الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 120031
تحميل: 4287


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120031 / تحميل: 4287
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الجمع بين تسع نسوة لأنّ مجموع الاثنتين و الثلاث و الأربع تسع، و قد ذكر في المجمع: أنّ الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتّة فإنّ من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع لم يلزم منه اجتماع الأعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة، و لأنّ لهذا العدد لفظاً موضوعاً و هو تسع فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث و رباع نوع من العيّ - جلّ كلامه عن ذلك و تقدّس -.

قوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) أي فانكحوا واحدةً لا أزيد، و قد علّقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لأنّ العلم في هذه الاُمور - و لتسويل النفس فيها أثر بيّن - لا يحصل غالباً فتفوت المصلحة.

قوله تعالى: ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) و هي الإماء فمن خاف إلّا يقسط فيهنّ فعليه أن ينكح واحدة، و إن أحبّ أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرّع القسم في الإماء.

و من هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم و التعدّي عليهنّ فإنّ الله لا يحبّ الظالمين و ليس بظلّام للعبيد بل لمّا لم يشرع القسم فيهنّ فأمر العدل فيهنّ أسهل، و لهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتّخاذهنّ و إتيانهنّ بملك اليمين دون نكاحهنّ بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فإنّ مسألة نكاحهنّ سيتعرّض لها في ما سيجي‏ء من قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) الآية: النساء: ٢٥.

قوله تعالى: ( ذلِكَ أَدْنى‏ إلّا تَعُولُوا ) العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرّعت أقرب من إلّا تميلوا عن العدل و لا تتعدّوا عليهنّ في حقوقهنّ، و ربّما قيل: إنّ العول بمعنى الثقل و هو بعيد لفظاً و معنى.

و في ذكر هذه الجملة الّتي تتضمّن حكمة التشريع دلالة على أنّ أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط و نفي العول و الإجحاف في الحقوق.

قوله تعالى: ( وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) الصدقة بضمّ الدال و فتحها و الصداق هو المهر، و النحلة هي العطيّة من غير مثامنة.

١٨١

و في إضافة الصدقات إلى ضمير هنّ دلالة على أنّ الحكم بوجوب الإيتاء مبنيّ على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شي‏ء من المال أو أيّ شي‏ء له قيمة مهراً لهنّ كأنّه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإنّ المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلميّ التالي، و هو الخطبة كما أنّ المشتري يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته، و كيف كان ففي الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس.

و لعلّ إمكان توهّم عدم جواز تصرّف الزوج في المهر أصلاً حتّى برضي من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في قوله:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) مع ما في اشتراط الأكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم، و الدلالة على أنّ الحكم وضعيّ لا تكليفيّ.

و الهناء سهولة الهضم و قبول الطبع و يستعمل في الطعام، و المري من الريّ و هو في الشراب كالهني‏ء في الطعام غير أنّ الهناء يستعمل في الطعام و الشراب معاً، فإذا قيل: هنيئاً مريئاً اختصّ الهناء بالطعام و الريّ بالشراب.

قوله تعالى: ( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً ) السفه خفّة العقل، و كأنّ الأصل في معناه مطلق الخفّة فيما من شأنه أن لا يخفّ و منه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب و ثوب سفيه أي ردي‏ء النسج ثمّ غلب في خفّة النفس و اختلف باختلاف الأغراض و المقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الاُمور الدنيويّة و سفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه و هكذا.

و ظاهر ما يتراءى من الآية أنّه نهي عن الإكثار في الإنفاق على السفهاء و إعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضروريّة في الارتزاق، غير أنّ وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى الّتي يتولّى أمر إدارتها و إنّمائها الأولياء قرينة معيّنة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى، و أنّ المراد بقوله: أَمْوالَكُمُ، في الحقيقة أموالهم اُضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضاً قوله بعد: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ، و إن كان و لا بدّ من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى، فالمراد بالسفهاء ما يعمّ اليتيم و غير اليتيم لكنّ الأوّل أرجح.

١٨٢

و كيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى، فالمراد بقوله: أَمْوالَكُمُ، أموال اليتامى و إنّما اُضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أنّ مجموع المال و الثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها و إنّما اختصّ بعض أفراد المجتمع ببعض منه و آخر بآخر للصلاح العامّ الّذي يبتني عليه أصل الملك و الاختصاص فيجب أن يتحقّق الناس بهذه الحقيقة و يعلموا أنّهم مجتمع واحد و المال كلّه لمجتمعهم، و على كلّ واحد منهم أن يكلأه و يتحفّظ به و لا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة، و تدبير كلّ من لا يحسن التدبير كالصغير و المجنون، و هذا من حيث الإضافة كقوله تعالى:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ ) النساء: ٢٥، و من المعلوم أنّ المراد بالفتيات ليس الإماء اللّاتي يملكها من يريد النكاح.

ففي الآية دلالة على حكم عامّ موجّه إلى المجتمع و هو أنّ المجتمع ذو شخصيّة واحدة له كلّ المال الّذي أقام الله به صلبه و جعله له معاشاً فيلزم على المجتمع أن يدبّره و يصلحه و يعرضه معرض النماء و يرتزق به ارتزاقاً معتدلّاً مقتصداً و يحفظه عن الضيعة و الفساد، و من فروع هذا الأصل أنّه يجب على الأولياء أن يتولّوا أمر السفهاء فلا يؤتوهّم أموالهم فيضيّعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم و يصلحوا شأنها، و ينموها بالكسب و الاتّجار و الاسترباح و يرزقوا اُولئك السفهاء من فوائدها و نمائها دون أصلها حتّى لا ينفد رويداً رويداً و ينتهي إلى مسكنة صاحب المال و شقوته.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ، أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه و نتاجه و أرباحه لا من المال بأن يشرع في الأكل من أصله على ركود منه من غير جريان و دوران فينفد عن آخره، و هذه هي النكتة في قوله:( فِيها ) دون أن يقول:( منها ) كما ذكره الزمخشريّ.

و لا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أنّ الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الإسلاميّ تولّي أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء الأقربين كالأب و الجدّ فعليه التولّي و المباشرة، و إلّا فعلى الحكومة الشرعيّة أو على المؤمنين أن يقوموا بالأمر على التفصيل المذكور في الفقه.

١٨٣

( كلام في أنّ جميع المال لجميع الناس)

هذه حقيقة قرآنيّة هي أصل لأحكام و قوانين هامّة في الإسلام أعني ما تفيده هذه الآية: أنّ المال لله ملكاً حقيقيّاً جعله قياماً و معاشاً للمجتمع الإنسانيّ من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفاً لا يتغيّر و لا يتبدّل و هبة تنسلب معها قدرة التصرّف التشريعيّ ثمّ أذن في اختصاصهم بهذا الّذي خوّله الجميع على طبق نسب مشرّعة كالوراثة و الحيازة و التجارة و غير ذلك و شرط لتصرّفهم اُموراً كالعقل و البلوغ و نحو ذلك.

و الأصل الثابت الّذي يراعى حاله و يتقدّر به فروعه هو كون الجميع للجميع، فإنّما تراعى المصالح الخاصّة على تقدير انحفاظ المصلحة العامّة الّتي تعود إلى المجتمع و عدم المزاحمة، و أمّا مع المزاحمة و المفاوتة فالمقدّم هو صلاح المجتمع من غير تردّد.

و يتفرّع على هذا الأصل الأصيل في الإسلام فروع كثيرة هامّة كأحكام الإنفاق و معظم أحكام المعاملات و غير ذلك، و قد أيّده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى:( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جميعاً ) البقرة: ٢٩، و قد أوردنا بعض الكلام المتعلّق بهذا المقام في البحث عن آيات الإنفاق من سورة البقرة فليراجع هناك.

قوله تعالى: ( وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) قد تقدّم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى:( وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حساب ) آل عمران: ٢٧.

و قوله:( وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ ) ، كقوله:( وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ ) البقرة: ٢٣٣، فالمراد بالرزق هو الغذاء الّذي يغتذي به الإنسان و الكسوة ما يلبسه ممّا يقيه الحرّ و البرد (غير أنّ لفظ الرزق و الكسوة في عرف القرآن كالكسوة و النفقة في لساننا) كالكناية تكنّى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الإنسان المادّيّة الحيويّة فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الإنسان كالمسكن و نحوه كما أنّ الأكل ذو معنى خاصّ

١٨٤

بحسب أصله ثمّ يكنّى به عن مطلق التصرّفات كقوله:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) الآية.

و أمّا قوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) فإنّما هو كلمة أخلاقيّة يصلح بها أمر الولاية فإنّ هؤلاء و إن كانوا سفهاء محجورين عن التصرّف في أموالهم غير أنّهم ليسوا حيواناً أعجم و لا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان فيكلّموا بما يكلّم به الإنسان لا بالمنكر من القول و يعاشروا بما يعاشر به الإنسان.

و من هنا يظهر أنّ من الممكن أن يكون قوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) . كناية عن المعاملة الحسنة و المعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى:( وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حسناً ) البقرة: ٨٣.

قوله تعالى: ( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى‏ حتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ ) إلى قوله:( أَمْوالَهُمْ ) الابتلاء الامتحان و المراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقليّ و الإيناس المشاهدة و فيه شوب من معنى الاُلفة فإنّ مادّته الاُنس، و الرشد خلاف الغيّ و هو الاهتداء إلى مقاصد الحياة، و دفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إيّاه و إقباضه له كأنّ الوليّ يدفعه إليه و يبعّده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة.

و قوله: حتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، متعلّق بقوله: وَ ابْتَلُوا، ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الوليّ في ابتلائه من أوّل ما يأخذ في التمييز و يصلح للابتلاء حتّى ينتهي إلى أوان النكاح و يبلغ مبلغ الرجال، و من طبع هذا الحكم ذلك فإنّ إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبيّ في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الإيناس و يتمشّى بالطبع في مدّة مديدة حتّى يبلغ الرهاق ثمّ النكاح.

و قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ إلخ تفريع على قوله: وَ ابْتَلُوا و المعنى: و امتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم و الكلام يؤذن بأنّ بلوغ النكاح بمنزلة المقتضي لدفع المال إلى اليتيم و استقلاله بالتصرّف في مال نفسه و الرشد شرط لنفوذ التصرّف، و قد فصّل الإسلام النظر في أمر البلوغ من الإنسان فاكتفى في أمر العبادات و أمثال الحدود و الديات بمجرّد السنّ الشرعيّ الّذي هو سنّ النكاح و اشترط في نفوذ التصرّفات الماليّة

١٨٥

و الأقارير و نحوها ممّا تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد، و ذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإنّ إهمال أمر الرشد و إلغاءه في التصرّفات الماليّة و نحوها ممّا يختلّ به نظام الحياة الاجتماعيّة في قبيل الأيتام و يكون نفوذ تصرّفاتهم و أقاريرهم مفضياً إلى غرور الأفراد الفاسدة إيّاهم و إخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة و المواعيد الكاذبة و المعاملات الغرريّة إلى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الاُمور، و أمّا أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر، و كذا أمثال الحدود و الديات فإنّ إدراك قبح هذه الجنايات و المعاصي و فهم وجوب الكفّ عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الإنسان يقوى على تفهّم ذلك قبله و لا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد و بعده.

قوله تعالى: ( وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ) اه الإسراف هو التعدّي عن الاعتدال في العمل، و البدار هو المبادرة إلى الشي‏ء و قوله: وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا، و حذف النفي أو ما في معناه قبل أن و أنّ قياسيّ على ما ذكره النحاة قال تعالى:( يبيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) النساء: ١٧٦، أي لئلّا تضلّوا أو حذر أن تضلّوا.

و التقابل الواقع بين الأكل إسرافاً و الأكل بداراً أن يكبروا يعطي أن الأكل إسرافاً هو التعدّي إلى أموالهم من غير حاجة و لا شائبة استحقاق بل إجحافاً من غير مبالاة و الأكل بداراً أن يأكل الوليّ منها مثل ما يعدّ اُجرة لعمله فيها عادة غير أنّ اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الأكل فالجميع ممنوع إلّا أن يكون الوليّ فقيراً لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسدّ جوعة أو يعمل لليتيم و يسدّ حاجته الضروريّة من ماله و هذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة و البناية و نحوهما و هو الّذي ذكره بقوله: مَنْ كانَ غَنِيًّا أي لا يحتاج في معاشه إلى الأخذ من مال اليتيم فَلْيَسْتَعْفِفْ أي ليطلب طريق العفّة و ليلزمه فلا يأخذ من أموالهم وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ منها بِالْمَعْرُوفِ، و ذكر بعض المفسّرين أنّ المعنى: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ من مال نفسه لا من أموالهم و هو لا يلائم التفصيل بين الغنيّ و الفقير.

١٨٦

و أمّا قوله تعالى:( فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيماً للأمر و رفعاً لغائلة الخلاف و النزاع فمن الممكن أن يدّعي اليتيم بعد الرشد و أخذ المال من الوليّ عليه، ثمّ ذيل الجميع بقوله تعالى: وَ كَفى‏ بِالله حسيباً ربطاً للحكم بمنشأه الأصليّ الأوّليّ أعني محتد كلّ حكم من أسمائه و صفاته تعالى فإنّه تعالى لمّا كان حسيباً لم يكن ليخلّي أحكام عباده من غير حساب دقيق و هو تشريعه المحكم، و تتميماً للتربية الدينيّة الإسلاميّة فإنّ الإسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الإشهاد و إن كان رافعاً غالباً للخلاف و النزاع لكن ربّما تخلّف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرّقات العوامل لكنّ السبب المعنويّ العالي القويّ هو تقوى الله الّذي كفى به حسيباً فلو جعل الوليّ و الشهود و اليتيم الّذي دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف و لا نزاع البتّة.

فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بيّنتا أوّلاً رؤس مسائل الولاية على أموال اليتامى و المحجور عليهم و مهمّاتها: من كيفيّة الأخذ و الحفظ و الإنماء و التصرّف و الردّ و وقت الأخذ و الدفع و تحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامّة في ذلك كلّه و هو أنّ المال لله جعله قياماً للإنسان على ما تقدّم بيانه.

و ثانياً الأصل الأخلاقيّ الّذي يربّي الإنسان على وفق هذه الشرائع و هو الّذي ذكره تعالى بقوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) .

و ثالثاً ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الأحكام العمليّة و الأخلاقيّة و الباقي على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الأحكام العمليّة و الدستورات الأخلاقيّة من حيث الأثر، و هو الّذي ذكره بقوله: وَ كَفى‏ بِالله حسّيباً.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ ) الآية أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إنّ رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلمّا

١٨٧

بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه فخاصّمه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية: وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ‏، الحديث.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام : لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر.

و في الكافي، عنهعليه‌السلام : إذا جمع الرجل أربعاً فطلق إحداهنّ فلا يتزوّج الخامسة حتّى تنقضي عدّة المرأة الّتي طلّق.

أقول: و الروايات في الباب كثيرة.

و في العلل، بإسناده عن محمّد بن سنان: أنّ الرضاعليه‌السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علّة تزويج الرجل أربع نسوة و تحريم أن تتزوّج المرأة أكثر من واحد لأنّ الرجل إذا تزوّج أربع نسوة كان الولد منسوباً إليه، و المرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو؟ إذ هم مشتركون في نكاحها و في ذلك فساد الأنساب و المواريث و المعارف، قال محمّد بن سنان: و من علل النساء الحرائر(١) و تحليل أربع نسوة لرجل واحد أنّهنّ أكثر من الرجال فلمّا نظر - و الله أعلم - يقول الله عزّوجلّ:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) ، فذلك تقدير قدّره الله تعالى ليتّسع فيه الغنيّ و الفقير فيتزوّج الرجل على قدر طاقته، الحديث.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : في حديث قال: و الغيرة للرجال، و لذلك حرّم على المرأة إلّا زوجها و أحلّ للرجل أربعاً فإنّ الله أكرم من أن يبتليهنّ بالغيرة و يحلّ للرجل معها ثلاثاً.

أقول: و يوضح ذلك أنّ الغيرة هي إحدى الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة و هي تغيّر الإنسان عن حاله المعتاد، و نزوعه إلى الدفاع و الانتقام عند تعدّي الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه و يعتقد كرامته عليه، و هذه الصفة الغريزيّة لا يخلو عنها في الجملة إنسان أيّ إنسان فرض فهي من فطريّات الإنسان، و الإسلام دين مبنيّ على الفطرة تؤخذ فيه الاُمور الّتي تقضي بها فطرة الإنسان فتعدّل بقصرها فيما هو صلاح الإنسان في حياته، و يحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل

____________________

(١) كذا في النسخ.

١٨٨

و الفساد كما في اقتناء المال و المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و غير ذلك.

فإذا فرض أنّ الله سبحانه أحلّ للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثاً اُخري - و الدين مبنيّ على رعاية حكم الفطرة - كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء و تغيّرهنّ على الرجال في أمر الضرائر حسداً منهنّ لا غيرة و سيتّضح مزيد اتّضاح في البحث الآتي عن تعدّد الزوجات أنّ هذا الحال حال عرضيّ طار عليهنّ لا غريزيّ فطريّ.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن الصادقعليه‌السلام قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، و لا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز أ ليس الله تبارك و تعالى يقول: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئاً؟ و قال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً؟ و هذا يدخل في الصداق و الهبة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن القداح عن أبي عبدالله عن أبيهعليهما‌السلام قال: جاء رجل إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أميرالمؤمنين بي وجع في بطني فقال له أميرالمؤمنينعليه‌السلام أ لك زوجة؟ قال: نعم قال استوهب منها شيئاً طيّبة به نفسها من مالها ثمّ اشتر به عسلاً ثمّ اسكب عليه من ماء السماء ثمّ اشربه فإنّي سمعت الله يقول في كتابه:( وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ) ، و قال:( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ) ، و قال:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) ، شفيت إن شاء الله تعالى، قال: ففعل ذلك فشفي.

أقول: و رواه أيضاً في الدرّ المنثور عن عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنهعليه‌السلام و هو نوع من الاستفادة لطيف، و بناؤه على التوسعة في المعنى و يوجد له نظائر في الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام سنورد بعضها في الموارد المناسبة له.

و في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام : إذا حدّثتكم بشي‏ء فاسألوني من كتاب الله، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثيرة السؤال، فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ، و قال:( وَ لا

١٨٩

تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً ) ، و قال:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) ، قال: من لا تثق به.

و فيه، عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن هذه الآية( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال: كلّ من يشرب الخمر فهو سفيه.

و فيه، عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال: هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتّى تعرفوا منهم الرشد فقلت: فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال: إذا كنت أنت الوارث لهم.

و في تفسير القمّيّ، عن الباقرعليه‌السلام : في الآية: فالسفهاء النساء و الولد إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة و ولده سفيه مفسد لم ينبغ له أن يسلّط واحداً منهما على ماله الّذي جعل الله له قياماً يقول: معاشاً الحديث.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيّد ما قدّمناه أنّ للسفه معنى وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه و الصبيّ قبل أن يرشد و المرأة المتلهّية المتهوّسة و شارب الخمر و مطلق من لا تثق به، و بحسب اختلاف هذه المصاديق يختلف معنى إيتاء المال، و كذا معنى إضافة( أموالكم) و عليك بالتطبيق و الاعتبار.

و قوله في رواية ابن أبي حمزة: إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدّمناه أنّ المال كلّه للمجتمع بحسب الأصل ثمّ لكلّ من الأشخاص ثانياً و للمصالح الخاصّة فإنّ اشتراك المجتمع في المال أوّلاً هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر.

و في الفقيه، عن الصادقعليه‌السلام : انقطاع يتمّ اليتيم الاحتلام و هو أشدّه، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشد و كان سفيهاً أو ضعيفاً فليمسك عنه ولّيه ماله.

و فيه، عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى) الآية قال: إيناس الرشد حفظ المال.

أقول: و قد تقدّم وجه دلالة الآية عليه.

و في التهذيب، عنهعليه‌السلام : في قول الله:( وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال: فذاك

١٩٠

رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و أبوداود و النسائيّ و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه عن ابن عمر: أنّ رجلاً سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ليس لي مال و لي يتيم فقال: كلّ من مال يتيمك غير مسرف و لا مبذر و لا متأثّل مالاً و من غير أن تقي مالك بماله.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام و غيرهم، و هناك مباحث فقهيّة و أخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث و كتب الفقه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن رفاعة عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) ، قالعليه‌السلام : كان أبي يقول: إنّها منسوخة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوداود و النحّاس كلاهما في الناسخ و ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عبّاس:( وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال: نسختها:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً ) الآية.

أقول: و كون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة، و أمّا قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً) الآية فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإنّ الأكل في هذه الآية المجوّزة مقيّد بالمعروف، و في تلك الآية المحرّمة بالظلم و لا تنافي بين تجويز الأكل بالمعروف و تحريم الأكل ظلماً، فالحقّ أنّ الآية غير منسوخة، و الروايتان لا توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن المغيرة عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام : في قول الله:( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) قال: فقال: إذا رأيتموهم يحبّون آل محمّد فارفعوهم درجة.

أقول: و هو من الجري من باطن التنزيل فإنّ أئمّة الدين آباء المؤمنين و المؤمنون

١٩١

أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صحّ انتسابهم إليهم بالحبّ فليرفعوا درجة بتعليم المعارف الحقّة الّتي هي ميراث آبائهم.

( بحث علميّ في فصول ثلاثة)

١- النكاح من مقاصد الطبيعة: أصل التواصل بين الرجل و المرأة ممّا تبيّنه الطبيعة الإنسانيّة بل الحيوانيّة بأبلغ بيانها، و الإسلام دين الفطرة فهو مجوّزه لا محالة.

و أمر الإيلاد و الإفراخ الّذي هو بغية الطبيعة و غرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد و العامل الأصليّ في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج و إخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد و المقاربة إلى شكل النكاح و الملازمة و لهذا ترى أنّ الحيوان الّذي يشترك في تربيته الوالدان معاً كالطيور في حضانة بيضها و تغذية أفراخها و تربيتها و كالحيوان الّذي يحتاج في الولادة و التربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه و حفظه إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج و هو نوع من الملازمة و الاختصاص بين الزوجين الذكور و الإناث منه فيتواصلان عندئذ و يتشاركان في حفظ بيض الإناث و تدبيرها و إخراج الأفراخ منها و هكذا إلى آخر مدّة تربية الأولاد ثمّ ينفصلان إن انفصلا ثمّ يتجدّد الازدواج و هكذا فعامل النكاح و الازدواج هو الإيلاد و تربية الأولاد و أمّا إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيويّة كالكسب و جمع المال و تدبير الأكل و الشرب و الأثاث و إدارة البيت فاُمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة و الخلقة و إنّما هي اُمور مقدّمية أو فوائد مترتّبة.

و من هنا يظهر أنّ الحرّيّة و الاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كلّ من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد و مهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الّذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنّة الجارية بين الملل المتمدّنة اليوم و كذا الزنا و خاصّة زنا المحصنة منه.

١٩٢

و كذا تثبيت الازدواج الواقع و تحريم الطلاق و الانفصال بين الزوجين، و ترك الزوج و اتّخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما.

و كذا إلغاء التوالد و تربية الأولاد و بناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزليّة على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية و نظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامّة المعدّة للرضاع و التربية كلّ ذلك على خلاف سنّة الطبيعة و قد جهّز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرّت الإشارة إليه.

نعم الحيوان الّذي لا حاجة في ولادته و تربيته إلى أزيد من حمل الاُمّ إيّاه و إرضاعها له و تربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعيّة فيه إلى الازدواج و المصاحبة و الاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرّيّة السفاد بمقدار ما لا يضرّ بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل.

و إيّاك أن تتوهّم أنّ الخروج عن سنّة الخلقة و ما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر و الرويّة مع ما فيه من لذائذ الحياة و التنعّم، فإنّ ذلك من أعظم الخبط فإنّ هذه البنيات الطبيعيّة الّتي منها البنية الإنسانيّة مركّبات مؤلّفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كلّ في موقعه الخاصّ على شرائطه المخصوصة به وضعاً هو الملائم لغرض الطبيعة و الخلقة و هو المناسب لكمال النوع كالمعاجين و المركّبات من الأدوية الّتي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف و مقادير و أوزان و شرائط خاصّة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصّة أدنى خروج و انحراف سقط الأثر.

فالإنسان مثلاً موجود طبيعيّ تكوينيّ ذو أجزاء مركّبة تركيباً خاصّاً يستتبع أوصافاً داخليّة و خواصّ روحيّة تستعقب أفعالاً و أعمالاً فإذا حوّل بعض أفعاله و أعماله من مكانته الطبيعيّة إلى غيرها يستتّبع ذلك انحرافاً و تغيّراً في صفاته و خواصّه الروحيّة و انحرف بذلك جميع الخواصّ و الصفات عن مستوى الطبيعة و صراط الخلقة و بطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعيّ و الغاية الّتي يبتغيها بحسب الخلقة.

و إذا بحثنا في المصائب العامّة الّتي تستوعب اليوم الإنسانيّة و تحبط أعمال الناس و مساعيهم لنيل الراحة و الحياة السعيدة و تهدّد الإنسانيّة بالسقوط و الانهدام وجدنا

١٩٣

أنّ أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى و تمكّن الخرق و القسوة و الشدّة و الشره من نفوس الجوامع البشريّة و أعظم أسبابه و علله الحرّيّة و الاسترسال و الإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجيّة و تربية الأولاد فإنّ سنّة الاجتماع المنزليّ و تربية الأولاد اليوم تميت قرائح الرأفة و الرحمة و العفّة و الحياة و التواضع من الإنسان من أوّل حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش.

و أمّا تدارك هذه النواقص بالفكر و الرويّة فهيهات ذلك فإنّما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينيّة اتّخذتها الطبيعة وسيلة لردّ ما خرج و انحرف عن صراط الطبيعة و التكوين إليه لا لإبطال سعي الطبيعة و الخلقة و قتلها بنفس السيف الّذي أعطته للإنسان لدفع الشرّ عنها، و لو استعمل الفكر الّذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شؤون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضاً فاسدة منحرفة كسائر الوسائل، و لذلك ترى أنّ الإنسان اليوم كلّما أصلح بقوّة فكره واحداً من المفاسد العامّة الّتي تهدّد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمرّ و أدهى و زاد البلاء و المصيبة شيوعاً و شمولاً.

نعم ربّما قال القائل من هؤلاء: إنّ الصفات الروحيّة الّتي تسمّى فضائل نفسانيّة هي بقايا من عهد الأساطير و التوحّش لا تلائم حياة الإنسان الراقي اليوم كالعفّة و السخاء و الحياء و الرأفة و الصدق فإنّ العفّة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه، و السخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال و ما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنّه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب و بسط يده لذلّ السؤال، و الحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه و إظهار ما في ضميره، و الرأفة تضعّف القلب، و الصدق لا يلائم الحياة اليوميّة، و هذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الّذي ذكرناه.

و لم يدر هذا القائل أنّ هذه الفضائل في المجتمع الإنسانيّ من الواجبات الضروريّة الّتي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع و لا ساعة.

فلو ارتفعت هذه الخصال و تعدّى كلّ فرد إلى ما لكلّ فرد من مختصّات الحقوق و الأموال و الأعراض، و لم يسخ أحد ببذل ما مسّت إليه حاجة المجتمع، و لم ينفعل

١٩٤

أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين و لم يرأف أحد بالعجزة الّذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال و من في تلوهم، و كذب كلّ أحد لكلّ أحد في جميع ما يخبر به و يعده و هكذا تلاشى المجتمع الإنسانيّ من حينه.

فينبغي لهذا القائل إن يعلم أنّ هذه الخصال لا ترتحل و لن ترتحل عن الدنيا، و أنّ الطبيعة الإنسانيّة مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع، و إنّما الشأن كلّ الشأن في تنظيم هذه الصفات و تعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة و الخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة، و لو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقّي اليوم فضائل للإنسانيّة معدّلة بما هو الحريّ من التعدّيل لما أوردت المجتمع مورد الفساد و الهلكة و لأقرّ الناس في مستقرّ أمن و راحة و سعادة.

و لنعد إلى ما كنّا فيه من البحث فنقول: الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعيّ فأحلّ النكاح و حرّم الزنا و السفاح، و وضع علقة الزوجيّة على أساس جواز المفارقة و هو الطلاق، و وضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما سنشرحه، و وضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد و التربية، و من الأحاديث النبوّية المشهورة قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث.

٢- استيلاء الذكور على الإناث: ثمّ إن التأمّل في سفاد الحيوانات يعطي أنّ للذكور منها شائبة استيلاء على الإناث في هذا الباب فإنّا نرى أنّ الذكر منها كأنّه يرى نفسه مالكاً للبضع مسلّطاً على الاُنثى، و لذلك ما ترى أنّ الفحولة منها تتنازع و تتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الاُنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس، و كذا ما يجري بينها مجرى الخطبة من الإنسان إنّما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث، و ليس إلّا أنّها ترى بالغريزة أنّ الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي و الإناث كالقابل الخاضع، و هذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها و يستلذّه طبعها فإنّ ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق و الشهوة و استزادة اللّذة، و أمّا نحو الاستيلاء و الاستعلاء المذكور فإنّه عائد إلى قوّة الفحولة و إجراء ما تأمر به الطبيعة.

١٩٥

و هذا المعنى أعني لزوم الشدّة و البأس لقبيل الذكور و اللّين و الانفعال لقبيل الإناث ممّا يوجد الاعتقاد به قليلاً أو كثيراً عند جميع الاُمم حتّى سرى إلى مختلف اللّغات فسمّي كلّ ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر و كلّ ليّن سهل الانفعال بالاُنثى يقال: حديد ذكر و سيف ذكر و نبت ذكر و مكان ذكر و هكذا.

و هذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة و الاُمم المتنوّعة في الجملة و إن كان ربّما لم يخل من الاختلاف زيادة و نقيصة.

و قد اعتبره الإسلام في تشريعه قال الله تعالى:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) النساء: ٣٤، فشرّع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.

٣- تعدد الزوجات: و أمر الوحدة و التعدّد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزليّ تتأحّد الإناث و تختصّ بالذكور لما أنّ الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل و حضانة الأفراخ و تربيتها و ربّما تغيّر الوضع الجاري بينها بالصناعة و التدبير و الكفالة أعني بالتأهيل و التربية كما يشاهد من أمر الديك و الدجاج و الحمام و نحوها.

و أمّا الإنسان فاتّخاذ الزوجات المتعدّدة كانت سنّة جارية في غالب الاُمم القديمة كمصر و الهند و الصين و الفرس بل و الروم و اليونان فإنّهم كانوا ربّما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدناً يصاحبونها بل و كان ذلك عند بعض الاُمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود و العرب فكان الرجل منهم ربّما تزوّج العشرة و العشرين و أزيد و قد ذكروا أنّ سليمان الملك تزوّج مئات من النساء.

و أغلب ما كان يقع تعدّد الزوجات إنّما هو في القبائل و من يحذو حذوهم من سكّان القرى و الجبال فإنّ لربّ البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع و كثرة الأعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الّذي هو من لوازم عيشتهم و ليكون ذلك وسيلة يتوسّلون بها إلى الترؤّس و السودد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثّر الأقرباء بالمصاهرة.

١٩٦

و ما ذكره بعض العلماء أنّ العامل في تعدّد الزوجات في القبائل و أهل القرى إنّما هو كثرة المشاغل و الأعمال فيهم كأعمال الحمل و النقل و الرعي و الزراعة و السقاية و الصيد و الطبخ و النسج و غير ذلك فهو و إن كان حقّاً في الجملة إلّا أنّ التأمّل في صفاتهم الروحيّة يعطي أنّ هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهميّة عندهم، و ما ذكرناه هو الّذي يتعلّق به قصد الإنسان البدويّ أوّلاً و بالذات كما أنّ شيوع الادعاء و التبنّي أيضاً بينهم سابقاً كان من فروع هذا الغرض.

على أنّه كان في هذه الاُمم عامل أساسيّ آخر لتداول تعدّد الزوجات بينهم و هو زيادة عدّة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإنّ هذه الاُمم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب و الغزوات و قتل الفتك و الغيلة فكان القتل يفني الرجال، و يزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلّا بتعدّد الزوجات هذا.

و الإسلام شرّع الازدواج بواحدة، و أنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكّن من القسط بينهنّ مع إصلاح جميع المحاذير المتوجّهة إلى التعدّد على ما سنشير إليها قال الله تعالى:( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الّذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٢٨.

و قد استشكلوا على حكم تعدّد الزوجات:

أوّلاً: أنّه يضع آثاراً سيّئة في المجتمع فإنّه يقرح قلوب النساء في عواطفهنّ و يخيّب آمالهنّ و يسكن فورة الحبّ في قلوبهنّ فينعكس حسّ الحبّ إلى حسّ الانتقام فيهملن أمر البيت و يتثاقلن في تربية الأولاد و يقابلن الرجال بمثل ما أساؤا إليهنّ فيشيع الزنا و السفاح و الخيانة في المال و العرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحطّ في أقرب وقت.

و ثانياً: أنّ التعدّد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإنّ الإحصاء في الاُمم و الأجيال يفيد أنّ قبيلي الذكورة و الإناث متساويان عدداً تقريباً فالّذي هيّأته الطبيعة هو واحدة لواحد، و خلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.

و ثالثاً: أنّ في تشريع تعدّد الزوجات ترغيباً للرجال إلى الشره و الشهوة، و تقوية لهذه القوّة في المجتمع.

و رابعاً: أنّ في ذلك حطّاً لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهنّ

١٩٧

بواحد من الرجال و هو تقويم جائر حتّى بالنظر إلى مذاق الإسلام الّذي سوّى فيه بين مرأتين و رجل كما في الإرث و الشهادة و غيرهما، و لازمه تجويز التزوّج باثنتين منهنّ لا أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أيّ حال من غير وجه و هذه الإشكالات ممّا اعترض بها النصارى على الإسلام أو من يوافقهم من المدنيّين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال و النساء في المجتمع.

و الجواب عن الأوّل ما تقدّم غير مرّة في المباحث المتقدّمة أنّ الإسلام وضع بنية المجتمع الإنسانيّ على أساس الحياة التعقّليّة دون الحياة الإحساسيّة فالمتّبع عنده هو الصلاح العقليّ في السنن الاجتماعيّة دون ما تهواه الإحساسات و تنجذب إليه العواطف.

و ليس في ذلك إماتة العواطف و الإحساسات الرقيقة و إبطال حكم المواهب الإلهيّة و الغرائز الطبيعيّة فإنّ من المسلّم في الأبحاث النفسيّة أنّ الصفات الروحيّة و العواطف و الإحساسات الباطنة تختلف كمّاً و كيفاً باختلاف التربية و العادة، كما أنّ كثيراً من الآداب و الرسوم الممدوحة عند الشرقيّين مثلاً مذمومة عند الغربيّين و بالعكس، و كلّ اُمّة تختلف مع غيرها في بعضها.

و التربية الدينيّة في الإسلام تقيم المرأة الإسلاميّة مقاماً لا تتألّم بأمثال ذلك عواطفها. نعم المرأة الغربيّة حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة و لقّنت بذلك جيلاً بعد جيل استحكّم في روحها عاطفة نفسانيّة تضادّ التعدّد. و من الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الّذي شاعت بين الرجال و النساء في الاُمم المتمدّنة! اليوم.

أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كلّ من هووها و هوتهم من نسائهم من محارم و غيرها و من بكر أو ثيّب و من ذات بعل أو غيرها، حتّى أنّ الإنسان لا يقدر أن يقف في كلّ ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال و النساء و لم يقنعوا بذلك حتّى وقعوا في الرجال وقوعاً قل ما يسلم منه فرد حتّى بلغ الأمر مبلغاً رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللّواط سنّة قانونيّة و ذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسميّة، و أمّا النساء و خاصّة الأبكار و غير ذوات البعل من الفتيات فالأمر فيهنّ أغرب و أفظع.

١٩٨

فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك و لا يتحرّجن و لا تنكسر قلوبهنّ و لا تتألّم عواطفهنّ حين يشاهدن كلّ هذه الفضائح من رجالهنّ؟ و كيف لا تتألّم عواطف الرجل و إحساساته حين يبني بفتاة ثمّ يجدها ثيّباً فقدت بكارتها و افترشت لا للواحد و الاثنين من الرجال ثمّ لا يلبث حتّى يباهي بين الأقران أنّ السيّدة ممّن توفّرت عليها رغبات الرجال و تنافس في القضاء منها العشرات و المئات!! و هل هذا إلّا أنّ هذه السيّئات تكرّرت بينهم و نزعة الحرّيّة تمكّنت من أنفسهم حتّى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف و الإحساسات و لا تستنكرها النفوس؟ فليس إلّا أنّ السنن الجارية تميل العواطف و الإحساسات إلى ما يوافقها و لا يخالفها.

و أمّا ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهنّ في تدبير البيت و تثاقلهنّ في تربية الأولاد و شيوع الزنا و الخيانة فالّذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإنّ هذا الحكم جرى في صدر الإسلام و ليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدّعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الأمر بالعكس.

على أنّ هذه النساء اللّاتي يتزوّج بهنّ على الزوجة الاُولى في المجتمع الإسلاميّ و سائر المجتمعات الّتي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية و الثالثة و الرابعة إنّما يتزوّج بهنّ عن رضاء و رغبة منهنّ و هنّ من نساء هذه المجتمعات، و لم يسترققهنّ الرجال من مجتمعات اُخرى، و لا جلبوهنّ للنكاح من غير هذه الدنيا و إنّما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعيّة، فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدّد الزوجات، و لا قلوبهنّ تتألّم منها بل لو كان شي‏ء من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجيّة الاُولى أعني أنّ المرأة إذا توحّدت للرجل لا تحبّ أن ترد عليها و على بيتها اُخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد و نحو ذلك فعدم الرضاء و التألّم فيما كان إنّما منشؤه حالة عرضيّة (التوحّد بالبعل) لا غريزة طبيعيّة.

و الجواب عن الثاني أنّ الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال و النساء في العدد مختلّ من وجوه.

منها أنّ أمر الازدواج لا يتّكي على هذا الّذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل

١٩٩

و شرائط اُخرى لهذا الأمر فأوًلاً الرشد الفكريّ و التهيّؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء و خاصّة في المناطق الحارّة إذا جزن التسع صلحن للنكاح، و الرجال لا يتهيّؤون لذلك غالباً قبل الستّ عشرة من السنين (و هو الّذي اعتبره الإسلام للنكاح).

و من الدليل على ذلك السنّة الجارية في فتيات الاُمم المتمدّنة فمن الشاذّ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سنّ البلوغ القانونيّ فليس إلّا أن الطبيعة هيّأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك.

و لازم هذه الخاصّة أن لو اعتبرنا مواليد ستّ عشرة سنة من قوم (و الفرض تساوي عدد الذكور و الإناث فيهم) كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال و هي سنة أوّل الصلوح مواليد سنة واحدة و هم مواليد السنة الاُولى المفروضة، و الصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين و هي مواليد السنة الاُولى إلى السابعة، و لو اعتبرنا مواليد خمسة و عشرين سنة و هي سنّ بلوغ الأشدّ من الرجال حصل في السنة الخامسة و العشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين و من النساء مواليد خمس عشرة سنة، و إذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكلّ واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.

و ثانياً أنّ الإحصاء كما ذكروه يبيّن أنّ النساء أطول عمراً من الرجال و لازمه أن تهيّئ سنّة الوفاة و الموت عدداً من النساء ليس بحذائهنّ رجال(١) .

و ثالثاً: أنّ خاصّة النسل و التوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالأغلب

____________________

(١) و ممّا يؤيّد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيّام (جريدة الاطّلاعات المنتشرة في طهران المورخة بالثلاثاء ١١ ديماه سنة ١٣٣٥ شمسي) حكاية عن دائرة الإحصاء في فرنسا ما حاصله: قد تحصل بحسب الإحصاء أنّه يولد في فرنسا حذاء كلّ( ١٠٠) مولودة من البنات( ١٠٥) من البنين، و مع ذلك فإنّ الإناث يربو عدّتهم على عدّة الذكور بما يعادل( ١٧٦٥٠٠٠) نسمة، و نفوس المملكة( ٤٠ مليوناً تقريباً) و السبب فيه أنّ البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض و يهلك بها( ٥ در صد) الزائد منهم إلي سنة( ١٩) من الولادة.

ثمّ يأخذ عدّة الذكور في النقص ما بين ٢٥ - ٣٠ من السنين حتّى إذا بلغوا سني ٦٠ - ٦٥ لم يبق تجاه كلّ( ١٥٠٠٠٠٠) من الإناث إلى( ٧٥٠٠٠٠) من الذكور

٢٠٠