الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 119996
تحميل: 4286


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119996 / تحميل: 4286
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فحكمت فينا سيرة الكنيسة و استتبع ذلك أن تفرّقت القلوب و ظهر الفتور و تشتّت المذاهب و المسالك يغفر الله لنا و يوفّقنا لمرضاته و يهدينا إلى صراطه المستقيم.

١٥- الدين الحقّ هو الغالب على الدنيا بالآخرة: و العاقبة للتقوى فإنّ النوع الإنسانيّ بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقيّة و هو استواؤه على عرش حياته الروحيّة و الجسميّة معاً حياة اجتماعيّة بإعطاء نفسه حظّه من السلوك الدنيويّ و الاُخرويّ و قد عرفت أنّ هذا هو الإسلام و دين التوحيد.

و أمّا الانحرافات الواقعة في سير الإنسانيّة نحو غايته و في ارتقائه إلى أوج كماله فإنّما هو من جهة الخطأ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة، و الغاية الّتي يعقّبها الصنع و الإيجاد لا بدّ أن تقع يوماً معجّلاً أو على مهل، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (يريد أنّهم لا يعلمون ذلك علماً تفصيليّاً و إن علمته فطرتهم إجمالاً)، - إلى أن قال -لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتمتّعوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الروم: ٣٠-٤١ ، و قال تعالى:( فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذلّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعزّة عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) المائدة: ٥٤، و قال تعالى:( وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء: ١٠٥، و قال تعالى:( وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى‏ ) طه: ١٣٢، فهذه و أمثالها آيات تخبرنا أنّ الإسلام سيظهر ظهوره التامّ فيحكم على الدنيا قاطبة.

و لا تصغ إلى قول من يقول: إنّ الإسلام و إن ظهر ظهوراً مّا و كانت أيّامه حلقة من سلسلة التاريخ فأثّرت أثرها العامّ في الحلقات التالية و اعتمدت عليها المدنيّة الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة لكنّ ظهوره التامّ أعني حكومة ما في فرضيّة الدين بجميع موادّها و صورها و غاياتها ممّا لا يقبله طبع النوع الإنسانيّ و لن يقبله أبداً و لم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتّى يوثق بصحّة وقوعه خارجاً و حكومته على النوع تامّة.

و ذلك أنّك عرفت أنّ الإسلام بالمعنى الّذي نبحث فيه غاية النوع الإنسانيّ

١٤١

و كماله الّذي هو بغريزته متوجّه إليه شعر به تفصيلاً أو لم يشعر و التجارب القطعيّة الحاصلة في أنواع المكوّنات يدلّ على أنّها متوجّهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها إليها نظام الخلقة، و الإنسان غير مستثنى من هذه الكلّيّة.

على أنّ شيئاً من السنن و الطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الإنسانيّة لم يتّك في حدوثه و بقائه و حكومته على سبق تجربة قاطعة فهذه شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ظهرت حينما ظهرت ثمّ جرت بين الناس، و كذا ما أتى به برهما و بوذا و ماني و غيرهم، و تلك سنن المدنيّة المادّيّة كالديمقراطيّة و الكمونيسم و غيرهما كلّ ذلك جرى في المجتمعات الإنسانيّة المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة.

و إنّما تحتاج السنن الاجتماعيّة في ظهورها و رسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة و همم عالية من نفوس قويّة لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عيّ و لا نصب، و لا تذعن بأنّ الدهر قد لا يسمح بالمراد و المسعى قد يخيب، و لا فرق في ذلك بين الغايات و المآرب الرحمانيّة و الشيطانيّة.

( بحث روائي‏)

في المعاني، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا ) الآية: اصبروا على المصائب، و صابروهم على الفتنة. و رابطوا على من تقتدون به.

و في تفسير العيّاشيّ، عنهعليه‌السلام : اصبروا على دينكم، و صابروا عدوّكم، و رابطوا إمامكم.

أقول: و روي ما يقرب منه من طرق أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الكافي، عنهعليه‌السلام : اصبروا على الفرائض، و صابروا على المصائب و رابطوا على الأئمّة.

و في المجمع، عن عليّعليه‌السلام : رابطوا الصلوات قال أي انتظروها لأنّ المرابطة لم تكن حينئذ.

١٤٢

أقول: اختلاف الروايات مستند إلى ما تقدّم من إطلاق الأوامر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن حيّان عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ لا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا، و يكفّر به الذنوب؟ قلنا بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره، و كثرة الخطى إلى المساجد، و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط.

أقول: و رواه بطرق اُخرى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأخبار في فضيلة المرابطة أكثر من أن تحصى‏.

١٤٣

( سورة النساء مدنيّة و هي مائة و ست و سبعون آية)

( سورة النساء آية ١)

( بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏) يَاأَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَ( ١)

( بيان)

غرض السورة كما يلوّح إليه هذا الصدر بيان أحكام الزواج كعدد الزوجات و محرّمات النكاح و غير ذلك، و أحكام المواريث، و فيها اُمور اُخرى من أحكام الصلاة و الجهاد و الشهادات و التجارة و غيرها، و تعرّض لحال أهل الكتاب.

و مضامين آياتها تشهد أنّها مدنيّة نزلت بعد الهجرة، و ظاهرها أنّها نزلت نجوماً لا دفعة واحدة و إن كانت أغلب آياتها غير فاقدة للارتباط فيما بينها.

و أمّا هذه الآية في نفسها فهي و عدّة من الآيات التالية لها المتعرّضة لحال اليتامى و النساء كالتوطئة لما سيبيّن من أمر المواريث و المحارم و أمّا عدد الزوجات الواقعة في الآية الثالثة فإنّه و إن كان من مهمّات السورة إلّا أنّه ذكر في صورة التطفّل بالاستفادة من الكلام المقدّمي الّذي وقع في الآية كما سيجي‏ء بيانه.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتّقوا ربّكمُ ) إلى قوله:( وَ نِساءً ) يريد دعوتهم إلى تقوى ربّهم في أمر أنفسهم و هم ناس متّحدون في الحقيقة الإنسانيّة من غير اختلاف فيها بين الرجل منهم و المرأة و الصغير و الكبير و العاجز و القويّ حتّى لا يجحف الرجل منهم بالمرأة و لا يظلم كبيرهم الصغير في مجتمعهم الّذي هداهم الله إليه لتتميم سعادتهم و الأحكام و القوانين المعمولة بينهم الّتي ألهمهم إيّاها لتسهيل طريق حياتهم، و حفظ وجودهم و بقائهم فرادى و مجتمعين.

و من هناك تظهر نكتة توجيه الخطاب إلى الناس دون المؤمنين خاصّة و كذا تعليق التقوى بربّهم دون أن يقال: اتّقوا الله و نحوه فإنّ الوصف الّذي ذكّروا به أعني

١٤٤

قوله:( الّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) إلخ يعمّ جميع الناس من غير أن يختصّ بالمؤمنين، و هو من أوصاف الربوبيّة الّتي تتكفّل أمر التدبير و التكميل لا من شؤون الألوهيّة.

و أمّا قوله تعالى:( الّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) إلخ فالنفس على ما يستفاد من اللّغة عين الشي‏ء يقال: جاءني فلان نفسه و عينه و إن كان منشأ تعيّن الكلمتين - النفس و العين - لهذا المعنى (ما به الشي‏ء شي‏ء) مختلفاً، و نفس الإنسان هو ما به الإنسان إنسان، و هو مجموع روح الإنسان و جسمه في هذه الحياة الدنيا و الروح وحدها في الحياة البرزخيّة على ما تحقّق فيما تقدّم من البحث في قوله تعالى:( وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْواتٌ ) الآية: البقرة: ١٥٤.

و ظاهر السياق أنّ المراد بالنفس الواحدة آدمعليه‌السلام ، و من زوجها زوجته، و هما أبوا هذا النسل الموجود الّذي نحن منه و إليهما ننتهي جميعاً على ما هو ظاهر القرآن الكريم كما في قوله تعالى:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثمّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) الزمر: ٦، و قوله تعالى:( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجنّة ) الأعراف:٢٧، و قوله تعالى: حكاية عن إبليس:( لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلّا قَلِيلًا ) إسراء: ٦٢.

و أمّا ما احتمله بعض المفسّرين أنّ المراد بالنفس الواحدة و زوجها في الآية مطلق الذكور و الإناث من الإنسان الزوجين اللّذين عليهما مدار النسل فيؤول المعنى إلى نحو قولنا: خلق كلّ واحد منكم من أب و اُمّ بشرين من غير فرق في ذلك بينكم فيناظر قوله تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣، حيث إنّ ظاهره نفي الفرق بين الأفراد من جهة تولّد كلّ واحد منهم من زوجين من نوعه: ذكر و اُنثى.

ففيه فساد ظاهر و قد فاته أنّ بين الآيتين أعني آية النساء و آية الحجرات فرقاً بيّناً فإنّ آية الحجرات في مقام بيان اتّحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة الإنسانيّة، و نفي الفرق بينهم من جهة انتهاء تكوّن كلّ واحد منهم إلى أب و اُمّ إنسانين فلا ينبغي أن يتكبّر أحدهم على الآخرين و لا يتكرّم إلّا بالتقوى، و أمّا آية النساء فهي في مقام

١٤٥

بيان اتّحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة، و أنّهم على كثرتهم رجالاً و نساء إنّما اشتقّوا من أصل واحد و تشعّبوا من منشأ واحد فصاروا كثيراً على ما هو ظاهر قوله:( وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً ) ، و هذا المعنى كما ترى لا يناسب كون المراد من النفس الواحدة و زوجها مطلق الذكر و الاُنثى الناسلين من الإنسان على أنّه لا يناسب غرض السورة أيضاً كما تقدّم بيانه.

و أمّا قوله:( وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) فقد قال الراغب: يقال لكلّ واحد من القرينين من الذكر و الاُنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج، و لكلّ قرينين فيها و في غيرها: زوج كالخفّ و النعل، و لكلّ ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادّاً: زوج، إلى أن قال: و زوجه لغة رديئة، انتهى.

و ظاهر الجملة أعني قوله:( وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) أنّها بيان لكون زوجها من نوعها بالتماثل و أنّ هؤلاء الأفراد المبثوثين مرجعهم جميعاً إلى فردين متماثلين متشابهين فلفظة من نشوئيّة و الآية في مساق قوله تعالى:( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً ) الروم: ٢١، و قوله تعالى:( وَ الله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) النحل: ٧٢، و قوله تعالى:( فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) الشورى: ١١، و نظيرها قوله:( وَ مِنْ كلّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) الذاريات: ٤٩، فما في بعض التفاسير: أنّ المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقّة منها و خلقها من بعضها وفاقاً لما في بعض الأخبار: أنّ الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه ممّا لا دليل عليه من الآية.

و أمّا قوله:( وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً ) ، البثّ هو التفريق بالإثارة و نحوها قال تعالى:( فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) الواقعة: ٦، و منه بثّ الغمّ و لذلك ربّما يطلق البثّ و يراد به الغمّ لأنّه مبثوث يبثّه الإنسان بالطبع، قال تعالى:( قالَ إنّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله‏ ) يوسف: ٨٦، أي غمّي و حزني.

و ظاهر الآية أنّ النسل الموجود من الإنسان ينتهي إلى آدم و زوجته من غير

١٤٦

أن يشاركهما فيه غيرهما حيث قال: و بثّ منهما رجالاً كثيراً و نساءً، و لم يقل: منهما و من غيرهما، و يتفرّع عليه أمران:

أحدهما: أنّ المراد بقوله:( رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً ) أفراد البشر من ذرّيّتهما بلا واسطة أو مع واسطة فكأنّه قيل: و بثّكم منهما أيّها الناس.

و ثانيهما: أنّ الازدواج في الطبقة الاُولى بعد آدم و زوجته أعني في أولادهما بلا واسطة إنّما وقع بين الإخوة و الأخوات (ازدواج البنين بالبنات) إذ الذكور و الإناث كانا منحصرين فيهم يومئذ، و لا ضير فيه فإنّه حكم تشريعيّ راجع إلى الله سبحانه فله أن يبيحه يوماً و يحرّمه آخر، قال تعالى:( وَ الله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١، و قال:( إِنِ الْحُكْمُ إلّا لله ) يوسف: ٤٠، و قال:( وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) الكهف: ٢٦، و قال:( وَ هُوَ الله لا إِلهَ إلّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى‏ وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: ٧٠.

قوله تعالى: ( وَ اتّقوا الله الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ ) المراد بالتساؤل سؤال بعض الناس بعضاً بالله، يقول أحدهم لصاحبه: أسألك بالله أن تفعل كذا و كذا هو إقسام به تعالى، و التساؤل بالله كناية عن كونه تعالى معظّماً عندهم محبوباً لديهم فإنّ الإنسان إنّما يقسم بشي‏ء يعظّمه و يحبّه.

و أمّا قوله: وَ الْأَرْحامَ فظاهره أنّه معطوف على لفظ الجلالة، و المعنى: و اتّقوا الأرحام، و ربّما قيل: إنّه معطوف على محلّ الضمير في قوله: به و هو النصب يقال: مررت بزيد و عمراً، و ربّما أيدته قراءة حمزة: و الأرحام بالجرّ عطفاً على الضمير المتّصل المجرور - و إن ضعّفه النحاة - فيصير المعنى: و اتّقوا الله الّذي تساءلون به و بالأرحام يقول أحدكم لصاحبه: أسألك بالله و أسألك بالرحم، هذا ما قيل، لكنّ السياق و دأب القرآن في بياناته لا يلائمانه فإنّ قوله: وَ الْأَرْحامَ إن جعل صلة مستقلّة للّذي، و كان تقدير الكلام: و اتّقوا الله الّذي تساءلون بالأرحام كان خالياً من الضمير و هو غير جائز، و إن كان المجموع منه و ممّا قبله صلة واحدة للّذي كان فيه تسوية بين الله عزّ اسمه و بين الأرحام في أمر العظمة و العزّة و هي تنافي أدب القرآن.

١٤٧

و أمّا نسبة التقوى إلى الأرحام كنسبته إليه تعالى فلا ضير فيها بعد انتهاء الأرحام إلى صنعه و خلقه تعالى، و قد نسب التقوى في كلامه تعالى إلى غيره كما في قوله:( وَ اتّقوا يوماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ) البقرة: ٢٨١، و قوله:( وَ اتّقوا النَّارَ الّتي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) آل عمران: ١٣١، و قوله:( وَ اتّقوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصّةً ) الأنفال: ٢٥.

و كيف كان فهذا الشطر من الكلام بمنزلة التقييد بعد الإطلاق و التضييق بعد التوسعة بالنسبة إلى الشطر السابق عليه أعني قوله:( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتّقوا - إلى قوله -وَ نِساءً ) ، فإنّ محصّل معنى الشطر الأوّل: أن اتّقوا الله من جهة ربوبيّته لكم، و من جهة خلقه و جعله إيّاكم - معاشر أفراد الإنسان - من سنخ واحد محفوظ فيكم و مادّة محفوظة متكثّرة بتكثّركم، و ذلك هو النوعيّة الجوهريّة الإنسانيّة، و محصّل معنى هذا الشطر: أن اتّقوا الله من جهة عظمته و عزّته عندكم (و ذلك من شؤون الربوبيّة و فروعها) و اتّقوا الوحدة الرحميّة الّتي خلقها بينكم (و الرحم شعبة من شعب الوحدة و السنخيّة السارية بين أفراد الإنسان).

و من هنا يظهر وجه تكرار الأمر بالتقوى و إعادته ثانياً في الجملة الثانية فإنّ الجملة الثانية في الحقيقة تكرار للجملة الاُولى مع زيادة فائدة و هي إفادة الاهتمام التامّ بأمر الأرحام.

و الرحم في الأصل رحم المرأة و هي العضو الداخليّ منها المعبّأ لتربية النطفة وليداً، ثمّ أستعير للقرابة بعلاقة الظرف و المظروف لكون الأقرباء مشتركين في الخروج من رحم واحدة، فالرحم هو القريب و الأرحام الأقرباء، و قد اعتنى القرآن الشريف بأمر الرحم كما اعتنى بأمر القوم و الاُمّة، فإنّ الرحم مجتمع صغير كما أنّ القوم مجتمع كبير، و قد اعتنى القرآن بأمر المجتمع و عدّه حقيقة ذات خواصّ و آثار كما اعتنى بأمر الفرد من الإنسان و عدّه حقيقة ذات خواصّ و آثار تستمدّ من الوجود، قال تعالى:( وَ هُوَ الّذي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ هُوَ الّذي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ ربّك قَدِيراً ) الفرقان:٥٤،

١٤٨

و قال تعالى:( وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا ) الحجرات: ١٣، و قال تعالى:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله ) الأحزاب: ٦، و قال تعالى:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تولّيتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) سورة محمّد: ٢٢، و قال تعالى:( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) الآية: النساء: ٩، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) الرقيب الحفيظ و المراقبة المحافظة، و كأنّه مأخوذ من الرقبة بعناية أنّهم كانوا يحفظون رقاب عبيدهم، أو أنّ الرقيب كان يتطّلع على من كان يرقبه برفع رقبته و مدّ عنقه، و ليس الرقوب مطلق الحفظ بل هو الحفظ على أعمال المرقوب من حركاته و سكناته لإصلاح موارد الخلل و الفساد أو ضبطها، فكأنّه حفظ الشي‏ء مع العناية به علماً و شهوداً و لذا يستعمل بمعنى الحراسة و الانتظار و المحاذرة و الرصد، و الله سبحانه رقيب لأنّه يحفظ على العباد أعمالهم ليجزيهم بها، قال تعالى:( وَ ربّك عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ ) سبأ: ٢١، و قال:( الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) الشورى: ٦، و قال:( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ ربّك سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ ربّك لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر: ١٤.

و في تعليل الأمر بالتقوى في الوحدة الإنسانيّة السارية بين أفراده و حفظ آثارها اللّازمة لها، بكونه تعالى رقيباً أعظم التحذير و التخويف بالمخالفة، و بالتدبّر فيه يظهر ارتباط الآيات المتعرّضة لأمر البغي و الظلم و الفساد في الأرض و الطغيان و غير ذلك، و ما وقع فيها من التهديد و الإنذار، بهذا الغرض الإلهيّ و هو وقاية الوحدة الإنسانيّة من الفساد و السقوط.

( كلام في عمر النوع الإنسانيّ و الإنسان الأولي)

يذكر تاريخ اليهود أنّ عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة آلاف سنة و الاعتبار يساعده فإنّا لو فرضنا ذكراً و اُنثى (زوجين اثنين) من هذا النوع و فرضناهما عائشين زماناً متوسّطاً من العمر في مزاج متوسّط في وضع متوسّط من الأمن و الخصب

١٤٩

و الرفاهية و مساعدة سائر العوامل و الشرائط المؤثّرة في حياة الإنسان ثمّ فرضناهما و قد تزوّجا و تناسلا و توالدا في أوضاع متوسّطة متناسبة ثمّ جعلنا الفرض بعينه مطّرداً فيما أولدا من البنين و البنات على ما يعطيه متوسّط الحال في جميع ذلك وجدنا ما فرضناه من العدد أوّلاً و هو اثنان فقط يتجاوز في قرن واحد (رأس المائة) الألف أي إنّ كلّ نسمة يولّد في المائة سنة ما يقرب من خمس مائة نسمة.

ثمّ إذا اعتبرنا ما يتصدّم به الإنسان من العوامل المضادّة له في الوجود و البلايا العامّة لنوعه من الحرّ و البرد و الطوفان و الزلزلة و الجدب و الوباء و الطاعون و الخسف و الهدم و المقاتل الذريعة و المصائب الاُخرى غير العامّة، و أعطيناها حظّها من هذا النوع أوفر حظّ، و بالغنا في ذلك حتّى أخذنا الفناء يعمّ الأفراد بنسبة تسعمائة و تسعة و تسعين إلى الألف، و أنّه لا يبقى في كلّ مائة سنة من الألف إلّا واحد أي إنّ عامل التناسل في كلّ مائة سنة يزيد على كلّ اثنين بواحد و هو واحد من ألف.

ثمّ إذا صعدنا بالعدد المفروض أوّلاً بهذا الميزان إلى مدّة سبعة آلاف سنة (٧٠ قرناً) وجدناه تجاوز بليونين و نصفاً، و هو عدد النفوس الإنسانيّة اليوم على ما يذكره الإحصاء العالميّ.

فهذه الاعتبار يؤيّد ما ذكر من عمر نوع الإنسان في الدنيا لكن علماء الجيولوجي (علم طبقات الأرض) ذكروا أنّ عمر هذا النوع يزيد على مليونات من السنين، و قد وجدوا من الفسيلات الإنسانيّة و الأجساد و الآثار ما يتقدّم عهده على خمس مائة ألف سنة على ما استظهروه، فهذا ما عندهم، غير أنّه لا دليل معهم يقنع الإنسان و يرضي النفس باتّصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية و الاُمم الماضية من غير انقطاع، فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض ثمّ كثر و نما و عاش ثمّ انقرض ثمّ تكرّر الظهور و الانقراض و دار الأمر على ذلك عدّة أدوار، على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الأدوار.

و أمّا القرآن الكريم فإنّه لم يتعرّض تصريحاً لبيان أنّ ظهور هذا النوع هل ينحصر في هذه الدورة الّتي نحن فيها أو أنّ له أدواراً متعدّدة نحن في آخرها؟ و إن

١٥٠

كان ربّما يستشمّ من قوله تعالى:( وَ إِذْ قالَ ربّك لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ ) الآية: البقرة: ٣٠، سبق دورة إنسانيّة اُخرى على هذه الدورة الحاضرة، و قد تقدّمت الإشارة إليه في تفسير الآية.

نعم في بعض الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ما يثبت للإنسانيّة أدواراً كثيرة قبل هذه الدورة و سيجي‏ء في البحث الروائيّ.

( كلام في أنّ النسل الحاضر ينتهي إلى آدم و زوجته)

ربّما قيل: إنّ اختلاف الألوان في أفراد الإنسان و عمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا و اُوربا، و السواد كلون أهل إفريقيا الجنوبيّة، و الصفرة كلون أهل الصين و اليابان، و الحمرة كلون الهنود الأمريكيّين يقضي بانتهاء النسل في كلّ لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللّون الآخر لما في اختلاف الألوان من اختلاف طبيعة الدماء و على هذا فالمبادي الاُول لمجموع الأفراد لا ينقصون من أربعة أزواج للألوان الأربعة.

و ربّما يستدلّ عليه بأنّ قارّة أمريكا انكشفت و لها أهل و هم منقطعون عن الإنسان القاطن في نصف الكرة الشرقيّ بالبعد الشاسع الّذي بينهما انقطاعاً لا يرجى و لا يحتمل معه أنّ النسلين يتّصلان بانتهائهما إلى أب واحد و اُم واحدة، و الدليلان - كما ترى - مدخولان:

أمّا مسألة اختلاف الدماء باختلاف الألوان فلأنّ الأبحاث الطبيعيّة اليوم مبنيّة على فرضيّة التطوّر في الأنواع، و مع هذا البناء كيف يطمأنّ بعدم استناد اختلاف الدماء فاختلاف الألوان إلى وقوع التطوّر في هذا النوع و قد جزموا بوقوع تطوّرات في كثير من الأنواع الحيوانيّة كالفرس و الغنم و الفيل و غيرها، و قد ظفر البحث و الفحص بآثار أرضيّة كثيرة يكشف عن ذلك؟ على أنّ العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء(١) .

____________________

(١) و قد ورد في الجرائد في هذه الأيّام: أنّ جمعاً من الأطباء قد اكتشفوا فورمول طبّيّ يغيّر به لون بشرة الإنسان كالسواد إلى البياض مثلاً.

١٥١

و أمّا مسألة وجود الإنسان في ما وراء البحار فإنّ العهد الإنسانيّ على ما يذكره علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين، و الّذي يضبطه التاريخ النقليّ لا يزيد على ستّة آلاف سنة، و إذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تجزّي قارة أمريكا عن سائر القارات، و هناك آثار أرضيّة كثيرة تدلّ على تغييرات هامّة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدّل بحر إلى برّ و بالعكس، و سهل إلى جبل و بالعكس، و ما هو أعظم من ذلك كتبدّل القطبين و المنطقة على ما يشرحه علوم‏ طبقات الأرض و إلهيئة و الجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدلّ إلّا الاستبعاد فقط هذا.

و أمّا القرآن فظاهره القريب من النصّ أنّ هذا النسل الحاضر المشهود من الإنسان ينتهي بالارتقاء إلى ذكر و اُنثى هما الأب و الاُمّ لجميع الأفراد أمّا الأب فقد سمّاه الله تعالى في كتابه بآدم، و أمّا زوجته فلم يسمّها في كتابه و لكنّ الروايات تسمّيها حوّاء كما في التوراة الموجودة، قال تعالى:( وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) الم السجدة: ٨، و قال تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثمّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٥٩، و قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ ربّك لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ) الآية: البقرة: ٣١، و قال تعالى:( إِذْ قالَ ربّك لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) الآيات: ص: ٧٢، فإنّ الآيات - كما ترى - تشهد بأنّ سنّة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبّب إليه بالنطفة لكنّه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب، و أنّ آدم خلق من تراب و أنّ الناس بنوه، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم و زوجته ممّا لا ريب فيه و إن لم تمتنع من التأويل.

و ربّما قيل: أنّ المراد بآدم في آيات الخلقة و السجدة آدم النوعيّ دون الشخصيّ كأنّ مطلق الإنسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض و من حيث قيامه بأمر النسل و الإيلاد سمّي بآدم، و ربّما استظهر ذلك من قوله تعالى:( وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثمّ صَوَّرْناكُمْ

١٥٢

ثمّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) الأعراف: ١١، فإنّه لا يخلو عن إشعار بأنّ الملائكة إنّما اُمروا بالسجدة لمن هيّأه الله لها بالخلق و التصوير و قد ذكرت الآية أنّه جميع الأفراد لا شخص إنسانيّ واحد معيّن حيث قال:( وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثمّ صَوَّرْناكُمْ ) ، و هكذا قوله تعالى:( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ - إلى أن قال -قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ - إلى أن قال -قالَ فَبِعزّتكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: ٨٣، حيث أبدل ما ذكره مفرداً أوّلاً من الجمع ثانياً.

و يردّه مضافاً إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهر قوله تعالى - بعد سرد قصّة آدم و سجدة الملائكة و إباء إبليس - في سورة الأعراف:( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجنّة يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ) الأعراف: ٢٧، فظهور الآية في شخصيّة آدم ممّا لا ينبغي أن يرتاب فيه.

و كذا قوله تعالى:( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الّذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلّا قَلِيلًا ) إسراء: ٦٢، و كذا الآية المبحوث عنها:( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتّقوا ربّكمُ الّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً ) الآية، بالتقريب الّذي مرّ بيانه.

فالآيات - كما ترى - تأبى أن يسمّى الإنسان آدم باعتبار و ابن آدم باعتبار آخر، و كذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار و إلى النطفة باعتبار آخر و خاصّة في مثل قوله تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثمّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) الآية، و إلّا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى خلقة استثنائيّة ناقضة للعادة الجارية. فالقول بآدم النوعيّ في حدّ التفريط، و الإفراط الّذي يقابله قول بعضهم: إنّ القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر. ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنّة.

١٥٣

( كلام في أنّ الإنسان نوع مستقلّ)

( غير متحوّل من نوع آخر)

الآيات السابقة تكفي مؤنة هذا البحث فإنّها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة إلى آدم و زوجته و تبيّن أنّهما خلقا من تراب فالإنسانيّة تنتهي إليهما و هما لا يتّصلان بآخر يماثلهما أو يجانسهما و إنّما حدثا حدوثاً.

و الشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان أنّ الإنسان الأوّل فرد تكامل إنساناً و هذه الفرضيّة بخصوصها و إن لم يتسلّمها الجميع تسلّماً يقطع الكلام و اعترضوا عليه باُمور كثيرة مذكورة في الكتب لكنّ أصل الفرضيّة و هي( أنّ الإنسان حيوان تحوّل إنساناً ) ممّا تسلّموه و بنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان.

فإنّهم فرضوا أنّ الأرض - و هي أحد الكواكب السيّارة - قطعة من الشمس مشتقّة منها و قد كانت في حال الاشتعال و الذوبان ثمّ أخذت في التبرّد من تسلّط عوامل البرودة، و كانت تنزل عليها أمطار غزيرة و تجري عليها السيول و تتكوّن فيها البحار ثمّ حدثت تراكيب مائيّة و أرضيّة فحدثت النباتات المائيّة ثمّ حدثت بتكامل النبات و اشتمالها على جراثيم الحياة السمك و سائر الحيوان المائيّ ثمّ السمك الطائر ذو الحياتين ثمّ الحيوان البرّيّ ثمّ الإنسان، كلّ ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضيّ الموجود في المرتبة السابقة يتحوّل به التركيب في صورته إلى المرتبة اللّاحقة فالنبات ثمّ الحيوان المائيّ ثمّ الحيوان ذو الحياتين ثمّ الحيوان البرّيّ ثمّ الإنسان على الترتيب هذا.

كلّ ذلك لما يشاهد من الكمال المنظّم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال و لما يعطيه التجريب في موارد جزئيّة التطوّر.

و هذه فرضيّة افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواصّ و الآثار من

١٥٤

غير قيام دليل عليها بالخصوص و نفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الأنواع متباينة من غير اتّصال بينها بالتطوّر و قصر التطوّر على حالات هذه الأنواع دون ذواتها و هي الّتي جرى فيها التجارب فإنّ التجارب لم يتناول فرداً من أفراد هذه الأنواع تحوّل إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان و إنّما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصّها و لوازمها و أعراضها.

و استقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع، و إنّما المقصود الإشارة إلى أنّه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع فالحقيقة الّتي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعاً مفصولاً عن سائر الأنواع غير معارضة بشي‏ء علميّ.

( كلام في تناسل الطبقة الثانية من الإنسان)

الطبقة الاُولى من الإنسان و هي آدم و زوجته تناسلت بالازدواج فأولدت بنين و بنات (إخوة و أخوات) فهل نسل هؤلاء بالازدواج بينهم و هم إخوة و أخوات أو بطريق غير ذلك؟ ظاهر إطلاق قوله تعالى:( وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً ) الآية على ما تقدّم من التقريب أنّ النسل الموجود من الإنسان إنّما ينتهي إلى آدم و زوجته من غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو اُنثى و لم يذكر القرآن للبثّ إلّا إيّاهما، و لو كان لغيرهما شركة في ذلك لقال: وَ بَثَّ مِنْهُما و من غيرهما، أو ذكر ذلك بما يناسبه من اللّفظ، و من المعلوم أنّ انحصار مبدإ النسل في آدم و زوجته يقضي بازدواج بنيهما من بناتهما.

و أمّا الحكم بحرمته في الإسلام و كذا في الشرائع السابقة عليه على ما يحكى فإنّما هو حكم تشريعيّ يتبع المصالح و المفاسد لا تكوينيّ غير قابل للتغيير، و زمامه بيدالله سبحانه يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فمن الجائز أن يبيحه يوماً لاستدعاء الضرورة ذلك ثمّ يحرّمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة و استيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع.

١٥٥

و القول بأنّه على خلاف الفطرة و ما شرعه الله لأنبيائه دين فطريّ، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠، فاسد فإنّ الفطرة لا تنفيه و لا تدعو إلى خلافه من جهة تنفّرها عن هذا النوع من المباشرة (مباشرة الأخ الاُخت) و إنّما تبغضه و تنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء و المنكر و بطلان غريزة العفّة بذلك و ارتفاعها عن المجتمع الإنسانيّ، و من المعلوم أنّ هذا النوع من التماسّ و المباشرة إنّما ينطبق عليه عنوان الفجور و الفحشاء في المجتمع العالميّ اليوم، و أمّا المجتمع العالميّ يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلّا الإخوة و الأخوات و المشيّة الإلهيّة متعلّقه بتكثّرهم و انبثاثهم فلا ينطبق عليه هذا العنوان.

و الدليل على أنّ الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزيّة تداوله بين المجوس أعصاراً طويلة (على ما يقصّه التاريخ) و شيوعه قانونيّاً في روسيا (على ما يحكى) و كذا شيوعه سفاحاً من غير طريق الازدواج القانونيّ في اُوربه(١) .

و ربّما يقال: إنّه مخالف للقوانين الطبيعيّة و هي الّتي تجري في الإنسان قبل عقده‏ المجتمع الصالح لإسعاده فإنّ الاختلاط و الاستيناس في المجتمع المنزليّ يبطل غريزة التعشّق و الميل الغريزيّ بين الإخوة و الأخوات كما ذكره بعض علماء الحقوق(٢) .

و فيه أنّه ممنوع كما تقدّم أوّلاً، و مقصور في صورة عدم الحاجة الضروريّة ثانياً، و مخصوص بما لا تكون القوانين الوضعيّة غير الطبيعيّة حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع، و متكفّلة لسعادة المجتمعين و إلّا فمعظم القوانين المعمولة و الاُصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعيّة.

____________________

(١) من العادات الرائجة في هذه الأزمنة في الملل المتمدّنة من أوربا و أمريكا: أن الفتيات يزلن بكارتهنّ قبل الازدواج القانونيّ و البلوغ إلى سنّه و قد أنتج الإحصاء أن بعضها إنّما هو من ناحية آبائهن أو إخوانهن.

(٢) مونتسكيو في كتابه روح القوانين.

١٥٦

( بحث روائي‏)

في التوحيد، عن الصادقعليه‌السلام في حديث قال: لعلّك ترى أنّ الله لم يخلق بشراً غيركم؟ بلى و الله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر اُولئك الآدميّين.

أقول: و نقل ابن ميثمّ في شرح نهج البلاغة عن الباقرعليه‌السلام ما في معناه، و رواه الصدوق في الخصال أيضاً.

و في الخصال، عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ الله تعالى خلق اثني عشر ألف عالم كلّ عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين ما يرى عالم منهم أنّ الله عزّوجلّ عالماً غيرهم.

و فيه، عن أبي جعفرعليه‌السلام : لقد خلق الله عزّوجلّ في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحداً بعد واحد مع عالمه ثمّ خلق الله عزّوجلّ آدم أبا البشر و خلق ذرّيّته منه، الحديث.

و في نهج البيان، للشيبانيّ عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام : من أيّ شي‏ء خلق الله حوّاء؟ فقالعليه‌السلام : أيّ شي‏ء يقولون هذا الخلق؟ قلت يقولون: إنّ الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم. فقال: كذبوا أ كان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت: جعلت فداك من أيّ شي‏ء خلقها؟ فقال: أخبرني أبي عن آبائه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تبارك و تعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه - و كلتا يديه يمين - فخلق منها آدم، و فضلت فضلة من الطين فخلق منها حوّاء.

أقول: و رواه الصدوق عن عمرو مثله‏، و هناك روايات اُخر تدلّ على أنّها خلقت من خلف آدم و هو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر، و كذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين، و هذا المعنى و إن لم يستلزم في نفسه محالاً إلّا أنّ الآيات القرآنيّة خالية عن الدلالة عليها كما تقدّم.

و في الإحتجاج، عن السجّادعليه‌السلام في حديث له مع قرشيّ يصف فيه تزويج هابيل

١٥٧

بلوزا اُخت قابيل و تزويج قابيل بإقليما اُخت هابيل، قال: فقال له القرشيّ: فأولداهما؟ قال: نعم، فقال له القرشيّ: فهذا فعل المجوس اليوم، قال: فقال: إنّ المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله، ثمّ قال له: لا تنكر هذا إنّما هي شرائع الله جرت، أ ليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثمّ أحلّها له؟ فكان ذلك شريعة من شرائعهم ثمّ أنزل الله التحريم بعد ذلك، الحديث.

أقول: و هذا الّذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب و الاعتبار، و هناك روايات اُخر تعارضها و هي تدلّ على أنّهم تزوّجوا بمن نزل إليهم من الحور و الجانّ و قد عرفت الحقّ في ذلك.

و في المجمع، في قوله تعالى:( وَ اتّقوا الله الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ ) ، عن الباقرعليه‌السلام : و اتّقوا الأرحام أن تقطعوها.

أقول: و بناؤه على قراءة النصب.

و في الكافي، و تفسير العيّاشيّ،: هي أرحام الناس إنّ الله عزّوجلّ أمر بصلتها و عظّمها، أ لا ترى أنّه جعلها معه؟

أقول: قوله: أ لا ترى إلخ بيان لوجه التعظيم، و المراد بجعلها معه الاقتران الواقع في قوله تعالى:( وَ اتّقوا الله الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله:( الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ ) قال: قال ابن عبّاس: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقول الله تعالى: صلوا أرحامكم فإنّه أبقى لكم في الحياة الدنيا و خير لكم في آخرتكم.

أقول: قوله: فإنّه أبقى لكم إلخ، إشارة إلى ما ورد مستفيضاً: أنّ صلة الرحم تزيد في العمر و قطعها بالعكس من ذلك، و يمكن أن يستأنس لوجهه بما سيأتي في تفسير قوله تعالى:( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) الآية: النساء: ٩.

و يمكن أن يكون المراد بكونه أبقى كون الصلة أبقى للحياة من حيث أثرها فإنّ الصلة تحكّم الوحدة السارية بين الأقارب فيتقوّى بذلك الإنسان قبال العوامل

١٥٨

المخالفة لحياته المضادّة لرفاهية عيشه من البلايا و المصائب و الأعداء.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أميرالمؤمنينعليه‌السلام يقول: إنّ أحدكم ليغضب فما يرضى حتّى يدخل النار، فأيّما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه فإنّ الرحم إذا مسّتها الرحم استقرّت، و إنّها متعلّقة بالعرش تنقضّه انتقاض الحديد فتنادي: اللّهمّ صل من وصلني و اقطع من قطعني و ذلك قول الله في كتابه:( وَ اتّقوا الله الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ الله كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) ، و أيّما رجل غضب و هو قائم فليلزم الأرض من فوره فإنّه يذهب رجز الشيطان.

أقول: و الرحم كما عرفت هي جهة الوحدة الموجودة بين أشخاص الإنسان من حيث اتّصال مادّة وجودهم في الولادة من أب و اُمّ أو أحدهما، و هي جهة حقيقيّة سائرة بين اُولي الأرحام لها آثار حقيقيّة خلقيّة و خلقيّة، و روحيّة و جسميّة غير قابلة الإنكار و إن كان ربّما توجد معها عوامل مخالفة تضعّف أثرها أو تبطله بعض الإبطال حتّى يلحق بالعدم و لن يبطل من رأس.

و كيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعيّ بين أفراد العشيرة، مستعدّة للتأثير أقوى الاستعداد، و لذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأرحام أقوى و أشدّ ممّا ينتجه ذلك بين الأجانب، و كذلك الإساءة في مورد الأقارب أشدّ أثراً منها في مورد الأجانب.

و بذلك يظهر معنى قولهعليه‌السلام : فأيّما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه إلخ، فإنّ الدنوّ من ذي الرحم رعاية لحكمها و تقويّة لجانبها فتتنبّه بسببه و تحرّك لحكمها و يتجدّد أثرها بظهور الرأفة و المحبّة.

و كذلك قولهعليه‌السلام في ذيل الرواية: و أيّما رجل غضب و هو قائم فليلزم الأرض إلخ، فإنّ الغضب إذا كان عن طيش النفس و نزقها كان في ظهوره و غليانه مستنداً إلى هواها و إغفال الشيطان إيّاها و صرفها إلى أسباب واهية وهميّة، و في تغيير الحال من القيام إلى القعود صرف النفس عن شأن إلى شأن جديد يمكنها بذلك أن تشتغل بالسبب الجديد فتنصرف عن الغضب بذلك لأنّ نفس الإنسان بحسب الفطرة أميل إلى الرحمة

١٥٩

منها إلى الغضب و لذلك بعينه ورد في بعض الروايات مطلق تغيير الحال في حال الغضب‏ كما في المجالس، عن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام : أنّه ذكر الغضب فقال: إنّ الرجل ليغضب حتّى ما يرضى أبداً، و يدخل بذلك النار، فأيّما رجل غضب و هو قائم فليجلس فإنّه سيذهب عنه رجز الشيطان، و إن كان جالساً فليقم، و أيّما رجل غضب على ذي رحم فليقم إليه و ليدن منه و ليمسّه فإنّ الرحم إذا مسّت الرحم سكنت‏، أقول: و تأثيره محسوس مجرّب.

قولهعليه‌السلام : و إنّها متعلّقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد إلخ أي تحدث فيه صوتاً مثل ما يحدث في الحديد بالنقر، و في الصحاح: الإنقاض صويت مثل النقر، و قد تقدّم في الكلام على الكرسيّ إشارة إجماليّة سيأتي تفصيلها في الكلام على العرش: أنّ المراد بالعرش مقام العلم الإجماليّ الفعليّ بالحوادث و هو من الوجود المرحلة الّتي تجتمع عندها شتات أزمّة الحوادث و متفرّقات الأسباب و العلل الكونيّة فهي تحرّك وحدها سلاسل العلل و الأسباب المختلفة المتفرّقة أي تتعلّق بروحها الساريّ فيها المحرّك لها كما أنّ أزمّة المملكة على اختلاف جهاتها و شؤونها و أشكالها تجتمع في عرش الملك و الكلمة الواحدة الصادرة منه تحرّك سلاسل القوى و المقامات الفعّالة في المملكة و تظهر في كلّ مورد بما يناسبه من الشكل و الأثر.

و الرحم كما عرفت حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الأشخاص الّذين يجمعهم جامع القرابة فهي من متعلّقات العرش فإذا ظلمت و اضطهدت لاذت بما تعلّقت به و استنصرت، و هو قولهعليه‌السلام : تنقضه انتقاض الحديد، و هو من أبدع التمثيلات شبّه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد الّذي يحدث فيه رنيناً يستوعب بالارتعاش و الاهتزاز جميع جسامة الحديد كما في نقر الأجراس و الجامات و غيرها.

قولهعليه‌السلام : فتنادي اللّهمّ صل من وصلني و اقطع من قطعني، حكاية لفحوى التجائها و استنصارها، و في الروايات الكثيرة أنّ صلة الرحم تزيد في العمر و أنّ قطعها يقطعه و قد مرّ في البحث عن ارتباط الأعمال و الحوادث الخارجيّة من أحكام الأعمال

١٦٠