الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 153088
تحميل: 4294


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153088 / تحميل: 4294
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ  أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ  فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ( 37 ) إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 38 )

( بيان)

رجوع إلى ذكر آيات اُخر من آيات التوحيد و فيها انتقال إلى حديث الكتاب و أنّه حقّ نازل من عندالله تعالى و قد انجرّ الكلام في الفصل السابق من الآيات إلى ذكر النبوّة و الكتاب حيث قال:( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً ) و قال:( جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ ) فكان من الحريّ أن يتعرّض لصفة الكتاب و ما تستتبعه من الآثار.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ) إلخ. حجّة اُخرى على التوحيد و هو أنّ الله سبحانه ينزّل الماء من السماء بالأمطار و هو أقوى العوامل المعينة لخروج الثمرات، و لو كان خروجها عن مقتضى طباع هذا العامل و هو واحد لكان جميعها ذا لون واحد فاختلاف الألوان يدلّ على وقوع التدبير الإلهيّ.

و القول بأنّ اختلافها منوط باختلاف العوامل المؤثّرة فيها و منها اختلاف العناصر الموجودة فيها نوعاً و قدراً و خصوصيّة التأليف.

مدفوع بأنّ الكلام منقول حينئذ إلى اختلاف نفس العناصر و هي منتهية إلى المادّة المشتركة الّتي لا اختلاف فيها فاختلاف العناصر المكوّنة منها يدلّ على عامل آخر وراء المادّة يدبّر أمرها و يسوقها إلى غايات مختلفة.

و الظاهر أنّ المراد باختلاف ألوان الثمرات اختلاف نفس ألوانها و يلزمه

٤١

اختلافات اُخر من حيث الطعم و الرائحة و الخواصّ، و قيل المراد باختلاف الألوان اختلاف الأنواع فكثيراً ما يطلق اللون في الفواكه و الأطعمة على النوع كما يقال: قدّم فلان ألواناً من الطعام و الفاكهة فهو من الكناية، و قوله بعد:( وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ ) لا يخلو من تأييد للوجه الأوّل.

و في قوله:( فَأَخْرَجْنا بِهِ ) إلخ. التفات من الغيبة إلى التكلّم. قيل: إنّ ذلك لكمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة و الحكمة.

و نظير الوجه يجري في قوله السابق:( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً ) و أمّا ما في الآية السابقة من قوله:( ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ) فلعلّ الوجه فيه أنّ أمرهم إلى الله لا يتخلّل بينه و بينهم أحد حتّى يشفع لهم أو ينصرهم فينجوا من العذاب.

و قوله:( وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ ) الجدد بالضمّ فالفتح جمع جدّة بضمّ الجيم و هي الطريقة و الجادّة، و البيض و الحمر جمع أبيض و أحمر، و الظاهر أنّ قوله:( مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها ) صفة لجدد و( أَلْوانُها ) فاعل( مُخْتَلِفٌ ) و لو كانت الجملة مبتدأ و خبراً لقيل: مختلفة ألوانها كما قيل، و الغرابيب جمع غربيب و هو الأسود الشديد السواد و منه الغراب و( سُودٌ ) بدل أو عطف بيان لغرابيب.

و المعنى: أ لم تر أنّ من الجبال طرائق بيض و حمر و سود مختلف ألوانها، و المراد إمّا الطرق المسلوكة في الجبال و لها ألوان مختلفة، و إمّا نفس الجبال الّتي هي خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض و حمر و سود مختلف ألوانها.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ ) أي و من الناس و الدوابّ الّتي تدبّ في الأرض و الأنعام كالإبل و الغنم و البقر بعض مختلف ألوانه بالبياض و الحمرة و السواد كاختلاف الثمرات و الجبال في ألوانها.

و قيل: قوله:( كَذلِكَ ) خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير الأمر كذلك فهو تقرير إجماليّ للتفصيل المتقدّم من اختلاف الثمرات و الجبال و الناس و الدوابّ و الأنعام.

و قيل:( كَذلِكَ ) متعلّق بقوله:( يَخْشَى ) في قوله:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ

٤٢

الْعُلَماءُ ) و الإشارة إلى ما تقدّم من الاعتبار بالثمرات و الجبال و غيرهما و المعنى إنّما يخشى الله كذلك الاعتبار بالآيات من عباده العلماء، و هو بعيد لفظاً و معنى.

قوله تعالى: ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) استئناف يوضح أنّ الاعتبار بهذه الآيات إنّما يؤثّر أثره و يورث الإيمان بالله حقيقة و الخشية منه بتمام معنى الكلمة في العلماء دون الجهّال، و قد مرّ أنّ الإنذار إنّما ينجح فيهم حيث قال:( إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ ) فهذه الآية كالموضحة لمعنى تلك تبيّن أنّ الخشية حقّ الخشية إنّما توجد في العلماء.

و المراد بالعلماء العلماء بالله و هم الّذين يعرفون الله سبحانه بأسمائه و صفاته و أفعاله معرفة تامّة تطمئنّ بها قلوبهم و تزيل وصمة الشكّ و القلق عن نفوسهم و تظهر آثارها في أعمالهم فيصدّق فعلهم قولهم، و المراد بالخشية حينئذ حقّ الخشية و يتبعها خشوع في باطنهم و خضوع في ظاهرهم. هذا ما يستدعيه السياق في معنى الآية.

و قوله:( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) يفيد معنى التعليل فلعزّته تعالى و كونه قاهراً غير مقهور و غالباً غير مغلوب من كلّ جهة يخشاه العارفون، و لكونه غفوراً كثير المغفرة للآثام و الخطيئات يؤمنون به و يتقرّبون إليه و يشتاقون إلى لقائه.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) تلاوة الكتاب قراءة القرآن و قد أثنى عليها الله سبحانه، و إقامة الصلاة إدامة إتيانها و حفظها من أن تترك، و الإنفاق من الرزق سرّاً و علانية بذل المال سرّاً تحذّراً من الرياء و زوال الإخلاص في الإنفاق المسنون، و بذل المال علانية ليشيع بين الناس كما في الإنفاق الواجب.

و قوله:( يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) أي لن تهلك بالخسران، و ذكر بعضهم أنّ قوله:( يَرْجُونَ ) إلخ. خبر إنّ في صدر الآية و عند بعضهم الخبر مقدّر يتعلّق به قوله:( لِيُوَفِّيَهُمْ ) إلخ( أي فعلوا ما فعلوا ليوفّيهم اُجورهم) إلخ.

قوله تعالى: ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) متعلّق بقوله:( يَتْلُونَ ) و ما عطف عليه في الآية السابقة أي أنّهم عملوا ما عملوا لأن يوفّيهم

٤٣

و يؤتيهم إيتاء تامّاً كاملاً اُجورهم و ثوابات أعمالهم.

و قوله:( وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) يمكن أن يراد بهذه الزيادة تضعيف الثواب أضعافاً كما في قوله:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) الأنعام: 160 و قوله :( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) البقرة: 261، و يمكن أن يراد بها زيادة ليست من سنخ ثواب الأعمال كما في قوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) ق: 35.

و قوله:( إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) تعليل لمضمون الآية و زيادة فهو تعالى لكونه غفوراً يغفر زلّاتهم و لكونه شكوراً يثيبهم و يزيد من فضله.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ ) ضمير الفصل و اللّام في قوله:( هُوَ الْحَقُّ ) للتأكيد لا للقصر أي هو حقّ لا يشوبه باطل.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) إلى آخر الآية. يقال: أورثه مالا كذا أي تركه فيهم يقومون بأمره بعده و قد كان هو القائم بأمره المتصرّف فيه، و كذا إيراث العلم و الجاه و نحوهما تركه عند الغير يقوم بأمره بعد ما كان عند غيره ينتفع به فإيراث القوم الكتاب تركه عندهم يتناولونه خلفاً عن سلف و ينتفعون به.

و تصحّ هذه النسبة و إن كان القائم به بعض القوم دون كلّهم، قال تعالى:( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى‏ وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَ ذِكْرى‏ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) المؤمن: 54، و قال:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ ) المائدة: 44، و قال:( وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) الشورى: 14. فبنو إسرائيل اُورثوا الكتاب و إن كان المؤدّون حقّه القائمون بأمره بعضهم لا جميعهم.

و المراد بالكتاب في الآية على ما يعطيه السياق هو القرآن الكريم كيف؟ و قوله في الآية السابقة:( وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ) نصّ فيه، فاللام في الكتاب

٤٤

للعهد دون الجنس فلا يعبأ بقول من يقول: إنّ اللّام للجنس و المراد بالكتاب مطلق الكتاب السماويّ المنزل على الأنبياء.

و الاصطفاء أخذ صفوة الشي‏ء و يقرب من معنى الاختيار و الفرق أنّ الاختيار أخذ الشي‏ء من بين الأشياء بما أنّه خيرها و الاصطفاء أخذه من بينها بما أنّه صفوتها و خالصها.

و قوله:( مِنْ عِبادِنا ) يحتمل أن يكون( مِنْ ) للتبيين أو للابتداء أو للتبعيض الأقرب إلى الذهن أن يكون بيانيّة و قد قال تعالى:( وَ سَلامٌ عَلى‏ عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) النمل: 59.

و اختلفوا في هؤلاء المصطفين من عباده من هم؟ فقيل: هم الأنبياء، و قيل: هم بنو إسرائيل الداخلون في قوله:( إِنَّ اللهَ اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ) آل عمران: 33، و قيل: هم اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد اُورثوا القرآن من نبيّهم إليه يرجعون و به ينتفعون علماؤهم بلا واسطة و غيرهم بواسطتهم، و قيل: هم العلماء من الاُمّة المحمّديّة.

و قيل: - و هو المأثور عن الصادقينعليه‌السلام في روايات كثيرة مستفيضة - إنّ المراد بهم ذرّيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أولاد فاطمةعليها‌السلام و هم الداخلون في آل إبراهيم في قوله:( إِنَّ اللهَ اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ ) آل عمران: 33، و قد نصّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على علمهم بالقرآن و إصابة نظرهم فيه و ملازمتهم إيّاه بقوله‏ في الحديث المتواتر المتّفق عليه:( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي لن يفترقاً حتّى يردا عليّ الحوض‏) .

و على هذا فالمعنى بعد ما أوحينا إليك القرآن - ثمّ للتراخي الرتبيّ - أورثنا ذرّيّتك إيّاه و هم الّذين اصطفينا من عبادنا إذا اصطفينا آل إبراهيم و إضافة العباد إلى نون العظمة للتشريف.

و قوله:( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ) يحتمل أن يكون ضمير( فَمِنْهُمْ ) راجعاً إلى( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ) فيكون الطوائف الثلاث الظالم

٤٥

لنفسه و المقتصد و السابق بالخيرات شركاء في الوراثة و إن كان الوارث الحقيقيّ العالم بالكتاب و الحافظ له هو السابق بالخيرات.

و يحتمل أن يكون راجعاً إلى عِبادِنا - من غير إفادة الإضافة للتشريف - فيكون قوله:( فَمِنْهُمْ ) مفيداً للتعليل و المعنى إنّما أورثنا الكتاب بعض عبادنا و هم المصطفون لا جميع العباد لأنّ من عبادنا من هو ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق و لا يصلح الكلّ للوراثة.

و يمكن تأييد أوّل الاحتمالين بأن لا مانع من نسبة الوراثة إلى الكلّ مع قيام البعض بها حقيقة كما نجد نظيره في قوله تعالى:( وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ) المؤمن: 54.

و ما في الآية من المقابلة بين الظالم لنفسه و المقتصد و السابق بالخيرات يعطي أنّ المراد بالظالم لنفسه من عليه شي‏ء من السيّئات و هو مسلم من أهل القرآن لكونه مصطفى و وارثاً، و المراد بالمقتصد المتوسّط الّذي هو في قصد السبيل و سواء الطريق و المراد بالسابق بالخيرات بإذن الله من سبق الظالم و المقتصد إلى درجات القرب فهو إمام غيره بإذن الله بسبب فعل الخيرات قال تعالى:( وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) الواقعة: 11.

و قوله تعالى:( ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) أي ما تقدّم من الإيراث هو الفضل الكبير من الله لا دخل للكسب فيه.

هذا ما يعطيه السياق و تفيده الأخبار من معنى الآية و فيها للقوم اختلاف عجيب فقد اختلف في( ثُمَّ ) فقيل: هي للتراخي بحسب الأخبار، و قيل: للتراخي الرتبي، و قيل: للتراخي الزماني. ثمّ العطف على( أَوْحَيْنا ) أو على( الَّذِي أَوْحَيْنا ) .

و اختلف في( أَوْرَثْنَا ) فقيل: هو على ظاهره، و قيل: معناه حكمنا بإيراثه و قدّرناه، و اختلف في الْكِتابَ فقيل: المراد به القرآن، و قيل: جنس الكتب السماويّة، و اختلف في( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ) فقيل: المراد بهم الأنبياء، و قيل: بنو

٤٦

إسرائيل، و قيل: اُمّة محمّد، و قيل: العلماء منهم، و قيل: ذرّيّة النبيّ من ولد فاطمةعليها‌السلام .

و اختلف في( مِنْ عِبادِنا ) فقيل: من للتبعيض أو للابتداء أو للتبيين و يختلف المراد من العباد بحسب اختلاف معنى( مِنْ ) و كذا إضافة( عِبادِنا ) للتشريف على بعض الوجوه و لغيره على بعضها.

و اختلف في( فَمِنْهُمْ ) فقيل: مرجع الضمير( الَّذِينَ ) و قيل:( عِبادِنا ) و اختلف في الظالم لنفسه و المقتصد و السابق فقيل الظالم من كان ظاهره خيراً من باطنه و المقتصد من استوى ظاهره و باطنه و السابق من كان باطنه خيراً من ظاهره، و قيل: السابق هم السابقون الماضون في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أصحابه و المقتصد من تبع أثرهم و لحق بهم من الصحابة و الظالم لنفسه غيرهم، و قيل: الظالم من غلبت عليه السيّئة و المقتصد المتوسّط حالاً و السابق هو المقرّب إلى الله السابق في الدرجات.

و هناك أقوال متفرّقة اُخر تركنا إيرادها و لو ضربت الاحتمالات بعضها في بعض جاوز الألف.

قوله تعالى: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ) التحلية هي التزيين و الأساور جمع أسورة و هي جمع سوار بكسر السين قال الراغب: سوار المرأة معرّب و أصله دستواره. انتهى.

و قوله:( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) إلخ. ظاهره أنّه بيان للفضل الكبير قال في المجمع: هذا تفسير للفضل كأنّه قيل: ما ذلك الفضل؟ فقال: هي جنّات أي جزاء جنّات أو دخول جنّات و يجوز أن يكون بدلاً من الفضل كأنّه قال: ذلك دخول جنّات. انتهى. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) قيل: المراد بالحزن الّذي يحمدون الله على إذهابه بإدخالهم الجنّة الحزن الّذي كان يتوجّه إليهم في الحياة الدنيا و ما يحفّ بها من الشدائد و النوائب.

و قيل: المراد به الحزن الّذي كان قد أحاط بهم بعد الارتحال من الدنيا، و قيل

٤٧

الدخول في جنّة الآخرة إشفاقاً ممّا اكتسبوه من السيّئات.

و على هذا فالقول قول الظالم لنفسه منهم أو قوله و قول المقتصد و أمّا السابق بالخيرات منهم فلا سيّئة في صحيفة أعماله حتّى يعذّب بها. و هذا الوجه أنسب لقولهم في آخر حمدهم:( إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) .

قوله تعالى: ( الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ ) المقامة الإقامة، و دار المقامة المنزل الّذي لا خروج منه و لا تحوّل.

و النصب بفتحتين التعب و المشقّة، و اللغوب بضمّ اللام: العيّ و التعب في طلب المعاش و غيره.

و المعنى: الّذي جعلنا حالّين في دار الخلود من فضله من غير استحقاق منّا عليه لا يمسّنا في هذه الدار و هي الجنّة مشقّة و تعب و لا يمسّنا فيها عيّ و لا كلال في طلب ما نريد أي إنّ لنا فيها ما نشاء.

و في قوله:( مِنْ فَضْلِهِ ) مناسبة خاصّة مع قوله السابق:( ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية اللام في( لَهُمْ ) للاختصاص و يفيد كون النار جزاء لهم لا ينفكّ عنهم، و قوله:( لا يُقْضى‏ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) أي لا يحكم عليهم بالموت حتّى يموتوا فهم أحياء على ما هم فيه من شدّة العذاب و لا يخفّف عنهم من عذاب النار كذلك نجزي كلّ كفور شديد الكفران أو كثيره.

قوله تعالى: ( وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا ) إلى آخر الآية في المجمع: الاصطراخ الصياح و النداء بالاستغاثة افتعال من الصراخ انتهى.

و قوله:( رَبَّنا أَخْرِجْنا ) إلخ. بيان لاصطراخهم، و قوله:( أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) إلخ. جواب اصطراخهم و قوله:( فَذُوقُوا ) و قوله:( فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) كلّ منهما متفرّع على ما قبله.

و المعنى، و هؤلاء الّذين في النار من الكفّار يصطرخون و يصيحون بالاستغاثة

٤٨

فيها قائلين: ربّنا أخرجنا من النار نعمل صالحاً غير سيّئ غير الّذي كنّا نعمل فيقال لهم ردّاً عليهم: - كلّا - أ و لم نعمّركم عمراً يتذكّر فيه من تذكّر و جاءكم النذير فأنذركم هذا العذاب فلم تتذكّروا و لم تؤمنوا؟ فذوقوا العذاب فما للظالمين من نصير ينصرهم ليتخلّصوا من العذاب.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) فيعاملكم بما في باطنكم من الاعتقاد و آثار الأعمال و يحاسبكم عليه سواء وافق ظاهركم باطنكم أو خالف قال تعالى:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) البقرة: 284، و قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9.

( بحث روائي)

في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) الآية: روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: يعني بالعلماء من صدّق قوله فعله، و من لم يصدّق فعله قوله فليس بعالم. و في الحديث أعلمكم بالله أخوفكم لله.

أقول: و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام ما في معناه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الترمذيّ و الحاكم عن الحسن قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : العلم علمان: علم في القلب فذاك العلم النافع، و علم على اللسان فذاك حجّة الله على خلقه.

و في المجمع، روى ابن مسعود عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: في قوله:( وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) : هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليه معروفاً في الدنيا.

و في الكافي، بإسناده عن أحمد بن عمر قال: سألت أباالحسن الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) الآية قال: فقال: ولد فاطمةعليها‌السلام ، و السابق بالخيرات الإمام و المقتصد العارف بالإمام و الظالم لنفسه الّذي لا يعرف الإمام.

٤٩

و عن كتاب سعد السعود، لابن طاووس في حديث لأبي إسحاق السبيعيّ عن الباقرعليه‌السلام : في الآية قال: هي لنا خاصّة يا أباإسحاق أمّا السابق بالخيرات فعليّ بن أبي طالب و الحسن و الحسين و الشهيد منّا، و أمّا المقتصد فصائم بالنهار و قائم بالليل، و أمّا الظالم لنفسه ففيه ما في الناس و هو مغفور له.

أقول: المراد بالشهيد بقرينة الروايات الاُخر الإمام.

و في معاني الأخبار، مسنداً عن الصادقعليه‌السلام : في الآية قال: الظالم يحوم حوم نفسه و المقتصد يحوم حوم قلبه و السابق بالخيرات يحوم حوم ربّه.

أقول: الحوم و الحومان الدوران، و دوران الظالم لنفسه حوم نفسه اتّباعه أهواءها و سعيه في تحصيل ما يرضيها، و دوران المقتصد حوم قلبه اشتغاله بما يزكّي قلبه و يطهّره بالزهد و التعبّد، و دوران السابق بالخيرات حوم ربّه إخلاصه له تعالى فيذكره و ينسى غيره فلا يرجو إلّا إيّاه و لا يقصد إلّا إيّاه.

و اعلم أنّ الروايات من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في كون الآية خاصّة بولد فاطمةعليها‌السلام كثيرة جدّاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و أحمد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ عن أبي الدرداء سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: قال الله تعالى:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ) فأمّا الّذين سبقوا فاُولئك يدخلون الجنّة بغير حساب، و أمّا الّذين اقتصدوا فاُولئك الّذين يحاسبون حساباً يسيراً، و أمّا الّذين ظلموا أنفسهم فاُولئك يحبسون في طول المحشر ثمّ هم الّذين يلقاهم الله برحمة فهم الّذين يقولون: الحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور الّذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصب و لا يمسّنا فيها لغوب.

أقول: و رواه في المجمع، عن أبي الدرداء عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في معناه أحاديث اُخر، و هناك ما يخالفها و لا يعبأ به كما فيه، عن ابن مردويه عن عمر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في

٥٠

قوله:( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: الكافر.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ ) قال: النصب العناء و اللغوب الكسل و الضجر.

و في نهج البلاغة، و قال: العمر الّذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستّون سنة.

أقول: و رواه عنهعليه‌السلام في المجمع، و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن جرير عنهعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج الحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول و البيهقيّ في سننه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن ابن عبّاس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستّين و هو المعمّر الّذي قال الله:( أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) .

أقول: و روي ذلك بطرق اُخرى عن سهل بن سعد و أبي هريرة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في المجمع،: و قيل هو توبيخ لابن ثماني عشرة سنة و روي ذلك عن الباقرعليه‌السلام .

أقول: و رواه في الفقيه، عنهعليه‌السلام مضمراً.

٥١

( سورة فاطر الآيات 39 - 45)

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ  فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ  وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا  وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ( 39 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَتٍ مِّنْهُ  بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ( 40 ) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا  وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ  إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( 41 ) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ  فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ( 42 ) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ  وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ  فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ  فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا  وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا ( 43 ) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً  وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ  إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ( 44 ) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ( 45 )

٥٢

( بيان)

احتجاج على توحيد الربوبيّة كقوله:( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ) الآية، و قوله:( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) الآية، و على نفي ربوبيّة شركائهم( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) الآية و توبيخ و تهديد لهم على نقضهم ما أبرموه باليمين و مكرهم السيّئ.

ثمّ تسجيل أنّ الله لا يعجزه شي‏ء و إنّما يمهل من أمهله من هؤلاء الظالمين إلى أجل مسمّى فإذا جاء أجلهم جازاهم ما يستحقّونه و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ) إلخ. الخلائف جمع خليفة، و كون الناس خلائف في الأرض هو قيام كلّ لاحق منهم مقام سابقه و سلطته على التصرّف و الانتفاع منها كما كان السابق مسلّطاً عليه و هم إنّما نالوا هذه الخلافة من جهة نوع الخلقة و هو الخلقة من طريق النسل و الولادة فإنّ هذا النوع من الخلقة يقسّم المخلوق إلى سلف و خلف.

فجعل الخلافة الأرضيّة نوع من التدبير مشوب بالخلق غير منفكّ عنه و لذلك استدلّ به على توحّده تعالى في ربوبيّته لأنّه مختصّ به تعالى لا مجال لدعواه لغيره.

فقوله:( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ) حجّة على توحّده تعالى في ربوبيّته و انتفائها عن شركائهم: تقريره أنّ الّذي جعل الخلافة الأرضيّة في العالم الإنسانيّ هو ربّهم المدبّر لأمرهم، و جعل الخلافة لا ينفكّ عن نوع الخلقة فخالق الإنسان هو ربّ الإنسان لكنّ الخالق هو الله سبحانه حتّى عند الخصم فالله هو ربّ الإنسان.

و قوله:( فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) أي فالله سبحانه هو ربّ الإنسان فمن كفر و ستر هذه الحقيقة و نسب الربوبيّة إلى غيره تعالى فعلى ضرره كفره.

و قوله:( وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ

٥٣

إِلَّا خَساراً ) بيان لكون كفرهم عليهم و هو أنّ كفرهم يورث لهم مقتاً عند ربّهم و المقت شدّة البغض لأنّ فيه إعراضاً عن عبوديّته و استهانة بساحته، و يورث لهم خساراً في أنفسهم لأنّهم بدّلوا السعادة الإنسانيّة شقاء و وبالا سيصيبهم في مسيرهم و منقلبهم إلى دار الجزاء.

و إنّما عبّر عن أثر الكفر بالزيادة لأنّ الفطرة الإنسانيّة بسيطة ساذجة واقعة في معرض الاستكمال و الازدياد فإن أسلم الإنسان زاده ذلك كمالاً و قرباً من الله و إن كفر زاده ذلك مقتاً عند الله و خساراً.

و إنّما قيّد المقت بقوله:( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) دون الخسار لأنّ الخسار من تبعات تبديل الإيمان كفراً و السعادة شقاء و هو أمر عند أنفسهم و أمّا المقت و شدّة البغض فمن عند الله سبحانه.

و الحبّ و البغض المنسوبان إلى الله سبحانه من صفات الأفعال و هي معان خارجة عن الذات غير قائمة بها، و معنى حبّه تعالى لأحد انبساط رحمته عليه و انجذابها إليه و بغضه تعالى لأحد انقباض رحمته منه و ابتعادها عنه.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) إلى آخر الآية إضافة الشركاء إليهم بعناية أنّهم يدّعون أنّهم شركاء لله فهي إضافة لاميّة مجازيّة.

و في الآية تلقين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحجّة على نفي ربوبيّة آلهتهم الّذين كانوا يعبدونهم و تقرير الحجّة أنّهم لو كانوا أرباباً آلهة من دون الله لكان لهم شي‏ء من تدبير العالم فكانوا خالقين لما يدبّرونه لأنّ الخلق و التدبير لا ينفكّ أحدهما عن الآخر و لو كانوا خالقين لدلّ عليه دليل و الدليل إمّا من العالم أو من قبل الله سبحانه أمّا العالم فلا شي‏ء منه يدلّ على كونه مخلوقاً لهم و لو بنحو الشركة و هو قوله:( أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) .

و أمّا من قبله تعالى فلو كان لكان كتاباً سماويّاً نازلاً من عنده سبحانه يعترف بربوبيّتهم و يجوّز للناس أن يعبدوهم و يتّخذوهم آلهة، و لم ينزل كتاب على هذه الصفة و هم معترفون بذلك و هو قوله:( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْهُ ) .

٥٤

و إنّما عبّر عن نفي خالقيّتهم في الأرض بقوله:( أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ) و لم يقل: أنبئوني أ لهم شرك في الأرض؟ و عبّر في السماوات بقوله:( أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) و لم يقل: أم ما ذا خلقوا من السماوات.

لأنّ المراد بالأرض - على ما يدلّ عليه سياق الاحتجاج - العالم الأرضيّ و هو الأرض بما فيها و ما عليها و المراد بالسماوات العالم السماويّ المشتمل على السماوات و ما فيها و ما عليها فقوله:( ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ) في معنى أ لهم شرك في الأرض و لا يكون إلّا بخلق شي‏ء منها، و قوله:( أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) في معنى أم ما ذا خلقوا من السماوات، و قد اكتفى بذكر الخلق في جانب الأرض إشارة إلى أنّ الشرك في الربوبيّة لا يكون إلّا بخلق.

و قوله:( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْهُ ) أي بل آتيناهم كتاباً فهم على بيّنة منه أي على حجّة ظاهرة من الكتاب أنّ لشركائهم شركة معنا و ذلك بدلالته على أنّهم شركاء لله.

و قد قال:( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ) و لم يقل: أم لهم كتاب و نحو ذلك ليتأكّد النفي و الإنكار فإنّ قولنا: أم لهم كتاب و نحو ذلك إنكار لوجود الكتاب لكن قوله:( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ) إنكار لوجود الكتاب ممّن ينزّل الكتاب لو نزّل.

و قد تبيّن بما تقدّم أنّ ضمير الجمع في( آتَيْناهُمْ ) و في( فَهُمْ عَلى‏ بَيِّنَةٍ ) للمشركين فلا يعبأ بما قيل: إنّ الضميرين للشركاء.

و قوله:( بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً ) إضراب عمّا تقدّم من الاحتجاج بأنّ الّذي حملهم على الشرك ليس هو حجّة تحملهم عليه و يعتمدون عليها بل غرور بعضهم بعضاً بوعد الشفاعة و الزلفى فأسلافهم يغرّون أخلافهم و رؤساؤهم و أئمّتهم يغرّون مرؤسيهم و تابعيهم و يعدونهم شفاعة الشركاء عندالله سبحانه و لا حقيقة لها.

و حجّة الآية عامّة على المشركين عبدة الأصنام و هم الّذين يعبدون الملائكة و الجنّ و قدّيسي البشر و يتّخذون لهم أصناماً يتوجّهون إليها، و على الّذين يعبدون روحانيّ الكواكب و يتوجّهون إلى الكواكب ثمّ يتّخذون للكواكب أصناماً، و على

٥٥

الّذين يعبدون الملائكة و العناصر من غير أن يتّخذوا لها أصناماً كما ينقل عن الفرس القدماء، و على الّذين يعبدون بعض البشر كالنصارى للمسيحعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) إلخ. قيل: إنّ الآية استئناف مقرّر لغاية قبح الشرك و هوله أي إنّ الله تعالى يحفظ السماوات و الأرض كراهة أن تزولاً أو لئلّا تزولاً و تضمحلّاً لأنّ الممكن كما يحتاج إلى الواجب حال إيجاده يحتاج إليه حال بقائه. انتهى.

و الظاهر أنّه تعالى لمّا استدلّ على توحده في الربوبيّة يجعل الخلافة في النوع الإنسانيّ بقوله:( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ) الآية ثمّ نفى الشركة مطلقاً بالحجّة عمّم الحجّة بحيث تشمل الخلق كلّه أعني السماوات و الأرض فاحتجّ على توحّده بإبقاء الخلق بعد إحداثه فإنّ من البيّن الّذي لا يرتاب فيه أنّ حدوث الشي‏ء و أصل تلبّسه بالوجود بعد العدم غير بقائه و تلبّسه بالوجود بعد الوجود على نحو الاستمرار فبقاء الشي‏ء بعد حدوثه يحتاج إلى إيجاد بعد إيجاد على نحو الاتّصال و الاستمرار.

و إبقاء الشي‏ء بعد إحداثه كما أنّه إيجاد بعد الإيجاد كذلك هو تدبير لأمره فإنّك إن دقّقت النظر وجدت أنّ النظام الجاري في الكون إنّما يجري بالإحداث و الإبقاء فقط. و الموجد و الخالق هو الله سبحانه حتّى عند الخصم فالله سبحانه هو الخالق المدبّر للسماوات و الأرض وحده لا شريك له.

فقوله:( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) الإمساك بمعناه المعروف و قوله:( أَنْ تَزُولا ) - و تقديره كراهة أن تزولاً أو لئلّا تزولاً - متعلّق به، و قيل: الإمساك بمعنى المنع أو بمعنى الحفظ و على أيّ حال فالإمساك كناية عن الإبقاء و هو الإيجاد بعد الإيجاد على سبيل الاتّصال و الاستمرار، و الزوال هو الاضمحلال و البطلان.

و نقل عن بعضهم أنّه فسّر الزوال بالانتقال المكانيّ، و المعنى أنّ الله يمنع السماوات و الأرض من أن ينتقل شي‏ء منهما عن مكانه الّذي استقرّ فيه فيرتفع أو ينخفض انتهى و الشأن في تصوّر مراده تصوّراً صحيحاً.

٥٦

و قوله:( وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) السياق يعطي أنّ المراد بالزوال ههنا الإشراف على الزوال إذ نفس الزوال لا يجتمع معه الإمساك و المعنى و اُقسم لئن أشرفتا على الزوال لم يمسكهما أحد من بعد الله سبحانه إذ لا مفيض للوجود غيره و يمكن أن يكون المراد بالزوال معناه الحقيقيّ و المراد بالإمساك القدرة على الإمساك و قد تبيّن أنّ( مِنْ ) الاُولى زائدة للتأكيد و الثانية للابتداء، و ضمير( مِنْ بَعْدِهِ ) راجع إليه تعالى، و قيل: راجع إلى الزوال.

و قوله:( إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ) فهو لحلمه لا يعجل إلى أمر و لمغفرة يستر جهات العدم في الأشياء، و مقتضى الاسمين أن يمسك السماوات و الأرض أن تزولاً إلى أجل مسمّى.

و قال في إرشاد العقل السليم: إنّه كان حليماً غفوراً غير معاجل بالعقوبة الّتي تستوجبها جناياتهم حيث أمسكهما و كانتا جديرتين بأن تهدّاً هدّاً حسبما قال تعالى:( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ ) انتهى.

قوله تعالى: ( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) قال الراغب: الجهد - بفتح الجيم - و الجهد - بضمّها - الطاقة و المشقّة - إلى أن قال - و قال تعالى:( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ) أي حلفوا و اجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. انتهى.

و قال: النفر الانزعاج عن الشي‏ء و إلى الشي‏ء كالفزع إلى الشي‏ء و عن الشي‏ء يقال: نفر عن الشي‏ء نفوراً قال تعالى:( ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) انتهى.

قيل(1) : بلغ قريشاً قبل مبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود و النصارى أتتهم الرسل فكذّبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكوننّ أهدى من إحدى الاُمم انتهى، و سياق الآية يصدّق هذا النقل و يؤيّده.

فقوله:( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ) الضمير لقريش و قد حلفوا هذا الحلف قبل بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله بعد:( فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ) ، و المقسم به قوله:( لَئِنْ

____________________

(1) رواه في الدرّ المنثور عن أبي هلال و عن ابن جريح.

٥٧

جاءَهُمْ نَذِيرٌ ) إلخ.

و قوله:( لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ) أي إحدى الاُمم الّتي جاءهم نذير كاليهود و النصارى و إنّما قال:( لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ) و لم يقل: أهدى منهم لأنّ المعنى أنّهم كانوا اُمّة ما جاءهم نذير ثمّ لو جاءهم نذير كانوا اُمّة ذات نذير كإحدى تلك الاُمم المنذرة ثمّ بتصديق النذير يصيرون أهدى من الّتي ماثلوها و هو قوله:( أَهْدى‏ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ) فافهمه.

و قيل: إنّ مقتضى المقام العموم، و قوله:( إِحْدَى الْأُمَمِ ) عامّ و إن كان نكرة في سياق الإثبات و اللّام في( الْأُمَمِ ) للعهد، و المعنى ليكوننّ أهدى من كلّ واحدة من تلك الاُمم الّتي كذّبوا رسلهم من اليهود و النصارى و غيرهم.

و قيل: المعنى ليكوننّ أهدى من اُمّة يقال فيها: إحدى الاُمم تفضيلاً لها على غيرها من الاُمم كما يقال: هو واحد القوم و واحد عصره. انتهى.

و لا يخلو الوجه الأخير عن تكلّف و بعد.

و قوله:( فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) المراد بالنذير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و النفور التباعد و الهرب.

قوله تعالى: ( اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) قال الراغب: المكر صرف الغير عمّا يقصده بحيلة، و ذلك ضربان: مكر محمود و ذلك أن يتحرّى بذلك فعل جميل و على ذلك قال تعالى:( وَ اللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) و مذموم و هو أن يتحرّى به فعل قبيح قال تعالى:( لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) انتهى.

و قال أيضاً: قال عزّوجلّ:( وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) أي لا ينزل و لا يصيب. قيل: و أصله حقّ فقلب نحو زلّ و زال و قد قرئ فأزلّهما الشيطان و أزالهما و على هذا ذمّه و ذامه. انتهى.

و قوله:( اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ ) مفعول لأجله لقوله:( نُفُوراً ) أي نفروا عنه و تباعدوا للاستكبار في الأرض و قوله:( وَ مَكْرَ السَّيِّئِ ) معطوف على( اسْتِكْباراً )

٥٨

و مفعول لأجله مثله، و قيل: معطوف على( نُفُوراً ) و الإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل قوله ثانياً:( وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) أي لا يصيب و لا ينزل المكر السيّئ إلّا بأهله و لا يستقرّ إلّا فيه، فإنّ المكر السيّئ و إن كان ربّما أصاب به مكروه للممكور به، لكنّه سيزول و لا يدوم إلّا أنّ أثره السيّئ بما أنّه المكر سيّئ يبقى في نفس الماكر و سيظهر فيه و يجزى به إمّا في الدنيا و إمّا في الآخرة البتّة، و لهذا فسّر الآية في مجمع البيان، بقوله: و المعنى لا ينزل جزاء المكر السيّئ إلّا بمن فعله.

و الكلام مرسل إرسال المثل كقوله تعالى:( إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) يونس: 23( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ ) الفتح: 10.

و قوله:( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ) النظر و الانتظار بمعنى التوقّع و الفاء للتفريع و الجملة استنتاج ممّا تقدّمها و الاستفهام للإنكار و المعنى و إذ مكروا المكر السيّئ و المكر السيّئ يحيق بأهله فهم لا ينتظرون إلّا السنّة الجارية في الاُمم الماضين و هي العذاب الإلهيّ النازل بهم إثر مكرهم و تكذيبهم بآيات الله.

و قوله:( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا ) تبديل السنّة أن توضع العافية و النعمة موضع العذاب، و تحويلها أن ينقل العذاب من قوم يستحقّونه إلى غيرهم، و سنّة الله لا تقبل تبديلاً و لا تحويلاً لأنّه تعالى على صراط مستقيم لا يقبل حكمه تبعيضاً و لا استثناء.

و قد أخذ الله بالعذاب هؤلاء المشركين الماكرين يوم بدر فقتل عامّتهم. و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لكلّ سامع.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) استشهاد على سنّته الجارية في الاُمم الماضية و قد كانوا أشدّ قوّة من مشركي مكّة فأخذهم الله بالعذاب لمّا مكروا و كذّبوا.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً ) تتميم لسابق البيان لمزيد إنذارهم و تخويفهم، و المحصّل ليتّقوا الله و

٥٩

ليؤمنوا به و لا يمكروا به و لا يكذّبوا فإنّ سنّة الله في ذلك هي العذاب كما يشهد به ما جرى في الاُمم السابقة من الإهلاك و التعذيب و قد كانوا أشدّ قوّة منهم و الله سبحانه لا يعجزه شي‏ء في السماوات و الأرض بقوّة أو مكر فإنّه عليم على الإطلاق لا يغفل و لا يجهل حتّى ينخدع بمكر أو حيلة قدير على الإطلاق لا يقاومه شي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) إلخ. المراد بالمؤاخذة المؤاخذة الدنيويّة كما يدلّ عليه قوله الآتي:( وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) إلخ. و المراد بالناس جميعهم فإنّ الآية مسبوقة بذكر مؤاخذة بعضهم و هم الماكرون المكذّبون بآيات الله، و المراد بما كسبوا المعاصي الّتي اكتسبوها بقرينة المؤاخذة الّتي هي العذاب و قد قال في نظيره الآية من سورة النحل:( وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ) النحل: 61.

و المراد بظهرها ظهر الأرض لأنّ الناس يعيشون عليه على أنّ الأرض تقدّم ذكرها في الآية السابقة.

و المراد بالدابّة كلّ ما يدبّ في الأرض من إنسان ذكر أو اُنثى أو كبير أو صغير و احتمل أن يكون المراد كلّ ما يدبّ في الأرض من حيوان و إهلاك غير الإنسان من أنواع الحيوان إنّما هو لكونها مخلوقة للإنسان كما قال تعالى:( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) البقرة: 29.

و قول بعضهم: ذلك لشؤم المعاصي و قد قال تعالى:( وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) مدفوع بأنّ شؤم المعصية لا يتعدّى العاصي إلى غيره و قد قال تعالى:( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فاطر: 18، و أمّا الآية أعني قوله:( وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) الأنفال: 25 فمدلولها على ما تقدّم من تفسيرها اختصاص الفتنة بالّذين ظلموا منهم خاصّة لا عمومها لهم و لغيرهم فراجع.

و قوله:( وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) و هو الموت أو القيامة و قوله:( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً ) أي فيجازي كلّا بما عمل فإنّه بصير بهم عليم بأعمالهم لأنّهم عباده و كيف يمكن أن يجهل الخالق خلقه و الربّ عمل عبده؟.

٦٠