الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 119977
تحميل: 4286


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119977 / تحميل: 4286
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أسّس بنيانه على الاجتماع صريحاً و لم يهمل أمر الاجتماع في شأن من شؤونه فانظر - إن أردت زيادة تبصّر في ذلك - إلى سعة الأعمال الإنسانيّة الّتي تعجز عن إحصائها الفكرة و إلى تشعّبها إلى أجناسها و أنواعها و أصنافها ثمّ انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الإلهيّة لها و إحاطتها بها و بسط أحكامها عليها ترى عجباً ثمّ انظر إلى تقليبه ذلك كلّه في قالب الاجتماع ترى أنّه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الآنفاذ.

ثمّ خذ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقّة الّتي يعتني بها القرآن و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى حتّى تعاين النسبة و تعرف المنزلة.

و أمّا ما لا يعتني به القرآن الكريم من الشرائع كأديان الوثنيّة و الصابئة و المانويّة و الثنويّة و غيرها فالأمر فيها أظهر و أجلى.

و أمّا الاُمم المتمدّنة و غيرها فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلّا أنّها كانت تتبع ما ورثته من أقدم عهود الإنسانيّة من استتباع الاجتماع بالاستخدام، و اجتماع الأفراد تحت جامع حكومة الاستبداد و السلطة الملوكيّة فكان الاجتماع القوميّ و الوطنيّ و الإقليميّ يعيش تحت راية الملك و الرئاسة، و يهتدي بهداية عوامل الوراثة و المكان و غيرهما من غير أن يعتني اُمّة من هذه الاُمم عناية مستقلّة بأمره، و تجعله مورداً للبحث و العمل، حتّى الاُمم المعظمة الّتي كانت لها سيادة الدنيا حينما شرقت شارقة الدين و أخذت في إشراقها و إنارتها أعني إمبراطوريّة الروم و الفرس فإنّها لم تكن إلّا قيصريّة و كسرويّة تجتمع اُممها تحت لواء الملك و السلطنة و يتبعها الاجتماع في رشده و نموّه و يمكث بمكثها.

نعم يوجد فيما ورّثوه أبحاث اجتماعيّة في مسفورات حكمائهم من أمثال سقراط و أفلاطون و أرسطو و غيرهم إلّا أنّها كانت أوراقاً و صحائف لا ترد مورد العمل، و مثلاً ذهنيّة لا تنزل مرحلة العين و الخارج، و التاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق ما ذكرناه.

فأوّل نداء قرع سمع النوع الإنسانيّ و دعي به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر الاجتماع بجعله موضوعاً مستقلّا خارجاً عن زاوية الإهمال و حكم التبعيّة هو الّذي نادى به صادع

١٠١

الإسلام عليه أفضل الصلاة و السلام، فدعا الناس بما نزل عليه من آيات ربّه إلى سعادة الحياة و طيب العيش مجتمعين، قال تعالى:( وَ أنّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تتّبعوا السُّبُلَ فَتفرّق بِكُمْ ) الأنعام: ١٥٣، و قال:( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جميعاً وَ لا تفرّقوا - إلى أن قال -وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرّق و الانشعاب)وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَ لا تَكُونُوا كَالّذينَ تفرّقوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ) آل عمران: ١٠٥، و قال:( إِنَّ الّذينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‏ءٍ ) الأنعام: ١٥٩، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية إلى أصل الاجتماع و الاتّحاد.

و قال تعالى:( إنّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) الحجرات: ١٠، و قال:( وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) الأنفال: ٤٦، و قال:( وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ ) المائدة: ٢، و قال:( وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) آل عمران: ١٠٤، إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الإسلاميّ على الاتّفاق و الاتّحاد في حيازة منافعها و مزإيّاها المعنويّة و المادّيّة و الدفاع عنه على ما سنوضحه بعض الإيضاح.

٤- اعتبار الإسلام رابطة الفرد و المجتمع: الصنع و الإيجاد يجعل أوّلاً أجزاءً ابتدائيّة لها آثار و خواصّ ثمّ يركّبها و يؤلّف بينها على ما فيها من جهات البينونة فيستفيد منها فوائد جديدة مضافة إلى ما للأجزاء من الفوائد المشهودة فالإنسان مثلاً له أجزاء و أبعاض و أعضاء و قوى لها فوائد متفرّقة مادّيّة و روحيّة ربّما ائتلفت فقويت و عظمت كثقل كلّ واحد من الأجزاء و ثقل المجموع و التمكّن و الانصراف من جهة إلى جهة و غير ذلك، و ربّما لم تأتلف و بقيت على حال التباين و التفرّق كالسمع و البصر و الذوق و الإرادة و الحركة إلّا أنّها جميعاً من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة الواحد الحادث الّذي هو الإنسان، و عند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كلّ واحد من أجزائه و هي فوائد جمّة من قبيل الفعل و الانفعال و الفوائد الروحيّة و المادّيّة، و من فوائده حصول كثرة عجيبة في تلك الفوائد في عين الوحدة فإنّ المادّة الإنسانيّة

١٠٢

كالنطفة مثلاً إذا استكملت نشأتها قدرت على إفراز شي‏ء من المادّة من نفسها و تربيتها إنساناً تامّاً آخر يفعل نظائر ما كان يفعله أصله و محتده من الأفعال المادّيّة و الروحيّة فأفراد الإنسان على كثرتها إنسان و هو واحد، و أفعالها كثيرة عدداً واحدة نوعاً و هي تجتمع و تأتلف بمنزلة الماء يقسّم إلى آنية فهي مياه كثيرة ذو نوع واحد و هي ذات خواصّ كثيرة نوعها واحد و كلّما جمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصّة و عظم الأثر.

و قد اعتبر الإسلام في تربية أفراد هذا النوع و هدايتها إلى سعادتها الحقيقيّة هذا المعنى الحقيقيّ فيها و لا مناص من اعتباره، قال تعالى:( وَ هُوَ الّذي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً ) الفرقان: ٥٤، و قال:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ ) الحجرات: ١٣، و قال:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥.

و هذه الرابطة الحقيقيّة بين الشخص و المجتمع لا محالة تؤدّي إلى كينونة اُخرى في المجتمع حسب ما يمدّه الأشخاص من وجودهم و قواهم و خواصّهم و آثارهم فيتكوّن في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود و خواصّ الوجود و هو ظاهر مشهود، و لذلك اعتبر القرآن للاُمّة وجوداً و أجلاً و كتاباً و شعوراً و فهماً و عملاً و طاعةً و معصيةً فقال:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتأخّرونَ ساعَةً وَ لا يَسْتقدّمونَ ) الأعراف: ٣٤، و قال:( كلّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) الجاثية: ٢٨، و قال:( زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) الأنعام: ١٠٨، و قال:( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ ) المائدة: ٦٦، و قال:( أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ الله ) آل عمران: ١١٣، و قال:( وَ هَمَّتْ كلّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحقّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) غافر: ٥، و قال:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) يونس: ٤٧.

و من هنا ما نرى أنّ القرآن يعتني بتواريخ الاُمم كاعتنائه بقصص الأشخاص بل أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلّا ضبط أحوال المشاهير من الملوك و العظماء، و لم يشتغل المورّخون بتواريخ الاُمم و المجتمعات إلّا بعد نزول القرآن فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم كالمسعوديّ و ابن خلدون حتّى ظهر التحوّل الأخير في التاريخ

١٠٣

النقليّ بتبديل الأشخاص اُمماً، و أوّل من سنّه على ما يقال:( اُغوست كنت الفرنسيّ المتوفّى سنة ١٨٥٧ ميلاديّة) .

و بالجملة لازم ذلك على ما مرّت الإشارة إليه تكوّن قوىّ و خواصّ اجتماعيّة قويّة تقهر القوى و الخواصّ الفرديّة عند التعارض و التضادّ، على أنّ الحسّ و التجربة يشهدان بذلك في القوى و الخواصّ الفاعلة و المنفعلة معاً، فهمّة الجماعة و إرادتها في أمر كما في موارد الغوغاءات و في الهجمات الاجتماعيّة لا تقوم لها إرادة معارضة و لا مضادّة من واحد من أشخاصها و أجزائها، فلا مفرّ للجزء من أن يتّبع كلّه و يجري على ما يجري عليه حتّى أنّه يسلب الشعور و الفكر من أفراده و أجزائه، و كذا الخوف العامّ و الدهشة العامّة كما في موارد الانهزام و انسلاب الأمن و الزلزلة و القحط و الوباء أو ما هو دونها كالرسومات المتعارفة و الأزياء القوميّة و نحوهما تضطرّ الفرد على الاتّباع و تسلب عنه قوّة الإدراك و الفكر.

و هذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع ذلك الاهتمام الّذي لا نجد و لن نجد ما يماثله في واحد من الأديان الاُخر و لا في سنن الملل المتمدّنة (و لعلك لا تكاد تصدّق ذلك)، فإنّ تربية الأخلاق و الغرائز في الفرد و هو الأصل في وجود المجتمع لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق و الغرائز المعارضة و المضادّة القويّة القاهرة في المجتمع إلّا يسيراً لا قدر له عند القياس و التقدير.

فوضع أهمّ أحكامه و شرائعه كالحجّ و الصلاة و الجهاد و الإنفاق و بالجملة التقوي الدينيّ على أساس الاجتماع، و حافظ على ذلك مضافاً إلى قوى الحكومة الإسلاميّة الحافظة لشعائر الدين العامّة و حدودها، و مضافاً إلى فريضة الدعوة إلى الخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر العامّة لجميع الاُمّة بجعل غرض المجتمع الإسلاميّ - و كلّ مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك - هي السعادة الحقيقيّة و القرب و المنزلة عندالله، و هذا رقيب باطنيّ لا يخفى عليه ما في سريرة الإنسان و سرّه - فضلاً عمّا في ظاهره - و إن خفي على طائفة الدعاة و جماعة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هذا هو الّذي ذكرنا أنّ الإسلام تفوق سنّة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن و الطرائق.

١٠٤

٥- هل تقبل سنة الإسلام الاجتماعيّة الإجراء و البقاء؟ و لعلّك تقول لو كان ما ذكر من كون نظر الإسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقى بناءً و أتقن أساساً حتّى من المجتمعات الّتي كوّنتها الملل المتمدّنة المترقّية حقّاً فما باله لم يقبل الإجراء إلّا برهة يسيرة ثمّ لم يملك نفسه دون أن تبدّل قيصريّة و كسرويّة؟ و تحوّل إمبراطوريّة أفجع و أشنع أعمالاً ممّا كان قبله بخلاف المدنيّة الغربيّة الّتي تستديم البقاء.

و هذا هو الدليل على كون مدنيّتهم أرقى و سنّتهم في الاجتماع أتقن و أشدّ استحكاماً، و قد وضعوا سنّتهم الاجتماعيّة و قوانينهم الدائرة على أساس إرادة الاُمّة و اقتراح الطباع و الميول ثمّ اعتبروا فيها إرادة الأكثر و اقتراحهم، لاستحالة اجتماع الكلّ بحسب العادة إرادةً، و غلبة الأكثر سنّة جارية في الطبيعة مشهودة فإنّا نجد كلّاً من العلل المادّيّة و الأسباب الطبيعيّة مؤثّرة على الأكثر لا على الدوام، و كذا العوامل المختلفة المتنازعة إنّما يؤثّر منها الأكثر دون الكلّ و دون الأقلّ فمن الحريّ أن يبنى هيكل الاجتماع بحسب الغرض و بحسب السنن و القوانين الجارية فيه على إرادة الأكثر و أمّا فرضيّة الدين فليست في الدنيا الحاضرة إلّا أمنيّة لا تتجاوز مرحلة الفرض و مثالاً عقليّاً غير جائز النيل.

و قد ضمنت المدنيّة الحاضرة فيما ظهرت فيه من الممالك قوّة المجتمع و سعادتها و تهذّب الأفراد و طهارتهم من الرذائل و هي الاُمور الّتي لا يرتضيها المجتمع كالكذب و الخيانة و الظلم و الجفاء و الجفاف و نحو ذلك.

و هذا الّذي أوردناه محصّل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا معاشر الشرقيّين و خاصّة المحصّلين من فضلائنا المتفكّرين في المباحث الاجتماعيّة و النفسيّة غير أنّهم وردوا هذا البحث من غير مورده فاختلط عليهم حقّ النظر، و لتوضيح ذلك نقول:

أمّا قولهم: إنّ السنّة الاجتماعيّة الإسلاميّة غير قابلة الجريان في الدنيا على خلاف سنن المدنيّة الحاضرة في جوّ الشرائط الموجودة، و معناه أنّ الأوضاع الحاضرة في الدنيا لا تلائم الأحكام المشرّعة في الإسلام فهو مسلّم لكنّه لا ينتج شيئاً فإنّ جميع السنن الدائرة في الجامعة الإنسانيّة إنّما حدثت بعد ما لم تكن و ظهرت في حين

١٠٥

لم تكن عامّة الأوضاع و الشرائط الموجودة إلّا مناقضة له طاردة إيّاه، فانتهضت و نازعت السنن السابقة المستمرّة المتعرّقة و ربّما اضطهدت و انهزمت في أوّل نهضتها ثمّ عادت ثانياً و ثالثاً حتّى غلبت و تمكّنت و ملكت سيطرتها و ربّما بادت و انقرضت إذ لم يساعدها العوامل و الشرائط بعد، و التاريخ يشهد(١) بذلك في جميع السنن الدينيّة و الدنيويّة حتّى في مثل الديمقراطيّة و الاشتراك، و إلى مثله يشير قوله تعالى:( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) آل عمران: ١٣٧، يشير إلى أنّ السنّة الّتي تصاحب تكذيب آيات الله لا تنتهي إلى عاقبة حسنة محمودة.

فمجرّد عدم انطباق سنّة من السنن على الوضع الإنسانيّ الحاضر ليس يكشف عن بطلانه و فساده بل هو من جملة السنن الطبيعيّة الجارية في العالم لتتميم كينونة الحوادث الجديدة إثر الفعل و الانفعال و تنازع العوامل المختلفة.

و الإسلام كسائر السنن من جهة النظر الطبيعيّ و الاجتماعيّ و ليس بمستثنى من هذه الكلّيّة، فحاله من حيث التقدّم و التأخّر و الاستظهار بالعوامل و الشرائط حال سائر السنن و ليس حال الإسلام اليوم - و قد تمكّن في نفوس ما يزيد على أربعمائة مليون من أفراد البشر و نشب في قلوبهم - بأضعف من حاله في الدنيا زمان دعوة نوح و إبراهيم و محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد قامت دعوة كلّ منهم بنفس واحدة و لم تكن تعرف الدّنيا وقتئذ غير الفساد ثمّ انبسطت و تعرّقت و عاشت و اتّصل بعضها ببعض فلم ينقطع حتّى اليوم.

و قد قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة و لم يكن معه من يستظهر به يومئذ إلّا رجل و امرأة ثمّ لم يزل يلحق بهم واحد بعد واحد و اليوم يوم العسرة كلّ العسرة حتّى أتاهم

____________________

(١) و من أوضح الشواهد أن السنة الديمقراطيّة بعد الحرب العالميّة الأولى (و هي اليوم السنّة العالميّة المرضيّة الوحيدة) تحوّلت في روسيا إلى الشيوعيّة و الحكومة الاشتراكيّة ثمّ لحق لها بعد الحرب العالميّة الثانية ممالك أوربا الشرقيّة و مملكة الصين فخسرت بذلك صفقة الديمقراطيّة فيما يقرب من نصف المجتمع البشري. و قد أعلنت المجتمعات الشيوعيّة قبل سنة تقريباً أن قائدها الفقيد( ستالين) كان قد حرف مدى حكومته و هو ثلاثون سنة تقريباً بعد حكومة لينين الحكومة الاشتراكيّة إلى الحكومة الفرديّة الاستبداديّة و حتّى اليوم لا تزال تؤمن به طائفة بعد الكفر، و ترتد عنها طائفة بعد الإيمان، و هي تطوى و تبسط، و هناك نماذج و أمثلة اُخرى كثيرة في التاريخ.

١٠٦

نصرالله فتشكّلوا مجتمعاً صالحاً ذا أفراد يغلب عليهم الصلاح و التقوى و مكثوا برهة على الصلاح الاجتماعيّ حتّى كان من أمر الفتن بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان.

و هذا الاُنموذج اليسير على قصر عمره و ضيق نطاقه لم يلبث حتّى انبسط في أقلّ‏ من نصف قرن على مشارق الأرض و مغاربها، و حوّل التاريخ تحويلاً جوهريّاً يشاهد آثاره الهامّة إلى يومنا و ستدوم ثمّ تدوم.

و لا يستطيع أن يستنكف الأبحاث الاجتماعيّة و النفسيّة في التاريخ النظريّ عن الاعتراف بأنّ المنشأ القريب و العامل التامّ للتحوّل المعاصر المشهود في الدنيا هو ظهور السنّة الإسلاميّة و طلوعها و لم يهمل جلّ الباحثين من اُوربه استيفاء البحث عن تأثيرها في جامعة الإنسان إلّا لعصبيّة دينيّة أو علل سياسيّة و كيف يسع لباحث خبير - لو أنصف النظر - أن يسمّي النهضة المدنيّة الحديثة نهضة مسيحيّة و يعدّ المسيحعليه‌السلام قائدها و حامل لوائها و المسيح يصرّح(١) بأنّه إنّما يهتمّ بأمر الروح و لا يشتغل بأمر الجسم و لا يتعرّض لشأن الدولة و السياسة؟ و هو ذا الإسلام يدعو إلى الاجتماع و التألّف و يتصرّف في جميع شؤون المجتمع الإنسانيّ و أفراده من غير استثناء فهل هذا الصفح و الإغماض منهم إلّا لإطفاء نور الإسلام (وَ يَأْبَى الله إلّا أَنْ يتمّ نُورَهُ) و إخماد ناره عن القلوب بغياً و عدواً حتّى يعود جنسيّة لا أثر لها إلّا أثر الأنسال المنشعبة.

و بالجملة قد أثبت الإسلام صلوحه لهداية الناس إلى سعادتهم و طيب حياتهم، و ما هذا شأنه لا يسمّى فرضيّة غير قابلة الانطباق على الحياة الإنسانيّة، و لا مأيوساً من ولاية أمر الدنيا يوماً (مع كون مقصده سعادة الإنسان الحقيقيّة) و قد تقدّم في تفسير قوله:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) البقرة: ٢١٣، أنّ البحث العميق في أحوال الموجودات الكونيّة يؤدّي إلى أنّ النوع الإنسانيّ سيبلغ غايته و ينال بغيته و هي كمال ظهور الإسلام بحقيقته في الدنيا و تولّيه التامّ أمر المجتمع الإنسانيّ، و قد وعده الله تعالى طبق هذه النظريّة في كتابه العزيز قال:( فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذلّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعزّة عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) المائدة: ٥٤، و قال:( وَعَدَ الله الّذينَ

____________________

(١) راجع الجزء الثالث في تفسير آية ٧٩ - ٨٠ من سورة آل عمران.

١٠٧

آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتخلّفنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتخلّف الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شيئاً ) الآية: النور: ٥٥، و قال:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء: ١٠٥، إلى غير ذلك من الآيات.

و هنا جهة اُخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم و هي أنّ الاجتماع الإسلاميّ شعاره الوحيد هو اتّباع الحقّ في النظر و العمل، و الاجتماع المدنيّ الحاضر شعاره اتّباع ما يراه و يريده الأكثر، و هذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكوّن فغاية الاجتماع الإسلاميّ السعادة الحقيقيّة العقليّة بمعنى أن يأخذ الإنسان بالاعتدال في مقتضيات قواه فيعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله من طريق العبوديّة بل يكون مقدّمة توصل إليها و فيه سعادة الإنسان بسعادة جميع قواه، و هي الراحة الكبرى (و إن كنّا لا ندركها اليوم حقّ الإدراك لاختلال التربية الإسلاميّة فينا) و لذلك وضع الإسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتّباع الحقّ، و شدّد في المنع عمّا يفسد العقل السليم و ألقى ضمان إجراء الجميع من الأعمال و الأخلاق و المعارف الأصليّة إلى عهدة المجتمع مضافاً إلى ما تحتفظ عليه الحكومة و الولاية الإسلاميّة من إجراء السياسات و الحدود و غيرها، و هذا على أيّ حال لا يوافق طباع العامّة من الناس و يدفعه هذا الانغمار العجيب في الأهواء و الأمانيّ الّذي نشاهده من كافّة المترفين و المعدمين و يسلب حرّيّتهم في الاستلذاذ و التلهّيّ و السبعيّة و الافتراس إلّا بعد مجاهدة شديدة في نشر الدعوة و بسط التربية على حدّ سائر الاُمور الراقية الّتي يحتاج الإنسان في التلبّس بها إلى همّة قاطعة و تدرّب كاف و تحفّظ على ذلك مستدام.

و أمّا غاية الاجتماع المدنيّ الحاضر فهي التمتّع من المادّة و من الواضح أنّ هذه تستتبع حياة إحساسيّة تتبع ما يميل إليه الطبع سواء وافق ما هو الحقّ عند العقل أو لم يوافق بل إنّما يتّبع العقل فيما لا يخالف غايته و غرضه.

و لذلك كانت القوانين تتبع في وضعها و إجرائها ما يستدعيه هوى أكثريّة المجتمع

١٠٨

و ميول طباعهم، و ينحصر ضمان الإجراء في موادّ القانون المتعلّقة بالأعمال، و أمّا الأخلاق و المعارف الأصليّة فلا ضامن لإجرائها بل الناس أحرار في التلبّس بها و تبعيّتها و عدمه إلّا أن تزاحم القانون في مسيره فتمنع حينئذ.

و لازم ذلك أن يعتاد المجتمع الّذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة و الغضب فيستحسن كثيراً ممّا كان يستقبحه الدين، و أن يسترسل باللّعب بفضائل الأخلاق و المعارف العالية مستظهراً بالحرّيّة القانونيّة.

و لازم هذا اللّازم أن يتحوّل نوع الفكرة عن المجرى العقليّ إلى المجرى الإحساسيّ العاطفيّ فربّما كان الفجور و الفسق في مجرى العقل تقوىّ في مجرى الميول و الإحساسات و سمّي فتوّة و بشراً و حسن خلق كمعظم ما يجري في اُوربه بين الشبّان، و بين الرجال و النساء المحصنات أو الأبكار، و بين النساء و الكلاب، و بين الرجال و أولادهم و محارمهم، و ما يجري في الاحتفالات و مجالس الرقص و غير ذلك ممّا ينقبض عن ذكره لسان المتأدّب بأدب الدين.

و ربّما كان عاديّات الطريق الدينيّ غرائب و عجائب مضحكة عندهم و بالعكس كلّ ذلك لاختلاف نوع الفكرة و الإدراك باختلاف الطريق و لا يستفاد في هذه السنن الإحساسيّة من التعقّل - كما عرفت - إلّا بمقدار ما يسوّى به الطريق إلى التمتّع و التلذّذ فهو الغاية الوحيدة الّتي لا يعارضها شي‏ء و لا يمنع منها شي‏ء إلّا في صورة المعارضة بمثلها حتّى إنّك تجد بين مشروعات القوانين الدائرة أمثال( الانتحار) و( دئل) و غيرهما، فللنفس ما تريده و تهويه إلّا أن يزاحم ما يريده و يهواه المجتمع!.

إذا تأمّلت هذا الاختلاف تبيّن لك وجه أوفقيّة سنّة المجتمع الغربيّ لمذاق الجامعة البشريّة دون سنّة المجتمع الدينيّ غير أنّه يجب أن يتذكّر أنّ سنّة المدنيّة الغربيّة وحدها ليست هي الموافقة لطباع الناس حتّى تترجّح بذلك وحدها بل جميع السنن المعمولة الدائرة في الدنيا بين أهلها من أقدم أعصار الإنسانيّة إلى عصرنا هذا من سنن البداوة و الحضارة تشترك في أنّ الناس يرجّحونها على الدين الداعي إلى الحقّ في أوّل ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنيّة المادّيّة.

١٠٩

و لو تأمّلت حقّ التأمّل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلّا مؤلّفة من سنن الوثنيّة الاُولى غير أنّها تحوّلت من حال الفرديّة إلى حال الاجتماع، و من مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقّة الفنّيّة.

و الّذي ذكرناه من بناء السنّة الإسلاميّة على اتّباع الحقّ دون موافقة الطبع من أوضح الواضحات في بيانات القرآن قال تعالى:( هُوَ الّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ ) التوبة: ٣٣، و قال تعالى:( وَ الله يَقْضِي بِالْحَقِّ ) المؤمن: ٢٠، و قال في وصف المؤمنين:( وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ) العصر: ٣، و قال:( لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) الزخرف: ٧٨، فاعترف بأنّ الحقّ لا يوافق طباع الأكثريّن و أهواءهم، ثمّ ردّ لزوم موافقة أهواء الأكثريّة بأنّه يؤول إلى الفساد فقال:( بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ، وَ لَوِ اتَّبَعَ الحقّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ‏ ) المؤمنون: ٧١، و لقد صدّق جريان الحوادث و تراكم الفساد يوماً فيوماً ما بيّنه تعالى في هذه الآية. و قال تعالى:( فَما ذا بَعْدَ الحقّ إلّا الضَّلالُ فَأَنَّى تصرّفونَ ) يونس: ٣٢، و الآيات في هذا المعنى و ما يقرب منه كثيرة جدّاً و إن شئت زيادة تبصّر فيه فراجع سورة يونس فقد كرّر فيه ذكر الحقّ بضعاً و عشرين مرّة.

و أمّا قولهم: إنّ اتّباع الأكثر سنّة جارية في الطبيعة، فلا ريب أنّ الطبيعة تتّبع الأكثر في آثارها إلّا أنّها ليست بحيث تبطل أو تعارض وجوب اتّباع الحقّ فإنّها نفسها بعض مصاديق الحقّ فكيف تبطل نفسها.

توضيح ذلك يحتاج إلى بيان اُمور:أحدها: أنّ الاُمور الخارجيّة الّتي هي اُصول عقائد الإنسان العلميّة و العمليّة تتبع في تكوّنها و أقسام تحوّلها نظام العلّيّة و المعلوليّة و هو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء أطبق على ذلك المحصّلون من أهل العلم و النظر و شهد به القرآن على ما مرّ(١) ، فالجريان الخارجيّ لا يتخلّف عن الدوام و الثبات حتّى أنّ الحوادث الأكثريّة الوقوع الّتي هي قياسيّة هي في أنّها أكثريّة دائمة ثابتة، مثلاً النار الّتي تفعل السخونة غالباً بالقياس إلى جميع مواردها( سخونتها الغالبيّة) أثر دائم لها و هكذا، و هذا هو الحقّ.

____________________

(١) في الكلام على الإعجاز في الجزء الأوّل من الكتاب‏

١١٠

و الثاني: أنّ الإنسان بحسب الفطرة يتّبع ما وجده أمراً واقعيّاً خارجيّاً بنحو فهو يتّبع الحقّ بحسب الفطرة حتّى أنّ من ينكر وجود العلم الجازم إذا اُلقي إليه قول لا يجد من نفسه التردّد فيه خضع له بالقبول.

و الثالث: أنّ الحقّ كما عرفت هو الأمر الخارجيّ الّذي يخضع له الإنسان في اعتقاده أو يتّبعه في عمله، و أمّا نظر الإنسان و إدراكه فإنّما هو وسيلة يتوسّل بها إليه كالمرآة بالنسبة إلى المرئيّ.

إذا عرفت هذه الاُمور تبيّن لك أنّ الحقّيّة و هي دوام الوقوع أو أكثريّة الوقوع‏ في الطبيعة الراجعة إلى الدوام و الثبات أيضاً إنّما هي صفة الخارج الواقع وقوعاً دائميّاً أو أكثريّاً دون العلم و الإدراك، و بعبارة اُخرى هي صفة الأمر المعلوم لا صفة العلم، فالوقوع الدائميّ و الأكثريّ أيضاً بوجه من الحقّ، و أمّا آراء الأكثرين و أنظارهم و اعتقاداتهم في مقابل الأقلّين فليست بحقّ دائماً بل ربّما كانت حقّاً إذا طابقت الواقع و ربّما لم تكن إذا لم تطابق و حينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الإنسان و لا أنّه يخضع لها لو تنبّه للواقع فإنّك إذا أيقنت بأمر ثمّ خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم و إن اتّبعتهم فيه ظاهراً فإنّما تتّبعهم لخوف أو حياء أو عامل آخر لا لأنّه حقّ واجب الاتّباع في نفسه، و من أحسن البيان في أنّ رأي الأكثر و نظرهم لا يجب أن يكون حقّاً واجب الاتّباع قوله تعالى:( بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) المؤمنون: ٧٠، فلو كان كلّ ما يراه الأكثر حقّاً لم يمكن أن يكرهوا الحقّ و يعارضوه.

و بهذا البيان يظهر فساد بناء اتّباع الأكثريّة على سنّة الطبيعة فإنّ هذه السنّة جارية في الخارج الّذي يتعلّق به العلم دون نفس العلم و الفكر و الّذي يتّبعه الإنسان من هذه السنّة في إرادته و حركاته إنّما هو ما في الخارج من أكثريّة الوقوع لا ما اعتقده الأكثرون أعني أنّه يبني أفعاله و أعماله على الصلاح الأكثريّ و عليه جرى القرآن في حكم تشريعاته و مصالحها، قال تعالى:( ما يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) المائدة: ٦، و قال تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ

١١١

الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة: ١٨٣، إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبيّة الوقوع للأحكام المشرّعة.

و أمّا قولهم: إنّ المدنيّة الحاضرة سمحت للممالك المترقّية سعادة المجتمع و هذّب الأفراد طهّرهم عن الرذائل الّتي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط و الاشتباه.

و كأنّ مرادهم من السعادة الاجتماعيّة تفوّق المجتمع في عدّتها و قوّتها و تعاليها في استفادتها من المنابع المادّيّة و قد عرفت كراراً أنّ الإسلام لا يعدّ ذلك سعادة و البحث البرهانيّ أيضاً يؤيّده بل السعادة الإنسانيّة أمر مؤلّف من سعادة الروح و البدن و هي تنعّم الإنسان من النعم المادّيّة و تحلّيه بفضائل الأخلاق و المعارف الحقّة الإلهيّة و هي الّتي تضمّن سعادته في الحياة الدّنيا و الحياة الاُخرى و أمّا الانغمار في لذائذ المادّة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلّا شقاء.

و أمّا استعجابهم بما يرون من الصدق و الصفاء و الأمانة و البشر و غير ذلك فيما بين أفراد الملل المترقّية فقد اختلط عليهم حقيقة الأمر فيه، و ذلك أنّ جلّ المتفكّرين من باحثينا معاشر الشرقيّين لا يقدرون على التفكّر الاجتماعيّ و إنّما يتفكّرون تفكّراً فرديّاً فالّذي يراه الواحد منّا نصب العين أنّه موجود إنسانيّ مستقلّ عن كلّ الأشياء غير مرتبط بها ارتباطاً تبطل استقلاله الوجوديّ (مع أنّ الحقّ خلافه) ثمّ لا يتفكّر في حياته إلّا لجلب المنافع إلى نفسه و دفع المضارّ عن نفسه فلا يشتغل إلّا بشأن نفسه و هو التفكّر الفرديّ، و يستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال.

و هذا القضاء إن صحّ فإنّما يصحّ فيمن يجري في تفكّره هذا المجرى و أمّا من يتفكّر تفكّراً اجتماعيّاً ليس نصب عينيه إلّا أنّه جزء غير منفكّ و لا مستقلّ عن المجتمع و أنّ منافعه جزء من منافع مجتمعة يرى خير المجتمع خير نفسه و شرّه شرّ نفسه و كلّ وصف و حال له وصفاً و حالاً لنفسه فهذا الإنسان يتفكّر نحواً آخر من التفكّر و لا يشتغل في الارتباط بغيره إلّا بمن هو خارج عن مجتمعة و أمّا اشتغاله بأجزاء مجتمعة فلا يهتمّ به و لا يقدّره شيئاً.

١١٢

و استوضح ذلك بما نورده من المثال: الإنسان مجموع مؤلّف من أعضاء و قوى عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقيّة نسمّيها الإنسانيّة يوجب ذلك استهلاك الجميع ذاتاً و فعلاً تحت استقلاله فالعين و الاُذن و اليد و الرجل تبصر و تسمع و تبطش و تمشي للإنسان، و إنّما يلتذّ كلّ بفعله في ضمن التذاذ الإنسان به، و كلّ واحدة من هذه الأعضاء و القوى همّها أن ترتبط بالخارج الّذي يريد الإنسان الواحد الارتباط به بخير أو شرّ فالعين أو الاُذن أو اليد أو الرجل إنّما تريد الإحسان أو الإساءة إلى من يريد الإنسان الإحسان أو الإساءة إليه من النّاس مثلاً، و أمّا معاملة بعضها مع بعض و الجميع تحت لواء الإنسانيّة الواحدة فقلّما يتّفق أن يسي‏ء بعضها إلى بعض أو يتضرّر بعضها ببعض.

فهذا حال أجزاء الإنسان و هي تسير سيراً واحداً اجتماعيّاً، و في حكمه حال أفراد مجتمع إنسانيّ إذا تفكّروا تفكّراً اجتماعيّاً فصلاحهم و تقواهم أو فسادهم و إجرامهم و إحسانهم و إساءتهم إنّما هي ما لمجتمعهم من هذه الأوصاف إذا اُخذ ذا شخصيّة واحدة.

و هكذا صنع القرآن في قضائه على الاُمم و الأقوام الّتي ألجأتهم التعصّبات المذهبيّة أو القوميّة أن يتفكّروا تفكّراً اجتماعيّاً كاليهود و الأعراب و عدّة من الاُمم السالفة فتراه يؤاخذ اللّاحقين بذنوب السابقين، و يعاتب الحاضرين و يوبّخهم بأعمال الغائبين و الماضين كلّ ذلك لأنّه القضاء الحقّ فيمن يتفكّر فكراً اجتماعيّاً، و في القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.

نعم مقتضى الأخذ بالنصفة أن لا يضطهد حقّ الصالحين من الأفراد بذلك إن وجدوا في مجتمع واحد فإنّهم و إن عاشوا بينهم و اختلطوا بهم إلّا أنّ قلوبهم غير متقذّرة بالفكر الفاسد و المرض المتبطّن الفاشي في مثل هذا المجتمع، و أشخاصهم كالأجزاء الزائدة في هيكله و بنيته، و هكذا فعل القرآن في آيات العتاب العامّ فاستثنى الصلحاء و الأبرار.

و يتبيّن ممّا ذكرنا أنّ القضاء بالصلاح و الطلاح على أفراد المجتمعات المتمدّنة

١١٣

الراقية على خلاف أفراد الاُمم الاُخرى لا ينبغي أن يبنى على ما يظهر من معاشرتهم و مخالطتهم فيما بينهم و عيشتهم الداخليّة بل بالبناء على شخصيّتهم الاجتماعيّة البارزة في مماسّتها و مصاكّتها سائر الاُمم الضعيفة و مخالطتها الحيويّة سائر الشخصيّات الاجتماعيّة في العالم.

فهذه هي الّتي يجب أن تراعى و تعتبر في القضاء بصلاح المجتمع و طلاحه و سعادته و شقائه و على هذا المجرى يجب أن يجري باحثونا ثمّ إن شاؤوا فليستعجبوا و إن شاؤوا فليتعجّبوا.

و لعمري لو طالع المطالع المتأمّل تاريخ حياتهم الاجتماعيّة من لدن النهضة الحديثة الاُوربيّة و تعمّق فيما عاملوا به غيرهم من الاُمم و الأجيال المسكينة الضعيفة لم يلبث دون أن يرى أنّ هذه المجتمعات الّتي يظهرون أنّهم امتلؤوا رأفة و نصحاً للبشر يفدون بالدماء و الأموال في سبيل الخدمة لهذا النوع و إعطاء الحرّيّة و الأخذ بيد المظلوم المهضوم حقّاً و إلغاء سنّة الاسترقاق و الأسر يرى أنّهم لا همّ لهم إلّا استعباد الاُمم الضعيفة مساكين الأرض ما وجدوا إليه سبيلاً بما وجدوا إليه من سبيل فيوماً بالقهر، و يوماً بالاستعمار، و يوماً بالاستملاك، و يوماً بالقيمومة، و يوماً باسم حفظ المنافع المشتركة، و يوماً باسم الإعانة على حفظ الاستقلال، و يوماً باسم حفظ الصلح و دفع ما يهدّده، و يوماً باسم الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة المحرومة و يوماً و يوماً .

و المجتمعات الّتي هذا شأنها لا ترتضي الفطرة الإنسانيّة السليمة أن تصفها بالصلاح أو تذعن لها بالسعادة و إن أغمضت النظر عمّا يشخّصه قضاء الدين و حكم الوحي و النبوّة من معنى السعادة.

و كيف ترضى الطبيعة الإنسانيّة أن تجهّز أفرادها بما تجهّزها على السواء ثمّ تناقض نفسها فتعطي بعضاً منهم عهداً أن يتملّكوا الآخرين تملّكاً يبيح لهم دماءهم و أعراضهم و أموالهم، و يسوّي لهم الطريق إلى اللّعب بمجامع حياتهم و وجودهم و التصرّف في إدراكهم و إرادتهم بما لم يلقه و لا قاساه إنسان القرون الاُولى، و المعوّل في جميع ما نذكره تواريخ حياة هؤلاء الاُمم و ما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم فإن سمّي ما عندهم سعادة و صلاحاً فلتكن بمعنى التحكّم و إطلاق المشيّة.

١١٤

٦- بماذا يتكوّن و يعيش الاجتماع الإسلاميّ‏؟ لا ريب أنّ الاجتماع أيّ اجتماع كان إنّما يتحقّق و يحصل بوجود غاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتّتة و هو الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه الّتي تتّحد بها نوع اتّحاد، و هذه الغاية و الغرض في نوع الاجتماعات المتكوّنة غير الدينيّة إنّما هي غاية الحياة الدنيويّة للإنسان لكن على نحو الاشتراك بين الأفراد لا على نحو الانفراد و هي التمتّع من مزايا الحياة المادّيّة على نحو الاجتماع.

و الفرق بين التمتّع الاجتماعيّ و الانفرادي من حيث الخاصّية أنّ الإنسان لو استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كلّ واحد من تمتّعاته حيث لا معارض له و لا رقيب إلّا ما قيدّ به بعض جهازاته بعضاً فإنّه لا يقدر أن يستنشق كلّ الهواء فإنّ الرئة لا تسعه و إن اشتهاه، و لا يسعه أن يأكل من الموادّ الغذائيّة لا إلى حدّ فإنّ جهاز الهاضمة لا يتحمّله فهذا حاله بقياس بعض قواه و أعضائه إلى بعض، و أمّا بالنسبة إلى إنسان آخر مثله فإذ كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادّة على الفرض فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله، و لا تحديد فعل من أفعاله و عمل من أعماله.

و هذا بخلاف الإنسان الواقع في ظرف الاجتماع و ساحته فإنّه لو كان مطلق العنان في إرادته و أعماله لأدّى ذلك إلى التمانع و التزاحم الّذي فيه فساد العيش و هلاك النوع و قد بيّنا ذلك في مباحث النبوّة السابقة أوفى بيان.

و هذا هو السبب الوحيد الّذي يدعو إلى حكومة القانون الجاري في المجتمع غير أنّ المجتمعات الهمجيّة لا تتنبّه لوضعها عن فكر و رويّة و إنّما يكوّن الآداب و السنن فيها المشاجرات و المنازعات المتوفّرة بين أفرادها فتضطرّ الجميع إلى رعاية اُمور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ، و لمّا لم تكن مبنيّة على أساس مستحكم كانت في معرض النقض و الإبطال تتغيّر سريعاً و تنقرض، و لكن المجتمعات المتمدّنة تبنيه على أساس قويم بحسب درجاتهم في المدنيّة و الحضارة فيرفعون به التضادّ و التمانع الواقع بين الإرادات و أعمال المجتمع بتعدّيلها بوضع حدود و قيود لها ثمّ ركز القدرة و القوّة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون.

١١٥

و من هنا يظهرأوّلاً: أنّ القانون حقيقة هو ما تعدّل به إرادات الناس و أعمالهم برفع التزاحم و التمانع من بينهما بتحديدها.

و ثانياً: أنّ أفراد المجتمع الّذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى تجهّز الإنسان بالشعور و الإرادة بعد التعديل، و لذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرّض لأمر المعارف الإلهيّة و الأخلاق، و صار هذان المهمّان يتصوّران بصورة يصوّرهما بها القانون فيتصالحان و يتوافقان معه على ما هو حكم التبعيّة فيعودان عاجلاً أو آجلاً رسوماً ظاهريّة فاقدة للصفاء المعنويّ، و لذلك السبب أيضاً ما نشاهده من لعب السياسة بالدين فيوماً تقضي عليه و تدحضه، و يوماً تميل إليه فتبالغ في إعلاء كلمته، و يوماً تطوي عنه كشحاً فتخلّيه و شأنه.

و ثالثاً: أنّ هذه الطريقة لا تخلو عن نقص فإنّ القانون و إن حمل ضمان إجرائه على القدرة الّتي ركزها في فرد أو أفراد لكن لا ضمان على إجرائه بالآخرة بمعنى أنّ منبع القدرة و السلطان لو مال عن الحقّ و حوّل سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على النوع و انقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوّله إلى مجراه العدل، و على هذا القول شواهد كثيرة ممّا شاهدناه في زماننا هذا و هو زمان الثقافة و المدنيّة فضلاً عمّا لا يحصى من الشواهد التاريخيّة، و أضف إلى هذا النقص نقصاً آخر و هو خفاء نقض القانون على القوّة المجرية أحياناً أو خروجه عن حومة قدرته. (و لنرجع إلى أوّل الكلام).

و بالجملة الاجتماعات المدنيّة توحّدها الغاية الواحدة الّتي هي التمتّع من مزايا الحياة الدنيا و هي السعادة عندهم، لكنّ الإسلام لمّا كان يرى أنّ الحياة الإنسانيّة أوسع مداراً من الحياة الدنيا المادّيّة بل في مدار حياته الحياة الاُخرويّة الّتي هي الحياة، و يرى أنّ هذه الحياة لا تنفع فيها إلّا المعارف الإلهيّة الّتي تنحلّ بجملتها إلى التوحيد، و يرى أنّ هذه المعارف لا تنحفظ إلّا بمكارم الأخلاق و طهارة النفس من كلّ رذيلة، و يرى أنّ هذه الأخلاق لا تتمّ و لا تكمل إلّا بحياة اجتماعيّة صالحة معتمدة على عبادة الله سبحانه و الخضوع لما تقتضيه ربوبيّته و معاملة الناس على أساس العدل الاجتماعيّ أخذ (أعني الإسلام) الغاية الّتي يتكوّن عليها المجتمع البشريّ و يتوحّد بها دين

١١٦

التوحيد ثمّ وضع القانون الّذي وضعه على أساس التوحيد، و لم يكتف فيه على تعديل الإرادات و الأفعال فقط بل تمّمه بالعباديّات و أضاف إليها المعارف الحقّة و الأخلاق الفاضلة.

ثمّ جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الإسلاميّة أوّلاً، ثمّ في عهدة المجتمع ثانياً، و ذلك بالتربية الصالحة علماً و عملاً و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و من أهمّ ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطاً يؤدّي إلى الوحدة التامّة بينها بمعنى أنّ روح التوحيد سارية في الأخلاق الكريمة الّتي يندب إليها هذا الدين، و روح الأخلاق منتشرة في الأعمال الّتي يكلّف بها أفراد المجتمع، فالجميع من أجزاء الدين الإسلاميّ ترجع بالتحليل إلى التوحيد، و التوحيد بالتركيب يصير هو الأخلاق و الأعمال، فلو نزل لكان هي و لو صعدت لكانت هو، إليه يصعد الكلم الطيّب و العمل الصالح يرفعه.

فإن قلت: ما اُورد من النقص على القوانين المدنيّة فيما إذا عصت القوّة المجرية عن إجرائها أو فيما يخفى عليها من الخلاف مثلاً وارد بعينه على الإسلام و أوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين و زوال سيطرته على المجتمع الإسلاميّ، و ليس إلّا لفقدانه من يحمّل نواميسه على الناس يوماً!.

قلت: حقيقة القوانين العامّة سواء كانت إلهيّة أو بشريّة ليست إلّا صوراً ذهنية في أذهان الناس و علوماً تحفّظها الصدور و إنّما ترد مورد العمل و تقع موقع الحسّ بالإرادات الإنسانيّة تتعلّق بها، فمن الواضح أن لو عصت الإرادات لم توجد في الخارج ما تنطبق عليه القوانين، و إنّما الشأن فيما يحفظ به تعلّق هذه الإرادات بالوقوع حتّى تقوم القوانين على ساقها و القوانين المدنيّة لا تهتمّ بأزيد من تعليق الأفعال بالإرادات أعني إرادة الأكثريّة ثمّ لم يهتمّوا بما تحفّظ هذه الإرادة، فمهما كانت الإرادة حيّة شاعرة فاعلة جرى بها القانون و إذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس و هرم يطرأ على بنية المجتمع، أو كانت حيّة لكنّها فقدت صفة الشعور و الإدراك لانغمار المجتمع في الملاهي و توسّعه في الإتراف و التمتّع، أو كانت حيّة شاعرة لكنّها

١١٧

فقدت التأثير لظهور قوّة مستبدّة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الأكثريّة. و كذا في الحوادث الّتي لا سبيل للقوّة المجرية على الوقوف عليها كالجنايات السرّيّة أو لا سبيل لها إلى بسط سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها ففي جميع هذه الموارد لا تنال الاُمّة اُمنيّتها من جريان القانون و انحفاظ المجتمع عن التفاسد و التلاشي، و عمدة الانشعابات الواقعة في الاُمم الاُوربيّة بعد الحرب العالميّة الكبرى الاُولى و الثانية من أحسن الأمثلة في هذا الباب.

و ليس ذلك (أعني انتقاض القوانين و تفاسد المجتمع و تلاشيه) إلّا لأنّ المجتمع لم يهتمّ بالسبب الحافظ لإرادات الاُمّة على قوّتها و سيطرتها و هي الأخلاق العالية إذ لا تستمدّ الإرادة في بقائها و استدامة حياتها إلّا من الخُلق المناسب لها كما بيّن ذلك في علم النفس فلو لا استقرار السنّة القائمة في المجتمع و اعتماد القانون الجاري فيه على أساس قويم من الأخلاق العالية كانت كشجرة اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار.

و اعتبر في ذلك ظهور الشيوعيّة فليست إلّا من مواليد الديمقراطيّة أنتجها إتراف طبقة من طبقات المجتمع و حرمان آخرين فكان بعداً شاسعاً بين نقطتي القساوة و فقد النصفة، و السخط و تراكم الغيظ و الحنق، و كذا في الحرب العالميّة الّتي وقعت مرّة بعد مرّة و هي تهدّد الإنسانيّة ثالثة و قد أفسدت الأرض و أهلكت الحرث و النسل و لا عامل لها إلّا غريزة الاستكبار و الشره و الطمع، هذا.

و لكنّ الإسلام بنى سنّته الجارية و قوانينه الموضوعة على أساس الأخلاق و بالغ في تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الأعمال في ضمانها و على عهدتها فهي مع الإنسان في سرّه و علانيته و خلوته و جلوته تؤدّي وظيفتها و تعمل عملها أحسن ممّا يؤدّيه شرطيّ مراقب أو أيّ قوّة تبذل عنايتها في حفظ النظم.

نعم تعتني المعارف العموميّة في هذه الممالك بتربية الناس على الأخلاق المحمودة و تبذل جهدها في حضّ الناس و ترغيبهم إليها لكن لا ينفعهم ذلك شيئاً:

أمّا أوّلاً فلأنّ المنشأ الوحيد لرذائل الأخلاق ليس إلّا الإسراف و الإفراط في التمتّع المادّيّ و الحرمان البالغ فيه، و قد أعطت القوانين للناس الحرّيّة التامّة

١١٨

فيه فأمتعت بعضاً و حرّمت آخرين فهل الدعوة إلى فضائل الأخلاق و الترغيب عليها إلّا دعوة إلى المتناقضين أو طلباً للجمع بين الضدّين؟.

على أنّ هؤلاء كما عرفت يتفكّرون تفكّراً اجتماعيّاً، و لا تزال مجتمعاتهم تبالغ في اضطهاد المجتمعات الضعيفة و دحض حقوقهم، و التمتّع بما في أيديهم، و استرقاق نفوسهم، و التوسّع في التحكّم عليهم ما قدروا، و الدعوة إلى الصلاح و التقوى مع هذه الخصيصة ليست إلّا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة.

و أمّا ثانياً: فلأنّ الأخلاق الفاضلة أيضاً تحتاج في ثباتها و استقرارها إلى ضامن يضمن حفظها و كلاءتها و ليس إلّا التوحيد أعني القول بأنّ للعالم إلهاً واحداً ذا أسماء حسنى خلق الخلق لغاية تكميلهم و سعادتهم و هو يحبّ الخير و الصلاح، و يبغض الشرّ و الفساد و سيجمع الجميع لفصل القضاء و توفية الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه و المسي‏ء بإساءته، و من الواضح أن لو لا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن اتّباع الهوى و الكفّ عن حظوظ النفس الطبيعيّة فإنّما الطبيعة الإنسانيّة تريد و تشتهي مشتهيات نفسها لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر إلّا إذا رجع بنحو إلى مشتهى نفسها (أحسن التأمّل فيه).

ففيما كان للإنسان مثلاً تمتّع في إماتة حقّ من حقوق الغير و لا رادع يردعه و لا مجازي يجازيه و لا لائم معاتب يلومه و يعاتبه فأيّ مانع يمنعه من اقتراف الخطيئة و ارتكاب المظلمة و إن عظمت ما عظمت؟ و أمّا ما يتوهّم و كثيراً ما يخطئ فيه الباحث من الروادع المختلفة كالتعلّق بالوطن و حبّ النوع و الثناء الجميل و نحو ذلك فإنّما هي عواطف قلبيّة و نزوعات باطنيّة لا سبب حافظاً عليها إلّا التعليم و التربية من غير استنادها إلى السبب الموجب فهي إذن أوصاف اتّفاقيّة و اُمور عاديّة لا مانع معها يمنع من زوالها فلمّا ذا يجب على الإنسان أن يفدي بنفسه غيره ليتمتّع بالعيش بعده و هو يرى أنّ الموت فناء و بطلان؟ و الثناء الجميل إنّما هو في لسان آخرين و لا لذّة يلتذّ به الفادي بعد بطلان ذاته.

و بالجملة لا يرتاب المتفكّر البصير في أنّ الإنسان لا يقدم على حرمان لا يرجع إليه

١١٩

فيه جزاء و لا يعود إليه منه نفع، و الّذي يعده و يمنّيه في هذه الموارد ببقاء الذكر الحسن و الثناء الجميل الخالد و الفخر الباقي ببقاء الدهر فإنّما هو غرور يغترّ به و خدعة ينخدع بها بهيجان إحساساته و عواطفه فيخيّل إليه أنّه بعد موته و بطلان ذاته حاله كحاله قبل موته فيشعر بذكره الجميل فيلتذّ به و ليس ذلك إلّا من غلط الوهم كالسكران يتسخّر بهيجان إحساساته فيعفو و يبذل من نفسه و عرضه و ماله أو كلّ كرامة له ما لا يقدم عليه لو صحا و عقل، و هو سكران لا يعقل و يعدّ ذلك فتوّة و هو سفه و جنون.

فهذه العثرات و أمثالها ممّا لا حصن للإنسان يتحصّن فيه منها غير التوحيد الّذي ذكرناه و لذلك وضع الإسلام الأخلاق الكريمة الّتي جعلها جزءاً من طريقته الجارية على أساس التوحيد الّذي من شؤونه القول بالمعاد، و لازمه أن يلتزم الإنسان بالإحسان و يجتنب الإساءة أينما كان و متى ما كان سواء علم به أو لم يعلم، و سواء حمده حامد أو لم يحمد، و سواء كان معه من يحمله عليه أو يردعه عنه أو لم يكن فإنّ معه الله العليم الحفيظ القائم على كلّ نفس بما كسبت و وراءه يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضراً و ما عملت من سوء، و فيه تجزى كلّ نفس بما كسبت.

٧- منطقان: منطق التعقّل و منطق الإحساس: أمّا منطق الإحساس فهو يدعو إلى النفع الدنيويّ و يبعث إليه فإذا قارن الفعل نفع و أحسّ به الإنسان فالإحساس متوقّد شديد التوقان في بعثه و تحريكه، و إذا لم يحسّ الإنسان بالنفع فهو خامد هامد، و أمّا منطق التعقّل فإنّما يبعث إلى اتّباع الحقّ و يرى أنّه أحسن ما ينتفع به الإنسان أحسّ مع الفعل بنفع مادّيّ أو لم يحسّ فإنّ ما عند الله خير و أبقى، و قس في ذلك بين قول عنترة و هو على منطق الإحساس:

و قولي كلّما جشأت و جاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

يريد أنّي استثبت نفسي كلّما تزلزلت في الهزاهز و المواقف المهوّلة من القتال بقولي لها: اثبتي فإن قتلت يحمدك الناس على الثبات و عدم الانهزام، و إن قتلت العدوّ استرحت و نلت بغيتك فالثبات خير على أيّ حال، و بين قوله تعالى - و هو على منطق التعقّل -:( قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إلّا ما كَتَبَ الله لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى الله فَلْيَتوکّل الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ

١٢٠