الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 153058
تحميل: 4293


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153058 / تحميل: 4293
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و سواد الوجه آية الذلّة و هي جزاء تكبّرهم و لذا قال:( أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ يُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) الظاهر أنّ مفازة مصدر ميميّ بمعنى الفوز و هو الظفر بالمراد، و الباء في( بِمَفازَتِهِمْ ) للملابسة أو السببيّة فالفوز الّذي يقضيه الله لهم اليوم سبب تنجيتهم.

و قوله:( لا يَمَسُّهُمُ ) إلخ بيان لتنجيتهم كأنّه قيل: ينجّيهم لا يمسّهم السوء من خارج و لا هم يحزنون في أنفسهم.

و للآية نظر إلى قوله تعالى في ذيل آيات سورة المؤمنون المنقولة آنفاً:( إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ) فتدبّر و لا تغفل.

( بحث روائي)

في المجمع، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: ما في القرآن آية أوسع من:( يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ ) الآية.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن جرير عن ابن سيرين عنهعليه‌السلام ، و ستأتي إن شاء الله في تفسير سورة الليل الرواية عنهعليه‌السلام أنّ قوله تعالى:( وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) أرجى من هذه الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن ثوبان قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ما اُحبّ أنّ لي الدنيا و ما فيها بهذه الآية( يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ ) إلى آخر. الآية فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال: إلّا من أشرك.

أقول: في الرواية شي‏ء فقد تقدّم أنّ مورد الآية هو الشرك و أنّ الآية مقيّدة بالتوبة.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و مسلم عن أبي أيّوب الأنصاريّ قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: لو لا أنّكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم.

٢٨١

أقول: ما في الحديث من المغفرة لا يأبى التقيّد بأسباب المغفرة كالتوبة و الشفاعة.

و في الجميع: قيل: هذه الآية يعني قوله:( يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ) إلخ نزلت في وحشيّ قاتل حمزة حين أراد أن يسلم و خاف أن لا تقبل توبته فلمّا نزلت الآية أسلم فقيل: يا رسول الله هذه له خاصّة أم للمسلمين عامّة؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل للمسلمين عامّة.

و عن كتاب سعد السعود، لابن طاووس نقلاً عن تفسير الكلبيّ: بعث وحشيّ و جماعة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه ما يمنعنا من دينك إلّا أنّنا سمعناك تقرأ في كتابك أنّ من يدعو مع الله إلهاً آخر و يقتل النفس و يزني يلق أثاماً و يخلد في العذاب و نحن قد فعلنا ذلك كلّه فبعث إليهم بقوله تعالى( إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ) فقالوا: نخاف أن لا نعمل صالحاً.

فبعث إليهم( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) فقالوا نخاف أن لا ندخل في المشيّة. فبعث إليهم( يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) فجاؤا و أسلموا.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوحشيّ قاتل حمزة: غيّب وجهك عنّي فإنّي لا أستطيع النظر إليك. قال: فلحق بالشام فمات في الخمر.

أقول: و روي ما يقرب منه في الدرّ المنثور، بعدّة طرق و في بعضها أنّ قوله:( يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ) إلخ نزل فيه كما في خبر المجمع، السابق، و يضعّفه أنّ السورة مكّيّة و قد أسلم وحشيّ بعد الهجرة. على أنّ ظاهر الخبر عدم تقيّد إطلاق المغفرة في الآية بالتوبة و قد عرفت أنّ السياق يأباه.

و قوله: فمات في الخمر لعلّه بفتح الخاء و تشديد الميم موضع من أعراض المدينة و لعلّه من غلط الناس و الصحيح الحمص، و لعلّ المراد به موته عن شرب الخمر فإنّه كان مدمن الخمر و قد جلد في ذلك غير مرّة ثمّ ترك.

و اعلم أنّ هناك روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في تطبيق هذه الآيات على شيعتهم و تطبيق جنب الله عليهم و هي جميعاً من الجري دون التفسير و لذا تركنا إيرادها ههنا.

٢٨٢

( سورة الزمر الآيات 62 - 75)

اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ  وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 62 ) لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 63 ) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ( 64 ) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 65 ) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ( 66 ) وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 67 ) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ  ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( 68 ) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( 69 ) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 70 ) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا  حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا  قَالُوا بَلَىٰ وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 71 ) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا  فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( 72 ) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا 

٢٨٣

حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( 73 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ  فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 74 ) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ  وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 75 )

( بيان)

فصل من الآيات به تختم السورة يذكر فيه خلاصة ما تنتجه الحجج المذكورة فيها قبل ذلك ثمّ يؤمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطب المشركين أنّ ما اقترحوا به عليه أن يعبد آلهتهم ليس إلّا جهلاً بمقامه تعالى و يذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما اُوحي إليه و إلى الّذين من قبله: لئن أشرك ليحبطنّ عمله.

ثمّ يذكر سبحانه أنّ المشركين ما عرفوه واجب معرفته و إلّا لم يرتابوا في ربوبيّته لهم و لا عبدوا غيره ثمّ يذكر تعالى نظام الرجوع إليه و هو تدبير جانب المعاد من الخلقة ببيان جامع كاف لا مزيد عليه و يختم السورة بالحمد.

قوله تعالى: ( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) هذا هو الّذي ذكر اعتراف المشركين به من قبل في قوله:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) الآية: 38 من السورة و بنى عليه استناد الأشياء في تدبيرها إليه.

و الجملة في المقام تمهيد لما يذكر بعدها من كون التدبير مستنداً إليه لما تقدّم مراراً أنّ الخلق لا ينفكّ عن التدبير فانتقل في المقام من استناد الخلق إليه إلى اختصاص الملك به و هو قوله:( لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) و من اختصاص الملك به إلى كونه هو الوكيل على كلّ شي‏ء القائم مقامه في تدبير أمره.

و قد تقدّم في ذيل قوله:( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ )

٢٨٤

الأنعام: 102 في الجزء السابع من الكتاب كلام في معنى عموم الخلقة لكلّ شي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ ) و ذلك لأنّ انتهاء خلق كلّ شي‏ء وجوده إليه يقتضي أن يكون تعالى هو المالك لكلّ شي‏ء فلا يملك شي‏ء من الأشياء لا نفسه و لا شيئاً ممّا يترشّح من نفسه إلّا بتمليك الله تعالى، فهو لفقره مطلقاً لا يملك تدبيراً و الله المالك لتدبيره.

و أمّا تمليكه تعالى له نفسه و عمله فهو أيضاً نوع من تدبيره تعالى مؤكّد لملكه غير ناف و لا مناف حتّي أنّ توكيله الملائكة علي شئ من الأمر من شؤن وكالته تعالى عليهم لا تفويض للأمر و إبطال للوكالة فافهم ذلك.

و بالجملة إذ كان كلّ شي‏ء من الأشياء لا يملك لنفسه شيئاً كان سبحانه هو الوكيل عليه القائم مقامه المدبّر لأمره و الأسباب و المسبّبات في ذلك سواء فالله سبحانه هو ربّها وحده.

فقد تبيّن أنّ الجملة مسوقة للإشارة إلى توحّده في الربوبيّة و هو المقصود بيانه فقول بعضهم إنّ ذكر ذلك بعد قوله:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) للدلالة على أنّه هو الغنيّ المطلق و أنّ المنافع و المضارّ راجعة إلى العباد، أو أنّ المراد أنّه تعالى حفيظ على كلّ شي‏ء فيكون إشارة إلى أنّ الأشياء محتاجة إليه في بقائها كما أنّها محتاجة إليه في حدوثها، أجنبيّ عن معنى الآية بالمرّة.

قوله تعالى: ( لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلخ المقاليد - كما قيل - بمعنى المفاتيح و لا مفرد له من لفظه.

و مفاتيح السماوات و الأرض مفاتيح خزائنها قال تعالى:( وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) المنافقون: 7 و خزائنها غيبها الّذي يظهر منه الأشياء و النظام الجاري فيها فتخرج إلى الشهادة قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21.

و ملك مقاليد السماوات و الأرض كناية عن ملك خزائنها الّتي منها وجودات الأشياء و أرزاقها و أعمارها و آجالها و سائر ما يواجهها في مسيرها من حين تبتدئ

٢٨٥

منه تعالى إلى حين ترجع إليه.

و هو أعني قوله:( لَهُ مَقالِيدُ ) إلخ في مقام التعليل لقوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ ) و لذا جي‏ء به مفصولاً من غير عطف.

و قوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) قد تقدّم أنّ قوله:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ إلى قوله وَ الْأَرْضِ ) ذكر خلاصة ما تفيده الحجج المذكورة في خلال الآيات السابقة، و عليه فقوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ ) إلخ معطوف على قوله:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) و المعنى الّذي تدلّ عليه الآيات و الحجج المتقدّمة أنّ الله سبحانه خالق فمالك فوكيل على كلّ شي‏ء أي متوحّد في الربوبيّة و الاُلوهيّة و الّذين كفروا بآيات ربّهم فلم يوحّدوه و لم يعبدوه اُولئك هم الخاسرون.

و قد اختلفوا فيما عطف عليه قوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ فذكروا فيه وجوها مختلفة كثيرة لا جدوى فيها من أرادها فليرجع إلى المطوّلات.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ فَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ) لمّا أورد سبحانه خلاصة ما تنطق به الحجج المذكورة في السورة من توحّده تعالى بالخلق و الملك و التدبير و لازم ذلك توحّده تعالى في الربوبيّة و الاُلوهيّة أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطب المشركين المقترحين عليه أن يعبد آلهتهم أنّه لا يبقى مع هذه الحجج الباهرة الظاهرة محلّ لعبادته غير الله و إجابة اقتراحهم و هل هي إلّا الجهل؟.

فقوله:( أَ فَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ ) الفاء لتفريع مضمون الجملة على قوله:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآيتين، و الاستفهام إنكاريّ، و( فَغَيْرَ اللهِ ) مفعول( أَعْبُدُ ) قدّم عليه لتعلّق العناية به، و( تَأْمُرُونِّي ) معترض بين الفعل و مفعوله و أصله تأمرونني اُدغمت فيه إحدى النونين في الاُخرى.

و قوله:( أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ) خطابهم بصفة الجهل للإشارة إلى أنّ أمرهم إيّاه بعبادة غير الله و اقتراحهم بذلك مع ظهور آيات وحدته في الربوبيّة و الاُلوهيّة ليس إلّا جهلاً منهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ

٢٨٦

عَمَلُكَ ) إلخ فيه تأييد لمدلول الحجج العقليّة المذكورة بالوحي كأنّه قيل: لا تعبد غير الله فإنّه جهل و كيف يسوغ لك أن تعبده و قد دلّ الوحي على النهي عنه كما دلّ العقل على ذلك.

فقوله:( وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ ) اللّام للقسم، و قوله:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) بيان لما اُوحي إليه، و تقدير الكلام و اُقسم لقد اُوحي إليك لئن أشركت إلخ و إلى الّذين من قبلك من الأنبياء و الرسل لئن أشركتم ليحبطنّ عملكم و لتكوننّ من الخاسرين.

و خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سائر الأنبياءعليهم‌السلام بالنهي عن الشرك و إنذارهم بحبط العمل و الدخول في زمرة الخاسرين خطاب و إنذار على حقيقة معناهما كيف؟ و غرض السورة - كما تقدّمت الإشارة إليه - بيان أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمور بالإيمان بما يدعو المشركين إلى الإيمان به مكلّف بما يكلّفهم و لا يسعه أن يجيبهم إلى ما يقترحون به عليه من عبادة آلهتهم..

و أمّا كون الأنبياء معصومين بعصمة إلهيّة يمتنع معها صدور المعصية عنهم فلا يوجب ذلك سقوط التكليف عنهم و عدم صحّة توجّهه إليهم و لو كان كذلك لم تتصوّر في حقّهم معصية كسائر من لا تكليف عليه فلم يكن معنى لعصمتهم.

على أنّ العصمة - و هي قوّة يمتنع معها صدور المعصية - من شؤن مقام العلم - كما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى:( وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) النساء: 113 - لا تنافي ثبوت الاختيار الّذي هو من شؤن مقام العمل و صحّة صدور الفعل و الترك عن الجوارح.

فمنع العلم القطعيّ بمفسدة شي‏ء منعاً قطعيّاً عن صدوره عن العالم به كمنع العلم بأثر السمّ عن شربه لا ينافي كون العالم بذلك مختاراً في الفعل لصحّة صدوره و لا صدوره عن جوارحه فالعصمة لا تنافي بوجه التكليف.

و ممّا تقدّم يظهر ضعف ما يستفاد من بعضهم أنّ نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الشرك و نحوه نهي صوريّ و المراد به نهي اُمّته فهو من قبيل( إيّاك أعني و اسمعي يا جارة) .

٢٨٧

و وجه الضعف ظاهر ممّا تقدّم، و أمّا قولنا كما ورد في بعض الروايات أنّ هذه الخطابات القرآنيّة من قبيل( إيّاك أعني و اسمعي يا جارة) فمعناه أنّ التكليف لمّا كان من ظاهر أمره أن يتعلّق بمن يجوز عليه الطاعة و المعصية فلو تعلّق بمن ليس منه إلّا الطاعة مع مشاركة غيره له كان ذلك تكليفاً على وجه أبلغ كالكناية الّتي هي أبلغ من التصريح.

و قوله:( وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) ظهر معناه ممّا تقدّم و يمكن أن يكون اللّام في الخاسرين مفيداً للعهد، و المعنى و لتكوننّ من الخاسرين الّذين كفروا بآيات الله و أعرضوا عن الحجج الدالّة على وحدانيّته.

قوله تعالى: ( بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) إضراب عن النهي المفهوم من سابق الكلام كأنّه قيل: فلا تعبد غير الله بل الله فاعبد، و تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر.

و الفاء في( فَاعْبُدْ ) زائدة للتأكيد على ما قيل، و قيل: هي فاء الجزاء و قد حذف شرطه و التقدير بل إن كنت عابداً أو عاقلاً فاعبد الله.

و قوله:( وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) أي و كن بعبادتك له من الّذين يشكرونه على نعمه الدالّة على توحّده في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ سَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) آل عمران: 144 و قوله:( وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) الأعراف: 17 أنّ مصداق الشاكرين بحقيقة معنى الكلمة هم المخلصون بفتح اللّام فراجع.

قوله تعالى: ( وَ ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) إلى آخر الآية قدر الشي‏ء هو مقداره و كمّيّته من حجم أو عدد أو وزن و ما أشبه ذلك ثمّ أستعير للمعنويّات من المكانة و المنزلة.

فقوله:( وَ ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) تمثيل اُريد به عدم معرفتهم به تعالى واجب المعرفة إذ لم يعرفوه من حيث المعاد و رجوع الأشياء إليه كما يدلّ عليه تعقيب الجملة بقوله:( وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) إلى آخر السورة حيث ذكر فيه انقطاع

٢٨٨

كلّ سبب دونه يوم القيامة، و قبضه الأرض و طيّه السماوات و نفخ الصور لإماتة الكلّ ثمّ لإحيائهم و إشراق الأرض بنور ربّها و وضع الكتاب و المجي‏ء بالنبيّين و الشهداء و القضاء و توفية كلّ نفس ما عملت و سوق المجرمين إلى النار و المتّقين إلى الجنّة فمن كان شأنه في الملك و التصرّف هذا الشأن و عرف بذلك أوجبت هذه المعرفة الإقبال إليه بعبادته وحده و الإعراض عن غيره بالكلّيّة.

لكنّ المشركين لمّا لم يؤمنوا بالمعاد و لم يقدروه حقّ قدره و لم يعرفوه واجب معرفته أعرضوا عن عبادته إلى عبادة من سواه.

و قوله:( وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي الأرض بما فيها من الأجزاء و الأسباب الفعّالة بعضها في بعض، و القبضة مصدر بمعنى المقبوضة، و القبض على الشي‏ء و كونه في القبضة كناية عن التسلّط التامّ عليه أو انحصار التسلّط عليه في القابض و المراد هاهنا المعنى الثاني كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19 و غيره من الآيات.

و قد مرّ مراراً أنّ معنى انحصار الملك و الأمر و الحكم و السلطان و غير ذلك يوم القيامة فيه تعالى ظهور ذلك لأهل الجمع يومئذ و إلّا فهي له تعالى دائماً فمعنى كون الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ظهور ذلك يومئذ للناس لا أصله.

و قوله:( وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) يمين الشي‏ء يده اليمنى و جانبه القويّ و يكنّى بها عن القدرة، و يستفاد من السياق أنّ محصّل الجملتين أعني قوله:( وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) تقطّع الأسباب الأرضيّة و السماويّة و سقوطها و ظهور أن لا مؤثّر في الوجود إلّا الله سبحانه.

و قوله:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) تنزيه له تعالى عمّا أشركوا غيره في ربوبيّته و اُلوهيّته فنسبوا تدبير العالم إلى آلهتهم و عبدوها.

قوله تعالى: ( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ) إلخ ظاهر ما ورد في كلامه تعالى في معنى نفخ الصور أنّ النفخ نفختان نفخة للإماتة و نفخة للإحياء، و هو الّذي تدلّ عليه روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و بعض

٢٨٩

ما ورد من طرق أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إن كان بعض آخر من رواياتهم لا يخلو عن إبهام و لذا اختار بعضهم أنّها ثلاث نفخات نفخة للإماتة و نفخة للإحياء و البعث و نفخة للفزع و الصعق و قال بعضهم: إنّها أربع نفخات و لكن دون إثبات ذلك من ظواهر الآيات خرط القتاد.

و لعلّ انحصار النفخ في نفختي الإماتة و الإحياء هو الموجب لتفسيرهم الصعق في النفخة الاُولى بالموت مع أنّ المعروف من معنى الصعق الغشية، قال في الصحاح: يقال: صعق الرجل صعقاً و تصاعقاً أي غشي عليه و أصعقه غيره، ثمّ قال: و قوله تعالى:( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ) أي مات. انتهى.

و قوله:( إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ) استثناء من أهل السماوات و الأرض و اختلف في من هم؟

فقيل: هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل سادة الملائكة فإنّهم إنّما يموتون بعد ذلك، و قيل: هم هؤلاء الأربعة و حملة العرش، و قيل: هم رضوان و الحور و مالك و الزبانية، و قيل: و هو أسخف الأقوال: إنّ المراد بمن شاء الله هو الله سبحانه. و أنت خبير بأنّ شيئاً من هذه الأقاويل لا يستند إلى دليل من لفظة الآيات يصحّ الاستناد إليه.

نعم لو تصوّر لله سبحانه خلق وراء السماوات و الأرض جاز استثناؤهم من أهلهما استثناء منقطعاً أو قيل: إنّ الموت إنّما يلحق الأجساد بانقطاع تعلّق الأرواح بها و أمّا الأرواح فإنّها لا تموت فالأرواح هم المستثنون استثناء متّصلاً و يؤيّد هذا الوجه بعض(1) الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و قوله:( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‏ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ) ضمير( فِيهِ ) للصور، و( أُخْرى) صفة محذوف موصوفها أي نفخة اُخرى، و قيام جمع قائم و( يَنْظُرُونَ ) أي ينتظرون أو من النظر بمعناه المعروف.

____________________

(1) و هو ما ورد في قوله تعالى: ( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) المؤمن: 16 أن الجواب بقوله: ( لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) من أرواح الأنبياء و غير ذلك من الروايات.

٢٩٠

و المعنى: و نفخ في الصور نفخة اُخرى فإذا هم قائمون من قبورهم ينتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ما ذا يفعل بهم أو فإذا هم قائمون ينظرون نظر المبهوت المتحيّر.

و لا ينافي ما في هذه الآية من كونهم بعد النفخ قياماً ينظرون ما في قوله:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى‏ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) يس: 51 أي يسرعون، و قوله:( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ) النبأ: 18، و قوله:( وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ) النمل: 87 فإنّ فزعهم بالنفخ و إسراعهم في المشي إلى عرصة المحشر و إتيانهم إليها أفواجاً كقيامهم ينظرون حوادث متقارنة لا يدفع بعضها بعضاً.

قوله تعالى: ( وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ) إلى آخر الآية إشراق الأرض إضاءتها، و النور معروف المعنى و قد استعمل النور في كلامه تعالى في النور الحسّيّ كثيراً و اُطلق أيضاً على الإيمان و على القرآن بعناية أنّ كلّا منهما يظهر للمتلبّس به ما خفي عليه لولاه قال تعالى:( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) البقرة: 257، و قال:( فَآمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا ) التغابن: 8.

و قد اختلفوا في معنى إشراق الأرض بنور ربّها فقيل: إنّها تضي‏ء بنور يخلقه الله بلا واسطة أجسام مضيئة كالشمس و القمر و إضافته إليه تعالى من قبيل روحي و( ناقَةُ اللهِ ) .

و فيه أنّه لا يستند إلى دليل يعتمد عليه.

و قيل: المراد به تجلّي الربّ تعالى لفصل القضاء كما ورد في بعض الأخبار من طرق أهل السنّة.

و فيه أنّه على تقدير صحّة الرواية لا يدلّ على المدّعى.

و قيل: المراد به إضاءة الأرض بعدل ربّها يوم القيامة لأنّ نور الأرض بالعدل كما أنّ نور العلم بالعمل.

و فيه أنّ صحّة استعارة النور للعدل في نفسه لا تستلزم كون المراد بالنور في الآية هو العدل إلّا بدليل يدلّ عليه و لم يأت به.

٢٩١

و في الكشّاف، قد استعار الله عزّوجلّ النور للحقّ و البرهان في مواضع من التنزيل و هذا من ذاك، و المعنى و أشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحقّ و العدل و يبسطه من القسط في الحساب و وزن الحسنات و السيّئات.

و ينادي عليه بأنّه مستعار إضافته إلى اسمه لأنّه هو الحقّ العدل، و إضافة اسمه إلى الأرض لأنّه يزينها حيث ينشر فيها عدله و ينصب فيها موازين قسطه و يحكم بالحقّ بين أهلها، و لا ترى أزين للبقاع من العدل و لا أعمر لها منه، و في هذه الإضافة أنّ ربّها و خالقها هو الّذي يعدل فيها و إنّما يجور فيها غير ربّها، ثمّ ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب و المجي‏ء بالنبيّين و الشهداء و القضاء بالحقّ و هو النور المذكور، و ترى الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك و أضاءت الدنيا بقسطك كما تقول أظلمت البلاد بجور فلان‏ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الظلم ظلمات يوم القيامة و كما فتح الآية بإثبات العدل ختمها بنفي الظلم. انتهى.

و فيه أوّلاً: أنّ قوله إنّ النور مستعار في مواضع كثيرة من القرآن للحقّ و القرآن و البرهان فاستعارته للحقّ و البرهان غير ظاهر في شي‏ء من الآيات.

و ثانياّ: أنّ الحقّ و العدل مفهومان متغايران و إن كانا ربّما يتصادقان و كون النور في الآية مستعاراً للحقّ لا يستلزم كون العدل مراداً به، و لذا لمّا أراد بيان إرادة العدل من النور ذكر الحقّ مع العدل ثمّ استنتج للعدل دون الحقّ.

و لا يبعد أن يراد - و الله أعلم - من إشراق الأرض بنور ربّها ما هو خاصّة يوم القيامة من انكشاف الغطاء و ظهور الأشياء بحقائقها و بدوّ الأعمال من خير أو شرّ أو طاعة أو معصية أو حقّ أو باطل للناظرين، و إشراق الشي‏ء هو ظهوره بالنور و لا ريب أنّ مظهرها يومئذ هو الله سبحانه إذ الأسباب ساقطة دونه فالأشياء مشرقة بنور مكتسب منه تعالى.

و هذا الإشراق و إن كان عامّاً لكلّ شي‏ء يسعه النور لكن لمّا كان الغرض بيان ما للأرض و أهله يومئذ من الشأن خصّها بالبيان فقال:( وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها )

٢٩٢

و ذكره تعالى بعنوان ربوبيّة الأرض تعريضاً للمشركين المنكرين لربوبيّته تعالى للأرض و ما فيها.

و المراد بالأرض مع ذلك الأرض و ما فيها و ما يتعلّق بها كما تقدّم أنّ المراد بالأرض في قوله:( وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ ) ذلك.

و يستفاد ما قدّمناه من مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22 و قوله:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) آل عمران: 30، و قوله:( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزال: 8 و آيات اُخرى كثيرة تدلّ على ظهور الأعمال و تجسّمها و شهادة الأعضاء و غير ذلك.

و قوله:( وَ وُضِعَ الْكِتابُ ) قيل: المراد به الحساب و هو كما ترى و قيل: المراد به صحائف الأعمال الّتي يحاسب عليها و يقضى بها، و قيل: المراد به اللوح المحفوظ و يؤيّده قوله تعالى:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) الجاثية: 29.

و قوله:( وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ ) أمّا النبيّون فليسألوا عن أداء رسالتهم كما يشعر به السياق قال تعالى:( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف: 6، و أمّا الشهداء و هم شهداء الأعمال فليؤدّوا ما تحمّلوه من الشهادة قال تعالى:( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً ) النساء: 41.

و قوله:( وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ضميراً الجمع للناس المعلوم من السياق، و القضاء بينهم هو القضاء فيما اختلفوا فيه الوارد كراراً في كلامه تعالى قال:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس: 93.

قوله تعالى: ( وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ ) التوفية الإعطاء بالتمام و قد علّقت بنفس ما عملت دون جزائه و يقطع ذلك الريب في كونه قسطاً و عدلاً من أصله و الآية بمنزلة البيان لقوله:( وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

٢٩٣

و قوله:( وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ ) أي ليس حكمه بهذا النمط من وضع الكتاب و المجي‏ء بالنبيّين و الشهداء عن جهل منه و حاجة بل لأن يجري حكمه على القسط و العدل فهو أعلم بما يفعلون.

و الآية السابقة تتضمّن القضاء و الحكم و هذه الآية إجراؤه و الآيات اللّاحقة تفصيل إجرائه.

قوله تعالى: ( وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية السوق بالفتح فالسكون - على ما في المجمع - الحثّ على السير، و الزمر جمع زمرة و هي - كما في الصحاح - الجماعة من الناس.

و المعنى( وَ سِيقَ ) و حثّ على السير( الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ زُمَراً ) جماعة بعد جماعة( حَتَّى إِذا جاؤُها ) بلغوها( فُتِحَتْ أَبْوابُها ) لأجل دخولهم و هي سبعة قال تعالى:( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ) الحجر: 44( وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ) و هم الملائكة الموكّلون عليها يقولون لهم تهجيناً و إنكاراً عليهم( أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) من نوعكم من البشر( يَتْلُونَ ) و يقرؤن( عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ) من الحجج الدالّة على وحدانيّته و وجوب عبادته( قالُوا ) بلى قد جاؤا و تلوا( وَ لكِنْ ) كفرنا و كذّبنا و( حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ) و كلمة العذاب هي قوله تعالى حين أمر آدم بالهبوط:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: 39.

قوله تعالى: ( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) القائل - على ما يفيده السياق - خزنة جهنّم، و في قوله:( فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) دلالة على أنّ هؤلاء الّذين كفروا هم المكذّبون بآيات الله المعاندون للحقّ.

قوله تعالى: ( وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها ) لم يذكر في الآية جواب إذا إشارة إلى أنّه أمر فوق ما يوصف و وراء ما يقدّر بقدر، و قوله:( وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها ) حال أي جاؤها و قد فتحت أبوابها، و قوله:( خَزَنَتُها ) هم الملائكة الموكّلون عليها.

و المعنى( وَ سِيقَ ) و حثّ على السير( الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) جماعة

٢٩٤

بعد جماعة( حَتَّى إِذا جاؤُها وَ ) قد( فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ) الموكّلون عليها مستقبلين لهم( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) أنتم في سلام مطلق لا يلقاكم إلّا ما ترضون( طِبْتُمْْ ) و لعلّه تعليل لإطلاق السلام( فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) فيها. و هو أثر طيبهم.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ) إلى آخر الآية. القائلون هم المتّقون و المراد بالوعد ما تكرّر في كلامه تعالى و فيما اُوحي إلى سائر الأنبياء من وعد المتّقين بالجنّة قال:( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ ) آل عمران: 15 و قال:( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) القلم: 34، كذا قيل، و قيل: المراد بالوعد الوعد بالبعث و الثواب.

و لا يبعد أن يراد بالوعد الوعد بإيراث الجنّة كما في قوله:( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) المؤمنون: 11 و يكون قوله:( وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ) عطف تفسير لقوله( صَدَقَنا وَعْدَهُ ) .

و قوله:( وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ) المراد بالأرض - على ما قالوا - أرض الجنّة و هي الّتي عليها الاستقرار فيها و قد تقدّم في أوّل سورة المؤمنون أنّ المراد بوراثتهم الجنّة بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركها غيرهم أو يملكها دونهم لكنّهم زالوا عنها فانتقلت إليهم.

و قوله:( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) بيان لإيراثهم الأرض، و تبديل ضمير الأرض بالجنّة للإشارة إلى أنّها المراد بالأرض.

و قيل: المراد بالأرض هي أرض الدنيا و هو سخيف إلّا أن يوجّه بأنّ الجنّة هي عقبى هذه الدار قال تعالى:( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) الرعد: 22.

و المعنى و قال المتّقون بعد دخول الجنّة: الحمد لله الّذي صدقنا وعده أن سيدخلنا أو أن سيورثنا الجنّة نسكن منها حيث نشاء و نختار - فلهم ما يشاؤن فيها -.

و قوله:( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) أي فنعم الأجر أجر العاملين لله تعالى، و هو على ما يعطيه السياق قول أهل الجنّة، و احتمل أن يكون من قوله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ )

٢٩٥

إلى آخر الآية الحفّ الإحداق و الإحاطة بالشي‏ء، و العرش هو المقام الّذي يصدر منه الفرامين و الأوامر الإلهيّة الّتي يدبّر بها العالم، و الملائكة هم المجرون لمشيّته العاملون بأمره، و رؤية الملائكة على تلك الحال كناية عن ظهور ذلك و قد طويت السماوات.

و المعنى: و ترى يومئذ الملائكة و الحال أنّهم محدقون بالعرش مطيفون به لإجراء الأمر الصادر منه و هم يسبّحون بحمد ربّهم.

و قوله:( وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ ) احتمل رجوع الضمير إلى الملائكة، و رجوعه إلى الناس و الملائكة جميعاً، و رجوعه إلى جميع الخلائق، و رجوعه إلى الناس فالقضاء بين أهل الجنّة و أهل النار منهم أو بين الأنبياء و اُممهم.

و يضعف الاحتمال الأخير أنّ القضاء بين الناس قد ذكر قبلاً في قوله:( وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) فذكر القضاء بينهم ثانياً تكرار من غير موجب.

لكن ظاهر القضاء بين جماعة هو الحكم لبعضهم على بعض لوجود اختلاف مّا بينهم و لا تحقّق للاختلاف بين الملائكة، و هذا يؤيّد أن يكون الضمير لغيرهم و القضاء بين الناس غير أنّ القضاء كما يطلق على نفس حكم الحاكم يصحّ إطلاقه على مجموع الحكم و مقدّماته و تبعاته من حضور المتخاصمين و طرح الدعوى و شهادة الشهود و حكم الحاكم و إيفاء المحقّ حقّه فمن الممكن أن يكون المراد بالقضاء المذكور أوّلاً نفس الحكم الإلهيّ و بهذا القضاء المذكور ثانياً هو مجموع ما يجري عليهم من حين يبعثون إلى حين دخول أهل النار النار و أهل الجنّة الجنّة و استقرارهم فيهما و بذلك يندفع إشكال التكرار من غير موجب.

و قوله:( وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) كلمة خاتمة للبدء و العود و ثناء عامّ له تعالى أنّه لم يفعل و لا يفعل إلّا الجميل.

قيل: قائله المتّقون و كان حمدهم الأوّل على دخولهم الجنّة و الثاني للقضاء بينهم و بين غيرهم بالحقّ، و قيل: قائله الملائكة و لم ينسب إليهم صريحاً لتعظيم أمرهم، و قيل: القائل جميع الخلائق.

٢٩٦

و يؤيّد الأوّل قوله تعالى في صفة أهل الجنّة:( وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) يونس: 10 و هو حمد عامّ خاتم للخلقة كما سمعت.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) فهذه مخاطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعنى لاُمّته، و هو ما قاله الصادقعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ بعث نبيّه بإيّاك أعني و اسمعي يا جارة.

و عن كتاب التوحيد، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ الله عزّوجلّ لا يوصف.

قال: و قال زرارة: قال أبوجعفرعليه‌السلام : إنّ الله لا يوصف و كيف يوصف و قد قال في كتابه:( وَ ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ؟) فلا يوصف بقدر إلّا كان أعظم من ذلك.

و فيه، بإسناده عن سليمان بن مهران قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) قال: ملكه لا يملكها معه أحد.

و القبض عن الله تعالى في موضع آخر المنع و البسط منه الإعطاء و التوسّع كما قال عزّوجلّ:( وَ اللهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يعني يعطي و يوسّع و يضيّق، و القبض منه عزّوجلّ في وجه آخر الأخذ و الأخذ في وجه القبول منه كما قال:( وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ) أي يقبلها من أهلها و يثيب عليها.

قلت: فقوله عزّوجلّ:( وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) ؟ قال: اليمين اليد و اليد القدرة و القوّة يقول عزّوجلّ:( وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) أي بقدرته و قوّته سبحانه و تعالى عمّا يشركون.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله تعالى:( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ) أنّهم الشهداء مقلّدون بأسيافهم حول عرشه‏ الخبر و ظاهره أنّ النفخة غير نفخة الإماتة و قد تقدّم أنّ الآية ظاهرة في خلافه.

٢٩٧

و روي عن أنس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنهم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت و حملة العرش و أنّهم يموتون بعدها الخبر. و الآية ظاهرة في خلافه.

و روي عن جابر: استثني موسى لأنّه كان صعق قبل، الخبر. و فيه أنّ الصعق سواء أخذ بمعنى الموت أو بمعنى الغشية لا يختصّ الصعق قبل ذلك بموسىعليه‌السلام .

و في المجمع: في قوله تعالى:( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ) فيه قولان أحدهما ما روي عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام أنّ جهنّم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض و وضع إحدى يديه على الاُخرى فقال: هكذا و أنّ الله وضع الجنان على الأرض، و وضع النيران بعضها فوق بعض فأسفلها جهنّم، و فوقها لظى، و فوقها الحطمة، و فوقها سقر، و فوقها الجحيم، و فوقها السعير، و فوقها الهاوية و في رواية الكلبيّ أسفلها الهاوية و أعلاها جهنّم.

و في الخصال، عن أبي عبدالله عن أبيه عن جدّه عن عليّعليه‌السلام قال: إنّ للجنّة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيّون و الصدّيقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبّونا.

فلا أزال واقفاً على الصراط أدعو و أقول: ربّ سلّم شيعتي و محبّي و أنصاري و من تولّاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش قد اُجيبت دعوتك و شفعت في شيعتك و يشفع كلّ رجل من شيعتي و من تولّاني و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفاً من جيرانه و أقربائه.

و باب يدخل منه سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلّا الله و لم يكن في قلبه مثقال ذرّة من بغضنا أهل البيت.

٢٩٨

( سورة المؤمن مكّيّة و هي خمس و ثمانون آية)

( سورة غافر الآيات 1 - 6)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( 1 ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 2 ) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ  لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ  إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 ) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ( 4 ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ  وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ  وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ  فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ( 5 ) وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( 6 )

( بيان)

تتكلّم السورة في استكبار الكافرين و مجادلتهم بالباطل ليدحضوا به الحقّ الّذي يُدعون إليه و لذلك نراها تذكر جدالهم و تعود إليه عودة بعد عودة( ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) ( الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً ) ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ) .

فتكسر سورة استكبارهم و جدالهم بذكر ما عاقب الله به الماضين من الاُمم المكذّبين و ما أعدّ الله لهم من العذاب المهين بذكر طرف ممّا يجري عليهم في الآخرة.

و تدحض باطل أقاويلهم بوجوه من الحجج الناطقة بتوحّده في الربوبيّة و الاُلوهيّة و تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و تعده و المؤمنين به بالنصر، و تأمرهم أن يؤذنهم أنّه مسلم لربّه غير تارك لعبادته فلييأسوا منه.

٢٩٩

و السورة مكّيّة كلّها لاتّصال آياتها و شهادة مضامينها بذلك، و ما قيل فيه من الآيات أنّه نزل بالمدينة لا يعبؤ به و سيجي‏ء الإشارة إليها إن شاء الله.

قوله تعالى: ( حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) التنزيل مصدر بمعنى المفعول فقوله:( تَنْزِيلُ الْكِتابِ ) من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها و التقدير هذا كتاب منزّل من الله.

و تخصيص الوصفين:( الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) بالذكر قيل: للإشارة إلى ما في القرآن من الإعجاز و أنواع العلوم الّتي يضيق عنها نطاق الأفهام، و قيل: هو من باب التفنّن.

و الوجه أن يقال: إنّ السورة لمّا كانت تتكلّم حول جحد الجاحدين و مجادلتهم في آيات الله بالباطل جهلاً و هم يحسبونه علماً و يعتزّون به كما حكى ذلك عنهم في خاتمة السورة بقوله:( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) و كما حكى عن فرعون قوله لقومه في موسى:( إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ) و قوله لهم:( ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى‏ وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ ) .

افتتح الكلام في السورة بما فيه إشارة إلى أنّ هذا الكتاب النازل عليهم تنزيل ممّن هو عزيز على الإطلاق لا يغلبه غالب حتّى يخاف على ما نزّله من استعلائهم و استكبارهم بحسب أوهامهم، عليم على الإطلاق لا يدخل علمه جهل و ضلال فلا يقاوم جدالهم بالباطل ما نزّله من الحقّ و بيّنه بحججه الباهرة.

و يؤيّد هذا الوجه ما في الآية التالية من قوله:( غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ ) إلخ على ما سنبيّن.

قوله تعالى: ( غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) الإتيان بصيغة اسم الفاعل في( غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ ) - لعلّه - للدلالة على الاستمرار التجدّديّ فإنّ المغفرة و قبول التوب من صفاته الفعليّة و لا يزال تعالى يغفر الذنب ثمّ يغفر و يقبل التوب ثمّ يقبل.

و إنّما عطف قابل التوب على ما قبله دون( شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ ) لأنّ غافر الذنب و قابل التوب مجموعهما كصفة واحدة متعلّقة بالعباد المذنبين يغفر لهم تارة بتوبة

٣٠٠