثة و بعض أحكام النسب، و الحجّة المسوقة في الآية تدلّ على استحالة اتّخاذ الولد عليه تعالى بكلا المعنيين.

فقوله:( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ) شرط صدّر بلو الدالّ على الامتناع للامتناع، و قوله:( لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) أي لاختار لذلك ممّا يخلق ما يتعلّق به مشيئته على ما يفيده السياق و كونه ممّا يخلق لكون ما عداه سبحانه خلقاً له.

و قوله:( سُبْحانَهُ ) تنزيه له سبحانه، و قوله:( هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) بيان لاستحالة الشرط و هو إرادة اتّخاذ الولد ليترتّب عليه استحالة الجزاء و هو اصطفاء ما يشاء ممّا يخلق و ذلك لأنّه سبحانه واحد في ذاته المتعالية لا يشاركه فيها شي‏ء و لا يماثله فيها أحد لأدلّة التوحيد، و واحد في صفاته الذاتيّة الّتي هي عين ذاته كالحياة و العلم و القدرة، و واحد في شؤنه الّتي هي من لوازم ذاته كالخلق و الملك و العزّة و الكبرياء لا يشاركه فيها أحد.

٢٢٩

و هو سبحانه قهّار يقهر كلّ شي‏ء بذاته و صفاته فلا يستقلّ قبال ذاته و وجوده شي‏ء في ذاته و وجوده و لا يستغني عنه شي‏ء في صفاته و آثار وجوده فالكلّ أذلاء داخرون بالنسبة إليه مملوكون له فقراء إليه.

فمحصّل حجّة الآية قياس استثنائي ساذج يستثني فيه نقيض المقدّم لينتج نقيض التالي و هو نحو من قولنا: لو أراد الله أن يتّخذ ولداً لاصطفى لذلك بعض من يشاء من خلقه لكن إرادته اتّخاذ الولد ممتنعة لكونه واحداً قهّاراً فاصطفاؤه لذلك بعض من يشاء من خلقه ممتنع.

و قد أغرب بعضهم في تقريب حجّة الآية فقال: حاصل المعنى لو أراد سبحانه اتّخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلّقها بالممتنع أعني الاتّخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لأنّها ترجّح بعض الممكنات على بعض.

و أصل الكلام لو اتّخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الاُلوهيّة فعدل إلى لو أراد الاتّخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ و أبلغ ثمّ حذف هذا الجواب و جي‏ء بدله لاصطفى تنبيهاً على أنّ الممكن هذا لا الأوّل و أنّه لو كان هذا من اتّخاذ الولد في شي‏ء لجاز اتّخاذ الولد عليه سبحانه و تعالى شأنه عن ذلك فقد تحقّق التلازم و حقّ نفي اللازم و إثبات الملزوم دون صعوبة. انتهى.

و كأنّه مأخوذ من قول الزمخشريّ في الكشّاف، في تفسير الآية حيث قال: يعني لو أراد اتّخاذ الولد لامتنع و لم يصحّ لكونه محالاً و لم يتأتّ إلّا أن يصطفي من خلقه بعضه و يختصّهم و يقرّبهم كما يختصّ الرجل ولده و يقرّبه و قد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به و غرّكم اختصاصه إيّاهم فزعمتم أنّهم أولاده جهلاً منكم به و بحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام و الأعراض كأنّه قال: لو أراد اتّخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه و هم الملائكة لكنّكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتّخاذهم أولاداً ثمّ تماديتم في جهلكم و سفهكم فجعلتموهم بنات فكنتم كذّابين كفّارين متبالغين في الافتراء على الله و ملائكته غالين في الكفر انتهى.

و أنت خبير أنّ سياق الآية لا يلائم هذا البيان. على أنّه لا يدفع قول القائل

٢٣٠

بالتبنّي التشريفيّ كقول اليهود عزير ابن الله فإنّهم لا يريدون بالتبنّي إلّا اصطفاء من يشاء من خلقه.

و هناك بعض تقريبات اُخر منهم لا جدوى فيه تركنا إيراده.

قوله تعالى: ( خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) لا يبعد أن يكون ما فيه من الإشارة إلى الخلق و التدبير بيانا لقهّاريّته تعالى لكن اتّصال الآيتين و ارتباطهما مضموناً و انتهاء الثانية إلى قوله:( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ) إلخ كالصريح في أنّ ذلك استئناف بيان للاحتجاج على توحيد الربوبيّة.

فالآية و الّتي تليها مسوقتان لتوحيد الربوبيّة و قد جمع فيهما بين الخلق و التدبير لما مرّ مراراً أنّ إثبات وحدة الخالق لا يستلزم عند الوثنيّ نفي تعدّد الأرباب و الآلهة لأنّهم لا ينكرون انحصار الخلق و الإيجاد فيه تعالى لكنّه سبحانه فيما يحتجّ على توحّده في الربوبيّة و الاُلوهيّة في كلامه يجمع بين الخلق و التدبير إشارة إلى أنّ التدبير غير خارج من الخلق بل هو خلق بوجه كما أنّ الخلق تدبير بوجه و عند ذلك يتمّ الاحتجاج على رجوع التدبير إليه تعالى و انحصاره فيه برجوع الخلق إليه.

و قوله:( خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) إشارة إلى الخلقة، و في قوله:( بِالْحَقِّ ) - و الباء للملابسة - إشارة إلى البعث فإن كون الخلقة حقّاً غير باطل يلازم كونها لغاية تقصدها و تنساق إليها و هي البعث قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ) ص: 27.

و قوله:( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ) قال في المجمع، التكوير طرح الشي‏ء بعضه على بعض. انتهى فالمراد طرح اللّيل على النهار و طرح النهار على اللّيل فيكون من الاستعارة بالكناية قريب المعنى من قوله:( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) الأعراف: 54 و المراد استمرار توالي الليل و النهار بظهور هذا على ذاك ثمّ ذاك على هذا و هكذا، و هو من التدبير.

و قوله:( وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) أي سخّر الشمس و القمر فأجراهما للنظام الجاري في العالم الأرضيّ إلى أجل مسمّى معيّن لا يتجاوزانه.

٢٣١

و قوله:( أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) يمكن أن يكون في ذكر الاسمين إشارة إلى ما يحتجّ به على توحّده تعالى في الربوبيّة و الاُلوهيّة فإنّ العزيز الّذي لا يعتريه ذلّة إن كان فهو الله و هو المتعيّن للعبادة لا غيره الّذي تغشاه الذلّة و تغمره الفاقة و كذا الغفار للذنوب إذا قيس إلى من ليس من شأنه ذلك.

و يمكن أن يكون ذكرهما تحضيضاً على التوحيد و الإيمان بالله الواحد و المعنى اُنبّهكم أنّه هو العزيز فآمنوا به و اعتزّوا بعزّته، الغفّار فآمنوا به يغفر لكم.لكم.

قوله تعالى: ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) إلخ الخطاب لعامّة البشر، و المراد بالنفس الواحدة - على ما تؤيّده نظائره من الآيات - آدم أبوالبشر، و المراد بزوجها امرأته الّتي هي من نوعها و تماثلها في الإنسانيّة، و( ثُمَّ ) للتراخي بحسب رتبة الكلام.

و المراد أنّه تعالى خلق هذا النوع و كثّر أفراده من نفس واحدة و زوجها.

و قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الأنعام هي الإبل و البقر و الضأن و المعز، و كونها ثمانية أزواج باعتبار انقسامها إلى الذكر و الاُنثى.

و تسمية خلق الأنعام في الأرض إنزالا لها باعتبار أنّه تعالى يسمّي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالاً لها من خزائنه الّتي هي عنده و من الغيب إلى الشهادة قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21.

و قوله:( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ) بيان لكيفيّة خلق من تقدّم ذكره من البشر و الأنعام، و في الخطاب تغليب اُولي العقل على غيرهم، و الخلق من بعد الخلق التوالي و التوارد كخلق النطفة علقة و خلق العلقة مضغة و هكذا، و الظلمات الثلاث هي ظلمة البطن و الرحم و المشيمة كما قيل و رواه في المجمع، عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و قيل: المراد بها ظلمة الصلب و الرحم و المشيمة و هو خطأ فإنّ قوله:( فِي

٢٣٢

بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ) صريح في أنّ المراد بالظلمات الثلاث ما في بطون النساء دون أصلاب الرّجال.

و قوله:( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ) أي الّذي وصف لكم في الآيتين بالخلق و التدبير هو ربّكم دون غيره لأنّ الربّ هو المالك الّذي يدبّر أمر ما ملكه و إذ كان خالقاً لكم و لكلّ شي‏ء دونكم و للنظام الجاري فيكم فهو الّذي يملككم و يدبّر أمركم فهو ربّكم لا غير.

و قوله:( لَهُ الْمُلْكُ ) أي على جميع المخلوقات في الدنيا و الآخرة فهو المليك على الإطلاق، و تقديم الظرف يفيد الحصر، و الجملة خبر بعد خبر لقوله:( ذلِكُمُ اللهُ ) كما أنّ قوله:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، كذلك، و انحصار الاُلوهيّة فيه تعالى فرع انحصار الربوبيّة فيه لأنّ الإله إنّما يعبد لأنّه ربّ مدبّر فيعبد إمّا خوفاً منه أو رجاء فيه أو شكراً له.

و قوله:( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره و هو ربّكم الّذي خلقكم و دبّر أمركم و هو المليك عليكم.

قوله تعالى: ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) إلى آخر الآية. مسوق لبيان أنّ الدعوة إلى التوحيد و إخلاص الدين لله سبحانه ليست لحاجة منه تعالى إلى إقبالهم إليه بالانصراف عن عبادة غيره بل لعناية منه تعالى بهم فيدعوهم إلى سعادتهم اعتناء بها كما يعتني برزقهم فيفيض النعم عليهم و كما يعتني بحفظهم فيلهمهم أن يدفعوا الآفات عن أنفسهم.

فقوله:( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ) الخطاب لعامّة المكلّفين أي إن تكفروا بالله فلم توحّدوه فإنّه غنيّ عنكم لذاته لا ينتفع بإيمانكم و طاعتكم و لا يتضرّر بكفركم و معصيتكم فالنفع و الضرر إنّما يتحقّقان في مجال الإمكان و الحاجة و أمّا الواجب الغنيّ بذاته فلا يتصوّر في حقّه انتفاع و لا تضرّر.

و قوله:( وَ لا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) دفع لما ربّما يمكن أن يتوهّم من قوله:( فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ) إنّه إذا لم يتضرّر بكفر و لم ينتفع بإيمان فلا موجب له أن

٢٣٣

يريد منّا الإيمان و الشكر فدفعه بأنّ تعلّق العناية الإلهيّة بكم يقتضي أن لا يرضى بكفركم و أنتم عباده.

و المراد بالكفر كفر النعمة الّذي هو ترك الشكر بقرينة مقابلة قوله:( وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) و بذلك يظهر أنّ التعبير بقوله:( لِعِبادِهِ ) دون أن يقول: لكم للدلالة على علّة الحكم أعني سبب عدم الرضا.

و المحصّل أنّكم عباد مملوكون لله سبحانه منغمرون في نعمه و رابطة المولويّة و العبوديّة و هي نسبة المالكيّة و المملوكيّة لا تلائمه أن يكفر العبد بنعمة سيّده فينسى ولاية مولاه و يتّخذ لنفسه أولياء من دونه و يعصي المولى و يطيع عدوّه و هو عبد عليه طابع العبوديّة لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً.

و قوله:( وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) الضمير للشكر نظير قوله تعالى:( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) المائدة: 8 و المعنى و إن تشكروا الله بالجري على مقتضى العبوديّة و إخلاص الدين له يرض الشكر لكم و أنتم عباده، و الشكر و الكفر المقابل له ينطبقان على الإيمان و الكفر المقابل له.

و ممّا تقدّم يظهر أنّ العباد في قوله:( وَ لا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) عامّ يشمل الجميع فقول بعضهم: إنّه خاصّ اُريد به من عناهم في قوله:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: 42 و هم المخلصون - أو المعصومون على ما فسّره الزمخشريّ - و لازمه أنّ الله سبحانه رضي الإيمان لمن آمن و رضي الكفر لمن كفر إلّا المعصومين فإنّه أراد منهم الإيمان، و صانهم عن الكفر سخيف جدّاً، و السياق يأباه كل الإباء، إذ الكلام مشعر حينئذ برضاه الكفر للكافر فيؤول معنى الكلام إلى نحو من قولنا: إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم و لا يرضى للأنبياء مثلاً الكفر لرضاه لهم الإيمان و إن تشكروا أنتم يرضه لكم و إن تكفروا يرضه لكم و هذا - كما ترى - معنى ردي‏ء ساقط و خاصّة من حيث وقوعه في سياق الدعوة.

على أنّ الأنبياء مثلاً داخلون فيمن شكر و قد رضي لهم الشكر و الإيمان

٢٣٤

و لم يرض لهم الكفر فلا موجب لإفرادهم بالذكر و قد ذكر الرضا عمّن شكر.

و قوله:( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ) أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس اُخرى أي لا يؤاخذ بالذنب إلّا من ارتكبه.

و قوله:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) أي هذا في الدنيا من كفر أو شكر ثمّ يبعثكم الله فيظهر لكم حقيقة أعمالكم و يحاسبكم على ما في قلوبكم و قد تكرّر الكلام في معاني هذه الجمل فيما تقدّم.

( كلام في معنى الرضا و السخط من الله)

الرضا من المعاني الّتي يتّصف بها اُولو الشعور و الإرادة و يقابله السخط و كلاهما وصفان وجوديّان.

ثمّ الرضا يتعلّق بالمعاني من الأوصاف و الأفعال دون الذوات يقال: رضي له كذا و رضي بكذا قال تعالى:( وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) التوبة: 59 و قال:( وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا :) يونس: 7 و ما ربّما يتعلّق بالذوات فإنّما هو بعناية مّا و يؤول بالآخرة إلى المعنى كقوله:( وَ لَنْ تَرْضى‏ عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى) البقرة: 120.

و ليس الرضا هو الإرادة بعينها و إن كان كلّما تعلّقت به الإرادة فقد تعلّق به الرضا بعد وقوعه بوجه. و ذلك لأنّ الإرادة - كما قيل - تتعلّق بأمر غير واقع و الرضا إنّما يتعلّق بالأمر بعد وقوعه أو فرض وقوعه فإذن كون الإنسان راضياً بفعل كذا كونه بحيث يلائم ذلك الفعل و لا ينافره، و هو وصف قائم بالراضي دون المرضيّ.

ثمّ الرضا لكونه متعلّقاً بالأمر بعد وقوعه كان متحقّقاً بتحقّق المرضيّ حادثاً بحدوثه فيمتنع أن يكون صفة من الصفات القائمة بذاته لتنزّهه تعالى عن أن يكون محلّاً للحوادث فما نسب إليه تعالى من الرضا صفة فعل قائم بفعله منتزع عنه كالرحمة و الغضب و الإرادة و الكراهة قال تعالى:( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ) البيّنة: 8 و قال:( وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) النمل: 19، و قال:( وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) المائدة: 3.

٢٣٥

فرضاه تعالى عن أمر من الاُمور ملائمة فعله تعالى له، و إذ كان فعله قسمين تكوينيّ و تشريعيّ انقسم الرضا منه أيضاً إلى تكوينيّ و تشريعيّ فكلّ أمر تكوينيّ و هو الّذي أراد الله و أوجده فهو مرضيّ له رضاً تكوينيّاً بمعنى كون فعله و هو إيجاده عن مشيّة ملائماً لما أوجده، و كلّ أمر تشريعيّ و هو الّذي تعلّق به التكليف من اعتقاد أو عمل كالإيمان و العمل الصالح فهو مرضي له رضاً تشريعيّاً بمعنى ملاءمة تشريعه للمأتيّ به.

و أمّا ما يقابل هذه الاُمور المأمور بها ممّا تعلّق به نهي فلا يتعلّق بها رضي البتّة لعدم ملاءمة التشريع لها كالكفر و الفسوق كما قال تعالى:( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) الزمر: 7، و قال:( فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى‏ عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) التوبة: 96.

قوله تعالى: ( وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ) إلى آخر الآية الإنابة الرجوع، و التخويل العطيّة العظيمة على وجه الهبة و هي المنحة. على ما في المجمع.

لمّا مرّ في الآية السابقة ذكر من كفر النعمة و أنّ الله سبحانه على غناه من الناس لا يرضى لهم ذلك نبّه في هذه الآية على أنّ الإنسان كفور بالطبع مع أنّه يعرف ربّه بالفطرة و لا يلبث عند الاضطرار دون أن يرجع إليه فيسأله كشف ضرّه كما قال:( وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ) الإسراء: 67، و قال:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم: 34.

فقوله:( وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ) أي إذا أصاب الإنسان ضرّ من شدّة أو مرض أو قحط و نحوه دعا ربّه - و هو الله يعترف عند ذلك بربوبيّته - راجعاً إليه معرضاً عمّن سواه يسأله كشف الضرّ عنه.

و قوله:( ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ) أي و إذا أعطاه ربّه سبحانه بعد كشف الضرّ نعمة منه اشتغل به مستغرقاً و نسي الضرّ الّذي كان يدعو إليه أي إلى كشفه من قبل إعطاء النعمة.

فما في قوله:( ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ ) موصولة و المراد به الضرّ و ضمير( إِلَيْهِ ) له

٢٣٦

و قيل: مصدريّة و الضمير للربّ سبحانه و المعنى نسي دعاءه إلى ربّه من قبل الإعطاء، و قيل: موصولة و المراد به الله سبحانه و هو أبعد الوجوه.

و قوله:( وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) الأنداد الأمثال و المراد بها - على ما قيل - الأصنام و أربابها، و اللام في( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) للعاقبة، و المعنى و اتّخذ الله أمثالاً يشاركونه في الربوبيّة و الاُلوهيّة على مزعمته لينتهي به ذلك إلى إضلال الناس عن سبيل الله لأنّ الناس مطبوعون على التقليد يتشبّه بعضهم ببعض و في الفعل دعوة كالقول.

و لا يبعد أن يراد بالأنداد مطلق الأسباب الّتي يعتمد عليها الإنسان و يطمئنّ إليها و من جملتها أرباب الأصنام عند الوثنيّ و ذلك لأنّ الآية تصف الإنسان و هو أعمّ من المشرك نعم مورد الآية هو الكافر.

و قوله:( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ) أي تمتّع تمتّعاً قليلاً لا يدوم لك لأنّك من أصحاب النار مصيرك إليها، و هو أمر تهديديّ في معنى الإخبار أي إنّك إلى النار و لا يدفعها عنك تمتّعك بالكفر أيّاماً قلائل.

قوله تعالى: ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ) الآية لا تخلو عن مناسبة و اتّصال بقوله السابق:( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ) فإنّ فحواه أنّ الكافر و الشاكر لا يستويان و لا يختلطان فأوضح ذلك في هذه الآية بأنّ القانت الّذي يخاف العذاب و يرجو رحمة ربّه لا يساوي غيره.

فقوله:( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ) أحد شقّي الترديد محذوف و التقدير أ هذا الّذي ذكرناه خير أم من هو قانت إلخ؟.

و القنوت - على ما ذكره الراغب - لزوم الطاعة مع الخضوع، و الآناء جمع أنى و هو الوقت، و( يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ) أي عذاب الله في الآخرة قال تعالى:( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً ) الإسراء: 57، و قوله:( يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ) هو و ما قبله يجمعان خوف العذاب و رجاء الرحمة، و لم يقيّد الرحمة بالآخرة فإنّ رحمة الآخرة ربّما وسعت الدنيا.

٢٣٧

و المعنى أ هذا الكافر الّذي هو من أصحاب النار خير أم من هو لازم للطاعة و الخضوع لربّه في أوقات الليل إذا جنّ عليه ساجداً في صلاته تارة قائماً فيها اُخرى يحذر عذاب الآخرة و يرجو رحمة ربّه؟ أي لا يستويان.

و قوله:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) العلم و عدمه مطلقان لكنّ المراد بهما بحسب ما ينطبق على مورد الآية العلم بالله و عدمه فإنّ ذلك هو الّذي يكمل به الإنسان و ينتفع بحقيقة معنى الكلمة و يتضرّر بعدمه، و غيره من العلم كالمال ينتفع به في الحياة الدنيا و يفنى بفنائها.

و قوله:( إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي ذوُو العقول و هو في مقام التعليل لعدم تساوي الفريقين بأنّ أحد الفريقين يتذكّر حقائق الاُمور دون الفريق الآخر فلا يستويان بل يترجّح الّذين يعلمون على غيرهم.

قوله تعالى: ( قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ) إلى آخر الآية، الجارّ و المجرور( فِي هذِهِ الدُّنْيا ) متعلّق بقوله:( أَحْسَنُوا ) فالمراد بالجملة وعد الّذين أحسنوا أي لزموا الأعمال الحسنة أنّ لهم حسنة لا يقدّر وصفها بقدر.

و قد اُطلق الحسنة فلم يقيّدها بدنيا أو آخرة و ظاهرها ما يعمّ الدنيا فللمؤمنين المحسنين في هذه الدنيا طيب النفس و سلامة الروح و صون النفوس عمّا يتقلّب فيه الكفّار من تشوّش البال و تقسّم القلب و غلّ الصدر و الخضوع للأسباب الظاهريّة و فقد من يرجى في كلّ نائبة و ينصر عند طروق الطارقة و يطمأنّ إليه في كلّ نازلة و في الآخرة سعادة دائمة و نعيم مقيم.

و قيل:( فِي هذِهِ الدُّنْيا ) متعلّق بحسنة. و ليس بذاك.

و قوله:( وَ أَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ ) حثّ و ترغيب لهم في الهجرة من مكّة إذ كان التوقّف فيها صعباً على المؤمنين بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المشركون يزيدون كلّ يوم في التشديد عليهم و فتنتهم، و الآية بحسب لفظها عامّة.

و قيل: المراد بأرض الله الجنّة أي إنّ الجنّة واسعة لا تزاحم فيها فاكتسبوها

٢٣٨

بالطاعة و العبادة. و هو بعيد.

و قوله:( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) توفية الأجر إعطاؤه تامّاً كاملاً، و السياق يفيد أنّ القصر في الكلام متوجّه إلى قوله:( بِغَيْرِ حِسابٍ ) فالجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( يُوَفَّى ) صفة لمصدر يدلّ عليه و المعنى لا يعطى الصابرون أجرهم إلّا إعطاء بغير حساب، فالصابرون لا يحاسبون على أعمالهم و لا ينشر لهم ديوان و لا يقدّر أجرهم بزنة عملهم.

و قد اُطلق الصابرون في الآية و لم يقيّد بكون الصبر على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة و إن كان الّذي ينطبق على مورد الآية هو الصبر على مصائب الدنيا و خاصّة ما يصيب من جهة أهل الكفر و السوق من آمن بالله و أخلص له دينه و اتّقاه.

و قيل:( بِغَيْرِ حِسابٍ ) حال من( أَجْرَهُمْ ) و يفيد كثرة الأجر الّذي يوفونه، و الوجه السابق أقرب.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشيّ: أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إنّا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله لا يقبل إلّا ممّن أخلص له. ثمّ تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) .

و فيه، أخرج ابن جرير من طريق جويبر عن ابن عبّاس:( وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) الآية قال: اُنزلت في ثلاثة أحياء: عامر و كنانة و بني سلمة كانوا يعبدون الأوثان و يقولون: الملائكة بناته فقالوا:( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) .

أقول: الآية مطلقة تشمل عامّة الوثنيّين، و قول:( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى‏ ) قول جميعهم، و كذا القول بالولد و لا تصريح في الآية بالقول بكون الملائكة بنات فالحقّ أنّ الخبر من التطبيق.

٢٣٩

و في الكافي، و العلل، بإسنادهما عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت:( آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً ) إلخ قال: يعني صلاة اللّيل.

و في الكافي، بإسناده عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) قال نحن الّذين يعلمون، و عدوّنا الّذين لا يعلمون، و شيعتنا اُولو الألباب.

أقول: و هذا المعنى مرويّ بطرق كثيرة عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام و هو جري و ليس من التفسير في شي‏ء.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن سعد في طبقاته و ابن مردويه عن ابن عبّاس: في قوله:( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً ) قال: نزلت في عمّار بن ياسر.

أقول: و روي مثله عن جويبر عن عكرمة، و روي عن جويبر عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها نزلت في ابن مسعود و عمّار و سالم مولى أبي حذيفة، و روي عن أبي نعيم و ابن عساكر عن ابن عمر أنّه عثمان و قيل غير ذلك، و الجميع من التطبيق و ليس من النزول بالمعنى المصطلح عليه، و السورة نازلة دفعة.

و في المجمع، روى العيّاشيّ بالإسناد عن عبدالله بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا نشرت الدواوين و نصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان و لم ينشر لهم ديوان. ثمّ تلا هذه الآية( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

أقول: و روي ما في معناه في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث.

٢٤٠