الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 120003
تحميل: 4286


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120003 / تحميل: 4286
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اختياريّة و إن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدّم لكنّ التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع بالمغفرة و الرحمة يمكن أن يتحقّق بعد الموت لشفاعة الشافعين، و هذا في نفسه من الشواهد على أنّ المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى الله إلّا بالتبع.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) اسم الإشارة يدلّ على بعدهم من ساحة القرب و التشريف، و الاعتاد: و الإعداد أو الوعد.

( كلام في التوبة)

التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقيّة المختصّة بهذا الكتاب السماويّ فإنّ التوبة بمعنى الإيمان عن كفر و شرك و إن كانت دائرة في سائر الأديان الإلهيّة كدين موسى و عيسىعليهما‌السلام لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة، و تسريتها إلى الإيمان بل باسم أنّ ذلك إيمان.

حتّى أنّه يلوح من الاُصول الّتي بنوا عليها الديانة المسيحيّة المستقلّة عدم نفع التوبة و استحالة أن يستفيد منها الإنسان كما يظهر ممّا أوردوه في توجيه الصلب و الفداء، و قد تقدّم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

هذا و قد انجرّ أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة و تتّجر بها، و كان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم! لكنّ القرآن حلّل حال الإنسان بحسب وقوع الدعوة عليه و تعلّق الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال و الكرامة و السعادة الواجبة له في حياته الاُخرويّة عندالله سبحانه الّتي لا غنى له عنها في سيره الاختياريّ إلى ربّه فقيراً كلّ الفقر في ذاته صفر الكفّ بحسب نفسه قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وَ الله هُوَ الْغَنِيُّ ) فاطر: ١٥، و قال:( وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) الفرقان: ٣.

٢٦١

فهو واقع في مهبط الشقاء و منحطّ البعد و منعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى:( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحسن تَقْوِيمٍ ثمّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ) التين: ٥، و قوله:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إلّا وارِدُها كانَ عَلى‏ ربّك حَتْماً مَقْضِيًّا ثمّ نُنَجِّي الّذينَ اتّقوا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) مريم: ٧٢، و قوله:( فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجنّة فَتَشْقى‏ ) طه ١١٧.

و إذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة و استقراره في مستقرّ السعادة يتوقّف على انصرافه عمّا هو فيه من مهبط الشقاء و منحطّ البعد و انقلاعه عنه برجوعه إلى ربّه، و هو توبته إليه في أصل السعادة و هو الإيمان، و في كلّ سعادة فرعيّة و هي كلّ عمل صالح أعني التوبة و الرجوع عن أصل الشقاء و هو الشرك بالله سبحانه، و عن فروعات الشقاء و هي سيّئات الأعمال بعد الشرك، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله و الانخلاع عن ألواث البعد و الشقاء يتوقّف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالإيمان، و التنعّم بأقسام نعم الطاعات و القربات، و بعبارة اُخرى يتوقّف القرب من الله و دار كرامته على التوبة من الشرك و من كلّ معصية، قال تعالى:( وَ تُوبُوا إِلَى الله جميعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النور: ٣١، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعمّ التوبتين جميعاً بل تعمّهما و غيرهما على ما سيجي‏ء إن شاء الله.

ثمّ إنّ الإنسان لمّا كان فقيراً في نفسه لا يملك لنفسه خيراً و لا سعادة قطّ إلّا بربّه كان محتاجاً في هذا الرجوع أيضاً إلى عناية من ربّه بأمره، و إعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربّه بالعبوديّة و المسكنة إلى رجوع من ربّه إليه بالتوفيق و الإعانة، و هو توبة الله سبحانه لعبده المتقدّمة على توبة العبد إلى ربّه كما قال تعالى:( ثمّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة: ١١٨، و كذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب و تطهيره من القذارات و ألواث البعد، و هذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخّرة عن توبة العبد إلى ربّه كما قال تعالى:( فَأُولئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ ) الآية.

و إذا تأمّلت حقّ التأمّل وجدت أنّ التعدّد في توبة الله سبحانه إنّما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد، و إلّا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة، و يكون ذلك عند توبة العبد رجوعاً إليه قبلها و بعدها، و ربّما كان مع عدم

٢٦٢

توبة من العبد كما تقدّم استفادة ذلك من قوله:( وَ لَا الّذينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كفّار ) ، و أنّ قبول الشفاعة في حقّ العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة و من هذا الباب قوله تعالى:( وَ الله يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الّذينَ يتّبعونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً ) النساء: ٢٧.

و كذلك القرب و البعد لمّا كانا نسبيّين أمكن أن يتحقّق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه و مراحله إلى بعض، و يصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقرّبين من عباد الله الصالحين من موقفه الّذي هو فيه إلى موقف أرفع منه و أقرب إلى ربّه، كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء و هم معصومون بنصّ كلامه كقوله تعالى:( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ ربّه كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ) البقرة: ٣٧، و قوله تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ - إلى قوله -:وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) البقرة: ١٢٨، و قوله تعالى: حكاية عن موسىعليه‌السلام :( سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) الأعراف: ١٤٣، و قوله تعالى خطاباً لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حقّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ ربّك بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ ) المؤمن: ٥٥، و قوله تعالى:( لَقَدْ تابَ الله عَلَى النبيّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الّذينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ) التوبة: ١١٧.

و هذه التوبة العامّة من الله سبحانه هي الّتي يدلّ عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى:( غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ ) المؤمن: ٣، و قوله تعالى:( يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) الشورى: ٢٥، إلى غير ذلك.

فتلخّص ممّا مرّأوّلاً أنّ نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه، و إزالة ظلمة المعاصي عن قلبه - سواء في ذلك الشرك و ما دونه - توبة منه تعالى لعبده و أنّ رجوع العبد إلى ربّه لمغفرة ذنوبه و إزالة معاصيه - سواء في ذلك الشرك و غيره - توبة منه إلى ربّه.

و يتبيّن به أنّ من الواجب في الدعوة الحقّة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك، و تندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك و التوبة عن المعاصي.

و ثانياً: أنّ التوبة من الله سبحانه لعبده أعمّ من المبتدئة و اللّاحقة فضل منه

٢٦٣

كسائر النعم الّتي يتنعّم بها خلقه من غير إلزام و إيجاب يرد عليه تعالى من غيره، و ليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلاً إلّا ما يدلّ عليه أمثال قوله تعالى:( وَ قابِلِ التَّوْبِ ) غافر: ٣، و قوله:( وَ تُوبُوا إِلَى الله جميعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ) النور: ٣١، و قوله:( إِنَّ الله يُحبّ التَّوَّابِينَ ) الآية: البقرة: ٢٢٢، و قوله:( فَأُولئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ ) الآية من الآيات المتضمّنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة، و النادبة إلى التوبة، الداعية إلى الاستغفار و الإنابة و غيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام، و الله سبحانه لا يخلف الميعاد.

و من هنا يظهر أنّ الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد و يردّ ما يردّ منها كما هو ظاهر قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثمّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ) آل عمران: ٩٠، و يمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ آمَنُوا ثمّ كَفَرُوا ثمّ آمَنُوا ثمّ كَفَرُوا ثمّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ) النساء: ١٣٧.

و من عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصّة غرق فرعون و توبته:( حتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أنّه لا إِلهَ إلّا الّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) يونس: ٩١.

قال ما محصّله: أنّ الآية لا تدلّ على ردّ توبته، و ليس في القرآن أيضاً ما يدلّ على هلاكه الأبديّ، و أنّه من المستبعد عند من يتأمّل سعة رحمة الله و سبقتها غضبه أن يجوّز عليه تعالى أنّه يردّ من التجأ إلى باب رحمته و كرامته متذلّلاً مستكيناً بالخيبة و اليأس، و الواحد منّا إذا أخذ بالأخلاق الإنسانيّة الفطريّة من الكرم و الجود و الرحمة ليرحم أمثال هذا الإنسان النادم حقيقة على ما قدّم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم الراحمين و أكرم الأكرمين و غياث المستغيثين؟.

و هو مدفوع بقوله تعالى:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ للّذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) الآية، و قد تقدّم أنّ الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق الإنسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب و نزول البلاء.

٢٦٤

و لو كان كلّ ندم توبة و كلّ توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) سبأ: ٣٣، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا و سؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، و الردّ عليهم بأنّهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه و إنّهم لكاذبون.

و إيّاك أن تتوهّم أنّ الّذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدّم توضيحه تحليل ذهنيّ لا عبرة به في سوق الحقائق، و ذلك أنّ البحث في باب السعادة و الشقاء و الصلاح و الطلاح الإنسانيّين لا ينتج غير ذلك فإنّا إذا اعتبرنا حال الإنسان العاديّ في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم و التربية في الإنسان وجدناه خالياً في نفسه عن الصلاح و الطلاح الاجتماعيّين قابلاً للأمرين جميعاً ثمّ إذا أراد أن يتحلّى بحلية الصلاح، و يتلبّس بلباس التقوى الاجتماعيّ لم يمكن له ذلك إلّا بتوافق الأسباب على خروجه من الحال الّذي فيه، و ذلك يحاذي التوبة الاُولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنويّة ثمّ انتزاعه و انصراف نفسه عمّا هو فيه من رثاث الحال و قيد التثبّط و الإهمال و هو توبة بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه ثمّ زوال هيئة الفساد و وصف الرذالة المستولّية على قلبه حتّى يستقرّ فيه وصف الكمال و نور الصلاح فإنّ القلب لا يسع الصلاح و الطلاح معاً، و هذا يحاذي قبول التوبة و المغفرة فيما نحن فيه و كذلك يجري في مرحلة الصلاح الاجتماعيّ الّذي يسير فيه الإنسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الأحكام و الآثار جرياً على الفطرة الّتي فطر الله الناس عليها.

و ثالثاً: أنّ التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدّم من الآيات المنقولة و غيرها إنّما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الإنسانيّة من حيث إصلاحها و إعدادها للصلاح الإنسانيّ الّذي فيه سعادة دنياه و آخرته و بعبارة اُخرى التوبة إنّما تنفع - إذا نفعت - في إزالة السيّئات النفسانيّة الّتي تجرّ إلى الإنسان كلّ شقاء في حياته الاُولى و الاُخرى و تمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة، و أمّا الأحكام الشرعيّة و القوانين الدينيّة فهي بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية.

٢٦٥

نعم ربّما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل، و هذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الأحكام قال تعالى:( وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ الله كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) النساء: ١٦، و قال تعالى:( إنّما جَزاءُ الّذينَ يُحارِبُونَ الله وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إلّا الّذينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ) المائدة: ٣٤، إلى غير ذلك.

و رابعاً: أنّ الملاك الّذي شرّعت لأجله التوبة على ما تبيّن ممّا تقدّم هو التخلّص من هلاك الذنب و بوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح و مقدّمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ تُوبُوا إِلَى الله جميعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النور: ٣١، و من فوائدها مضافة إلى ذلك أنّ فيها حفظاً لروح الرجاء من الانخماد و الركود فإنّ الإنسان لا يستقيم سيره الحيوي إلّا بالخوف و الرجاء المتعادلين حتّى يندفع عمّا يضرّه و ينجذب إلى ما ينفعه، و لو لا ذلك لهلك، قال تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً أنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ ربّكمْ‏ ) الزمر: ٥٤، و لا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعّالة و جدّ في العزيمة و السعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة، و إذا بدا له ما يخسر عمله و يخيّب سعيه و يبطل اُمنيّته استولى عليه اليأس و انسلّت به أركان عمله و ربّما انصرف بوجهه عن مسيره آئساً من النجاح خائباً من الفوز و الفلاح، و التوبة هي الدواء الوحيد الّذي يعالج داءه، و يحيي به قلبه و قد أشرف على الهلكة و الردى.

و من هنا يظهر سقوط ما ربّما يتوهّم أنّ في تشريع التوبة و الدعوة إليها إغراءً بالمعصية، و تحريصاً على ترك الطاعة، فإنّ الإنسان إذا أيقن أنّ الله يقبل توبته إذا اقترف أيّ معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثراً، دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله و الانغمار في لجج المعاصي و الذنوب، فيدقّ باب كلّ معصية قاصداً أن يذنب ثمّ يتوب.

٢٦٦

وجه سقوطه: أنّ التوبة إنّما شرعت مضافاً إلى توقّف التحلّيّ بالكرامات على غفران الذنوب: للتحفّظ على صفة الرجاء و تأثيره حسن أثره، و أمّا ما ذكر من استلزامه أن يقصّد الإنسان كلّ معصية بنيّة أن يعصي ثمّ يتوب، فقد فاته أنّ التوبة بهذا النعت لا يتحقّق معها حقيقة التوبة فإنّها انقلاع عن المعصية، و لا انقلاع في هذا الّذي يأتي به، و الدليل عليه أنّه كان عازماً على ذلك قبل المعصية و مع المعصية و بعد المعصية، و لا معنى للندامة (أعني التوبة) قبل تحقّق الفعل بل مجموع الفعل و التوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلاً واحداً مقصوداً بقصد واحد مكراً و خديعة يخدع بها ربّ العالمين، و لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله.

و خامساً: أنّ المعصية و هي الموقف السوء من الإنسان ذو أثر سيّئ في حياته لا يتاب منها و لا يرجع عنها إلّا مع العلم و الإيقان بمساءتها، و لا ينفكّ ذلك عن الندم على وقوعها أوّلاً، و الندم تأثّر خاصّ باطنيّ من فعل السيّئ. و يتوقّف على استقرار هذا، الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيّئة الدالّة على الرجوع و التوبة ثانياً.

و إلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعاً من آداب التوبة كالندم و الاستغفار و التلبّس بالعمل الصالح، و الانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك ممّا وردت به الأخبار، و تعرّض له كتب الأخلاق.

و سادساً: أنّ التوبة و هي الرجوع الاختياريّ عن السيّئة إلى الطاعة و العبوديّة إنّما تتحقّق في ظرف الاختيار و هو الحياة الدنيا الّتي هي مستوى الاختيار، و أمّا فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كلّ من طريقي الصلاح و الطلاح و السعادة و الشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه، و قد تقدّم ما يتّضح به ذلك.

و من هذا الباب التوبة فيما يتعلّق بحقوق الناس فإنّها إنّما تصلح ما يتعلّق بحقوق الله سبحانه، و أمّا ما يتعلّق من السيّئة بحقوق الناس ممّا يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتّة لأنّ الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم و أعراضهم و نفوسهم، و عدّ التعدّي إلى أحدهم في شي‏ء من ذلك ظلماً و عدواناً، و حاشاه أن يسلبهم شيئاً ممّا جعله لهم من غير جرم صدر منهم، فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه و يظلمهم بذلك، و قد قال عزّ من قائل:( إِنَّ الله لا يَظْلِمُ النَّاسَ شيئاً ) يونس: ٤٤.

٢٦٧

إلّا أنّ الإسلام و هو التوبة من الشرك يمحو كلّ سيّئة سابقة و تبعة ماضية متعلّقة بالفروع كما يدلّ عليه‏ قولهعليه‌السلام : الإسلام يجبّ ما قبله‏، و به تفسّر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيّئات جميعاً كقوله تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً أنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ ربّكمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ ) الزمر: ٥٤.

و من هذا الباب أيضاً توبة من سنّ سنّة سيّئة أو أضلّ الناس عن سبيل الحقّ و قد وردت أخبار أنّ عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضلّ عن الحقّ فإن حقيقة الرجوع لا تتحقّق في أمثال هذه الموارد لأنّ العاصي أحدث فيها حدثاً له آثار يبقى ببقائها، و لا يتمكّن من إزالتها كما في الموارد الّتي لا تتجاوز المعصية ما بينه و بين ربّه عزّ اسمه.

و سابعاً: أنّ التوبة و إن كانت تمحو ما تمحوه من السيّئات كما يدلّ عليه قوله تعالى:( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ ربّه فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى الله ) البقرة: ٢٧٥ على ما تقدّم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب، بل ظاهر قوله تعالى:( إلّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حسناتٍ وَ كانَ الله غَفُوراً رَحِيماً وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً ) الفرقان: ٧١، و خاصّة بملاحظة الآية الثانية أنّ التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان و العمل الصالح توجب تبدّل السيّئات حسنات إلّا أنّ اتّقاء السيّئة أفضل من اقترافها ثمّ إمحائها بالتوبة فإنّ الله سبحانه أوضح في كتابه أنّ المعاصي كيفما كانت إنّما تنتهي إلى وساوس شيطانيّة نوع انتهاء ثمّ عبّر عن المخلصين المعصومين عن زلّة المعاصي و عثرة السيّئات بما لا يعادله كلّ مدح ورد في غيرهم قال تعالى:( قالَ ربّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) الآيات: الحجر: ٤٢، و قال تعالى حكاية عن إبليس أيضاً في القصّة:( وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) الأعراف: ١٧.

فهؤلاء من الناس مختصّون بمقام العبوديّة التشريفيّة اختصاصاً لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين.

٢٦٨

( بحث روائي‏)

في الفقيه، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر خطبة خطبها: من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثمّ قال: إنّ السنة لكثيرة و من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثمّ قال: و إنّ الشهر لكثير و من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثمّ قال: و إنّ اليوم لكثير و من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثمّ قال: و إنّ الساعة لكثيرة من تاب و قد بلغت نفسه هذه - و أهوى بيده إلى حلقه - تاب الله عليه.

و سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ للّذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) قال: ذلك إذا عاين أمر الآخرة.

أقول: الرواية الاُولى رواها في الكافي مسنداً عن الصادقعليه‌السلام ، و هي مرويّة من طرق أهل السنّة و في معناها روايات اُخر.

و الرواية الثانية تفسّر الآية و تفسّر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت بأنّ المراد من حضور الموت العلم به و مشاهدة آيات الآخرة و لا توبة عندئذ، و أمّا الجاهل بالأمر فلا مانع من قبول توبته، و نظيرها بعض ما يأتي من الروايات.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إذا بلغت النفس هذه - و أهوى بيده إلى حنجرته - لم يكن للعالم توبة، و كانت للجاهل توبة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ في التاريخ و الحاكم و ابن مردويه عن أبي ذرّ: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قيل و ما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس و هي مشركة.

و فيه، أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ إبليس لمّا رأى آدم أجوف قال: و عزّتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح فقال الله تبارك و تعالى: و عزّتي لا أحول بينه و بين التوبة ما دام الروح فيه.

و في الكافي، عن عليّ الأحمسيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: و الله ما ينجو من

٢٦٩

الذنوب إلّا من أقرّ بها، قال: و قال أبوجعفرعليه‌السلام : كفى بالندم توبة.

و فيه، بطريقين عن ابن وهب قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه الله تعالى فستر عليه فقلت: و كيف يستر عليه؟ قال، ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه ثمّ يوحي الله إلى جوارحه و إلى بقاع الأرض: أن اكتمي عليه ذنوبه فيلقى الله حين يلقاه و ليس شي‏ء يشهد عليه بشي‏ء من الذنوب.

و فيه، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: يا محمّد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة أمّا و الله أنّها ليست إلّا لأهل الإيمان. قلت: فإن عاد بعد التوبة و الاستغفار في الذنوب و عاد في التوبة؟ فقال يا محمّد بن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه فيستغفر الله منه و يتوب ثمّ لا يقبل الله توبته؟ قلت: فإن فعل ذلك مرارا يذنب ثمّ يتوب و يستغفر؟ فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة، و إنّ الله غفور رحيم يقبل التوبة، و يعفو عن السيّئات فإيّاك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثمّ اهْتَدى ) ‏ قال: لهذه الآية تفسير يدلّ على ذلك التفسير أنّ الله لا يقبل من عبد عملاً إلّا لمن لقيه بالوفاء منه بذلك التفسير، و ما اشترط فيه على المؤمنين و قال:( إنّما التَّوْبَةُ عَلَى الله للّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) يعني كلّ ذنب عمله العبد و إن كان به عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، و قد قال في ذلك يحكي قول يوسف لإخوته( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله.

أقول: و الرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن و الظاهر أنّ المراد بالصدر أنّ العمل إنّما يقبل إذا وفى به العبد و لم ينقضه فالتوبة إنّما تقبل إذا كانت زاجرة ناهية على الذنب و لو حيناً. و قوله: و قال:( إنّما التَّوْبَةُ ) إلخ كلام مستأنف أراد به بيان أنّ قوله:( بِجَهالَةٍ ) قيد توضيحيّ، و أنّ في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين السابقين في ما تقدّم، و قد روي هذا الذيل في المجمع أيضاً عنهعليه‌السلام .‏

٢٧٠

( سورة النساء الآيات ١٩ الى ٢٢)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النّسَاءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ إِلّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَى‏ أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِير( ١٩) وَإِنْ أَرَدتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِين( ٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى‏ بَعْضُكُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِيثَاقاً غَلِيظ( ٢١) وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيل( ٢٢)

( بيان)

رجوع إلى أمر النساء بذكر بعض آخر ممّا يتعلّق بهنّ و الآيات مع ذلك مشتملة على قوله:( وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَ يَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) فإنّه أصل قرآنيّ لحياة المرأة الاجتماعيّة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ ) إلى قوله:( كَرْهاً ) كان أهل الجاهليّة - على ما في التاريخ و الرواية - يعدّون نساء الموتى من التركة - إذا لم تكن المرأة أمّا للوارث - فيرثونهنّ مع التركة فكان أحد الورّاث يلقي ثوباً على زوجة الميّت و يرثها فإن شاء تزوّج بها من غير مهر بل بالوراثة و إن كره نكاحها حبسها عنده فإن شاء زوّجها من غيره فانتفع بمهرها، و إن شاء عضلها و منعها النكاح و حبسها حتّى تموت فيرثها إن كان لها مال.

و الآية و إن كان ظاهرها أنّها تنهى عن سنّة دائرة بينهم، و هي الّتي ذكرناها من إرث النساء فتكون مسوقة للردع عن هذه السنّة السيّئة على ما ذكره بعض المفسّرين إلّا أنّ قوله في ذيل الجملة:( كَرْهاً ) لا يلائم ذلك سواء أخذ قيداً توضيحيّاً أو احترازيّاً.

٢٧١

فإنّه لو كان قيداً توضيحيّاً أفاد أنّ هذه الوراثة تقع دائماً على كره من النساء و ليس كذلك، و هو ظاهر، و لو كان قيداً احترازيّاً أفاد أنّ النهي إنّما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضىّ منهنّ، و ليس كذلك.

نعم الكره أمر متحقّق في العضل عن الازدواج طمعاً في ميراثهنّ دائماً أو غالباً بعد القبض عليهنّ بالإرث فالظاهر أنّ الآية في مقام الردع عن هذا الإرث على كره و أمّا نكاحهنّ بالإرث فالمتعرّض للنهي عنه قوله تعالى فيما سيأتي:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) الآية و أمّا تزويجهنّ من الغير و الذهاب بمهرهنّ فينهى عنه مثل قوله تعالى:( وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ ممّا اكْتَسَبْنَ ) النساء: ٣٢، و يدلّ على الجميع قوله تعالى:( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٣٤.

و أمّا قوله بعد:( وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا ) إلخ فهو غير هذا العضل عن الازدواج للذهاب بالمال إرثاً لما في تذييله بقوله:( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ) من الدلالة على أنّ المراد به الذهاب ببعض المهر الّذي آتاه الزوج العاضل دون المال الّذي امتلكته من غير طريق هذا المهر. و بالجملة الآية تنهى عن وراثة أموال النساء كرهاً منهنّ دون وراثة أنفسهنّ فإضافة الإرث إلى النساء إنّما هي بتقدير الأموال أو يكون مجازاً عقليّاً.

قوله تعالى: ( وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا - إلى قوله -:مُبَيِّنَةٍ ) أمّا معطوف على قوله:( تَرِثُوا ) و التقدير: و لا أن تعضلوهنّ و أمّا نهي معطوف على قوله:( لا يَحِلُّ لَكُمْ ) لكونه في معنى النهي. و العضل هو المنع و التضييق و التشديد. و الفاحشة الطريقة الشنيعة كثر استعمالها في الزنا. و المبيّنة المتبيّنة، و قد نقل عن سيبويه: أنّ أبان و استبان و بيّن و تبيّن بمعنى واحد، تتعدّى و لا تتعدّى يقال: أبان الشي‏ء و استبان و بيّن و تبيّن و يقال: أبنت الشي‏ء و استبنته و بيّنته و تبيّنته.

و الآية تنهى عن التضييق عليهنّ بشي‏ء من وجوه التضييق ليضطررن إلى بذل شي‏ء من الصداق لفكّ عقدة النكاح و التخلّص من ضيق العيشة فالتضييق بهذا القصد محرّم على الزوج إلّا أن يأتي الزوجة بفاحشة مبيّنة فله حينئذ أن يعضلها و يضيّق

٢٧٢

عليها لتفارقه بالبذل، و الآية لا تنافي الآية الاُخرى في باب البذل:( وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئاً إلّا أَنْ يَخافا إلّا يُقِيما حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا يُقِيما حُدُودَ الله فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) البقرة: ٢٢٩، و إنّما هو التخصيص. تخصّص هذه الآية آية البقرة بصورة إتيان الفاحشة، و أمّا البذل الّذي في آية البقرة فإنّما هو واقع على تراض منهما فلا تخصّص بها هذه الآية.

قوله تعالى: ( وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) إلى آخر الآية المعروف هو الأمر الّذي يعرفه الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه و يجهلوه، و حيث قيّد به الأمر بالمعاشرة كان المعنى الأمر بمعاشرتهنّ المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين.

و المعاشرة الّتي يعرفها الرجال و يتعارفونها بينهم أنّ الواحد منهم جزء مقوّم للمجتمع يساوي سائر الأجزاء في تكوينه المجتمع الإنسانيّ لغرض التعاون و التعاضد العموميّ النوعيّ فيتوجّه على كلّ منهم من التكليف أن يسعى بما في وسعه من السعي فيما يحتاج إليه المجتمع فيقتني ما ينتفع به فيعطي ما يستغني عنه و يأخذ ما يحتاج إليه فلو عومل واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة و ليس إلّا أن يضطهد بإبطال استقلاله في الجزئيّة فيؤخذ تابعاً ينتفع به و لا ينتفع هو بشي‏ء يحاذيه، و هذا هو الاستثناء.

و قد بيّن الله تعالى في كتابه أنّ الناس جميعاً - رجالاً و نساءً - فروع أصل واحد إنسانيّ، و أجزاء و أبعاض لطبيعة واحدة بشريّة، و المجتمع في تكوّنه محتاج إلى هؤلاء كما هو محتاج إلى اُولئك على حدّ سواء كما قال تعالى:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) النساء: ٢٥.

و لا ينافي ذلك اختصاص كلّ من الطائفتين بخصلة تختصّ به كاختصاص الرجال بالشدّة و القوّة نوعاً، و اختصاص النساء بالرقّة و العاطفة طبعاً فإنّ الطبيعة الإنسانيّة في حياتها التكوينيّة و الاجتماعيّة جميعاً تحتاج إلى بروز الشدّة و ظهور القوّة كما تحتاج إلى سريان المودّة و الرحمة، و الخصلتان جميعاً مظهرا الجذب و الدفع العامّين في المجتمع الإنسانيّ.

٢٧٣

فالطائفتان متعادلتان وزناً و أثراً كما أنّ أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن و التأثير في هذه البنية المكوّنة مع اختلافهم في شؤونهم الطبيعيّة و الاجتماعيّة من قوّة و ضعف، و علم و جهل، و كياسة و بلادة، و صغر و كبر، و رئاسة و مرؤوسيّة، و مخدوميّة و خادميّة، و شرف و خسّة و غير ذلك.

فهذا هو الحكم الّذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسّط الجاري على سنّة الفطرة من غير انحراف، و قد قوّم الإسلام أود الاجتماع الإنسانيّ و أقام عوجه فلا مناص من أن يجري فيه حكم التسوية في المعاشرة و هو الّذي نعبّر عنه بالحرّيّة الاجتماعيّة، و حرّيّة النساء كالرجال، و حقيقتها أنّ الإنسان بما هو إنسان ذو فكر و إرادة له أن يختار ما ينفعه على ما يضرّه مستقلّاً في اختياره ثمّ إذا ورد المجتمع كان له أن يختار ما يختار - ما لم يزاحم سعادة المجتمع الإنسانيّ - مستقلّاً في ذلك من غير أن يمنع عنه أو يتّبع غيره من غير اختيار.

و هذا كما عرفت لا ينافي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الأفراد من طبقة واحدة بمزايا أو محروميّته عن مزايا كاختصاص الرجال في الإسلام بالقضاء و الحكومة و الجهاد و وجوب نفقتهنّ على الرجال و غير ذلك، و كحرمان الصبيان غير البالغين عن نفوذ الإقرار و المعاملات و عدم توجّه التكاليف إليهم و نحو ذلك فجميع ذلك خصوصيّات أحكام تعرض الطبقات و أشخاص المجتمع من حيث اختلاف أوزانهم في المجتمع بعد اشتراكهم جميعاً في أصل الوزن الإنسانيّ الاجتماعيّ الّذي ملاكه أنّ الجميع إنسان ذو فكر و إرادة.

و لا تختصّ هذه المختصّات بشريعة الإسلام المقدّسة بل توجد في جميع القوانين المدنيّة بل في جميع السنن الإنسانيّة حتّى الهمجيّة قليلاً أو كثيراً على اختلافها، و الكلمة الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله تعالى:( وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) على ما تبيّن.

و أمّا قوله تعالى:( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَ يَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) فهو من قبيل إظهار الأمر المعلوم في صورة المشكوك المحتمل اتّقاءً من

٢٧٤

تيقّظ غريزة التعصّب في المخاطب نظير قوله تعالى:( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ الله وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) سبأ: ٢٥.

فقد كان المجتمع الإنسانيّ يومئذ (عصر نزول القرآن) لا يوقف النساء في موقفها الإنسانيّ الواقعيّ، و يكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوّم بل المجتمعات القائمة على ساقها يومئذ بين ما يعدّهنّ طفيليّات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها، و ما يعدّهنّ إنساناً ناقصاً في الإنسانيّة كالصبيان و المجانين إلّا أنّهنّ لا يبلغن الإنسانيّة أبداً فيجب أن يعشن تحت الإتّباع و الاستيلاء دائماً، و لعلّ قوله تعالى:( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ ) ، حيث نسب الكراهة إلى أنفسهنّ دون نكاحهنّ إشارة إلى ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ) إلى آخر الآية، الاستبدال استفعال بمعنى طلب البدل، و كأنّه بمعنى إقامة زوج مقام زوج أو هو من قبيل التضمين بمعنى إقامة امرأة مقام اُخرى بالاستبدال، و لذلك جمع بين قوله، أَرَدْتُمُ و بين قوله: اسْتِبْدالَ إلخ مع كون الاستبدال مشتملاً على معنى الإرادة و الطلب، و على هذا فالمعنى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ أن تقيموا زوجاً مقام اُخرى بالاستبدال.

و البهتان ما بهت الإنسان أي جعله متحيّراً، و يغلب استعماله في الكذب من القول و هو في الأصل مصدر، و قد استعمل في الآية في الفعل الّذي هو الأخذ من المهر، و هو في الآية حال من الأخذ و كذا قوله: إِثْماً، و الاستفهام إنكاريّ.

و المعنى: إن أردتم أن تطلّقوا بعض أزواجكم و تتزوّجوا باُخرى مكانها فلا تأخذوا من الصداق الّذي آتيتموها شيئاً و إن كان ما آتيتموها مالاً كثيراً، و ما تأخذونه قليلاً جدّاً.

قوله تعالى: ( وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى‏ بَعْضُكُمْ إِلى‏ بَعْضٍ ) إلى آخر الآية، الاستفهام للتعجيب، و الإفضاء هو الاتّصال بالمماسّة، و أصله الفضاء بمعنى السعة.

و لمّا كان هذا الأخذ إنّما هو بالبغي و الظلم، و مورده مورد الاتّصال و الاتّحاد أوجب ذلك صحّة التعجّب حيث إنّ الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من

٢٧٥

الإفضاء و الاقتراب كشخص واحد، و من العجيب أن يظلم شخص واحد نفسه و يؤذيها أو يؤذي بعض أجزائه بعضا.

و أمّا قوله:( وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) فالظاهر أنّ المراد بالميثاق الغليظ هو العلقة الّتي أبرمها الرجل بالعقد و نحوه، و من لوازمها الصداق الّذي يسمّى عند النكاح و تستحقّه المرأة من الرجل.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالميثاق الغليظ العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان على ما ذكره الله تعالى، و ربّما قيل: إنّ المراد به حكم الحلّيّة المجعول شرعاً في النكاح، و لا يخفى بعد الوجهين جميعاً بالنسبة إلى لفظ الآية.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن هاشم بن عبدالله عن السريّ البجليّ قال: سألته عن قوله:( وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ) قال: فحكى كلاماً ثمّ قال: كما يقول النبطيّة إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره، و كان هذا في الجاهليّة.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) ، فإنّه كان في الجاهليّة في أوّل ما أسلموا من قبائل العرب إذا مات حميم الرجل و له امرأة ألقى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الّذي كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث ماله، فلمّا مات أبوقيس بن الأسلت ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه، و هي كبيشة بنت معمّر بن معبد فورث نكاحها، ثمّ تركها لا يدخل بها و لا ينفق عليها، فأتت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: يا رسول الله مات أبوقيس بن الأسلت فورث محصن ابنه نكاحي فلا يدخل عليّ، و لا ينفق عليّ، و لا يخلّي سبيلي فألحق بأهلي فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارجعي إلى بيتك فإن يحدث الله في شأنك شيئاً أعلمتك فنزل:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلّا

٢٧٦

ما قَدْ سَلَفَ إنّه كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلًا ) ، فلحقت بأهلها، و كانت نساء في المدينة قد ورث نكاحهنّ كما ورث نكاح كبيشة غير أنّه ورثهنّ من الأبناء فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) .

أقول: آخر الرواية لا يخلو عن اضطراب في المعنى و قد وردت هذه القصّة و نزول الآيات فيها في عدّة من روايات أهل السنّة أيضاً، غير أنّ الروايات أو معظمها تذكر نزول قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا ) الآية في القصّة، و قد عرفت في البيان السابق عدم مساعدة السياق على ذلك.

و مع ذلك فتحقّق القصّة و ارتباط الآيات بوجه بها و بالعادة الجارية فيما بينهم عند النزول في الجملة لا ريب فيه، فالمعوّل في ذلك ما قدّمناه في البيان السابق.

و في المجمع في قوله تعالى:( إلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) الآية قال: الأولى حمل الآية على كلّ معصية، قال: و هو المروي عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في تفسير البرهان، عن الشيبانيّ: الفاحشة يعني الزنا، و ذلك إذا اطّلع الرجل منها على فاحشة فله أخذ الفدية و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن جابر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: اتّقوا الله في النساء فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله، و استحللتم فروجهنّ بكلمة الله، و إنّ لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرح، و لهنّ عليكم رزقهنّ و كسوتهنّ بالمعروف.

و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يا أيّها الناس إنّ النساء عندكم عوان أخذتموهنّ بأمانة الله، و استحللتم فروجهنّ بكلمة الله، و لكم عليهنّ حقّ، و من حقّكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً، و لا يعصينكم في معروف و إذا فعلن ذلك فلهنّ رزقهنّ و كسوتهنّ بالمعروف.

أقول: و قد تقدّم ما يتبيّن به معنى هذه الروايات.

و في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) قال: الميثاق الكلمة الّتي عقد بها النكاح الرواية.

٢٧٧

و في المجمع، قال: الميثاق الغليظ هو العقد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال: و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

أقول: و هذا المعنى منقول عن عدّة من مفسّري السلف كابن عبّاس و قتادة و أبي مليكة، و الآية لا تأباه بالنظر إلى أنّ ذلك حكم يصدق عليه أنّه ميثاق مأخوذ على الرجال للنساء، و إن كان الأظهر أن يكون المراد هو العقد المجرى حين الازدواج.

و في الدرّ المنثور، أخرج الزبير بن بكّار في الموفّقيّات عن عبدالله بن مصعب قال: قال عمر: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة: ما ذاك لك قال: و لم؟ قالت: لأنّ الله يقول:( وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ) الآية، فقال عمر: امرأة أصابت و رجل أخطأ.

أقول: و رواه أيضاً عن عبدالرزّاق و ابن المنذر عن عبد الرحمن السلميّ، و أيضاً عن سعيد بن منصور و أبي يعلى بسند جيّد عن مسروق‏، و فيه أربعمائة درهم مكان أربعين أوقية، و أيضاً عن سعيد بن منصور و عبد بن حميد عن بكر بن عبدالله المزنيّ، و الروايات متقاربة المعنى.

و فيه، أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ، قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلّف على اُمّ عبيد بنت ضمرة كانت تحت الأسلت أبيه، و في الأسود بن خلف و كان خلّف على بنت أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبدالدار و كانت عند أبيه خلف، و في فاختة ابنة الأسود بن المطّلب بن أسد كانت عند اُميّة بن خلف فخلف عليها صفوان بن اُميّة، و في منظور بن رباب و كان خلّف على مليكة ابنة خارجة و كانت عند أبيه رباب بن سيّار.

و فيه، أخرج ابن سعد عن محمّد بن كعب القرظيّ قال: كان الرجل إذا توفّي عن امرأة كان ابنه أحقّ بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن اُمّه أو ينكحها من شاء، فلمّا مات أبوقيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته و لم ينفق عليها و لم يورّثها من المال شيئاً فأتت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ارجعي لعلّ الله ينزل فيك

٢٧٨

شيئاً فنزلت:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) الآية، و نزلت:( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) .

أقول: و قد تقدّم ما يدلّ على ذلك من روايات الشيعة.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عبّاس قال: كان أهل الجاهليّة يحرّمون ما حرّم الله إلّا امرأة الأب و الجمع بين الاُختين فأنزل الله:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ و أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ‏ ) .

أقول: و في معناه أخبار اُخر.

٢٧٩

( سورة النساء الآيات ٢٣ الى ٢٨)

حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ الّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسَائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُم بِهِنّ فَإِن لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيم( ٢٣) وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيم( ٢٤) وَمَن لَم يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُم مِن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِايِمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٢٥) يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ٢٦) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيم( ٢٧) يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيف( ٢٨)

( بيان)

آيات محكمة تعدّ محرّمات النكاح و ما أحلّ من نكاح النساء، و الآية السابقة عليها المبيّنة لحرمة نكاح ما نكح الآباء و إن كانت بحسب المضمون من جملتها إلّا أنّ ظاهر سياقها لمّا كان من تتمّة السياق السابق أوردناها في جملة الآيات السابقة مع كونها بحسب المعنى ملحقة بها.

٢٨٠