الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 153069
تحميل: 4293


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153069 / تحميل: 4293
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة الزمر الآيات 11 - 20)

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ( 11 ) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ( 12 ) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 13 ) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي ( 14 ) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ  قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ( 15 ) لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ  ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ  يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ( 16 ) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ  فَبَشِّرْ عِبَادِ ( 17 ) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ  أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ  وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ( 18 ) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ( 19 ) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ  وَعْدَ اللهِ  لَا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعَادَ ( 20 )

( بيان)

في الآيات نوع رجوع إلى أوّل الكلام و أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلّغهم أنّ الّذي يدعوهم إليه من التوحيد و إخلاص الدين لله هو مأمور به كأحدهم و يزيد أنّه مأمور أن يكون أوّل مسلم لما يدعو إليه أي يكون بحيث يدعو إلى ما قد أسلم له و آمن به قبل، سواء أجابوا إلى دعوته أو ردّوها.

فعليهم أن لا يطمعوا فيه أن يخالف فعله قوله و سيرته دعوته فإنّه مجيب لربّه

٢٤١

مسلم له متصلّب في دينه خائف منه أن يعصيه ثمّ تنذر الكافرين و تبشّر المؤمنين بما أعدّ الله سبحانه لكلّ من الفريقين من عذاب أو نعمة.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ - إلى قوله -أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) نحو رجوع إلى قوله تعالى في مفتتح السورة:( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) بداعي أن يؤيسهم من نفسه، فلا يطمعوا فيه أن يترك دعوتهم و يوافقهم على الإشراك بالله كما يشير إليه أوّل سورة ص و آيات أخر.

فكأنّه يقول: قل لهم إنّ الّذي تلوت عليكم من أمره تعالى بعبادته بإخلاص الدين - و قد وجّه به الخطاب إليّ - ليس المراد به مجرّد دعوتكم إلى ذلك بإقامتي في الخطاب مقام السامع فيكون من قبيل( إيّاك أعني و اسمعي يا جارة) بل أنا كأحدكم مأمور بعبادته مخلصاً له الدين، و لا ذلك فحسب، بل مأمور بأن أكون أوّل المسلمين لما ينزل إليّ من الوحي فاُسلم له أوّلاً ثمّ اُبلّغه لغيري فأنا أخاف ربّي و أعبده بالإخلاص آمنتم به أو كفرتم فلا تطمعوا فيّ.

فقوله:( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) إشارة إلى أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشارك غيره في الأمر بدون الإخلاص.

و قوله:( وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) إشارة إلى أنّ في الأمر المتوجّه إليّ زيادة على ما توجّه إليكم من التكليف و هو أنّي اُمرت بما اُمرت و قد توجّه الخطاب إليّ قبلكم و الغرض منه أن أكون أوّل من أسلم لهذا الأمر و آمن به.

قيل: اللّام في قوله:( لِأَنْ أَكُونَ ) للتعليل و المعنى و اُمرت بذلك لأجل أن أكون أوّل المسلمين، و قيل: اللّام زائدة كما تركت اللّام في قوله تعالى:( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) الأنعام: 14.

و مآل الوجهين واحد بحسب المعنى فإنّ كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل المسلمين يعطي عنواناً لإسلامه و عنوان الفعل يصحّ أن يجعل غاية للأمر بالفعل و أن يجعل متعلقاً للأمر فيؤمر به يقال: اضربه للتأديب، و يقال: أدّبه بالضرب.

قال في الكشّاف: و في معناه أوجه: أن أكون أوّل من أسلم في زماني و من قومي

٢٤٢

لأنّه أوّل من خالف دين آبائه و خلع الأصنام و حطمها، و أن أكون أوّل الّذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاماً، و أن أكون أوّل من دعا نفسه إلى ما دعا غيره لأكون مقتدى بي في قولي و فعلي جميعاً و لا تكون صفتي صفة الملوك الّذين يأمرون بما لا يفعلون، و أن أفعل ما استحقّ به الأوّليّة من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبّب. انتهى.

و أنت خبير بأنّ الأنسب لسياق الآيات هو الوجه الثالث و هو الّذي قدّمناه و يلزمه سائر الوجوه.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) المراد بمعصية ربّه بشهادة السياق مخالفة أمره بعبادته مخلصاً له الدين، و باليوم العظيم يوم القيامة و الآية كالتوطئة لمضمون الآية التالية.

قوله تعالى: ( قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) تصريح بأنّه ممتثل لأمر ربّه مطيع له بعد التكنية عنه في الآية السابقة، و إياس لهم أن يطمعوا فيه أن يخالف أمر ربّه.

و تقديم المفعول في قوله:( قُلِ اللهَ أَعْبُدُ ) يفيد الحصر، و قوله:( مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ) يؤكّد معنى الحصر، و قوله:( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) أمر تهديديّ بمعنى أنّهم لا ينفعهم ذلك فإنّهم مصيبهم وبال إعراضهم عن عبادة الله بالإخلاص كما يشير إليه ذيل الآية( قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) إلخ الخسر و الخسران ذهاب رأس المال إمّا كلّاً أو بعضاً و الخسران أبلغ من الخسر، و خسران النفس هو إيرادها مورد الهلكة و الشقاء بحيث يبطل منها استعداد الكمال فيفوتها السعادة بحيث لا يطمع فيها و كذا خسارة الأهل.

و في الآية تعريض للمشركين المخاطبين بقوله:( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) كأنّه يقول: فأيّاً مّا عبدتم فإنّكم تخسرون أنفسكم بإيرادها بالكفر مورد الهلكة و أهليكم و هم خاصّتكم بحملهم على الكفر و الشرك و هي الخسران بالحقيقة.

٢٤٣

و قوله:( أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) و ذلك لأنّ الخسران المتعلّق بالدنيا - و هو الخسران في مال أو جاه - سريع الزوال منقطع الآخر بخلاف خسران يوم القيامة الدائم الخالد فإنّه لا زوال له و لا انقطاع.

على أنّ المال أو الجاه إذا زال بالخسران أمكن أن يخلفه آخر مثله أو خير منه بخلاف النفس إذا خسرت.

هذا على تقدير كون المراد بالأهل خاصّة الإنسان في الدنيا، و قيل: المراد بالأهل من أعدّه الله في الجنّة للإنسان لو آمن و اتّقى من أزواج و خدم و غيرهم و هو أوجه و أنسب للمقام فإنّ النسب و كلّ رابطة من الروابط الدنيويّة الاجتماعيّة مقطوعة يوم القيامة قال تعالى:( فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ) المؤمنون: 101 و قال:( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ) الانفطار: 19 إلى غير ذلك من الآيات.

و يؤيّده أيضاً قوله تعالى:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَ يَنْقَلِبُ إِلى‏ أَهْلِهِ مَسْرُوراً ) الانشقاق: 9.

قوله تعالى: ( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) إلخ الظلل جمع ظلّة و هي - كما قيل - الستر العالي.

و المراد بكونها من فوقهم و من تحتهم إحاطتها بهم فإنّ المعهود من النار الجهتان و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى‏ ) قال الراغب: الطاغوت عبارة عن كلّ متعدّ و كلّ معبود من دون الله، و يستعمل في الواحد و الجمع. انتهى، و الظاهر أنّ المراد بها في الآية الأوثان و كلّ معبود طاغ من دون الله.

و لم يقتصر على مجرّد اجتناب عبادة الطاغوت بل أضاف إليه قوله:( وَ أَنابُوا إِلَى اللهِ ) إشارة إلى أنّ مجرّد النفي لا يجدي شيئاً بل الّذي ينفع الإنسان مجموع النفي و الإثبات، عبادة الله و ترك عبادة غيره و هو عبادته مخلصاً له الدين.

و قوله:( لَهُمُ الْبُشْرى) إنشاء بشرى و خبر لقوله:( وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا ) إلخ.

٢٤٤

قوله تعالى: ( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) إلى آخر الآية كان مقتضى الظاهر أن يقال: فبشّرهم غير أنّه قيل: فبشّر عباد و اُضيف إلى ضمير التكلّم لتشريفهم به و لتوصيفهم بقوله:( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ) إلخ.

و المراد بالقول بقرينة ما ذكر من الاتّباع ما له نوع ارتباط و مساس بالعمل فأحسن القول أرشده في إصابة الحقّ و أنصحه للإنسان، و الإنسان إذا كان ممّن يحبّ الحسن و ينجذب إلى الجمال كان كلّما زاد الحسن زاد انجذاباً فإذا وجد قبيحاً و حسناً مال إلى الحسن، و إذا وجد حسناً و أحسن قصد ما هو أحسن، و أمّا لو لم يمل إلى الأحسن و انجمد على الحسن كشف ذلك عن أنّه لا ينجذب إليه من حيث حسنه و إلّا زاد الانجذاب بزيادة الحسن.

فتوصيفهم باتّباع أحسن القول معناه أنّهم مطبوعون على طلب الحقّ و إرادة الرشد و إصابة الواقع فكلّما دار الأمر بين الحقّ و الباطل و الرشد و الغيّ اتّبعوا الحقّ و الرشد و تركوا الباطل و الغيّ و كلّما دار الأمر بين الحقّ و الأحقّ و الرشد و ما هو أكثر رشداً أخذوا بالأحقّ الأرشد.

فالحقّ و الرشد هو مطلوبهم و لذلك يستمعون القول و لا يردّون قولا بمجرّد ما قرع سمعهم اتّباعاً لهوى أنفسهم من غير أن يتدبّروا فيه و يفقهوه.

فقوله:( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) مفاده أنّهم طالبوا الحقّ و الرشد يستمعون القول رجاء أن يجدوا فيه حقّاً و خوفاً أن يفوتهم شي‏ء منه.

و قيل: المراد باستماع القول و اتّباع أحسنه استماع القرآن و غيره و اتّباع القرآن، و قيل: المراد استماع أوامر الله تعالى و اتّباع أحسنها كالقصاص و العفو فيتّبعون العفو و إبداء الصدقات و إخفائها فيتبعون الإخفاء، و القولان من قبيل التخصيص من غير مخصّص.

و قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ ) إشارة إلى أنّ هذه الصفة هي الهداية الإلهيّة و هذه الهداية أعني طلب الحقّ و التهيّؤ التامّ لاتّباع الحقّ أينما وجد هي الهداية الإجماليّة و إليها تنتهي كلّ هداية تفصيليّة إلى المعارف الإلهيّة.

٢٤٥

و قوله:( وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي ذوو العقول و يستفاد منه أنّ العقل هو الّذي به الاهتداء إلى الحقّ و آيته صفة اتّباع الحقّ، و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) البقرة: 130 أنّه يستفاد منه أنّ العقل ما يتّبع به دين الله.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) ثبوت كلمة العذاب وجوب دخول النار بالكفر بقوله عند إهباط آدم إلى الأرض:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: 39 و ما في معناه من الآيات.

و مقتضى السياق أنّ في الآية إضماراً يدلّ عليه قوله:( أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) و التقدير أ فمن حقّت عليه كلمة العذاب ينجو منه و هو أولى من تقدير قولنا: خير أم من وجبت عليه الجنّة.

و قيل: المعنى أ فمن وجب عليه وعيده تعالى بالعقاب أ فأنت تخلّصه من النار فاكتفى بذكر( مَنْ فِي النَّارِ ) عن ذكر الضمير العائد إلى المبتدإ و جي‏ء بالاستفهام مرّتين للتأكيد تنبيها على المعنى.

و قيل: التقدير أ فأنت تنقذ من في النار منهم فحذف الضمير و هو أردأ الوجوه.

قوله تعالى: ( لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) الغرف جمع غرفة و هي المنزل الرفيع. قيل: و هذا في مقابلة قوله في الكافرين:( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) .

و قوله:( وَعْدَ اللهِ ) أي وعدهم الله ذلك وعداً فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله و قوله:( لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ ) إخبار عن سنّته تعالى في مواعيده و فيه تطييب لنفوسهم.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ‏ ) يقول: غبنوا أنفسهم و أهليهم.

٢٤٦

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى‏ ) روى أبوبصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه قال: أنتم هم و من أطاع جبّاراً فقد عبده.

أقول: و هو من الجري.

و في الكافي،: بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبوالحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام : يا هشام إنّ الله تبارك و تعالى بشر أهل العقل و الفهم في كتابه فقال:( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها ) قال: نزلت هاتان الآيتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهليّة يقولون: لا إله إلّا الله، في زيد بن عمرو بن نفيل و أبي ذرّ الغفاريّ و سلمان الفارسيّ.

أقول: و رواه في المجمع، عن عبدالله بن زيد، و روي في الدرّ المنثور، أيضاً عن ابن مردويه عن ابن عمر أنّها نزلت في سعيد بن زيد و أبي ذرّ و سلمان، و روي أيضاً عن جويبر عن جابر بن عبدالله أنّها نزلت في رجل من الأنصار أعتق سبعة مماليك لمّا نزل قوله تعالى:( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ) الآية، و الظاهر أنّ الجميع من تطبيق القصّة على الآية.

٢٤٧

( سورة الزمر الآيات 21 - 37)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ( 21 ) أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ  فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ  أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( 22 ) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ  ذَٰلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ  وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 23 ) أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ( 24 ) كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ( 25 ) فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ  لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 26 ) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 27 ) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 28 ) ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا  الْحَمْدُ لِلَّهِ  بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( 29 ) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ( 30 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ( 31 )

٢٤٨

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ  أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ( 32 ) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ  أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 33 ) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ  ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ( 34 ) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 35 ) أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ  وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ  وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 36 ) وَمَن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ  أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ( 37 )

( بيان)

عود إلى بدء من الاحتجاج على ربوبيّته تعالى و القول في اهتداء المهتدين و ضلال الضالّين و المقايسة بين الفريقين و ما ينتهي إليه عاقبة أمر كلّ منهما، و فيها معنى هداية القرآن.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية، قال في المجمع: الينابيع جمع ينبوع و هو الّذي ينبع منه الماء يقال نبع الماء من موضع كذا إذا فار منه، و الزرع ما ينبت على غير ساق و الشجر ما له ساق و أغصان النبات يعمّ الجميع، و هاج النبت يهيج هيجا إذا جفّ و بلغ نهايته في اليبوسة، و الحطام فتات التبن و الحشيش. انتهى.

و قوله:( فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ) أي فأدخله في عيون و مجاري في الأرض هي كالعروق في الأبدان تنقل ما تحمله من جانب إلى جانب، و الباقي ظاهر و الآية - كما ترى - تحتجّ على توحّده تعالى في الربوبيّة.

٢٤٩

قوله تعالى:( أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ) إلخ لمّا ذكر في الآية السابقة أنّ فيما ذكره من إنزال الماء و إنبات النبات ذكرى لاُولي الألباب و هم عباده المتّقون و قد ذكر قبل أنّهم الّذين هداهم الله ذكر في هذه الآية أنّهم ليسوا كغيرهم من الضالّين و أوضح السبب في ذلك و هو أنّهم على نور من ربّهم يبصرون به الحقّ و في قلوبهم لين لا تعصي عن قبول ما يلقى إليهم من أحسن القول.

فقوله:( أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ ) خبره محذوف يدلّ عليه قوله:( فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) إلخ أي كالقاسية قلوبهم و الاستفهام للإنكار أي لا يستويان.

و شرح الصدر بسطه ليسع ما يلقى إليه من القول و إذ كان ذلك للإسلام و هو التسليم لله فيما أراد و ليس إلّا الحقّ كان معناه كون الإنسان بحيث يقبل ما يلقى إليه من القول الحقّ و لا يردّه، و ليس قبولاً من غير دراية و كيفما كان بل عن بصيرة بالحقّ و عرفان بالرشد و لذا عقّبه بقوله:( فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) فجعله بحسب التمثيل راكب نور يسير عليه و يبصر ما يمرّ به في ساحة صدره الرحب الوسيع من الحقّ فيبصره و يميّزه من الباطل بخلاف الضالّ الّذي لا في صدره شرح فيسع الحقّ و لا هو راكب نور من ربّه فيبصر الحقّ و يميّزه.

و قوله:( فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ) تفريع على الجملة السابقة بما يدلّ على أنّ القاسية القلوب - و قساوة القلب و صلابته لازمة عدم شرح الصدر و عدم النور - لا يتذكّرون بآيات الله فلا يهتدون إلى ما تدلّ عليه من الحقّ، و لذا عقّبه بقوله:( أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

و في الآية تعريف الهداية بلازمها و هو شرح الصدر و جعله على نور من ربّه، و تعريف الضلال بلازمه و هو قساوة القلب من ذكر الله.

و قد تقدّم في تفسير قوله:( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) الخ الأنعام: 125 كلام في معنى الهداية فراجع.

قوله تعالى: ( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ) إلى آخر الآية

٢٥٠

كالإجمال بعد التفصيل بالنسبة إلى الآية السابقة بالنظر إلى ما يتحصّل من الآية في معنى الهداية و إن كانت بياناً لهداية القرآن.

فقوله:( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) هو القرآن الكريم و الحديث هو القول كما في قوله تعالى:( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ) الطور: 34، و قوله:( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) المرسلات: 50 فهو أحسن القول لاشتماله على محض الحقّ الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و هو كلامه المجيد.

و قوله:( كِتاباً مُتَشابِهاً ) أي يشبه بعض أجزائه بعضاً و هذا غير التشابه الّذي في المتشابه المقابل للمحكم فإنّه صفة بعض آيات الكتاب و هذا صفة الجميع.

و قوله:( مَثانِيَ ) جمع مثنيّة بمعنى المعطوف لانعطاف بعض آياته على بعض و رجوعه إليه بتبيّن بعضها ببعض و تفسير بعضها لبعض من غير اختلاف فيها بحيث يدفع بعضه بعضاً و يناقضه كما قال تعالى:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء: 82.

و قوله:( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) صفة الكتاب و ليس استئنافاً، و الاقشعرار تقبض الجلد تقبّضاً شديداً لخشية عارضة عن استماع أمر هائل أو رؤيته، و ليس ذلك إلّا لأنّهم على تبصّر من موقف نفوسهم قبال عظمة ربّهم فإذا سمعوا كلامه توجّهوا إلى ساحة العظمة و الكبرياء فغشيت قلوبهم الخشية و أخذت جلودهم في الاقشعرار.

و قوله:( ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى‏ ذِكْرِ اللهِ ) ( تَلِينُ ) مضمّنة معنى السكون و الطمأنينة و لذا عدّي بإلى و المعنى ثمّ تسكن و تطمئنّ جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله ليّنة تقبله أو تلين له ساكنة إليه.

و لم يذكر القلوب في الجملة السابقة عند ذكر الاقشعرار لأنّ المراد بالقلوب النفوس و لا اقشعرار لها و إنّما لها الخشية.

و قوله:( ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ) أي ما يأخذهم من اقشعرار الجلود من القرآن ثمّ سكون جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله هو هدى الله و هذا تعريف آخر

٢٥١

للهداية بلازمها.

و قوله:( يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ) أي يهدي بهداه من يشاء من عباده و هو الّذي لن يبطل استعداده للاهتداء و لم يشغل بالموانع عنه كالفسق و الظلم و في السياق إشعار بأنّ الهداية من فضله و ليس بموجب فيها مضطرّ إليها.

و قيل: المشار إليه بقوله:( ذلِكَ هُدَى اللهِ ) القرآن و هو كما ترى، و قد استدلّ بالآيات على أنّ الهداية من صنع الله لا يشاركه فيها غيره، و الحقّ أنّها خالية عن الدلالة على ذلك و إن كان الحقّ هو ذلك بمعنى كونها لله سبحانه أصالة و لمن اختاره من عباده لذلك تبعاً كما يستفاد من مثل قوله:( قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى‏ ) البقرة: 120 و قوله:( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) الليل: 12، و قوله:( وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) الأنبياء: 73، و قوله:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الشورى: 52.

فالهداية كلّها لله إمّا بلا واسطة أو بواسطة الهداة المهديّين من خلقه و على هذا فمن أضلّه من خلقه بأن لم يهده بالواسطة و لا بلا واسطة فلا هادي له و ذلك قوله في ذيل الآية:( وَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) و سيأتي الجملة بعد عدّة آيات و هي متكرّرة في كلامه تعالى.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) مقايسة بين أهل العذاب يوم القيامة و الآمنين منه و الفريقان هما أهل الضلال و أهل الهدى و لذا عقّب الآية السابقة بهذه الآية.

و الاستفهام للإنكار و خبر( فَمَنْ ) محذوف و التقدير كمن هو في أمن منه، و يوم القيامة متعلّق بيتّقي، و المعنى أ فمن يتّقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده الّتي بها كان يتّقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن من العذاب لا يصيبه مكروه. كذا قيل.

و قيل: الاتقاء بوجهه بالمعنى المذكور لا وجه له لأنّ الوجه ليس ممّا يتّقى به بل المراد الاتّقاء بكلّيّته أو بخصوص وجهه سوء عذاب يوم القيامة و يوم القيامة قيد للعذاب و المراد عكس الوجه السابق، و المعنى أ فمن يتّقي سوء العذاب الّذي يوم

٢٥٢

القيامة في الدنيا بتقوى الله كالمصرّ على كفره، و لا يخلو من التكلّف.

و قوله:( وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) القول لملائكة النار، و الظاهر أنّ الجملة بتقدير قد أو بدونه و الأصل و قيل لهم ذوقوا إلخ لكن وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على علّة الحكم و هي الظلم.

قوله تعالى: ( كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) أي من الجهة الّتي لا يحتسبون ففوجؤا و اُخذوا على غفلة و هو أشدّ الأخذ، و في الآية و ما بعدها بيان لما أصاب بعض الكفّار من عذاب الخزي ليكون عبرة لغيرهم.

قوله تعالى: ( فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) الخزي هو الذلّ و الصغار، و قد أذاقهم الله ذلك في ألوان من العذاب أنزلنا عليهم كالغرق و الخسف و الصيحة و الرجفة و المسخ و القتل.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) أي ضربنا لهم من كلّ نوع من الأمثال شيئاً لعلّهم يتنبّهون و يعتبرون و يتّعظون بتذكّر ما تتضمّنه.

قوله تعالى: ( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) العوج الانحراف و الانعطاف،( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) منصوب على المدح بتقدير أمدح أو أخصّ و نحوه أو حال معتمد على الوصف.

قوله تعالى: ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ ) إلخ، قال الراغب: الشكس - بالفتح فالكسر - سيّئ الخلق، و قوله:( شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ) أي متشاجرون لشكاسة خلقهم. انتهى و فسّروا السلم بالخالص الّذي لا يشترك فيه كثيرون.

مثل ضربه الله للمشرك الّذي يعبد أرباباً و آلهة مختلفين فيشتركون فيه و هم متنازعون فيأمره هذا بما ينهاه عنه الآخر و كلّ يريد أن يتفرّد فيه و يخصّه بخدمة نفسه، و للموحّد الّذي هو خالص لمخدوم واحد لا يشاركه فيه غيره فيخدمه فيما يريد منه من غير تنازع يؤدّي إلى الحيرة فالمشرك هو الرجل الّذي فيه شركاء متشاكسون

٢٥٣

و الموحّد هو الرجل الّذي هو سلم لرجل. لا يستويان بل الّذي هو سلم لرجل أحسن حالاً من صاحبه.

و هذا مثل ساذج ممكن الفهم لعامّة الناس لكنّه عند المداقّة يرجع إلى قوله تعالى:( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ) الأنبياء: 22 و عاد برهاناً على نفي تعدّد الأرباب و الآلهة.

و قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) ثناء لله بما أنّ عبوديّته خير من عبوديّة من سواه.

و قوله:( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) مزيّة عبادته على عبادة غيره على ما له من الظهور التامّ لمن له أدنى بصيرة.

قوله تعالى: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) الآية الاُولى تمهيد لما يذكر في الثانية من اختصامهم يوم القيامة عند ربّهم و الخطاب في( إِنَّكُمْ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اُمّته أو المشركين منهم خاصّة و الاختصام - كما في المجمع - ردّ كلّ واحد من الاثنين ما أتى به الآخر على وجه الإنكار عليه.

و المعنى: إنّ عاقبتك و عاقبتهم الموت ثمّ إنّكم جميعاً يوم القيامة بعد ما حضرتم عند ربّكم تختصمون و قد حكى ممّا يلقيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ) الفرقان: 30.

و الآيتان عامّتان بحسب لفظهما لكنّ الآيات الأربع التالية تؤيّد أنّ المراد بالاختصام ما يقع بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين الكافرين من اُمّته يوم القيامة.

قوله تعالى: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ) في الآية و ما بعدها مبادرة إلى ذكر ما ينتهي إليه أمر اختصامهم يوم القيامة و تلويح إلى ما هو نتيجة القضاء بينهم كأنّه قيل: و نتيجة ما يقضى به بينكم معلومة اليوم و أنّه من هو الناجي منكم؟ و من هو الهالك؟ فإنّ القضاء يومئذ يدور مدار الظلم و الإحسان و لا أظلم من الكافر و المؤمن متّق محسن و الظلم إلى النار و الإحسان إلى الجنّة. هذا ما يعطيه السياق.

فقوله:( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ ) أي افترى عليه بأن ادّعى أنّ له شركاء

٢٥٤

و الظلم يعظم بعظم من تعلّق به و إذا كان هو الله سبحانه كان أعظم من كلّ ظلم و مرتكبه أظلم من كلّ ظالم.

و قوله:( وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ ) المراد بالصدق الصادق من النبإ و هو الدين الإلهيّ الّذي جاء به الرسول بقرينة قوله:( إِذْ جاءَهُ ) .

و قوله:( أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ) المثوى اسم مكان بمعنى المنزل و المقام، و الاستفهام للتقرير أي إنّ في جهنّم مقام هؤلاء الظالمين لتكبّرهم على الحقّ الموجب لافترائهم على الله و تكذيبهم بصادق النبإ الّذي جاء به الرسول.

و الآية خاصّة بمشركي عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بمشركي اُمّته بحسب السياق و عامّة لكلّ من ابتدع بدعة و ترك سنّة من سنن الدين.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) المراد بالمجي‏ء بالصدق الإتيان بالدين الحقّ و المراد بالتصديق به الإيمان به و الّذي جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قوله:( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) لعلّ الإشارة إلى الّذي جاء به بصيغة الجمع لكونه جمعاً بحسب المعنى و هو كلّ نبيّ جاء بالدين الحقّ و آمن بما جاء به بل و كلّ مؤمن آمن بالدين الحقّ و دعي إليه فإنّ الدعوة إلى الحقّ قولاً و فعلاً من شؤن اتّباع النبيّ، قال تعالى:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) يوسف: 108.

قوله تعالى: ( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ) هذا جزاؤهم عند ربّهم و هو أنّ لهم ما تتعلّق به مشيّتهم فالمشيّة هناك هي السبب التامّ لحصول ما يشاؤه الإنسان أيّاً مّا كان بخلاف ما عليه الأمر في الدنيا فإنّ حصول شي‏ء من مقاصد الحياة فيها يتوقّف - مضافاً إلى المشيّة - على عوامل و أسباب كثيرة منها السعي و العمل المستمدّ من الاجتماع و التعاون.

فالآية تدلّ أوّلاً على إقامتهم في دار القرب و جوار ربّ العالمين، و ثانياً أنّ لهم ما يشاؤن فهذان جزاء المتّقين و هم المحسنون فإحسانهم هو السبب في إيتائهم الأجر

٢٥٥

المذكور و هذه هي النكتة في إقامة الظاهر مقام الضمير في قوله:( ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ) و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و ذلك جزاؤهم.

و توصيفهم بالإحسان و ظاهره العمل الصالح أو الاعتقاد الحقّ و العمل الحسن جميعاً يشهد أنّ المراد بالتصديق المذكور هو التصديق قولاً و فعلاً. على أنّ القرآن لا يسمّي تارك بعض ما أنزله الله من حكم مصدّقاً به.

قوله تعالى: ( لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ) إلى آخر الآية و من المعلوم أنّه إذا كفر أسوأ أعمالهم كفّر ما دون ذلك، و المراد بأسوإ الّذي عملوا ما هو كالشرك و الكبائر.

قال في المجمع البيان، في الآية: أي أسقط الله عنهم عقاب الشرك و المعاصي الّتي فعلوها قبل ذلك بإيمانهم و إحسانهم و رجوعهم إلى الله تعالى انتهى و هو حسن من جهة تعميم الأعمال السيّئة، و من جهة تقييد التكفير بكونه قبل ذلك بالإيمان و الإحسان و التوبة فإنّ الآية تبيّن أثر تصديق الصدق الّذي أتاهم و هو تكفير السيّئات بالتصديق و الجزاء الحسن في الآخرة.

و قوله:( وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

قيل: المراد أنّه ينظر إلى أعمالهم فيجازيهم في أحسنها جزاءه اللائق به و في غير الأحسن يجازيهم جزاء الأحسن فالباء للمقابلة نحو بعت هذا بهذا.

و يمكن أن يقال: إنّ المراد أنّه ينظر إلى أرفع أعمالهم درجة فيترفّع درجتهم بحسبه فلا يضيع شي‏ء ممّا هو آخر ما بلغه عملهم من الكمال لكن في جريان نظير الكلام في تكفير الأسوإ خفاء.

و قيل: صيغة التفضيل في الآية( أَسْوَأَ ) و( بِأَحْسَنِ ) مستعملة في الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضّل عليه فإنّ معصية الله كلّها أسوأ و طاعته كلّها أحسن.

قوله تعالى: ( أَ لَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) المراد بالّذين من دونه آلهتهم من دون الله على ما يستفاد من السياق، و المراد بالعبد من مدحه الله تعالى في الآيات السابقة و يشمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شمولاً أوّليّاً.

٢٥٦

و الاستفهام للتقرير و المعنى هو يكفيهم، و فيه تأمين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبال تخويفهم إيّاه بآلهتهم و كناية عن وعده بالكفاية كما صرّح به في قوله:( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) البقرة: 137.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ) إلخ جملتان كالمتعاكستين مرسلتان إرسال الضوابط الكلّيّة و لذا جي‏ء فيهما باسم الجلالة و كان من قبيل وضع الظاهر موضع الضمير.

و في تعقيب قوله:( أَ لَيْسَ اللهُ بِكافٍ ) إلخ بقوله:( وَ مَنْ يُضْلِلِ ) إلخ إشارة إلى أنّ هؤلاء المخوّفين لا يهتدون بالإيمان أبداً و لن ينجح مسعاهم و أنّهم لن ينالوا بغيتهم و لا اُمنيّتهم من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ الله لن يضلّه و قد هداه.

و قوله:( أَ لَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ ) استفهام للتقرير أي هو كذلك، و هو تعليل ظاهر لقوله:( وَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ ) إلخ فإنّ عزّته و كونه ذا انتقام يقتضيان أن ينتقم ممّن جحد الحقّ و أصرّ على كفره فيضلّه و لا هادي يهديه لأنّه تعالى عزيز لا يغلبه فيما يريد غالب، و كذا إذا هدى عبداً من عباده لتقواه و إحسانه لم يقدر على إضلاله مضلّ.

و في التعليل دلالة على أنّ الإضلال المنسوب إلى الله تعالى هو ما كان على نحو المجازاة و الانتقام دون الضلال الابتدائيّ و قد مرّ مراراً.

( بحث روائي)

عن روضة الواعظين، روي: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ( أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) فقال: إنّ النور إذا وقع في القلب انفسح له و انشرح.

قالوا: يا رسول الله فهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: التجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الاستعداد للموت قبل نزول الموت.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن عبدالله بن مسعود و عن الحكيم الترمذيّ عن ابن عمر، و عن ابن جرير و غيره عن قتادة.

٢٥٧

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ ) الآية قال: نزلت في أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

أقول: و نزول السورة دفعة لا يلائمه كما مرّ في نظيره.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس: قالوا: يا رسول الله لو حدّثتنا فنزل:( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) .

أقول: و هو من التطبيق.

و في المجمع في قوله تعالى:( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ) الآية روي عن العبّاس بن عبدالمطّلب أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله تحاتت(1) عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) أخرج الديلميّ في مسند الفردوس عن أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) قال: غير مخلوق.

أقول: الآية تأبى عن الانطباق على الرواية و قد تقدّم كلام في معنى الكلام في ذيل قوله تعالى:( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) البقرة: 253 في الجزء الثاني من الكتاب.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ ) روى الحاكم أبوالقاسم الحسكانيّ بالإسناد عن عليّ أنّه قال: أنا ذلك الرجل السلم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: و رواه أيضاً عن العيّاشيّ بإسناده عن أبي خالد عن أبي جعفرعليه‌السلام و هو من الجري و المثل عامّ.

و فيه في قوله تعالى:( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال ابن عمر: كنّا نرى أنّ هذه فينا و في أهل الكتابين و قلنا: كيف نختصم نحن و نبيّنا واحد و كتابنا واحد؟ حتّى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعلمت أنّها فينا نزلت.

و قال أبو سعيد الخدريّ: كنّا نقول: إنّ ربّنا واحد و نبيّنا واحد و ديننا

____________________

(1) أي تناثرت.

٢٥٨

واحد فما هذه الخصومة؟ فلمّا كان يوم صفّين و شدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، الحديث الأوّل بطرق مختلفة عن ابن عمر و في ألفاظها اختلاف و المعنى واحد، و رواه أيضاً عن عدّة من أصحاب الجوامع عن إبراهيم النخعيّ، و روي ما يقرب منه بطريقين عن الزبير بن العوّام، و روي الحديث الثاني عن سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدريّ.

و الأحاديث تعارض ما روي أنّ الصحابة مجتهدون مأجورون إن أصابوا و إن أخطأوا.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ ) قيل: الّذي جاء بالصدق محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و صدّق به عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام و هو المرويّ عن أئمّة الهدى من آل محمّدعليهم‌السلام .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن أبي هريرة، و الظاهر أنّه من الجري نظراً إلى قوله في ذيل الآية( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) .

و روي من طرقهم: أنّ الّذي صدّق به أبوبكر و هو أيضاً من تطبيق الراوي، روي: أنّ الّذي جاء به جبرئيل و الّذي صدّق به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو أيضاً تطبيق غير أنّ السياق يدفعه فإنّ الآيات مسوقة لوصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين و جبرئيل أجنبيّ عنه لا تعلّق للكلام به.

٢٥٩

( سورة الزمر الآيات 38 - 52)

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ  قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ  قُلْ حَسْبِيَ اللهُ  عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 38 ) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ  فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 39 ) مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( 40 ) إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ  فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ  وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا  وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( 41 ) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا  فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 42 ) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ  قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ( 43 ) قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا  لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 44 ) وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ  وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 45 ) قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 46 ) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ

٢٦٠