الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 120020
تحميل: 4287


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120020 / تحميل: 4287
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بِنا إلّا إِحْدَى الْحسنيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ الله بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ‏ ) التوبة: ٥٢، يريد أنّ أمر ولايتنا و انتصارنا إلى الله سبحانه لا نريد في شي‏ء ممّا يصيبنا من خير أو شرّ إلّا ما وعدنا من الثواب على الإسلام له و الالتزام لدينه كما قال تعالى:( لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكفّار وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحسنينَ وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إلّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحسن ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) التوبة: ١٢١.

و إذا كان كذلك فإن قتلتمونا أو أصابنا منكم شي‏ء كان لنا عظيم الأجر و العاقبة الحسنى عند ربّنا و إن قتلناكم أو أصبنا منكم شيئاً كان لنا عظيم الثواب و العاقبة الحسنى و التمكّن في الدنيا من عدوّنا، فنحن على أيّ حال سعداء مغبوطون و لا تتحفون لنا في قتالنا و لا تتربّصون بنا في أمرنا إلّا إحدى الحسنيين فنحن على الحسنى و السعادة على أيّ حال و أنتم على السعادة و نيل البغية بعقيدتكم على أحد التقديرين، و في إحدى الحالين و هو كون الدائرة لكم علينا فنحن نتربّص بكم ما يسوؤكم و أنتم لا تتربّصون بنا إلّا ما يسرّنا و يسعدنا.

فهذان منطقان أحدهما يعني الثبات و عدم الزوال على مبني إحساسيّ و هو أنّ للثابت أحد نفعين: إمّا حمد الناس و إمّا الراحة من العدوّ، هذا إذا كان هناك نفع عائد إلى الإنسان المقاتل الّذي يلقي بنفسه إلى التهلكة، أمّا إذا لم يكن هناك نفع عائد كما لو لم يحمده الناس لعدم تقديرهم قدر الجهاد و تساوى عندهم الخدمة و الخيانة، أو كانت الخدمة ممّا ليس من شأنه أن يظهر لهم البتّة أو لا هي و لا الخيانة، أو لم يسترح الإحساس بفناء العدوّ بل إنّما يستريح به الحقّ فليس لهذا المنطق إلّا العيّ و اللّكنة.

و هذه الموارد المعدودة هي الأسباب العامّة في كلّ بغي و خيانة و جناية يقول الخائن المساهل في أمر القانون: إنّ خدمته لا تقدّر عند الناس بما يعدلها و إنّ الخادم و الخائن عندهم سواء بل الخائن أحسن حالاً و أنعم عيشاً، و يرى كلّ باغ و جان أنّه سيتخلّص من قهر القانون و أنّ القوى المراقبة لا يقدرون على الحصول عليه فيخفي

١٢١

أمره و يلتبس على الناس شخصه، و يعتذر كلّ من يتثبّط و يتثاقل في إقامة الحقّ و الثورة على أعدائه و يداهنهم بأنّ القيام على الحقّ يذلّله بين الناس، و يضحك منه الدنيا الحاضرة، و يعدّونه من بقايا القرون الوسطى أو أعصار الأساطير فإن ذكّرته بشرافة النفس و طهارة الباطن ردّ عليك قائلاً: ما أصنع بشرافة النفس إذا جرّت إلىّ نكد العيش و ذلّة الحياة هذا.

و أمّا المنطق الآخر و هو منطق الإسلام فهو يبني أساسه على اتّباع الحقّ و ابتغاء الأجر و الجزاء من الله سبحانه و إنّما يتعلّق الغرض بالغايات و المقاصد الدنيويّة في المرتبة التالية و بالقصد الثاني، و من المعلوم أنّه لا يشذّ عن شموله مورد من الموارد، و لا يسقط كلّيّته من العموم و الاطّراد، فالعمل - أعمّ من الفعل و الترك - إنّما يقع لوجهه تعالى و إسلاماً له و اتّباعاً للحقّ الّذي أراده و هو الحفيظ العليم الّذي لا تأخذه سنة و لا نوم، و لا عاصم منه و لا يخفى عليه شي‏ء في الأرض و لا في السماء و الله بما تعملون خبير.

فعلى كلّ نفس فيما وردت مورد عمل أو صدرت، رقيب شهيد قائم بما كسبت، سواء شهده الناس أو لا، حمدوه أو لا، قدروا فيه على شي‏ء أو لا.

و قد بلغ من حسن تأثير التربية الإسلاميّة أنّ الناس كانوا يأتون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيعترفون عنده بجرائمهم و جناياتهم بالتوبة و يذوقون مرّ الحدود الّتي تقام عليهم (القتل فما دونه) ابتغاء رضوان الله و تطهيراً لأنفسهم من قذارة الذنوب و درن السيّئات، و بالتأمّل في هذه النوادر الواقعة يمكن للباحث أن ينتقل إلى عجيب تأثير البيان الدينيّ في نفوس الناس و تعويده لهم السماحة في ألذّ الأشياء و أعزّها عندهم و هي الحياة و ما في تلوها و لو لا أنّ البحث قرآنيّ لأوردنا طرفاً من الأمثلة التاريخيّة فيه.

٨- ما معنى ابتغاء الأجر عند الله و الإعراض عن غيره؟ ربّما يتوهّم المتوهّم أنّ جعل الأجر الاُخرويّ و هو الغرض العامّ في حياة الإنسان الاجتماعيّة يوجب سقوط الأغراض الحيويّة الّتي تدعو إليه البنية الطبيعيّة الإنسانيّة و فيه فساد نظام الاجتماع، و الانحطاط إلى منحطّ الرهبانيّة، و كيف يمكن الانقطاع إلى مقصد من المقاصد مع التحفّظ على المقاصد المهمّة الاُخرى؟ و هل هذا إلّا تناقض؟.

١٢٢

لكنّه توهّم ناش من الجهل بالحكمة الإلهيّة و الأسرار الّتي تكشف عنها المعارف القرآنيّة فإنّ الإسلام يبني تشريعه على أصل التكوين كما مرّ ذكره مراراً في المباحث السابقة من هذا الكتاب، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠.

و حاصلة: أنّ سلسلة الأسباب الواقعيّة التكوينيّة تعاضدت على إيجاد النوع الإنسانيّ في ذيلها و توفّرت على سوقه نحو الغاية الحيويّة الّتي هيّأت له فيجب له أن يبني حياته في ظرف الكدح و الاختيار على موافقة الأسباب فيما تريد منه و تسوقه إليه حتّى لا تناقضها حياته فيؤدّيه ذلك إلى الهلاك و الشقاء و هذا (لو تفهّمه المتوهّم) هو الدين الإسلاميّ بعينه و لمّا كان هناك فوق الأسباب سبب وحيد هو الموجد لها المدبّر لأمرها فيما دقّ و جلّ و هوالله سبحانه الّذي هو السبب التامّ فوق كلّ سبب بتمام معنى الكلمة كان الواجب على الإنسان الإسلام له و الخضوع لأمره و هذا معنى كون التوحيد هو الأساس الوحيد للدين الإسلاميّ.

و من هنا يظهر أنّ حفظ كلمة التوحيد و الإسلام لله و ابتغاء وجهه في الحياة جرى على موافقة الأسباب طرّاً و إعطاء كلّ ذي حقّ منها حقّه من غير شرك و لا غفلة فعند المرء المسلم غايات و أغراض دنيويّة و اُخرى اُخرويّة و له مقاصد مادّيّة و اُخرى معنويّة لكنّه لا يعتنى في أمرها بأزيد ممّا ينبغي من الاعتناء و الاهتمام و لذلك بعينه نرى أنّ الإسلام يندب إلى توحيد الله سبحانه و الانقطاع إليه و الإخلاص له و الإعراض عن كلّ سبب دونه و مبتغي غيره و مع ذلك يأمر الناس باتّباع نواميس الحياة و الجري على المجاري الطبيعيّة.

و من هنا يظهر أنّ أفراد المجتمع الإسلاميّ هم السعداء بحقيقة السعادة في الدنيا و في الآخرة و أنّ غايتهم و هو ابتغاء وجه الله في الأعمال لا تزاحم سائر الغايات الحيويّة إذا ظهرت و استوثرت.

و من هنا يظهر أيضاً فساد توهّم آخر و هو الّذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من الباحثين أنّ حقيقة الدين و الغرض الأصليّ منه هو إقامة العدالة الاجتماعيّة و العباديّات فروع متفرّعة عليها فالّذي يقيمها فهو على الدين و لو لم يتلبّس بعقيدة و لا عبوديّة.

١٢٣

و الباحث المتدبّر في الكتاب و السنّة و خاصّة في السيرة النبوّية لا يحتاج في الوقوف على بطلأنّ هذا التوهّم إلى مؤنة زائدة و تكلّف استدلال على أنّ هذا الكلام الّذي يتضمّن إسقاط التوحيد و كرائم الأخلاق من مجموعة النواميس الدينيّة فيه إرجاع للغاية الدينيّة الّتي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنيّة الّتي هي التمتّع، و قد عرفت أنّهما غايتان مختلفتان لا ترجع إحداهما إلى الاُخرى لا في أصلها و لا في فروعها و ثمراتها.

٩- ما معنى الحرّيّة في الإسلام‏؟ كلمة الحرّيّة على ما يراد بها من المعنى لا يتجاوز عمرها في دورانها على الألسن عدّة قرون و لعلّ السبب المبتدع لها هي النهضة المدنيّة الاُوربيّة قبل بضعة قرون لكن معناها كان جائلاً في الأذهان و اُمنيّة من أمانيّ القلوب منذ أعصار قديمة.

و الأصل الطبيعيّ التكوينيّ الّذي ينتشي منه هذا المعنى هو ما تجهّز به الإنسان في وجوده من الإرادة الباعثة إيّاه على العمل فإنّها حالة نفسيّة في إبطالها إبطال الحسّ و الشعور المنجرّ إلى إبطال الإنسانيّة.

غير أنّ الإنسان لمّا كان موجوداً اجتماعيّاً تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع و إلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الإرادات و فعله في الأفعال المنجرّ إلى الخضوع لقانون يعدّل الإرادات و الأعمال بوضع حدود لها فالطبيعة الّتي أعطته إطلاق الإرادة و العمل هي بعينها تحدّد الإرادة و العمل و تقيّد ذلك الإطلاق الابتدائيّ و الحرّيّة الأوّليّة.

و القوانين المدنيّة الحاضرة لمّا وضعت بناء أحكامها على أساس التمتّع المادّيّ كما عرفت أنتج ذلك حرّيّة الاُمّة في أمر المعارف الأصليّة الدينيّة من حيث الالتزام بها و بلوازمها، و في أمر الأخلاق و في ما وراء القوانين من كلّ ما يريده و يختاره الإنسان من الإرادات و الأعمال فهذا هو المراد بالحرّيّة عندهم.

و أمّا الإسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد كما عرفت ثمّ في المرتبة التالية على أساس الأخلاق الفاضلة ثمّ تعرّضت لكلّ يسير و خطير من الأعمال الفرديّة و الاجتماعيّة كائنة ما كانت فلا شي‏ء ممّا يتعلّق بالإنسان أو يتعلّق به الإنسان إلّا و للشرع

١٢٤

الإسلاميّ فيه قدم أو أثر قدم فلا مجال و لا مظهر للحرّيّة بالمعنى المتقدّم فيه.

نعم للإنسان فيه الحرّيّة عن قيد عبوديّة غير الله سبحانه و هذا و إن كان لا يزيد على كلمة واحدة غير أنّه وسيع المعنى عند من بحث بحث تعمّق في السنة الإسلاميّة و السيرة العمليّة الّتي تندب إليها و تقرّها بين أفراد المجتمع و طبقاته ثمّ قاس ذلك إلى ما يشاهد من سنن السؤدد و السيادة و التحكّمات في المجتمعات المتمدّنة بين طبقاتها و أفرادها أنفسها و بين كلّ اُمّة قويّة و ضعيفة.

و أمّا من حيث الأحكام فالتوسعة فيما أباحه الله من طيّبات الرزق و مزايا الحياة المعتدلة من غير إفراط أو تفريط قال تعالى:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الآية: الأعراف: ٣٢، و قال تعالى:( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جميعاً ) البقرة:٢٩، و قال تعالى:( وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جميعاً مِنْهُ ) الجاثية: ١٣.

و من عجيب الأمر ما رامه بعض الباحثين و المفسّرين و تكلّف فيه من إثبات حرّيّة العقيدة في الإسلام بقوله تعالى:( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) البقرة: ٢٥٦، و ما يشابهه من الآيات الكريمة.

و قد مرّ البحث التفسيريّ عن معنى الآية في سورة البقرة و الّذي نضيف إليها ههنا أنّك عرفت أنّ التوحيد أساس جميع النواميس الإسلاميّة و مع ذلك كيف يمكن أن يشرّع حرّيّة العقائد؟ و هل ذلك إلّا التناقض الصريح؟ فليس القول بحرّيّة العقيدة إلّا كالقول بالحرّيّة عن حكومة القانون في القوانين المدنيّة بعينه.

و بعبارة اُخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقيّ ينعقد في ذهن الإنسان ليس عملاً اختياريّاً للإنسان حتّى يتعلّق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير، و إنّما الّذي يقبل الحظر و الإباحة هو الالتزام بما تستوجبه العقيدة من الأعمال كالدعوة إلى العقيدة و إقناع الناس بها و كتابتها و نشرها و إفساد ما عند الناس من العقيدة و العمل المخالفين لها، فهذه هي الّتي تقبل المنع و الجواز، و من المعلوم أنّها إذا خالفت موادّ قانون دائر في المجتمع أو الأصل الّذي يتّكي عليه القانون لم يكن مناص من منعها من قبل القانون

١٢٥

و لم يتّك الإسلام في تشريعه على غير دين التوحيد (التوحيد و النبوّة و المعاد) و هو الّذي يجتمع عليه المسلمون و اليهود و النصارى و المجوس (أهل الكتاب) فليست الحرّيّة إلّا فيها و ليست فيما عداها إلّا هدماً لأصل الدين، نعم ههنا حرّيّة اُخرى و هي الحرّيّة من حيث إظهار العقيدة في مجرى البحث و سنبحث عنها في الفصل ١٤ الآتي.

١٠- ما هو الطريق إلى التحوّل و التكامل في المجتمع الإسلاميّ‏؟ ربّما أمكن أن يقال: هب إنّ السنّة الإسلاميّة سنّة جامعة للوازم الحياة السعيدة، و المجتمع الإسلاميّ مجتمع سعيد مغبوط لكنّ هذه السنّة لجامعيتها و انتفاء حرّيّة العقيدة فيها تستوجب ركود المجتمع و وقوفه عن التحوّل و التكامل و هو من عيوب المجتمع الكامل كما قيل فإنّ السير التكامليّ يحتاج إلى تحقّق القوى المتضادّة في الشي‏ء و تفاعلها حتّى تولّد بالكسر و الانكسار مولوداً جديداً خالياً من نواقص العوامل المولّدة الّتي زالت بالتفاعل فإذا فرض أنّ الإسلام يرفع الأضداد و النواقص و خاصّة العقائد المتضادّة من أصلها فلازمه أن يتوقّف المجتمع الّذي يكوّنه عن السير التكامليّ.

أقول: و هو من إشكالات المادّيّة التحوليّة (ماترياليسم ديالكتيك) و فيه خلط عجيب فإنّ العقائد و المعارف الإنسانيّة على نوعين نوع يقبل التحوّل و التكامل و هو العلوم الصناعيّة الّتي تستخدم في طريق ترفيع قواعد الحياة المادّيّة و تذليل الطبيعة العاصية للإنسان كالعلوم الرياضيّة و الطبيعيّة و غيرهما، و هذه العلوم و الصناعات و ما في عدادها كلّما تحوّلت من النقص إلى الكمال أوجب ذلك تحوّل الحياة الاجتماعيّة لذلك.

و نوع آخر لا يقبل التحوّل و إن كان يقبل التكامل بمعنى آخر و هو العلوم و المعارف العامّة الإلهيّة الّتي تقضي في المبدإ و المعاد و السعادة و الشقاء و غير ذلك قضاءً قاطعاً واقفاً غير متغيّر و لا متحوّل و إن قبلت الارتقاء و الكمال من حيث الدقّة و التعمّق و هذه العلوم و المعارف لا تؤثّر في الاجتماعات و سنن الحياة إلّا بنحو كلّيّ فوقوف هذه المعارف و الآراء و ثبوتها على حال واحدة لا يوجب وقوف الاجتماعات عن سيرها الارتقائيّ كما نشاهد أنّ عندنا آراءً كثيرة كلّيّة ثابتة على حال واحدة من غير أن يقف اجتماعنا لذلك عن سيره كقولنا: إنّ الإنسان يجب أن ينبعث إلى العمل لحفظ

١٢٦

حياته، و إنّ العمل يجب أن يكون لنفع عائد إلى الإنسان، و إنّ الإنسان يجب أن يعيش في حال الاجتماع، و قولنا: إنّ العالم موجود حقيقة لا وهماً و إنّ الإنسان جزء من العالم، و إنّ الإنسان جزء من العالم الأرضيّ و إنّ الإنسان ذو أعضاء و أدوات و قوى إلى غير ذلك من الآراء و المعلومات الثابتة الّتي لا يوجب ثبوتها و وقوفها وقوف الاجتماعات و ركودها و من هذا القبيل القول بأنّ للعالم إلهاً واحداً شرع للناس شرعاً جامعاً لطرق السعادة من طريق النبوّة و سيجمع الجميع إلى يوم يوفّيهم فيه جزاء أعمالهم، و هذه هي الكلمة الوحيدة الّتي بني عليها الإسلام مجتمعة و تحفّظ عليها كلّ التحفّظ و من المعلوم أنّه ممّا لا يوجب باصطكاك ثبوته و نفيه و إنتاج رأي آخر فيه إلّا انحطاط المجتمع كما بيّن مراراً و هذا شأن جميع الحقائق الحقّة المتعلّقة بما وراء الطبيعة فإنكارها بأيّ وجه لا يفيد للمجتمع إلّا انحطاطاً و خسّة.

و الحاصل أنّ المجتمع البشريّ لا يحتاج في سيره الارتقائيّ إلّا إلى التحوّل و التكامل يوماً فيوماً في طرق الاستفادة من مزايا الطبيعة، و هذا إنّما يتحقّق بالبحث الصناعيّ المداوم و تطبيق العمل على العلم دائماً و الإسلام لا يمنع من ذلك شيئاً.

و أمّا تغيّر طريق إدارة المجتمعات و سنن الاجتماع الجارية كالاستبداد الملوكيّ و الديمقراطيّة و الكمونيزم و نحوها فليس بلازم إلّا من جهة نقصها و قصورها عن إيفاء الكمال الإنسانيّ الاجتماعيّ المطلوب لا من جهة سيرها من النقص إلى الكمال فالفرق بينها لو كان فإنّما هو فرق الغلط و الصواب لا فرق الناقص و الكمال فإذا استقرّ أمر السنّة الاجتماعيّة على ما يقصّده الإنسان بفطرته و هو العدالة الاجتماعيّة و استظلّ الناس تحت التربية الجيّدة بالعلم النافع و العمل الصالح ثمّ أخذوا يسيرون مرتاحين ناشطين نحو سعادتهم بالارتقاء في مدارج العلم و العمل و لا يزالون يتكاملون و يزيدون تمكّناً و اتّساعاً في السعادة فما حاجتهم إلى تحوّل السنّة الاجتماعيّة زائداً على ذلك؟ و مجرّد وجوب التحوّل على الإنسان من كلّ جهة حتّى فيما لا يحتاج فيه إلى التحوّل ممّا لا ينبغي أن يقضي به ذو نظر و بصيرة.

فإن قلت: لا مناص من عروض التحوّل في جميع ما ذكرت أنّه مستغن عنه

١٢٧

كالاعتقادات و الأخلاق الكلّيّة و نحوها فإنّها جميعاً تتغيّر بتغيّر الأوضاع الاجتماعيّة و المحيطات المختلفة و مرور الأزمنة فلا يجوز أن ينكر أنّ الإنسان الجديد تغاير أفكاره أفكار الإنسان القديم، و كذا الإنسان يختلف نحو تفكّره بحسب اختلاف مناطق حياته كالأراضي الإستوائيّة و القطبيّة و النقاط المعتدلة، و كذا بتفاوت أوضاع حياته من خادم و مخدوم و بدويّ و حضريّ و مثر و معدم و فقير و غنيّ و نحو ذلك، فالأفكار و الآراء تختلف باختلاف العوامل و تتحوّل بتحوّل الأعصار بلا شكّ كائنة ما كانت.

قلت: الإشكال مبنيّ على نظريّة نسبيّة العلوم و الآراء الإنسانيّة و لازمها كون الحقّ و الباطل و الخير و الشرّ اُموراً نسبيّة إضافيّة فالمعارف الكلّيّة النظريّة المتعلّقة بالمبدإ و المعاد و كذا الآراء الكلّيّة العمليّة كالحكم بكون الاجتماع خيراً للإنسان و كون العدل خيراً (حكماً كلّيّاً لا من حيث انطباقه على المورد) تكون أحكاماً نسبيّة متغيّرة بتغيّر الأزمنة و الأوضاع و الأحوال، و قد بيّنا في محلّه فساد هذه النظريّة من حيث كلّيّتها.

و حاصل ما ذكرناه هناك أنّ النظريّة غير شاملة للقضايا الكلّيّة النظريّة و قسم من الآراء الكلّيّة العمليّة.

و كفى في بطلان كلّيّتها أنّها لو صحّت (أي كانت كلّيّة مطلقة ثابتة) أثبتت قضيّة مطلقة غير نسبيّة و هي نفسها، و لو لم تكن كلّيّة مطلقة بل قضيّة جزئيّة أثبتت بالاستلزام قضيّة كلّيّة مطلقة فكلّيّتها باطلة على أيّ حال، و بعبارة اُخرى لو صحّ أنّ( كلّ رأي و اعتقاد يجب أن يتغيّر يوماً) وجب أن يتغيّر نفس هذا الرأي يوماً أي لا يتغيّر بعض الاعتقادات أبداً فافهم ذلك.

١١- هل الإسلام بشريعته يفي بإسعاد هذه الحياة الحاضرة؟ ربّما يقال: هب أنّ الإسلام لتعرّضه لجميع شؤون الإنسانيّة الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقيّة و جميع أمانيّهم في الحياة لكن مرور الزمان غيّر طرق الحياة الإنسانيّة فالحياة الثقافيّة و العيشة الصناعيّة في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرناً المقتصرة على الوسائل الطبيعيّة

١٢٨

الابتدائيّة فقد بلغ الإنسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقّة مبلغاً من الارتقاء و التكامل المدنيّ لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدّة قرون كان كالقياس بين نوعين متباينين فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكّلة العبقريّة اليوم؟ و كيف يمكن أن تحمل كلّ من الحياتين أثقال الاُخرى؟.

و الجواب: أنّ الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كلّيّات شؤونها، و إنّما هو من حيث المصاديق و الموارد و بعبارة اُخرى يحتاج الإنسان في حياته إلى غذاء يتغذّى به، و لباس يلبسه، و دار يقطن فيه و يسكنه، و وسائل تحمله و تحمل أثقاله و تنقلها من مكان إلى مكان، و مجتمع يعيش بين أفراده، و روابط تناسليّة و تجاريّة و صناعيّة و عمليّة و غير ذلك، و هذه حاجة كلّيّة غير متغيّرة ما دام الإنسان إنساناً ذا هذه الفطرة و البنية و ما دام حياته هذه الحياة الإنسانيّة، و الإنسان الأوّلي و إنسان هذا اليوم في ذلك على حدّ سواء.

و إنّما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل الّتي يرفع الإنسان بها حوائجه المادّيّة و من حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبّه لها و بوسائل رفعها.

فقد كان الإنسان الأوّليّ مثلاً يتغذّى بما يجده من الفواكه و النبات و لحم الصيد على وجه بسيط ساذج، و هو اليوم يهيّئ منها ببراعته و ابتداعه اُلوفاً من ألوان الطعام و الشراب ذات خواصّ تستفيد منها طبيعته، و ألوان يستلذّ منها بصره، و طعوم يستطيبها ذوقه، و كيفيّات يتنعّم بها لمسه، و أوضاع و أحوال اُخرى يصعب إحصاؤها و هذا الاختلاف الفاحش لا يفرّق الثاني من الأوّل من حيث إنّ الجميع غذاء يتغذّى به الإنسان لسدّ جوعة و إطفاء نائرة شهوته.

و كما أنّ هذه الاعتقادات الكلّيّة الّتي كانت عند الإنسان أوّلاً لم تبطل بعد تحوّله من عصر إلى عصر بل انطبق الأوّل على الآخر انطباقاً، كذلك القوانين الكلّيّة الموضوعة في الإسلام طبق دعوة الفطرة و استدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيلة مكان وسيلة مادام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظاً من غير تغيّر و انحراف و أمّا مع المخالفة فالسنّة الإسلاميّة لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم و العصر الحديث.

١٢٩

و أمّا الأحكام الجزئيّة المتعلّقة بالحوادث الجارية الّتي تحدث زماناً و زماناً و تتغيّر سريعاً بالطبع كالأحكام الماليّة و الانتظاميّة المتعلّقة بالدفاع و طرق تسهيل الارتباطات و المواصلات و الانتظامات البلديّة و نحوها فهي مفوّضة إلى اختيار الوالي و متصدّي أمر الحكومة فإنّ الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته فله أن يعزم و يجري فيها ما لربّ البيت أن يتصرّف به في بيته و فيما أمره إليه، فلوالي الأمر أن يعزم على اُمور من شؤون المجتمع في داخله أو خارجه ممّا يتعلّق بالحرب أو السلم ماليّة أو غير ماليّة يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين كما قال تعالى:( وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتوکّل عَلَى الله ) آل عمران: ١٥٩، كلّ ذلك في الاُمور العامّة.

و هذه أحكام و عزمات جزئيّة تتغيّر بتغيّر المصالح و الأسباب الّتي لا تزال يحدث منها شي‏ء و يزول منها شي‏ء غير الأحكام الإلهيّة الّتي يشتمل عليها الكتاب و السنّة و لا سبيل للنسخ إليها و لبيانه التفصيليّ محلّ آخر.

١٢- من الّذي يتقلد ولاية المجتمع في الإسلام و ما سيرته‏؟ كان ولاية أمر المجتمع الإسلاميّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و افتراض طاعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الناس و اتّباعه صريح القرآن الكريم.

قال تعالى:( وَ أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) التغابن: ١٢، و قال تعالى:( لِتحكّم بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ الله ) النساء: ١٠٥، و قال تعالى:( النبيّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) الأحزاب: ٦، و قال تعالى:( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ) آل عمران: ٣١، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي يتضمّن كلّ منها بعض شؤون ولايته العامّة في المجتمع الإسلاميّ أو جميعها.

و الوجه الوافي لغرض الباحث في هذا الباب أن يطالع سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يمتلئ منه نظراً ثمّ يعود إلى مجموع ما نزلت من الآيات في الأخلاق و القوانين المشرّعة في الأحكام العباديّة و المعاملات و السياسات و سائر المرابطات و المعاشرات، فإنّ هذا الدليل المتّخذ بنحو الانتزاع من ذوق التنزيل الإلهيّ له من اللّسان الكافي و البيان الوافي ما لا يوجد في الجملة و الجملتين من الكلام البتّة.

١٣٠

و ههنا نكتة اُخرى يجب على الباحث الاعتناء بأمرها، و هو أنّ عامّة الآيات المتضمّنة لإقامة العبادات و القيام بأمر الجهاد و إجراء الحدود و القصاص و غير ذلك توجّه خطاباتها إلى عامّة المؤمنين دون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة، كقوله تعالى:( وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) النساء: ٧٧، و قوله:( وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله ) البقرة: ١٩٥، و قوله:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) البقرة: ١٨٣، و قوله:( وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) آل عمران: ١٠٤، و قوله:( وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) المائدة: ٣٥، و قوله:( وَ جاهِدُوا فِي الله حقّ جِهادِهِ ) الحجّ: ٧٨، و قوله:( الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كلّ واحِدٍ مِنْهُما ) النور: ٢، و قوله:( وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) المائدة: ٣٨، و قوله:( وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) البقرة: ١٧٩، و قوله:( وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لله ) الطلاق: ٢، و قوله:( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جميعاً وَ لا تفرّقوا ) آل عمران: ١٠٣، و قوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتفرّقوا فِيهِ ) الشورى: ١٣، و قوله:( وَ ما محمّد إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شيئاً وَ سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ ) آل عمران: ١٤٤، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و يستفاد من الجميع أنّ الدين صبغة اجتماعيّة حمله الله على الناس و لا يرضى لعباده الكفر، و لم يرد إقامته إلّا منهم بأجمعهم، فالمجتمع المتكوّن منهم أمره إليهم من غير مزيّة في ذلك لبعضهم و لا اختصّاص منهم ببعضهم، و النبيّ و من دونه في ذلك سواء، قال تعالى:( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥، فإطلاق الآية يدلّ على أنّ التأثير الطبيعيّ الّذي لأجزاء المجتمع الإسلاميّ في مجتمعهم مراعى عند الله سبحانه تشريعاً كما راعاه تكويناً و أنّه تعالى لا يضيّعه، و قال تعالى:( إِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) الأعراف: ١٢٨.

نعم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعوة و الهداية و التربية، قال تعالى:( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: ٢، فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتعيّن من عندالله للقيام على شأن الاُمّة و ولاية اُمورهم في الدنيا و الآخرة و للإمامة لهم مادام حيّاً.

١٣١

لكنّ الّذي يجب أن لا يغفل عنه الباحث أنّ هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكيّة الّتي تجعل مال الله فيئاً لصاحب العرش و عباد الله أرقّاء له يفعل بهم ما يشاء و يحكم فيهم ما يريد و ليست هي من الطرق الاجتماعيّة الّتي وضعت على أساس التمتّع المادّيّ من الديمقراطيّة و غيرها فإنّ بينها و بين الإسلام فروقاً بيّنة مانعة من التشابه و التماثل.

و من أعظمها أنّ هذه المجتمعات لمّا بنيت على أساس التمتّع المادّيّ نفخت في قالبها روح الاستخدام و الاستثمار و هو الاستكبار الإنسانيّ الّذي يجعل كلّ شي‏ء تحت إرادة الإنسان و عمله حتّى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان، و يبيح له طريق الوصول إليه و التسلّط على ما يهواه و يأمله منه لنفسه، و هذا بعينه هو الاستبداد الملوكيّ في الأعصار السالفة و قد ظهرت في زيّ الاجتماع المدنيّ على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القويّة و إجحافاتهم و تحكّماتهم بالنسبة إلى الأمم الضعيفة و على ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ.

فقد كان الواحد من الفراعنة و القياصرة و الأكاسرة يجري في ضعفاء عهده بتحكّمه و لعبه كلّ ما يريده و يهواه. و يعتذر - لو اعتذر - أنّ ذلك من شؤون السلطنة و لصلاح المملكة و تحكيم أساس الدولة، و يعتقد أنّ ذلك حقّ نبوغه و سيادته، و يستدلّ عليه بسيفه، كذلك إذا تعمّقت في المرابطات السياسيّة الدائرة بين أقوياء الاُمم و ضعفائهم اليوم وجدت أنّ التاريخ و حوادثه كرّت علينا و لن تزال تكرّ غير أنّها أبدلت الشكل السابق الفرديّ بالشكل الحاضر الاجتماعيّ و الروح هي الروح و الهوى هو الهوى و أمّا الإسلام فطريقته بريئة من هذه الأهواء و دليله السيرة النبوّية في فتوحاته و عهوده.

و منها أنّ أقسام الاجتماعات على ما هو مشهود و مضبوط في تاريخ هذا النوع لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤدّ إلى الفساد فإنّ اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه و المقام المؤدّي بالآخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها لكنّ المجتمع الإسلاميّ مجتمع متشابه الأجزاء لا تقدّم فيها للبعض على البعض و لا تفاضل و لا تفاخر و لا كرامة و إنّما التفاوت الّذي تستدعيه القريحة الإنسانيّة و لا تسكت عنه إنّما هو في التقوى

١٣٢

و أمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣، و قال تعالى:( اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ‏ ) البقرة: ١٤٨، فالحاكم و المحكوم و الأمير و المأمور و الرئيس و المرؤوس و الحرّ و العبد و الرجل و المرأة و الغنيّ و الفقير و الصغير و الكبير في الإسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الدينيّ في حقّهم و من حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعيّة على ما تدلّ عليه السيرة النبوّية على سائرها السلام و التحيّة.

و منها أنّ القوّة المجرية في الإسلام ليست هي طائفة متميّزة في المجتمع بل تعمّ جميع أفراد المجتمع فعلى كلّ فرد أن يدعو إلى الخير و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و هناك فروق اُخر لا يخفى على الباحث المتتّبع.

هذا كلّه في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أمّا بعده فالجمهور من المسلمين على أنّ انتخاب الخليفة الحاكم في المجتمع إلى المسلمين و الشيعة من المسلمين على أنّ الخليفة منصوص من جانب الله و رسوله و هم اثنا عشر إماماً على التفصيل المودوع في كتب الكلام.

و لكن على أيّ حال أمر الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعد غيبة الإمام كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال، و الّذي يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك أنّ عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هي سنّة الإمامة دون الملوكيّة و الإمبراطوريّة و السير فيهم بحفاظة الأحكام من غير تغيير، و التولّي بالشور في غير الأحكام من حوادث الوقت و المحلّ كما تقدّم و الدليل على ذلك كله جميع ما تقدّم من الآيات في ولاية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافة إلى قوله تعالى:( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حسنةٌ ) الأحزاب: ٢١.

١٣- ثغر المملكة الإسلاميّة هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعيّة أو الاصطلاحيّة: ألغى الإسلام أصل الانشعاب القوميّ من أن يؤثّر في تكوّن المجتمع أثره ذاك الانشعاب الّذي عامله الأصليّ البدويّة و العيش بعيشة القبائل و البطون أو اختلاف منطقة الحياة و الوطن الأرضيّ، و هذان أعني البدويّة و اختلاف مناطق الأرض في طبائعها الثانويّة

١٣٣

من حرارة و برودة و جدب و خصب و غيرهما هما العاملان الأصليّان لانشعاب النوع الإنسانيّ شعوباً و قبائل و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم على ما بيّن في محلّه.

ثمّ صارا عاملين لحيازة كلّ قوم قطعة من قطعاًت الأرض على حسب مساعيهم في الحياة و بأسهم و شدّتهم و تخصيصها بأنفسهم و تسميتها وطناً يألفونه و يذبّون عنه بكلّ مساعيهم.

و هذا و إن كان أمراً ساقهم إلى ذلك الحوائج الطبيعيّة الّتي تدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أنّ فيه خاصّة تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانيّة من حياة النوع في مجتمع واحد، فإنّ من الضروريّ أنّ الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتّتة و تألّفها و تقوّيها بالتراكم و التوحّد لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتمّ و أصلح، و هذا أمر مشهود من حال المادّة الأصليّة حتّى تصير عنصراً ثمّ ثمّ نباتاً ثمّ حيواناً ثمّ إنساناً.

و الانشعابات بحسب الأوطان تسوق الاُمّة إلى توحّد في مجتمعهم يفصّله عن المجتمعات الوطنيّة الاُخرى فيصير واحداً منفصل الروح و الجسم عن الآحاد الوطنيّة الاُخرى فتنعزل الإنسانيّة عن التوحّد و التجمّع و تبتلي من التفرّق و التشتّت بما كانت تفرّ منه و يأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الآحاد الحديثة (أعني الآحاد الاجتماعيّة) بما يعامل به الإنسان سائر الأشياء الكونيّة من استخدام و استثمار و غير ذلك، و التجريب الممتدّ بامتداد الأعصار منذ أوّل الدنيا إلى يومنا هذا يشهد بذلك و ما نقلناه من الآيات في مطاوي الأبحاث السابقة يكفي في استفادة ذلك من القرآن الكريم.

و هذا هو السبب في أن ألغى الإسلام هذه الانشعابات و التشتّتات و التميّزات، و بنى الاجتماع على العقيدة دون الجنسيّة و القوميّة و الوطن و نحو ذلك، حتّى في مثل الزوجيّة و القرابة في الاستمتاع و الميراث، فإنّ المدار فيهما على الاشتراك في التوحيد لا المنزل و الوطن مثلاً.

١٣٤

و من أحسن الشواهد على هذا ما نراه عند البحث عن شرائع هذا الدين أنّه لم يهمل أمره في حال من الأحوال، فعلى المجتمع الإسلاميّ عند أوج عظمته و اهتزاز لواء غلبته أن يقيموا الدين و لا يتفرّقوا فيه، و عليه عند الاضطهاد و المغلوبيّة ما يستطيعه من إحياء الدين و إعلاء كلمته و على هذا القياس حتّى أنّ المسلم الواحد عليه أن يأخذ به و يعمل منه ما يستطيعه و لو كان بعقد القلب في الاعتقاديّات و الإشارة في الأعمال المفروضة عليه.

و من هنا يظهر أنّ المجتمع الإسلاميّ قد جعل جعلاً يمكنه أن يعيش في جميع الأحوال و على كلّ التقادير من حاكميّة و محكوميّة و غالبيّة و مغلوبيّة و تقدّم و تأخّر و ظهور و خفاء و قوّة و ضعف. و يدلّ عليه من القرآن آيات التقيّة بالخصوص قال تعالى:( مَنْ كَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) الآية: النحل: ١٠٦، و قوله:( إلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) آل عمران: ٢٨، و قوله:( فَاتّقوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ ) التغابن: ١٦، و قوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتّقوا الله حقّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إلّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ١٠٢.

١٤- الإسلام اجتماعيّ بجميع شؤونه: يدلّ على ذلك قوله تعالى:( وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) الآية على ما مرّ بيانه و آيات اُخر كثيرة.

و صفة الاجتماع مرعيّة مأخوذة في الإسلام في جميع ما يمكن أن يؤدّي بصفة الاجتماع من أنواع النواميس و الأحكام بحسب ما يليق بكلّ منها من نوع الاجتماع و بحسب ما يمكن فيه من الأمر و الحثّ الموصل إلى الغرض فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معاً في بحثه:

فالجهة الاُولى من الاختلاف ما نرى أنّ الشارع شرع الاجتماع مستقيماً في الجهاد إلى حدّ يكفي لنجاح الدفاع و هذا نوع، و شرع وجوب الصوم و الحجّ مثلاً للمستطيع غير المعذور و لازمه اجتماع الناس للصيام و الحجّ و تمّم ذلك بالعيدين: الفطر و الأضحى، و الصلاة المشروعة فيهما، و شرع وجوب الصلوات اليوميّة عينيّاً لكلّ مكلّف من غير أن يوجب فيها جماعة و تدارك ذلك بوجوب الجماعة في صلاة الجمعة في كلّ

١٣٥

اُسبوع مرّة صلاة جماعة واحدة في كلّ أربعة فراسخ. و هذا نوع آخر.

و الجهة الثانية ما نرى أنّ الشارع شرع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة كما عرفت و ألزم على الاجتماع في اُمور اُخرى غير واجبة لم يوجب الاجتماع فيها مستقيماً كصلاة الفريضة مع الجماعة فإنّها مسنونة مستحبّة غير أنّ السنّة جرت على أدائها جماعة و على الناس أن يقيموا السنّة،(١) و قد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوم من المسلمين تركوا الحضور في الجماعة: ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم. و هذا هو السبيل في جميع ما سنّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجب حفظ سنّته على المسلمين بأيّ وسيلة أمكنت لهم و بأيّ قيمة حصلت.

و هذه اُمور سبيل البحث فيها الاستنباط الفقهيّ من الكتاب و السنّة و المتصدّي لبيانها الفقه الإسلاميّ.

و أهمّ ما يجب ههنا هو عطف عنان البحث إلى جهة اُخرى و هي اجتماعيّة الإسلام في معارفه الأساسيّة بعد الوقوف على أنّه يراعي الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه من قوانين الأعمال (العباديّة و المعامليّة و السياسيّة) و من الأخلاق الكريمة و من المعارف الأصليّة.

نرى الإسلام يدعو الناس إلى دين الفطرة بدعوى أنّه الحقّ الصريح الّذي لا مرية فيه و الآيات القرآنيّة الناطقة بذلك كثيرة مستغنية عن الإيراد، و هذا أوّل التألّف و التآنّس مع مختلف الأفهام فإنّ الأفهام على اختلافها و تعلّقها بقيود الأخلاق و الغرائز لا تختلف في أنّ( الحقّ يجب اتّباعه) .

ثمّ نراه يعذّر من لم تقم عليه البيّنة و لم تتّضح له المحجّة و إن قرعت سمعه الحجّة قال تعالى:( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) الأنفال: ٤٢، و قال تعالى:( إلّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ الله عَفُوًّا غَفُوراً ) النساء: ٩٩، انظر إلى

____________________

(١) باب كراهة ترك حضور الجماعة من كتاب الصلاة من الوسائل‏

١٣٦

إطلاق الآية و مكان قوله:( لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ) ، و هذا يعطي الحرّيّة التامّة لكلّ متفكّر يرى نفسه صالحة للتفكّر مستعدّة للبحث و التنقير أن يتفكّر فيما يتعلّق بمعارف الدين و يتعمّق في تفهّمها و النظر فيها. على أنّ الآيات القرآنيّة مشحونة بالحثّ و الترغيب في التفكّر و التعقّل و التذكّر.

و من المعلوم أنّ اختلاف العوامل الذهنيّة و الخارجيّة مؤثّرة في اختلاف الأفهام من حيث تصوّرها و تصديقها و نيلها و قضائها و هذا يؤدّي إلى الاختلاف في الاُصول الّتي بني على أساسها المجتمع الإسلاميّ كما تقدّم.

إلّا أنّ الاختلاف بين إنسانين في الفهم على ما يقضي به فنّ معرفة النفس و فنّ الأخلاق و فنّ الاجتماع يرجع إلى أحد اُمور أمّا إلى اختلاف الأخلاق النفسانيّة و الصفات الباطنة من الملكات الفاضلة و الرديّة فإنّ لها تأثيراً وافراً في العلوم و المعارف الإنسانيّة من حيث الاستعدادات المختلفة الّتي تودعها في الذهن فما إدراك الإنسان المنصف و قضاؤه الذهنيّ كإدراك الشموس المتعسّف، و لا نيل المعتدل الوقور للمعارف كنيل العجول و المتعصّب و صاحب الهوى و الهمجيّ الّذي يتبع كلّ ناعق و الغويّ الّذي لا يدري أين يريد؟ و لا أنّى يراد به؟ و التربية الدينيّة تكفي مؤونة هذا الاختلاف فإنّها موضوعة على نحو يلائم الاُصول الدينيّة من المعارف و العلوم، و تستولد من الأخلاق ما يناسب تلك الاُصول و هي مكارم الأخلاق قال تعالى:( كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى‏ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحقّ وَ إِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) الأحقاف: ٣٠، و قال تعالى:( يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) المائدة: ١٦، و قال تعالى:( وَ الّذينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ الله لَمَعَ الْمُحسنينَ ) العنكبوت: ٦٩، و انطباق الآيات على مورد الكلام ظاهر.

و إمّا أن يرجع إلى اختلاف الأفعال فإنّ الفعل المخالف للحقّ كالمعاصي و أقسام التهوّسات الإنسانيّة و من هذا القبيل أقسام الإغواء و الوساوس يلقّن الإنسان و خاصّة العامّيّ الساذج الأفكار الفاسدة و يعدّ ذهنه لدبيب الشبهات و تسرّب

١٣٧

الآراء الباطلة فيه و تختلف إذ ذاك الأفهام و تتخلّف عن اتّباع الحقّ! و قد كفى مؤونة هذا أيضاً الإسلام حيث أمر المجتمع بإقامة الدعوة الدينيّة دائماً أوّلاً، و كلّف المجتمع بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ثانياً، و أمر بهجرة أرباب الزيغ و الشبهات ثالثاً. قال تعالى:( وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) الآية: آل عمران: ١٠٤، فالدعوة إلى الخير تستثبت الاعتقاد الحقّ و تقرّها في القلوب بالتلقين و التذكير، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ الاعتقادات الحقّة في النفوس، و قال تعالى:( وَ إِذا رَأَيْتَ الّذينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ أمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَ ما عَلَى الّذينَ يَتَّقُونَ مِنْ حسابهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ لكِنْ ذِكْرى‏ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَ ذَرِ الّذينَ اتّخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ ) الآيات: الأنعام: ٧٠، ينهى الله تعالى عن المشاركة في الحديث الّذي فيه خوض في شي‏ء من المعارف الإلهيّة و الحقائق الدينيّة بشبهة أو اعتراض أو استهزاء و لو بنحو الاستلزام أو التلويح، و يذكر أنّ ذلك من فقدان الإنسان أمر الجدّ في معارفه، و أخذه بالهزل و اللّعب و اللّهو، و أنّ منشأه الاغترار بالحياة الدُنيا، و أنّ علاجه التربية الصالحة و التذكير بمقامه تعالى.

و أمّا أن يكون الاختلاف من جهة العوامل الخارجيّة كبعد الدار و عدم بلوغ المعارف الدينيّة إلّا يسيرةً أو محرّفة أو قصور فهم الإنسان عن تعقّل الحقائق الدينيّة تعقّلاً صحيحاً كالجربزة و البلادة المستندتين إلى خصوصيّة المزاج و علاجه تعميم التبليغ و الإرفاق في الدعوة و التربية، و هذان من خصائص السلوك التبليغيّ في الإسلام، قال تعالى:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) يوسف: ١٠٨، و من المعلوم أنّ البصير بالأمر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب و أنحاء تأثيراته المختلفة باختلاف المتلّقّين و المستمعين فلا يبذل أحداً إلّا مقدار ما يعيه منه، و قد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما رواه الفريقان: إنّا معاشر الأنبياء نكلّم الناس على قدر عقولهم‏، و قال تعالى:( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيتّفقهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ

١٣٨

يَحْذَرُونَ ) التوبة: ١٢٢، فهذه جمل ما يتّقى به وقوع الاختلاف في العقائد أو يعالج به إذا وقع.

و قد قرّر الإسلام لمجتمعه دستوراً اجتماعيّاً فوق ذلك يقيه عن دبيب الاختلاف المؤدّي إلى الفساد و الانحلال فقد قال تعالى:( وَ أنّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تتّبعوا السُّبُلَ فَتفرّق بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏ ) الأنعام: ١٥٣، فبيّن أنّ اجتماعهم على اتّباع الصراط المستقيم و تحذّرهم عن اتّباع سائر السبل يحفظهم عن التفرّق و يحفظ لهم الاتّحاد و الاتّفاق، ثمّ قال:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتّقوا الله حقّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إلّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جميعاً وَ لا تفرّقوا ) آل عمران: ١٠٣، و قد مرّ أنّ المراد بحبل الله هو القرآن المبيّن لحقائق معارف الدين، أو هو و الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يظهر من قوله تعالى قبله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ آياتُ الله وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) آل عمران: ١٠١.

تدلّ الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين و يرابطوا أفكارهم و يمتزجوا في التعليم و التعلّم فيستريحوا في كلّ حادث فكريّ أو شبهة ملقاة إلى الآيات المتلوّة عليهم و التدبّر فيها لحسم مادّة الاختلاف و قد قال تعالى:( أَ فَلا يَتدبّرونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء: ٨٢، و قال:( وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إلّا الْعالِمُونَ ) العنكبوت: ٤٣، و قال:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) النحل: ٤٣، فأفاد أنّ التدبّر في القرآن أو الرجوع إلى من يتدبّر فيه يرفع الاختلاف من البين.

و تدلّ على أنّ الإرجاع إلى الرسول و هو الحامل لثقل الدين يرفع من بينهم الاختلاف و يبيّن لهم الحقّ الّذي يجب عليهم أن يتّبعوه، قال تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتبيّن لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتفكّرونَ ) النحل: ٤٤، و قريب منه قوله تعالى:( وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) النساء: ٨٣، و قوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي

١٣٩

الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحسن تَأْوِيلًا ) النساء: ٥٩، فهذه صورة التفكّر الاجتماعيّ في الإسلام.

و منه يظهر أنّ هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفّظ على معارفه الخاصّة الإلهيّة كذلك يسمح للناس بالحرّيّة التامّة في الفكر، و يرجع محصّله إلى أنّ من الواجب على المسلمين أن يتفكّروا في حقائق الدين و يجتهدوا في معارفه تفكّراً و اجتهاداً بالاجتماع و المرابطة، و إن حصلت لهم شبهة في شي‏ء من حقائقه و معارفه أو لاح لهم ما يخالفها فلا بأس به و إنّما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المخالف أن يعرض ما عنده على كتاب الله بالتدبّر في بحث اجتماعيّ، فإن لم يداو داءه عرضه على الرسول أو من أقامه مقامه حتّى تنحلّ شبهته أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلاً، قال تعالى:( الّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيتّبعونَ أَحسنهُ أُولئِكَ الّذينَ هَداهُمُ الله وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) الزمر: ١٨.

و الحرّيّة في العقيدة و الفكر على النحو الّذي بيّناه غير الدعوة إلى هذا النظر و إشاعته بين الناس قبل العرض فإنّه مفض إلى الاختلاف المفسد لأساس المجتمع القويم.

هذا أحسن ما يمكن أن يدبّر به أمر المجتمع في فتح باب الارتقاء الفكريّ على وجهه مع الحفظ على حياته الشخصيّة، و أمّا تحميل الاعتقاد على النفوس و الختم على القلوب و إماتة غريزة الفكرة في الإنسان عنوةً و قهراً و التوسّل في ذلك بالسوط أو السيف أو بالتكفير و الهجرة و ترك المخالطة فحاشا ساحة الحقّ و الدين القويم أن يرضى به أو يشرّع ما يؤيّده، و إنّما هو خصيصة نصرانيّة و قد امتلأ تاريخ الكنيسة من أعمالها و تحكّماتها في هذا الباب - و خاصّة فيما بين القرن الخامس و بين القرن السادس عشر الميلاديّين - بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة و الطواغيت و أقساه.

و لكن من الأسف أنّا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة و ما لزمها (الاجتماع الفكريّ و حرّيّة العقيدة) كما سلبنا كثيراً من النعم العظام الّتي كان الله سبحانه أنعم علينا بها لما فرّطنا في جنب الله (و إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)

١٤٠