الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 119991
تحميل: 4286


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119991 / تحميل: 4286
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة النساء الآيات ١١ - ١٤)

يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلْذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَمْ يَكُن لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمّهِ الثّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمّهِ السّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيم( ١١) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَم يَكُن لَهُنّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِن لَمْ يَكُن لَكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنّ الّثمُنُ مِمّا تَرَكْتُم مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِيْ الثّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى‏ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيّةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ( ١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ١٣) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ( ١٤)

( بيان)

قوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) الإيصاء و التوصية هو العهد و الأمر، و قال الراغب في مفردات القرآن: الوصيّة: التقدّم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ، انتهى.

٢٢١

و في العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أنّ حكم السهم و السهمين مخصوص بما ولده الميّت بلا واسطة، و أمّا أولاد الأولاد فنازلاً فحكمهم حكم من يتّصلون به فلبنت الابن سهمان و لابن البنت سهم واحد إذا لم يكن هناك من يتقدّم على مرتبتهم كما أنّ الحكم في أولاد الإخوة و الأخوات حكم من يتّصلون به، و أمّا لفظ الإبن فلا يقضي بنفي الواسطة كما أنّ الأب أعمّ من الوالد.

و أمّا قوله تعالى في ذيل الآية:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) فسيجي‏ء أنّ هناك عناية خاصّة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد.

و أمّا قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهليّة من منع توريث النساء فكأنّه جعل إرث الاُنثى مقرّراً معروفاً و أخبر بأنّ للذكر مثله مرّتين أو جعله هو الأصل في التشريع و جعل إرث الذكر محمولاً عليه يعرف بالإضافة إليه، و لو لا ذلك لقال: للاُنثى نصف حظّ الذكر و إذن لا يفيد هذا المعنى و لا يلتئم السياق معه - كما ترى - هذا ما ذكره بعض العلماء و لا بأس به، و ربّما اُيّد ذلك بأنّ الآية لا تتعرّض بنحو التصريح مستقلّا إلّا لسهام النساء و إن صرّحت بشي‏ء من سهام الرجال فمع ذكر سهامهنّ معه كما في الآية التالية و الآية الّتي في آخر السورة.

و بالجملة قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) في محلّ التفسير لقوله:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ ) ، و اللّام في الذكر و الاُنثيين لتعريف الجنس أي إنّ جنس الذكر يعادل في السهم اُنثيين، و هذا إنّما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر و اُنثى معا فللذكر ضعفا الاُنثى سهماً و لم يقل: للذكر مثل حظّي الاُنثى أو مثلاً حظّ الاُنثى ليدلّ الكلام على سهم الاُنثيين إذا انفردتا بإيثار الإيجاز على ما سيجي‏ء.

و على أيّ حال إذا تركّبت الورثة من الذكور و الإناث كان لكلّ ذكر سهمان و لكلّ اُنثى سهم إلى أيّ مبلغ بلغ عددهم.

قوله تعالى: ( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ) ظاهر وقوع هذا

٢٢٢

الكلام بعد قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) أنّه على تقدير معطوف عليه محذوف كأنّه قيل: هذا إذا كانوا نساءً و رجالاً فإن كنّ نساء إلخ و هو شائع في الاستعمال و منه قوله تعالى:( وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) البقرة: ١٩٦، و قوله:( أيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيّام أُخَرَ ) البقرة: ١٨٤.

و الضمير في كنّ راجع إلى الأولاد في قوله: فِي أَوْلادِكُمْ، و تأنيث الضمير لتأنيث الخبر، و الضمير في قوله: تَرَكَ راجع إلى الميّت المعلوم من سياق الكلام.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) الضمير إلى الولد المفهوم من السياق و تأنيثه باعتبار الخبر و المراد بالنصف نصف ما ترك فاللّام عوض عن المضاف إليه.

و لم يذكر سهم الاُنثيين فإنّه مفهوم من قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) فإن ذكراً و اُنثى إذا اجتمعا كان سهم الاُنثى الثلث للآية و سهم الذكر الثلثين و هو حظّ الاُنثيين فحظّ الاُنثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالاً و ليس في نفسه متعيّناً للفهم إذ لا ينافي ما لو كان قيل بعده: و إن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلاً لكن يعيّنه السكوت عن ذكر هذا السهم و التصريح الّذي في قوله: فإن كنّ نساءً فوق اثنتين، فإنّه يشعر بالتعمّد في ترك ذكر حظّ الاُنثيين.

على أنّ كون حظّهما الثلثين هو الّذي عمل به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و جرى العمل عليه منذ عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عهدنا بين علماء الاُمّة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عبّاس.

و هذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الاُنثيين، قال الكلينيّ رحمه الله في الكافي: إنّ الله جعل حظّ الاُنثيين الثلثين بقوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، و ذلك أنّه إذا ترك الرجل بنتاً و ابناً فللذكر مثل حظّ الاُنثيين و هو الثلثان فحظّ الاُنثيين الثلثان، و اكتفا بهذا البيان أن يكون ذكر الاُنثيين بالثلثين، انتهى، و نقل مثله عن أبي مسلم المفسّر: أنّه يستفاد من قوله تعالى:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) و ذلك أنّ الذكر مع الاُنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظّ الاُنثيين، انتهى و إن كان ما نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفاً فليتأمّل فيه.

٢٢٣

و هناك وجوه اُخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم: أنّ المراد بقوله تعالى:( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) ، الإثنتان و ما فوقهما فهذه الجملة تتضمّن بيان حظّ الاُنثيين، و النساء فوق اثنتين جميعاً. و مثل قول بعضهم: أنّ حكم البنتين ههنا معلوم بالقياس إلى حكم الاُختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك ممّا يجلّ عن أمثالها كلامه تعالى.

قوله تعالى: ( وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) إلى قوله:( فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) في عطف الأبوين في الحكم على الأولاد دلالة على أنّ الأبوين يشاركان الأولاد في طبقتهم، و قوله: و ورثه أبواه، أي انحصر الوارث فيهما، و في قوله:( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) إلخ بعد قوله:( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ ) ، دلالة على أنّ الإخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة لطبقة الأبناء و البنات لا ترث مع وجودهم غير أنّ الإخوة تحجب الاُمّ عن الثلث.

قوله تعالى: ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) أمّا الوصيّة فهي الّتي تندب إليها قوله:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) الآية: البقرة: ١٨٠، و لا ينافي تقدّمها في الآية على الدين ما ورد في السنّة أنّ الدين مقدّم على الوصيّة لأنّ الكلام ربّما يقدم فيه غير الأهمّ على الأهمّ لأنّ الأهمّ لمكانته و قوّة ثبوته ربّما لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد و التشديد، و منه التقديم، و على هذا فقوله: أَوْ دَيْنٍ في مقام الإضراب و الترقّي طبعاً.

و بذلك يظهر وجه توصيف الوصيّة بقوله: يوصي بها ففيه دلالة على التأكيد، و لا يخلو مع ذلك من الإشعار بلزوم إكرام الميّت و مراعاة حرمته فيما وصّى به كما قال تعالى:( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّما إِثْمُهُ عَلَى الّذينَ يُبَدِّلُونَهُ ) الآية: البقرة: ١٨١.

قوله تعالى: ( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) الخطاب للورثة أعني لعامّة المكلّفين من حيث أنّهم يرثون أمواتهم، و هو كلام ملقى للإيماء إلى سرّ اختلاف السهام في وراثة الآباء و الأبناء و نوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان( لا تدرون) و أمثال هذه التعبيرات شائعة في اللّسان.

٢٢٤

على أنّه لو كان الخطاب لغير الورثة أعني للناس من جهة أنّهم سيموتون و يورّثون آباءهم و أبناءهم لم يكن وجه لقوله:( أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) فإنّ الظاهر أنّ المراد بالانتفاع هو الانتفاع بالمال الموروث و هو إنّما يعود إلى الورثة دون الميّت.

و تقديم الآباء على الأبناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعاً من الأبناء، كما في قوله تعالى:( إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ الله ) البقرة: ١٥٨، و قد مرّت الرواية عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: أبدأ بما بدأ الله الحديث.

و الأمر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم و اعتبار العواطف الإنسانيّة فإنّ الإنسان أرأف بولده منه بوالديه و هو يرى بقاء ولده بقاءً لنفسه دون بقاء والديه فآباء الإنسان أقوى ارتباطاً و أمّس وجوداً به من أبنائه، و إذا بني الانتفاع الإرثيّ على هذا الأصل كان لازمه أن يذهب الإنسان إذا ورث أباه مثلاً بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلاً و إن كان ربّما يسبق إلى الذهن البدويّ أن يكون الأمر بالعكس.

و هذه الآية أعني قوله:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) من الشواهد على أنّه تعالى بنى حكم الإرث على أساس تكوينيّ خارجيّ كسائر الأحكام الفطريّة الإسلاميّة.

على أنّ الآيات المطلقة القرآنيّة الناظرة إلى أصل التشريع أيضاً كقوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠، تدلّ على ذلك، و كيف يتصوّر مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد في الشريعة أحكام إلزاميّة و فرائض غير متغيّرة و ليس لها أصل في التكوين في الجملة.

و ربّما يمكن أن يستشمّ من الآية أعني قوله:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ ) إلخ، تقدّم أولاد الأولاد على الأجداد و الجدّات فإنّ الأجداد و الجدّات لا يرثون مع وجود الأولاد و أولاد الأولاد.

قوله تعالى: ( فَرِيضَةً مِنَ الله ) إلخ الظاهر أنّه منصوب بفعل مقدّر و التقدير خذوا أو الزموا و نحو ذلك و تأكيد بالغ أنّ هذه السهام المذكورة قدّمت إليكم و هي مفرزة معيّنة لا تتغيّر عمّا وضعت عليه.

٢٢٥

و هذه الآية متكفّلة لبيان سهام الطبقة الاُولى و هي الأولاد و الأب و الاُمّ على جميع تقاديرها إمّا تصريحاً كسهم الأب و الاُمّ و هو السدس لكلّ واحد منهما مع وجود الأولاد، و الثلث أو السدس للاُمّ مع عدمهم على ما ذكر في الآية و كسهم البنت الواحدة و هو النصف، و سهم البنات إذا تفرّدن و هو الثلثان، و سهم البنين و البنات إذا اجتمعوا و هو للذكر مثل حظّ الاُنثيين، و يحلق بها سهم البنتين و هو الثلثان كما تقدّم.

و أمّا تلويحا كسهم الابن الواحد فإنه يرث جميع المال لقوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) و قوله في البنت:( وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) ، و كذا الأبناء إذا تفرّدوا لما يفهم من قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، أنّ الأبناء متساوون في السهام، و أمر الآية في إيجازها عجيب.

و اعلم أيضاً أنّ مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال و و إمتاع الورثة بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين سائر الناس و قد تقدّم نظير هذا الإطلاق أو العموم في قوله تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ ) . الآية، و ما ربّما قيل: إنّ خطابات القرآن العامّة لا تشمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجريانها على لسانه فهو ممّا لا ينبغي أن يصغي إليه.

نعم ههنا نزاع بين أهل السنّة و الشيعة في أن النبيّ هل يورّث أو أنّ ما تركه صدقة و منشؤه الرواية الّتي رواها أبوبكر في قصّة فدك و البحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب و لذلك نرى التعرّض له ههنا فضلاً فليراجع محلّه المناسب له.

قوله تعالى: ( وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ) إلى قوله:( تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) المعنى ظاهر، و قد استعمل النصف بالإضافة فقيل: نصف ما ترك، و الربع بالقطع فقيل: و لهنّ الربع ممّا تركتم فإنّ القطع عن الإضافة يستلزم التتميم بمن ظاهره أو مقدّرة، و من هذه تفيد معنى الأخذ و الشروع من الشي‏ء و هذا المعنى يناسب كون مدخول من كالجزء التابع من الشي‏ء المبتدأ منه و كالمستهلك فيه، و هذا إنّما يناسب ما إذا كان المدخول قليلاً أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدأ منه كالسدس و الربع و الثلث من المجموع دون مثل النصف و الثلثين، و لذا قال تعالى:( السُّدُسُ ممّا تَرَكَ ) ، و قال:

٢٢٦

( فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) ، و قال:( فَلَكُمُ الرُّبُعُ ) بالقطع عن الإضافة في جميع ذلك، و قال:( وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ ) ، و قال:( فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ) بالإضافة، و قال:( فَلَهَا النِّصْفُ ) أي نصف ما ترك فاللّام عوض عن المضاف إليه.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) إلى آخر الآية أصل الكلالة مصدر بمعنى الإحاطة، و منه الإكليل لإحاطته بالرأس و منه الكلّ - بضمّ الكاف - لإحاطته بالأجزاء، و منه الكلّ - بفتح الكاف - لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كلّ عليه، قال الراغب: الكلالة اسم لما عدا الولد و الوالد من الورثة. قال: و روي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الكلالة فقال: من مات و ليس له ولد و لا والد فجعله اسماً للميّت‏. و كلا القولين صحيح فإنّ الكلالة مصدر يجمع الوارث و الموروث جميعاً، انتهى.

أقول: و على هذا فلا مانع من كون كان ناقصّة و رجل اسمها و يورث وصفاً للرجل و كلالة خبرها و المعنى: و إن كان الميّت كلالة للوارث ليس أباً له و لا ابناً. و يمكن أن يكون كان تامّة و رجل يورث فاعله و كلالةً مصدراً وضع موضع الحال، و يؤول المعنى أيضاً إلى كون الميّت كلالة للورثة، و قال الزجّاج على ما نقل عنه: من قرأ يورث - بكسر الراء - فكلالة مفعول، و من قرأ يورث - بفتح الراء - فكلالة منصوب على الحال.

و قوله: غير مضارّ منصوب على الحال، و المضارّة هو الإضرار و ظاهره أنّ المراد به الإضرار بالدين من قبل الميّت كأن يعتمل بالدين للإضرار بالورثة و تحريمهم الإرث، أو المراد المضارّة بالدين كما ذكروا بالوصيّة بما يزيد على ثلث المال.

قوله تعالى: ( تِلْكَ حُدُودُ الله ) إلى آخر الآيتين الحدّ هو الحاجز بين الشيئين الّذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر و ارتفاع التمايز بينهما كحدّ الدار و البستان، و المراد بها أحكام الإرث و الفرائض المبيّنة، و قد عظّم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب على إطاعته و إطاعة رسوله فيها و العذاب الخالد المهين على المعصية.

٢٢٧

( كلام في الإرث على وجه كلّي)

هاتان الآيتان أعني قوله تعالى:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ) إلى آخر الآيتين، و الآية الّتي في آخر السورة:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) إلى آخر الآية، مع قوله تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) الآية، و مع قوله تعالى:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله ) الأحزاب: ٦، الأنفال: ٧، خمس آيات أو ستّة هي الأصل القرآنيّ للإرث في الإسلام و السنّة تفسّرها أوضح تفسير و تفصيل.

و الكلّيّات المنتزعة المستفادة منها الّتي هي الأصل في تفاصيل الأحكام اُمور:

منها: ما تقدّم في قوله:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) ، و يظهر منها أنّ للقرب و البعد من الميّت تأثيراً في باب الإرث، و إذا ضمّت الجملة إلى بقيّة الآية أفادت أنّ ذلك مؤثّر في زيادة السهم و قلّته و عظمه و صغره، و إذا ضمّت إلى قوله تعالى:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله ) أفادت أنّ الأقرب نسباً في باب الإرث يمنع الأبعد.

فأقرب الأقارب إلى الميّت الأب و الاُمّ و الابن و البنت إذ لا واسطة بينهم و بين الميّت، و الابن و البنت يمنعان أولاد أنفسهما لأنّهم يتّصلون به بواسطتهم فإذا فقدت واسطتهم فهم يقومون مقامها.

و تتلوها المرتبة الثانية و هم إخوة الميّت و أخواته و جدّه و جدّته فإنّهم يتّصلون بالميّت بواسطة واحدة و هي الأب أو الاُمّ، و أولاد الأخ و الاُخت يقومون مقام أبيهم و اُمّهم، و كلّ بطن يمنع من بعده من البطون كما مرّ.

و تتلو هذه المرتبة مرتبة أعمام الميّت و أخواله و عمّاته و خالاته فإنّ بينهم و بين الميّت واسطتين و هما الجدّ أو الجدّة و الأب أو الاُمّ، و الأمر على قيام ما مرّ.

و يظهر من مسألة القرب و البعد المذكورة أنّ ذا السببين مقدّم على ذي السبب

٢٢٨

الواحد، و من ذلك تقدّم كلالة الأبوين على كلالة الأب فلا ترث معها، و أمّا كلالة الاُمّ فلا تزاحمها كلالة الأبوين.

و منها: أنّه قد اعتبر في الورّاث تقدّم و تأخّر من جهة اُخرى فإنّ السهام ربّما اجتمعت فتزاحمت بالزيادة على أصل التركة فمنهم من عيّن له عند الزحام سهم آخر كالزوج يذهب بالنصف فإذا زاحمه الولد عاد إلى الربع بعينه و مثله الزوجة في ربعها و ثمنها و كالاُمّ تذهب بالثلث فإذا زاحمها ولد أو إخوة عادت إلى السدس و الأب لا يزول عن سدسه مع وجود الولد و عدمه و منهم من عيّن له سهم ثمّ إذا زاحمه آخر سكت عنه و لم يذكر له سهم بعينه كالبنت و البنات و الاُخت و الأخوات يذهبن بالنصف و الثلثين و قد سكت عن سهامهم عند الزحام، و يستفاد منه أنّ اُولئك المقدّمين لا يزاحمون و لا يرد عليهم نقص في صورة زيادة السهام على الأصل و إنّما يرد ما يرد من النقص على الآخرين المسكوت عن سهامهم عند الزحام.

و منها: أنّ السهام قد تزيد على المال كما إذا فرض زوج و أخوات من كلالة الأبوين فهناك نصف و ثلثان و هو زائد على مخرج المال، و كذا لو فرض أبوان و بنتان و زوج فتزيد السهام على أصل التركة فإنّها سدسان و ثلثان و ربع.

و كذلك قد تزيد التركة على الفريضة كما إذا كانت هناك بنت واحدة أو بنتان فقط و هكذا، و السنّة المأثورة الّتي لها شأن تفسير الكتاب على ما ورد من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه في صورة زيادة السهام على أصل المال يدخل النقص على هؤلاء الّذين لم يعيّن لهم إلّا سهم واحد و هم البنات و الأخوات دون غيرهم و هو الاُمّ و الزوج الّذين عيّن الله فرائضهما بحسب تغيّر الفروض و كذا في صورة زيادة أصل التركة على السهام يردّ الزائد على من يدخل عليه النقص في الصورة السابقة كما في بنت و أب فللأب السدس و للبنت نصف المال بالفريضة و الباقي بالردّ.

و قد سنّ عمر بن الخطّاب أيّام خلافته في صورة زيادة السهام العول و عمل الناس في الصدر الأوّل في صورة زيادة التركة بالتعصيب و سيجي‏ء الكلام فيهما في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

٢٢٩

و منها: أنّ التأمّل في سهام الرجال و النساء في الإرث يفيد أنّ سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلّا في الأبوين فإنّ سهم الاُمّ قد يربو على سهم الأب بحسب الفريضة و لعلّ تغليب جانب الاُمّ على جانب الأب أو تسويتهما لكونها في الإسلام أمسّ رحماً بولدها و مقاساتها كلّ شديدة في حمله و وضعه و حضانته و تربيته، قال تعالى:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إحساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) الأحقاف: ١٥، و خروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حدّ المساواة أو الزيادة تغليب لجانبها قطعاً.

و أمّا كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلاً و كون الإنفاق اللّازم على عهدته، قال تعالى:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) النساء: ٣٤، و القوام من القيام و هو إدارة المعاش، و المراد بالفضل هو الزيادة في التعقّل فإنّ حياته حياة تعقّليّة و حياة المرأة إحساسيّة عاطفيّة، و إعطاء زمام المال يداً عاقلة مدبّرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يداً ذات إحساس عاطفيّ و هذا الإعطاء. و التخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالي يكون تدبير ثلثي الثروة الموجودة إلى الرجال و تدبير ثلثها إلى النساء فيغلب تدبير التعقّل على تدبير الإحساس و العواطف فيصلح أمر المجتمع و تسعد الحياة.

و قد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف، و عندها الثلث الّذي تتملّكها و بيدها أمر ملكه و مصرفه.

و حاصل هذا الوضع و التشريع العجيب أنّ الرجل و المرأة متعاكسان في الملك و المصرف فللرجل ملك ثلثي ثروة الدنيا و له مصرف ثلثها، و للمرأة ملك ثلث الثروة و لها مصرف ثلثيها، و قد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقّل على روح الإحساس و العواطف في الرجل، و التدبير الماليّ بالحفظ و التبديل و الإنتاج و الاسترباح أنسب و أمسّ بروح التعقّل، و غلبة العواطف الرقيقة و الإحساسات اللّطيفة على روح التعقّل في المرأة،

٢٣٠

و ذلك بالمصرف أمسّ و ألصق فهذا هو السرّ في الفرق الّذي اعتبره الإسلام في باب الإرث و النفقات بين الرجال و النساء.

و ينبغي أن يكون زيادة روح التعقّل بحسب الطبع في الرجل و مزيّته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الّذي ذكره الله سبحانه في قوله عزّ من قائل:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) الآية، دون الزيادة في البأس و الشدّة و الصلابة فإنّ الغلظة و الخشونة في قبيل الرجال و إن كانت مزيّة وجوديّة يمتاز بها الرجل من المرأة و تترتّب عليها في المجتمع الإنسانيّ آثار عظيمة في أبواب الدفاع و الحفظ و الأعمال الشاقّة و تحمّل الشدائد و المحن و الثبات و السكينة في الهزاهز و الأهوال، و هذه شؤون ضروريّة في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.

لكنّ النساء أيضاً مجهّزات بما يقابلها من الإحساسات اللّطيفة و العواطف الرقيقة الّتي لا غنى للمجتمع عنها في حياته، و لها آثار هامّة في أبواب الاُنس و المحبّة و السكن و الرحمة و الرأفة و تحمّل أثقال التناسل و الحمل و الوضع و الحضانة و التربية و التمريض و خدمة البيوت، و لا يصلح شأن الإنسان بالخشونة و الغلظة لو لا اللّينة و الرقّة، و لا بالغضب لو لا الشهوة، و لا أمر الدنيا بالدفع لو لا الجذب.

و بالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل و المرأة يتعادل بهما كفّتا الحياة في المجتمع المختلط المركّب من القبيلين، و حاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمه أم يخافون أن يحيف الله عليهم(١) ، و لا يظلم ربّك أحداً(٢) و هو القائل:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥، و قد أشار إلى هذا الالتيام و البعضيّة بقوله في الآية:( بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) .

و قال أيضاً:( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثمّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتفكّرونَ ) الروم: ٢١، فانظر إلى عجيب بيأنّ الآيتين حيث وصف

____________________

(١) سورة النور: ٥٠

(٢) سورة الكهف: ٤٩.

٢٣١

الإنسان (و هو الرجل بقرينة المقابلة) بالانتشار و هو السعي في طلب المعاش، و إليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسّل إلى القوّة و الشدّة حتّى ما في المغالبات و الغزوات و الغارات و لو كان للإنسأنّ هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكرّ و آخر يفرّ.

لكنّ الله سبحانه خلق النساء و جهّزهنّ بما يوجب أن يسكن إليهن الرجال و جعل بينهم مودّة و رحمة فاجتذبن الرجال بالجمال و الدلال و المودّة و الرحمة، فالنساء هنّ الركن الأوّل و العامل الجوهريّ للاجتماع الإنسانيّ.

و من هنا ما جعل الإسلام الاجتماع المنزليّ و هو الازدواج هو الأصل في هذا الباب قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣، فبدأ بأمر ازدواج الذكر و الاُنثى‏ و ظهور التناسل بذلك ثمّ بنى عليه الاجتماع الكبير المتكوّن من الشعوب و القبائل.

و من ذيل الآية يظهر أنّ التفضيل المذكور في قوله:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) الآية، إنّما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيويّة أعني المعاش أحسن تنظيم، و يصلح به حال المجتمع إصلاحاً جيّداً، و ليس المراد به الكرامة الّتي هي الفضيلة الحقيقيّة في الإسلام و هي القربى و الزلفى من الله سبحانه فإنّ الإسلام لا يعبأ بشي‏ء من الزيادات الجسمانيّة الّتي لا يستفاد منها إلّا للحياة المادّيّة و إنّما هي وسائل يتوسّل بها لما عندالله.

فقد تحصّل من جميع ما قدّمنا أنّ الرجال فضّلوا على النساء بروح التعقّل الّذي أوجب تفاوتاً في أمر الإرث و ما يشبهه لكنّها فضيلة بمعنى الزيادة و أمّا الفضيلة بمعنى الكرامة الّتي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و أبو داود و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقيّ - في سننه من طرق جابر بن

٢٣٢

عبدالله - قال: عادني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أبوبكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أعقل شيئاً فدعا بماء فتوضّأ منه ثمّ رشّ عليّ فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .

أقول: قد تقدّم مراراً أنّ أسباب النزول المرويّة لا تأبى أن تتعدّد و تجتمع عدّة منها في آية، و لا تنافي عدم انحصار عناية الآية النازلة فيها و لا أن يتصادف النزول فينطبق عليها مضمون الآية فلا يضرّ بالرواية ما فيها من قول جابر: ما تأمرني أن أصنع بمالي يا رسول الله فنزلت إلخ، مع أنّ قسمة المال لم يكن عليه حتّى يجاب بالآية، و أعجب منه‏ ما رواه أيضاً عن عبد بن حميد و الحاكم عن جابر قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعودني و أنا مريض فقلت: كيف اُقسّم مالي بين ولدي؟ فلم يردّ علي شيئاً و نزلت:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ) .

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: كان أهل الجاهليّة لا يورّثون الجواري، و لا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من والده إلّا من أطاق القتال فمات عبدالرحمن أخو حسّان الشاعر، و ترك امرأة له يقال لها: اُمّ كحّة و ترك خمس جوار فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت اُمّ كحّة ذلك إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله هذه الآية:( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) ثمّ قال في اُمّ كحّة:( وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ ممّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ ) .

و فيه، أيضاً عنهما عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت آية الفرائض الّتي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر و الاُنثى و الأبوين كرهها الناس أو بعضهم و قالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، و تعطى الابنة النصف، و يعطى الغلام الصغير، و ليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، و لا يحوز الغنيمة، و كانوا يفعلون ذلك في الجاهليّة لا يعطون الميراث إلّا لمن قاتل القوم و يعطونه الأكبر فالأكبر.

أقول: و كان منه التعصيب و هو إعطاء الميراث عصبة الأب إذا لم يترك الميّت ابناً كبيراً يطيق القتال، و قد عمل به أهل السنّة في الزائد على الفريضة فيما إذا لم يستوعب

٢٣٣

السهام التركة، و ربّما وجد شي‏ء من ذلك في رواياتهم لكن وردت الروايات من طرق أهل البيتعليهم‌السلام بنفي التعصيب، و أنّ الزائد على الفرائض يردّ على من ورد عليه النقص و هم الأولاد و الإخوة من الأبوين أو الأب، و إلى الأب في بعض الصور، و الّذي يستفاد من الآيات يوافق ذلك على ما مرّ.

و فيه، أخرج الحاكم و البيهقيّ عن ابن عبّاس قال: أوّل من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه و ركب بعضها بعضاً قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم؟ و الله ما أدري أيكم قدم الله و أيّكم أخّر؟ و ما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن اُقسّمه عليكم بالحصص! ثمّ قال ابن عبّاس: و أيم الله لو قدّم من قدّم الله و أخّر من أخّر الله ما عالت فريضة، فقيل له: و أيّها قدّم الله؟ قال: كلّ فريضة لم يهبطها الله من فريضة إلّا إلى فريضة فهذا ما قدّم الله، و كلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلّا ما بقي فتلك الّتي أخّر الله فالّذي قدّم كالزوجين و الاُمّ، و الّذي أخّر كالأخوات و البنات فإذا اجتمع من قدّم الله و أخّر بدئ بمن قدّم فاُعطي حقّه كاملاً فإن بقي شي‏ء كان لهنّ، و إن لم يبق شي‏ء فلا شي‏ء لهنّ.

و فيه، أيضاً أخرج سعيد بن منصور عن ابن عبّاس قال: أ ترون الّذي أحصى رمل عالج عدداً جعل في المال نصفاً و ثلثاً و ربعاً؟ إنّما هو نصفان و ثلاثة أثلاث و أربعة أرباع.

و فيه، أيضاً عنه عن عطاء قال: قلت لابن عبّاس: إنّ الناس لا يأخذون بقولي و لا بقولك و لو متّ أنا و أنت ما اقتسموا ميراثاً على ما تقول قال: فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا.

أقول: و هذا المعنى منقول عن ابن عبّاس من طرق الشيعة أيضاً كما يأتي.

في الكافي، عن الزهريّ عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة قال: جالست ابن عبّاس فعرض ذكر الفرائض من المواريث فقال ابن عبّاس: سبحان الله العظيم أ ترون الّذي أحصى رمل عالج عدداً جعل في مال نصفاً و نصفاً و ثلثاً؟! فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصريّ: يا أبا العبّاس فمن أوّل من أعال هذه الفرائض؟ فقال: عمر بن الخطّاب لمّا التفّت عنده الفرائض و دفع بعضها بعضاً قال:

٢٣٤

و الله ما أدري أيّكم قدم الله و أيّكم أخّر؟ و ما أجد شيئاً أوسع من أن اُقسّم عليكم هذا المال بالحصص و اُدخل على كلّ ذي حقّ حقّه فأدخل عليه من عول الفرائض.

و أيم الله لو قدّم من قدّم الله و أخّر من أخّر الله ما عالت الفريضة، فقال له زفر بن أوس: و أيّها قدّم و أيّها أخّر؟ فقال: كلّ فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلّا إلى فريضة فهذا ما قدّم الله، و أمّا ما أخّر الله فكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلّا ما بقي فتلك الّتي أخّر، فأمّا الّتي قدّم فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شي‏ء، و الزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شي‏ء، و الاُمّ لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس و لا يزيلها عنه شي‏ء فهذه الفرائض الّتي قدّم الله عزّوجلّ، و أمّا الّتي أخّر ففريضة البنات و الأخوات لها النصف و الثلثان فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلّا ما بقي، فتلك الّتي أخّر الله، فإذا اجتمع ما قدّم الله و ما أخّر بدئ بما قدّم الله فاُعطي حقّه كاملاً فإن بقي شي‏ء كان لمن أخّر و إن لم يبق شي‏ء فلا شي‏ء له، فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هيبته.

أقول: و هذا القول من ابن عبّاس مسبوق بقول عليّعليه‌السلام بنفي العول، و هو مذهب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كما يأتي.

في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام في حديث قال: كان أميرالمؤمنينعليه‌السلام يقول: إنّ الّذي أحصى رمل عالج ليعلم أنّ السهام لا تعول على ستّة لو تبصرون وجهها لم تجز ستّة.

أقول: في الصحاح: إنّ عالج موضع بالبادية به رمل، و قولهعليه‌السلام : إنّ السهام لا تعول على ستّة أي لا تميل على الستّة حتّى تغيّرها إلى غيرها، و الستّة هي السهام المصرّحة بها في الكتاب و هي: النصف و الثلث و الثلثان و الربع و السدس و الثمن.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : الحمد لله الّذي لا مقدّم لما أخّر، و لا مؤخّر لما قدّم، ثمّ ضرب بإحدى يديه على الاُخرى، ثمّ قال: يا أيّتها الاُمّة المتحيّرة بعد نبيّها لو كنتم قدّمتم من قدّم الله و أخّرتم من أخّر الله، و جعلتم الولاية و الوراثة حيث جعلها الله ما عال وليّ الله، و لا عال سهم من فرائض الله، و لا اختلف اثنان في حكم الله، و لا تنازعت الاُمّة في شي‏ء من أمر الله إلّا و عند عليّ علمه من كتاب الله، فذوقوا وبال أمركم

٢٣٥

و ما فرّطتم فيما قدّمت أيديكم، و ما الله بظلّام للعبيد، و سيعلم الّذي ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

أقول: و توضيح ورود النقص على حظوظ الورثة زيادة على ما مرّ أنّ الفرائض المذكورة في كلامه تعالى ستّ: النصف، و الثلثان، و الثلث، و السدس، و الربع، و الثمن، و هذه السهام قد يجتمع بعضها مع بعض بحيث يحصل التزاحم كما أنّه قد يجتمع النصف و السدسان و الربع في الطبقة الاُولى كبنت و أب و اُمّ و زوج فتزيد السهام على الأصل، و كذا الثلثان و السدسان و الربع كبنتين و أبوين و زوج فتتزاحم، و كذلك يجتمع النصف و الثلث و الربع و السدس في الطبقة الثانية كاُخت و جدّين للأب و الاُمّ و زوجة، و كذا الثلثان و الثلث و الربع و السدس كاُختين و جدّين و زوجة.

فإن أوردنا النقص على جميع السهام كان العول، و إن حفظنا فريضة الأبوين و الزوجين و كلالة الاُمّ و هي الثلث و السدس و النصف و الربع و الثمن عن ورود النقص عليها - لأنّ الله عيّن هذه السهام و لم يبهمها في حال بخلاف سهام البنت الواحدة فما زادت و الاُخت الواحدة لأبوين أو لأب فما زادت و بخلاف سهام الذكر و الاُنثى عند الوحدة و الكثرة - ورد النقص دائماً على الأولاد و الإخوة و الأخوات لما مرّ.

و أمّا كيفيّة الردّ فليراجع فيها إلى جوامع الحديث و كتب الفقه.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و البيهقيّ في سننه عن زيد بن ثابت: أنّه كان يحجب الاُمّ بالأخوين فقالوا له: يا أباسعيد إنّ الله يقول:( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) و أنت تحجبها بأخوين؟ فقال: إنّ العرب تسمّي الأخوين إخوة.

أقول: و هو المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و إن كان المعروف أنّ الإخوة جمع الأخ و لا يطلق الجمع على ما دون الثلاثة.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام قال: لا يحجب الاُمّ عن الثلث إلّا أخوان أو أربع أخوات لأب و اُمّ أو لأب‏.

أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و أمّا الإخوة لاُمّ فإنّهم يتقرّبون بالاُمّ و هي بوجودها تمنعهم، و في أخبار الفريقين أنّ الإخوة يحجبون الاُمّ و لا يرثون لوجود من

٢٣٦

يتقدّم عليهم في الميراث و هو الأبوان فحجب الإخوة الاُمّ مع عدم إرثهم إنّما هو نوع مراعاة لحال الأب من حيث ردّ الزائد على الفريضة إليه، و منه يعلم وجه عدم حجب الإخوة لأمّ فإنّهم ليسوا عالة للأب.

و في المجمع، في قوله تعالى:( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍٍ ) ، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : إنّكم تقرؤون في هذه الآية الوصيّة قبل الدين، و إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى بالدين قبل الوصيّة.

أقول: و رواه السيوطيّ في الدرّ المنثور عن عدّة من أرباب الجوامع و التفاسير.

و في الكافي، في معنى الكلالة عن الصادقعليه‌السلام : من ليس بوالد و لا ولد.

و فيه، عنهعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) الآية، إنّما عنى بذلك الإخوة و الأخوات من الاُمّ خاصّة.

أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و قد رواها أهل السنّة، و قد استفاضت الروايات بذلك و أنّ حكم كلالة الأب و الأبوين هو المذكور في الآية الخاتمة للسورة:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) الآية.

و من الشواهد على ذلك أنّ الفرائض المذكورة للكلالة في آخر السورة تربو على ما ذكر لهم في هذه الآية زيادة ضعف أو أزيد، و من المستفاد من سياق الآيات و ذكر الفرائض أنّه تعالى يرجّح سهم الرجال على النساء في الجملة ترجيح المثلين على المثل أو ما يقرب من ذلك مهما أمكن، و الكلالة إنّما يتقرّب إلى الميّت من جهة الاُمّ و الأب أو أحدهما فالتفاوت المراعى في جانب الأب و الاُمّ يسري إليهم فيترجّح لا محالة فرائض كلالة الأبوين أو الأب على كلالة الاُمّ و يكشف بذلك أنّ القليل لكلالة الاُمّ و الكثير لغيره.

و في المعاني، بإسناده إلى محمّد بن سنان: أنّ أباالحسن الرضاعليه‌السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علّة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث: لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت و الرجل يعطي فلذلك وفّر على الرجال و علّة اُخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الاُنثى لأنّ الاُنثى من عيال الذكر إن احتاجت، و عليه أن يعولها

٢٣٧

و عليه نفقتها، و ليس على المرأة أن تعول الرجل و لا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفّر على الرجال لذلك، و ذلك قول الله عزّوجلّ:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) .

و في الكافي، بإسناده عن الأحول قال: قال ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً و يأخذ الرجال سهمين؟ فذكر ذلك بعض أصحابنا لأبي عبداللهعليه‌السلام فقال: إنّ المرأة ليس عليها جهاد، و لا نفقة، و لا معقلة، فإنّما ذلك على الرجال فلذلك جعل للمرأة سهماً واحداً، و للرجل سهمين.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و قد مرّ دلالة الكتاب أيضاً على ذلك.

( بحث علميّ في فصول)

١- ظهور الإرث: كأنّ الإرث أعني تملّك بعض الأحياء المال الّذي تركه الميّت من أقدم السنن الدائرة في المجتمع الإنسانيّ، و قد خرج عن وسع ما بأيدينا من تواريخ الاُمم و الملل الحصول على مبدء حصوله، و من طبيعة الأمر أيضاً ذلك فإنّا نعلم بالتأمّل في طبيعة الإنسان الاجتماعيّة أنّ المال و خاصّة لو كان ممّا لا يد عليه يحنّ إليه الإنسان و يتوق إليه نفسه لصرفه في حوائجه، و حيازته و خاصّة فيما لا مانع عنه من دؤوبه الأوّليّة القديمة، و الإنسان في ما كوّنه من مجتمعة همجيّاً أو مدنيّاً لا يستغني عن اعتبار القرب و الولاية (المنتجين للأقربيّة و الأوّلويّة) بين أفراد المجتمع الاعتبار الّذي عليه المدار في تشكّل البيت و البطن و العشيرة و القبيلة و نحو ذلك، فلا مناص في المجتمع من كون بعض الأفراد أولى ببعض كالولد بوالديه و الرحم برحمه، و الصديق بصديقه، و المولى بعبده، و أحد الزوجين بالآخر، و الرئيس بمرؤوسه حتّى القويّ بالضعيف، و إن اختلفت المجتمعات في تشخيص ذلك اختلافاً شديداً يكاد لا تناله يد الضبط.

و لازم هذين الأمرين كون الإرث دائراً بينهم من أقدم العهود الاجتماعيّة.

٢٣٨

٢- تحوّل الإرث تدريجاً: لم تزل هذه السنّة كسائر السنن الجارية في المجتمعات الإنسانيّة تتحوّل من حال إلى حال و تلعب بها يد التطوّر و التكامل منذ أوّل ظهورها غير أنّ الاُمم الهمجيّة لمّا لم تستقرّ على حال منتظم تعسّر الحصول في تواريخهم على تحوّله المنتظم حصولاً يفيد وثوقاً به.

و القدر المتيقّن من أمرهم أنّهم كانوا يحرمون النساء و الضعفاء الإرث، و إنّما كان يختصّ بالأقوياء و ليس إلّا لأنّهم كانوا يعاملون مع النساء و الضعفاء من العبيد و الصغار معاملة الحيوان المسخّر و السلع و الأمتعة الّتي ليس لها إلّا أن ينتفع بها الإنسان دون أن تنتفع هي بالإنسان و ما في يده أو تستفيد من الحقوق الاجتماعيّة الّتي لا تتجاوز النوع الإنسانيّ.

و مع ذلك كان يختلف مصداق القويّ في هذا الباب برهة بعد برهة فتارة مصداقه رئيس الطائفة أو العشيرة، و تارة رئيس البيت، و تارة اُخرى أشجع القوم و أشدّهم بأساً، و كان ذلك يوجب طبعاً تغيّر سنّة الإرث تغيّراً جوهريّاً.

و لكون هذه السنن الجارية لا تضمن ما تقترحه الفطرة الإنسانيّة من السعادة المقترحة كان يسرع إليها التغيّر و التبدّل حتّى أنّ الملل المتمدّنة الّتي كان يحكم بينهم القوانين أو ما يجري مجراها من السنن المعتادة الملّيّة كان شأنهم ذلك كالروم و اليونان، و ما عمّر قانون من قوانين الإرث الدائرة بين الاُمم حتّى اليوم مثل ما عمّرت سنّة الإرث الإسلاميّة فقد حكمت في الاُمم الإسلاميّة منذ أوّل ظهورها إلى اليوم ما يقرب من أربعة عشر قرناً.

٣- الوراثة بين الاُمم المتمدّنة: من خواصّ الروم أنّهم كانوا يرون للبيت في نفسه استقلالاً مدنيّاً يفصله عن المجتمع العامّ و يصونه عن نفوذ الحكومة العامّة في جلّ ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعيّة، فكان يستقلّ في الأمر و النهي و الجزاء و السياسة و نحو ذلك.

و كان ربّ البيت هو معبوداً لأهله من زوجة و أولاد و عبيد، و كان هو المالك من بينهم و لا يملك دونه أحد مادام أحد أفراد البيت، و كان هو الوليّ عليهم القيّم بأمرهم باختياره المطلق النافذ فيهم، و كان هو يعبد ربّ البيت السابق من أسلافه.

٢٣٩

و إذا كان هناك مال يرثه البيت كما إذا مات بعض الأبناء فيما ملكه بإذن ربّ البيت اكتساباً أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صداقاً و أذن لها ربّ البيت أو بعض الأقارب فإنّما كان يرثه ربّ البيت لأنّه مقتضى ربوبيّته و ملكه المطلق للبيت و أهله.

و إذا مات ربّ البيت فإنّما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممّن في وسعه ذلك و ورثه الأبناء فإن انفصلوا و أسّسوا بيوتاً جديدة كانوا أربابها و إن بقوا في بيتهم القديم كان نسبتهم إلى الربّ الجديد (أخيهم مثلاً) هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود تحت قيمومته و ولايته المطلقة.

و كذا كان يرثه الأدعياء لأنّ الادعاء و التبنّي كان دائراً عندهم كما بين العرب في الجاهليّة.

و أمّا النساء كالزوجة و البنت و الاُمّ فلم يكنّ يرثن لئلّا ينتقل مال البيت بانتقالهنّ إلى بيوت اُخرى بالازدواج فإنّهم ما كانوا يرون جواز انتقال الثروة من بيت إلى آخر، و هذا هو الّذي ربّما ذكره بعضهم فقال: أنّهم كانوا يقولون بالملكيّة الاشتراكيّة الاجتماعيّة دون الانفراديّة الفرديّة و أظنّ أنّ مأخذه شي‏ء آخر غير الملك الاشتراكيّ فإنّ الأقوام الهمجيّة المتوحّشة أيضاً من أقدم الأزمنة كانوا يمتنعون من مشاركة غيرهم من الطوائف البدويّة فيما حازوه من المراعي و الأراضي الخصبة و حموه لأنفسهم و كانوا يحاربون عليه و يدفعون عن محميّاتهم و هذا نوع من الملك العامّ الاجتماعيّ الّذي مالكه هيئة المجتمع الإنسانيّ دون أفراده، و هو مع ذلك لا ينفي أن يملك كلّ فرد من المجتمع شيئاً من هذا الملك العامّ اختصاصاً.

و هذا ملك صحيح الاعتبار غير أنّهم ما كانوا يحسنون تعديل أمره و الاستدرار منه، و قد احترمه الإسلام كما ذكرناه فيما تقدّم، قال تعالى:( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جميعاً ) البقرة: ٢٩، فالمجتمع الإنسانيّ و هو المجتمع الإسلاميّ و من هو تحت ذمّته هو المالك لثروة الأرض بهذا المعنى ثمّ المجتمع الإسلاميّ هو المالك لما في يده من الثروة و لذلك لا يرى الإسلام إرث الكافر من المسلم.

و لهذا النظر آثار و نماذج في بعض الملل الحاضرة حيث لا يرون جواز تملّك

٢٤٠